الفصل الثامن
الماهوية الجينية
الماهوية الجينية genetic essentialism هي النظرة
الردِّية إلى الكائنات البشرية على أنها كائنات تكمن ماهيُتها في جيناتها. ويمكن وصف
قيمتها
بلُغة علم الوراثة. وترتبط الماهوية الجينية ارتباطًا وثيقًا ﺑ «الحتمية الجينية» genetic determinism، وهي الاعتقاد بأن سلوك
الإنسان تحدده مسبَقًا بنيته الجينية، وأن سمات الشخص هي شيء دائم وقابل للتنبؤ ومحتَّم
منذ
الإخصاب ومُبيَّت في جِبِلَّته البدنية، ولا يؤثر فيه السياقُ الاجتماعي تأثيرًا يُذكَر.
يقول جيمس واطسون — أحد مكتشفي الحلزون المزدوج للدنا DNA:
«لقد دَرَجنا على الاعتقاد بأن مستقبلنا مكتوب في النجوم. أمَّا الآن فقد عرفنا أنه مكتوب
في جيناتنا.»
الحق أن هذا الحديث شديد الخطر باهظ التبعات فادح العواقب؛ إذ لو صحَّت الحتمية الجينية
لانقلب بناؤنا النظري (بل المؤسساتي) — الخلقي والاجتماعي والسياسي والجنائي — رأسًا
على
عقب، وانتفت حرية الإرادة والمسئولية الفردية والاجتماعية والجنائية، وجاز البطش حيث
ينبغي
التسامح، والتساهل حيث ينبغي الحزم؛ إلى غير ذلك مما سيأتي ذكره بتفصيلٍ مناسب.
يُفضي التفكير الماهوي إلى تحيزات معرفية شديدة حين يتعلق الأمر بالحديث عن الجينات
وصلتها الوثيقة بسلوك ما أو حالة أو فصيل اجتماعي. يؤدي الفهم المبتسر لدور الجينات في
إحداث شتى الحالات البشرية إلى مجموعة من التصورات حول هذه الحالات، فتُدرَك على أنها:
ثمة بالطبع حالات نادرة يكون فيها التفسير الجيني وجيهًا ومقبولًا ومتفرِّدًا، حيث
يُطلَق
عليه «التفسير الجيني القوي» strong genetic explanation؛
غير أن الناس تميل إلى أن تنسب إلى العامل الجيني تأثيرًا أكبر من تأثير العوامل الأخرى
في
حالات «التفسير الجيني الضعيف» weak genetic explanation،
ينظر الناس إلى العنصر — على سبيل المثال — والجنوسة (الجِندر)، والتوجه الجنسي والإجرام
والمرض العقلي والسِّمنة، بعدساتٍ ماهوية، فيرونها في صورة محرَّفة لا ترصد حقيقتها رصدًا
أمينًا، تُظاهرهم في ذلك وسائلُ الإعلام التي تنقل إليهم الكشوف الجينية الجديدة بطريقة
تحيد عن الحقيقة وتميل إلى المبالغة والتهويل والإثارة والفرقعة الإعلامية
الهستيرية.
يبدو أن الجينات تُسيِّر كل شيء في هذه الحياة. يرث البشرُ جينات تحدد لهم صفاتهم
الجسمية
ومواقفهم السياسية وميولهم الدينية وسماتهم الشخصية واهتماماتهم المهنية ومخاوفهم الشخصية.
٢ كما أن تحليل الدنا يمكن أن ينبئنا — بشيء من الدقة — أين نشأ بعضُ أسلافنا،
ومدى احتمال أن نُصاب ببعض الأمراض. إنه ليكون مثيرًا حقًّا أن نعرف شيئًا عن لَبِنَات
البناء المادية بداخلنا، والتي تجعلنا، فيما يبدو، ما نحن (أو بتعبير آخر «تشكل
ماهيتَنا»).
يؤثر الخطاب الجيني بحد ذاته على الطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا وإلى الأشياء،
ويدعم
ماهويتَنا السيكولوجية القائمة سلفًا، وتؤثر ماهويتُنا
السيكولوجية الصميمة في الطريقة التي نتلقَّى بها الكشوفَ الجينية الجديدة، وتصبها في
قالبها. بذلك تنشأ حلقةٌ خبيثةٌ من التدعيم والتحريف يصعب الفكاك منها. ومن شأن التحيز
الماهوي الجيني أن يدعم التنميط stereotyping والتعصب
العِرقي والجنسي. وقد وجد في تيار اليوجينا eugenics
(تحسين النسل) — بشتى تطبيقاته — مُراغَمًا كثيرًا لممارسة دوره وترسيخ ذاته.
(١) الماهوية السيكولوجية
تميل الناس إلى أن تُماهي
essentialize كيانات معينة
تُصادفها في الحياة، فتدرك الفئات «الطبيعية» من قبيل المعادن والمواد الكيميائية
والكائنات الحية بصفة خاصة، على أن هناك طبيعة أساسية تحتية تجعلها ما هي. وتتجلى
الماهوية السيكولوجية لدى الناس عندما تدرك طبيعةً أوليةً أو «ماهية» غائرة وغير
منظورة، وهي العِلة التي تجعل الكيانات الطبيعية ما هي؛ إذ تُوَلِّد الخصائصَ المشتركة
الظاهرة لأعضاء فئة معينة من الكيانات؛ فماهية القطة على سبيل المثال تتسبب في أن تكون
لها شوارب وفراء ناعم ومخالب حادة وميل إلى أن تُخَرخِر عندما تكون راضية. إن الماهية
تضبط الخصائص المنظورة ولكنها لا تُحدَّد بها؛ فقد تتغير الخصائص الملاحَظة لأعضاء فئةٍ
ما (قطط بدون شعر مثلًا) دون أن يتضمن ذلك تغيرًا في ماهية هؤلاء الأعضاء.
٣
من العناصر المحدِّدة للماهية تلك العلاقة العِلية بين الماهية والخصائص المتوقعة.
ومنها عنصر الثبات؛ فماهية القطة من المفترض أنها لا تتغير حتى إذا تحولت السمات
الملاحَظة بفعل تغيرات جسمية أو بيئية مباشرة كأن يُحلَق شعرها أو يُجرَى لها تغيير
جراحي.
تشير ماهية النوع الطبيعي إلى أن أعضاء فئة هذا النوع تُدرَك على أنها متجانسة فيما
بينها ومتميزة عن أعضاء الفئات الأخرى. ثمة شيء ما يجعل القطط جميعًا تُدرَك على أنها
قطط وعلى أنها متميزة عن بقية أنواع الحيوانات. إن الماهية الفريدة المستترة لكل فئة
تقدم للمدرِك «إمكانًا
استقرائيًّا»
inductive potential لكي يقيم استدلالات فسيولوجية وسلوكية محددة تتعلق
بأعضاء فئة معينة.
٤
يستند الناس إلى الماهيات لكي يفهموا طبيعة الأنواع، بل إنهم — فضلًا عن ذلك — يضعون
أحكامًا ماهويةً إذا أرادوا أن يفهموا سلوكَ الجماعات الاجتماعية. إن شرائح من قبيل
العنصر
race، والجنوسة
gender — رغم أنها من اصطناع البشر — لَتَتَناولها نزعة الماهية
بنفس الطريقة التي تتناولها بها الأنواع الطبيعية. من ذلك أن جيل وهوايت (٢٠٠١م) وجدا
أن الجماعات القبلية المنغولية يطبقون هذه الفرضية الكشفية فينظرون إلى البطون القبلية
على أن لها قدرات فطرية متفاوتة، ويعتقدون أن هذه القدرات لا تتبدل حتى لدى الأشخاص
الذين يُتَبَنَّون عند ولادتهم وينشئون في كَنَف جماعات أخرى.
٥
يدرك الناسُ أعضاءَ الجماعات الاجتماعية على أنهم يشكلون فئات متجانسة وثابتة،
ويسبغون عليهم أوصافًا نمطية لا تتبدل، ويُطلَق على هذه العملية «التنميط» stereotyping.
ورغم أن ماهية أي فئة هي شيءٌ باطن غير منظور فإن من المفترض أنها السبب من وراء
خصائص يتصف بها أعضاءُ هذه الفئة، بعض هذه الخصائص معروف وبعضها لما يزل بانتظار الكشف.
هذه الطبيعة الخفية والملغزة للماهية لا تنال من أهميتها عند الناس ولا تقلل من
استخدامهم لهذا البناء الذهني المجرد، وهم يتغلبون على هذه الصعوبة باستخدام
essence placeholder (ماسك مكان الماهية/مَحَل
الماهية)، وهو ما يتيح لهم أن يستقوا استدلالات عِلِّية من الماهية إلى الخصائص
الملاحَظة دون الحاجة إلى إعطاء الماهية وصفًا ماديًّا قد يُحِدُّها، وقد يحول دون
إجراء استدلالات ماهوية عن ما هو غير مكتشَف بعد. ونحن نرى أن «الجينات» (أو على الأقل
الطريقة التي يتصورها بها عامة الناس) تعمل كماسك مكان لهذه الماهية المتخيَّلة، وهو
ما
يفسر لنا الطرائق التي يستجيب بها الأفراد عندما يتلقون معلومات جينية عن الناس.
(٢) الماهوية الجينية
ثمة مُكوِّن هام للماهوية السيكولوجية، وهو فكرة «الإمكان الفطري» innate potential. إن العضوية في نوعٍ من الأنواع تَفْرِض على خصائص
الأعضاء ضوابط معينة؛ ذلك أن الماهية تنحدر خلال النسل البيولوجي. ترتبط الماهية
الثابتة بالفطرية من جهة، وترتبط الفطرية بالجينات من جهة أخرى، مما يُشير إلى أن
الخصائص الملاحَظة لجماعة ما يُفترَض أنها تقوم على أساسٍ جيني مشترك.
تتماثل العناصر المقوِّمة للماهوية السيكولوجية (ثابتة، أساسية، متجانسة، منمازة،
طبيعية) مع التصور العامي الشائع عن الجينات. يومئ هذا التشابه إلى أن الأعضاء
المشتركين في بنية جينية محددة مشتركون أيضًا في ماهيتهم. هكذا تعمل الجينات في فهم
الناس عملَ «ماسك مكان الماهية»، وتتيح لهم أن يستدلوا على قدراتهم وميولهم وقدرات
غيرهم وميولهم بناءً على جينات مشتركة مفترَضة. يُطلَق على هذا الميل إلى استنتاج خصائص
شخصٍ ما وتصرفاته كشيءٍ يقوم على بنيته الجينية مصطلح «الماهوية الجينية». يصوغ نِلْكِن
وليندي هذا المعنى بقولهما: «تَرُدُّ الماهويةُ الجينيةُ النفسَ إلى كيانٍ جزيئي؛ إذ
تساوي بين الكائنات الإنسانية بكل تعقيداتها الاجتماعية والتاريخية والأخلاقية وبين جيناتها.»
٦
ما إن يتلقف الناسُ خبرًا عن أساسٍ جيني لأي شيءٍ حتى تستيقظ تحيزاتهم الماهوية
السيكولوجية وتُضفِي على هذا الشيء صفةَ الثبات والدوام والحتمية، بمعزلٍ عن التأثيرات
البيئية والحرية الشخصية والاختيار الفردي، فما دام الجين موجودًا فالمآل متوقَّع
والمصير محتوم. وما دام الجين موجودًا فالحالة موجودة، وما دام غائبًا فالحالة
مستبعَدة، ولا وزن هنالك لأية عوامل أنتوجينية أو بيئية أو خبروية.
من شأن الماهوية الجينية أن تحملَ الناسَ على أن يتصوروا الجماعات المشتركة في الأساس
الجيني على أنها «متجانسة» و«منمازة» (عن غيرها)، وكأن الحالة الجينية والجماعة
مشتركتان في الحدود؛ فجميع أعضاء الجماعة المشتركين في الماهية الجينية لديهم نفس
الصفة. وهذه الصفة تغيب بالضرورة عن أولئك الذين لا يشاركون في الأساس الجيني
التحتي.
كما أن العلل الجينية تدفع الناس إلى تصور نتائجها على أنها «طبيعية» natural، الأمر الذي قد يستحث «مغالطة المذهب
الطبيعي» (أي أن تستمد خواص أخلاقية (خير، حق، … إلخ) من خواص طبيعية (طويل، أخضر، …)
أو أن تستمد «ما ينبغي أن يكون» من «ما هو كائن»). إن النزوع الذي نراه «طبيعيًّا»
سيكون عندنا أكثر قبولًا من الذي نراه «غير طبيعي». من ذلك أن الجنسية المثلية سيُنظر
إليها — إن تبيَّنَ لها أساسٌ جيني — نظرةً أكثر إيجابية مما إذا كانت اختيارًا
حياتيًّا إراديًّا حرًّا.
هكذا تشكل الماهوية الجينية عدسات أشبه بالمنشور
ننظر من خلالها إلى الأشياء فيتشوه فهمنا لها. إن التحيز الماهوي الجيني كفيلٌ بأن يغير
رؤيتنا للأشياء، وأن يجعلنا نُقيِّم الأمور تقييمًا مختلفًا عن تقييمنا لها إذا لم تكن
مرتبطةً عندنا بأي أساس جيني.
(٣) هل الماهوية الجينية غير معقولة؟
نحن نسلِّم بأن الماهوية تعكس استجابةً متحيزةً — وغير مرغوبة في الأغلب — لما نتلقاه
من معلومات جينية. ولكن للمرء أن يتساءل: ألا يمكن أن تُعتبر مثل هذه الاستجابة
عقلانية؟ أليس من المعقول أن معرفة المرء بالأساس الجيني التحتي لحالةٍ ما ينبغي أن
تدفعه إلى أن يستنتج أن الحالة محتَّمة، وأن لها سببًا محدَّدًا وأنها متجانسة وطبيعية؟
مثال ذلك: أنه إذا كان لشخص ما سلسلةٌ من عددٍ كافٍ من تتابعاتٍ مكرورةٍ من ثلاث قواعد
CAG في الموضع الصحيح في نهاية كروموزوم ٤، فإنها
سوف تُنتج مرض هنتنجتون ما لم تمت قبل الأوان لسببٍ آخر. بل إن بداية حدوث الأعراض يمكن
التنبؤ بها بناءً على عدد التتابعات المكرورة في الكروموزوم. وبجميع المقاييس فإن مرض
هنتنجتون محتَّم، وذو سبب محدَّد ومتجانس وطبيعي، وتصوُّره بهذه السبل الجبرية هو تصور
وجيه وهو الطريقة الصحيحة لفهمه.
على أن الجينات تؤثر في الأنماط الظاهرية
phenotypes
بطرقٍ مختلفةٍ. من ناحية يمكن للجينات أن تؤثر في الأنماط الظاهرية من خلال مسالك
بيوكيميائية كبرى يمكن أن تُقاس وتُفهم، وهو ما يطلق عليه توركهايمر (١٩٩٨م) «التفسيرات
الجينية القوية». هكذا الأمر في حالة الأمراض الوحيدة
الجين
monogenic والحالات التي تشمل عددًا صغيرًا من الجينات. في مثل
هذه الحالات يبدو معقولًا حقًّا أن نتصورها محتمة
وذات سبب واحد ومتجانسة وطبيعية، كنتيجةٍ لمعرفتنا بأساسها الجيني التحتي. ومن جهة أخرى
فإن التفسير الجيني القوى يبدو أنه يمثل الاستثناء أكثر مما يمثل القاعدة. لا تشكِّل
الأمراض الوحيدة الجين إلا حوالي ٢٪ من الأمراض ذات الأساس الجيني.
٧ والقاعدة هي أن جينات عديدة تتشارك، ويزيدُ الأمر تعقيدًا أن نفس
الأليل
allele يمكن أن يُعَبَّر عنه على أنحاء
مختلفة بحسب العوارض البيئية. يذكر كرافت وهنتر بمعرِض تلخيص الأدلة المؤيدة للتنبؤ
بالخطر المرضي على أساس الجينات أن «الكثير — وليس القليل — من أليلات الخطر مسئولة عن
أغلب الخطر الموروث لكل مرض شائع.»
٨ إن العلاقات بين الجينوتايب (النمط الجيني) والفينوتايب (النمط الظاهري)
يمكن أن تكون بالغة التعقيد، حيث تنبثق الأنماط الجينية كنتيجة لتفاعل متبادل لجيناتٍ
عديدةٍ عندما تتوافر ظروف بيئية معينة، وحيث يمكن للجينات أن تحدِّد أي البيئات يسعى
إليها الشخص ومن ثَمَّ يتأثر بها، مثل هذه العلاقات المعقدة تتحدى أي جوابٍ
ماهوي.
يستخدم تركهايمر تعبير «تفسير جيني ضعيف» ليشير به إلى تلك الحالات المعلوم أن لها
أساسًا جينيًّا (i.e. heritability > 0)؛ غير أن
الآليات التي تنقله غير معروفة إلى حد كبير أو غير قابلة للمعرفة. إن أغلب الطرائق التي
ترتبط بها الجينات بالحالات البشرية يمكن أن توصف بأنها تفسيرات جينية ضعيفة. وإن كل
السلوكات البشرية تقريبًا مورَّثة (بما فيها التصويت الانتخابي والتدخين والطلاق) وإن
كانت المسالك الجينية التحتية لها غير يسيرة. وكلما ضعفت الرابطة بين الجينات والحالات
كانت الاستجابة الماهوية أكثر لا معقولية.
وحيث إن الجينات تؤثر في الأنماط الظاهرية في الأغلب الأعم بطريق التفسيرات الضعيفة
(برفع تقديرات الخطر، بزيادة القابلية، برفع الاحتمالات) فإن الاستجابات الماهوية
للترابطات الجينية كثيرًا ما تكون غير ملائمة. ورغم ذلك — وكما يحاج هينشو وستير في
معرض حديثهما عن الوصمة والأمراض النفسية — فعندما يعزو الناسُ حالةً ما إلى أساس جيني
فإنهم كثيرًا ما يُغفلون منظورات أخرى مثل مدى تلاؤم الشخص مع البيئة، أو كيف أثَّرَ
نمو الشخص في نشوء حالته؛ أي إن الغزو الجيني كثيرًا ما يُمنح أولوية فوق الضروب الأخرى
من العزو بالنسبة للظواهر. توجد هذه التعقيدات في معظم الظواهر البشرية التي تتفاعل
فيها الطبيعة والتنشئة. وبسبب تعقد التفاعل بين الطبيعة والتنشئة يستسهل الناسُ تبنِّي
التفسير الجيني القوي على حساب الأسباب البيئية والخبروية أو التفاعلية بين الجينات
والبيئة. ليس هذا نكرانًا للدور الجيني بل للمبالغة فيه.
٩
(٤) فهم العامة لعلم الوراثة
مما يُعَقِّد المصاعب الخاصة بالتفكير العقلاني حول التفسيرات الجينية أن معرفة الناس
بعامة عن علم الوراثة هي معرفة محدودة (في بحث لاني وآخرين (٢٠٠٤م) مثلًا تبين أن نصف
المشاركين في الدراسة لا يعلمون أن الجينات تقع في الخلايا!) ولكن رغم فهمهم المحدود
للجينات فإن الناس لا تتورع عن إسداء تفسيرات جينية لسلوك الآخرين بشكل تلقائي عفوي.
يَصدُق ذلك حتى على الأطفال؛ فقد بيَّنت دراسة هيمان وجِلمان (٢٠٠٠م) أن الأطفال
يستدعون الجينات بشكل صريح لتفسير سلوك الآخرين رغم انعدام فهمهم تقريبًا لعلم
الوراثة.
يستقي عامةُ الناس معلوماتهم الجينية من وسائل الإعلام، والإعلام لا يقدم إلا تبسيطات
مُخِلة توحي بتفسيراتٍ جينية قوية للظواهر تتجاوب مع الفهم الحدسي (والخاطئ) للعامة عن
الجينات، وهو فهم مشبع بالحتمية الجينية ويؤثر بشدة في فهمهم للآخرين ولأنفسهم. مثل هذه
التحيزات الماهوية الجينية هي ما يقبع من وراء ظاهرتَي: «التنميط» stereotyping و«التمييز» discrimination بجميع تجلياتهما: في العنصر، والجنوسة (الجِندر)، والتوجه
الجنسي، والإجرام، والمرض العقلي، والسِّمنة … إلخ.
تكشف لنا كثيرٌ من البحوث أن الناس تُبدي النزعةَ الماهوية عندما تكون بصدد تقييم
الجماعات الأخرى، وتشتد تحيزاتهم الماهوية عندما يُدرِكون الجماعات على أنها تشارك في
بنية جينية عامة، الأمر الذي يقدم أرضًا خصبةً لنمو التحيز والتنميط. ينظر الناس إلى
أعضاء الجماعات المختلفة على أنها تشترك في ملامح فطرية وثابتة ومحدِّدة للجماعة تتسبب
في سلوكاتهم وخصائصهم المميِّزة، وأن بعض هذه الملامح المحدِّدة ذات منشأ جيني.
وقد بيَّنت دراسة باستيان وهَسلام ٢٠٠٦م أن هناك ارتباطًا بين العَزْو الجيني
والتنميط؛ فقد وُجِد أن «مقياس الأساس البيولوجي للماهوية»
١٠ يرتبط ارتباطًا موجبًا مع درجة تصديق الناس على شتى ضروب التنميط الخاصة
بشتى الجماعات الاجتماعية. لقد تبين أن الميل إلى تفسير السلوك في حدودٍ بيولوجية هو
من
أقوى الخصال التي تُنبئ بالتنميط. كذلك الأمر في «مقياس الاعتقاد في الحتمية الجينية»
(الذي يتضمن بنودًا من قبيل: «مصير كل شخص يقبع في جيناته»)، فهو يرتبط ارتباطًا موجبًا
مع التحيز والتنميط العنصري السلبي والنزعة القومية والنزعة الوظيفية.
١١ وبالمجمل فإن أولئك الذين ينظرون إلى الجماعات البشرية على أنها تشترك في
ماهية جينية عامة هم أمْيَل إلى اعتناق اعتقادات تنميطية عن تلك الجماعات.
(٥) الماهوية الجينية والعنصر والإثنية
يُعَد العنصر race والإثنية — ربما بدرجة أقل —
اثنين من التصنيفات الاجتماعية العتيدة. ونحن لا تعوزِنا الأدلة على أن الناس يولُون
عنصرَ الناس وإثنيتهم أهميةً هائلةً. وقد قام الباحثون في السيكولوجيا بدراسة دور هذين
البناءين بالنسبة لقطاعٍ عريضٍ من الظواهر، مثل: التنميطات والتحيز والإدراكات داخل
الجماعة وخارج الجماعة والهوية والقدرات والآليات المعرفية المرتبطة.
وفي ترسيمه لصورة الشخصية المتحيزة أشار جوردون ألبورت ١٩٥٤م إلى أن الاعتقاد في
الماهية له قوة عجيبة على تخليد الآراء العنصرية المتحيزة لدى الناس. «ثمة ماهية يهودية
متأصلة في كل يهودي»: «الروح الشرقية»، «الدم الزنجي»، «آرية هتلر»، «العبقرية الخاصة
لأمريكا»، «الإنسان الفرنسي المنطقي»، «الإنسان اللاتيني المشبوب العاطفة»؛ كل أولئك
يمثل اعتقادًا في الماهية. ثمة «مانا» (قوة طبيعية مجسَّدة) سِرية — للخير أو الشر —
تقيم في الجماعة، ويشارك فيها جميع أعضائها.
١٢ ونحن نحاج بأن الناس كثيرًا ما تتصور الجينات على أنها تتبطن هذه «المانا»،
ومن شأن ذلك أن يُعزِّز طائفةً من ردود الأفعال (البغيضة في الأغلب).
هل ثمة أساس جيني للعنصر؟ ذاك سؤالٌ قد خضع لتمحيص علمي مكثف. ورغم أن غالبية المجتمع
العلمي والرابطات السياسية الدولية تؤكد عدم وجود أساس بيولوجي لمفهوم العنصر، بمعنى
أن
التنوع داخل لعنصر أوضح بكثير جِدًّا من التنوع بين العناصر، فما زال الناس يستخدمون
العنصر كأمارةٍ بيولوجية لعمل استدلالات. إن استخدام الناس للتصنيفات العنصرية
المستلهمة للجينات يماثل استخدام التصنيفات القائمة على الأنواع
species في أنها تضم الأفراد في فئات تصنيفية منمازة
discrete طبيعية ثابتة ضرورية.
١٣ وقد ارتبط هذا الإدراك الماهوي للعنصر بالتشابهات الجينية المدرَكة بين
أعضاء هذه الجماعات.
وقد أُجريت أبحاث حديثة لدراسة تأثير العزو الجيني في إدراك الفروق العنصرية
والإثنية. قام بعض الباحثين بدراسة كيف ترتبط الاعتقادات حول الفروق الجينية بين
العناصر بالتحيز والتمييز. فقد قام جاياراتني وآخرون — على سبيل المثال — بدراسة العزو
الجيني المتعلق بالعنصر والخاص بالأمريكيين البيض. وقد قاموا بتقدير العزو الجيني
للفروق العنصرية عن طريق قياس كم شخصًا صدَّقوا على دور الجينات في تشييد فروق عنصرية
في الذكاء وفي الدافعية للنجاح، وفي العنف، فوجدوا أن الأشخاص الأكثر عزوًا جينيًّا قد
حصلوا على درجات أعلى على مقاييس العنصرية التقليدية (مثل الاستجابة السلبية من جانب
والدٍ أبيض تجاه زواج ابنه أو ابنته من شخصٍ أسود) والعنصرية الحديثة (مثل الاعتقاد بأن
السود أنفسهم مسئولون عن سوء حالهم).
١٤
لقد صِيغَ الذكاءُ في حدودٍ ماهوية قوية كما لم يُصَغْ أي بناء
سيكولوجي آخر. في عام ١٩٣٤م عَرَّف أحد الباحثين الأوائل في الذكاء، هو سير سيريل بيرت،
عَرَّفَ الذكاء بأنه «قدرة فكرية إجمالية … موروثة، لا تعود إلى التعليم أو التدريب …
ولا تتأثر بالاجتهاد أو الحماس، وتدخل في كل ما نفعله أو نقوله أو نفكر فيه.»
١٥
كان التوكيد على الأساس الوراثي للذكاء واضحًا في النشأة الأولى لاختبار الذكاء. وكان
هذا الاختبار حقًّا مكونًا حاسمًا من مكونات حركة تحسين النسل (اليوجينيا) في بدايات
القرن العشرين. مثال ذلك: أن واقعة حصول الأمريكيين السود على درجات أقل من البيض في
اختبارات الذكاء قد فسرها بعضُ الباحثين على أنها تشير إلى أنه لا أمل في تحسين الأداء
الأكاديمي بين السود.
وفي تاريخ أحدث قال جيمس واطسون — الحائز على نوبل لاكتشافه البنية اللولبية المزدوجة
للدنا — في مقابلة للندن سنداي تايمز: إنه «حزين من الأعماق حول مستقبل أفريقيا»؛ لأن
«كل سياساتنا الاجتماعية قائمة على واقعة أن ذكاءهم مساوٍ لذكائنا، بينما الاختبارات
تقول غير ذلك في الحقيقة»؛ أي إن المكون الموروث من الذكاء كثيرًا ما تم تفسيره على أنه
يُثبت أن الإمكانات الفكرية للناس ولكل أجناس البشر تقع دون منال أي تأثير بيئي أو
تعليمي.
ثمة مغالطتان أساسيتان في هذه الاستنتاجات، وكلتاهما تعكس بشكلٍ ما سطوة الماهوية
الجينية التي لا تقاوَم: الأولى هي فكرة أن التقديرات الوراثية المحسوبة داخل الجماعات
يُفترَض أنها تُثبِت أن الفروق بين الجماعات تعود إلى الجينات المفترضة التي تتبطن
الوراثة. تعكس هذه المغالطة كيف يُفترَض أن الجينات
التي تتبطن السمات الوراثية هي العامل الوحيد (أي إنها تمثل سببًا محدَّدًا) وراء كل
من
اختلاف الأفراد واختلاف الجماعات في النمط الظاهري (الفينوتايب). ويبين البحث العلمي
—
مبرهنًا على جاذبية هذه المغالطة — أن الأشخاص الذين يستخدمون التفسيرات الجينية للفروق
الفردية هم من الأرجح أيضًا أن يستخدموا الجينات لتفسير الفروق المدرَكة بين الجماعات
في نفس السمة.
١٦
والمغالطة الثانية هي أن قابلية سمةٍ ما للوراثة من المفترض أن تدل على أن هذه السمة
لا يمكن أن تُعَدِّلها عناصرُ بيئية؛ أي إن النمط الظاهري يُرَى على أنه مآلٌ مقدَّر
سلفًا وثابت للنمط الجيني التحتي (وغير المتبيَّن رغم ذلك). ولكن موروثية أي سمة بالطبع
لا تقول أي شيء عن قابليتها للتعديل. إن تفسير الموروثية بهذه الطرق الخاطئة (وفي
مجالات أخرى بالإضافة إلى العنصر والذكاء) — حتى من جانب بعض علماء الوراثة السلوكية
والباحثين في الذكاء — لَيؤكد كيف تتجاوب مثل هذه الحجج مع التحيزات الماهوية للناس.
كثيرًا ما ينظر الناس إلى الذكاء في حدودٍ ماهوية بوصفه نتاجًا لسببٍ أساسي (النمط
الجيني) مشترك في الحدود مع عنصر الفرد، وما إن تُثار هذه التحيزات الماهوية حتى يركز
الناس انتباههم — حصريًّا تقريبًا — على الأساس الجيني التحتي المدرَك؛ وبذلك يغمطون
حق
التأثيرات البيئية في الذكاء.
(٧) الماهوية الجينية والجِندر (الجنوسة)
إذا كان الجنس sex محدَّدًا جينيًّا فالجنوسة gender بناء
اجتماعي social construct يضم عناصر بيولوجية مثل: الأعضاء الجنسية، وعناصر اجتماعية
مثل: الأدوار الاجتماعية الملائمة. ولعل الجنوسة هي أكثر التصنيفات الاجتماعية تعرُّضًا
للماهوية؛ فقد وجد ميلر ٢٠٠٦م في دراسة لأربعين تصنيفًا اجتماعيًّا مختلفًا أن الجنوسة
كانت أكثرها احتمالًا أن تُدرَك بنفس الطريقة التي تُدرَك بها الأنواع الطبيعية. إن
أطفالًا في الرابعة من العمر يستخدمون الجنوسة كتصنيف ثري الاستدلال يُمكِّنهم
من أن يستمدوا نتائج بخصوص السلوكات البشرية، حتى
إذا ناقضت مُشعِراتٍ تصنيفية أخرى مثل المظهر والبيئة. وهكذا كلما ورد إلى الذهن أفكارٌ
ماهوية عن الجنوسة ينظر الناس إلى خصائصها على أنها فطرية وثابتة وناتجة عن سببٍ واحدٍ
وغير متداخلة.
يشير عدد من الدراسات الارتباطية إلى أن النظرة الماهوية للجنوسة ترتبط مع الإدراك
العالي للفروق الجنسية، وأنه كلما كان الشخص أميَل إلى اعتبار فروق الجنوسة نتاجًا
لعللٍ جينية كان أمْيَل أيضًا إلى النظر إلى الجنسين على أنهما متمايزان.
يشير البحث التجريبي إلى أن النظرة الماهوية للجنوسة تُفضي إلى التنميط؛ ففي دراسة
بريسكول ولافرانس ٢٠٠٤م قام المشاركون بقراءة أحد مقالين مصطنَعَين يَدَّعي كل منهما
أن
القدرة على التعرف على النباتات تختلف بحسب الجِندر. يقدم أحد المقالين تفسيرًا جينيًّا
لهذا الفرق، ويقدم المقال الآخر تفسيرًا اجتماعيًّا ثقافيًّا. وقد أسفر البحث عن أن
الذين قرءوا التفسير الجيني للفروق الجندرية كانوا أميل إلى الاعتقاد بأن الشخص لا
يمكنه أن يتغير، وأميل إلى التصديق بقوةٍ على التنميطات الجندرية (أي عزو سمات ذكورية
نمطية للرجل المتوسط وسمات أنثوية نمطية للمرأة المتوسطة)، وذلك بالمقارنة بأولئك الذين
اطَّلعوا على تفسير اجتماعي ثقافي. يبرز هذا البحث كيف يمكن للنظرة الماهوية الجينية
أن
تؤدي إلى اعتقاداتٍ سببية محددة؛ فإذا كانت الجينات تتبطَّن جانبًا من الفروق الجنسية
(أي التعرف على النباتات) فهي أيضًا السبب الجوهري للسمات الأنثوية والذكورية الأخرى.
١٧
وفي بحث آخر استطلع دارنيمرُد وهايني ٢٠٠٦م كيف يؤثر التفسير الجيني لتفوق الذكور
في
الرياضيات على أداء النساء في هذا المجال.
١٨ ثمة دعاوي بحثية بوجود أساسٍ جيني للتفوق المزعوم للذكور في الرياضيات. وقد
أشار لورنس سَمَرز ٢٠٠٥م — وهو عندئذٍ رئيس جامعة هارفرد — أن نسبة الرجال الذين
يتمتعون بملكة رياضية متأصلة هي أكبر من نسبة النساء. فكيف يمكن للتعرض
لهذه المزاعم أن يؤثر على الأداء الفعلي للإناث في
الرياضيات؟ استخدم ستيل وأرونسون ١٩٩٥م إطار «خطر
التنميط»
stereotype threat (حيث يؤدي أعضاء الجماعات المنمَّطة أداءً أسوأ في المهام
المنمَّطة عندما تُبرَز عضويتهم في الجماعة)، وعرَّضا المشاركين الإناث لإحدى المناورات
الأربع الآتية: (١) ادِّعاء بأن ليس ثمة فروق جنسية في الأداء الرياضياتي. (٢) شيء
يُذَكِّرهن بجنسهن. (٣) ادِّعاء بأن الفروق الجنسية في الرياضيات لها أساس جيني (وبخاصة
الزعم الكاذب بأن الرجال يفوقون النساء بمقدار ٥٪). (٤) ادِّعاء بأن الفروق الجنسية في
الرياضيات (فرق الخمسة بالمائة) لها أساس خبروي. أشارت النتائج — بالتساوق مع البحوث
السابقة عن خطر التنميط — إلى أن تذكير النساء بجنسهن جعل أداءهن في الاختبار الرياضي
اللاحق أسوأ من اللائي عرفن أنه ليس ثمة فروق جنسية في الرياضيات. ومن الطريف بصفةٍ
خاصةٍ أن أولئك اللواتي علمن بدعوى الأساس الجيني في الرياضيات جاء أداؤهن الرياضياتي
مساويًا في تدنيه لأداء أولئك اللواتي كن يتذكرن أنوثتهن. يومئ ذلك إلى أن فهم النساء
الأصلي لحكاية التدني في الرياضيات يتصل بفرق جيني بين الرجال والنساء. أمَّا أولئك
اللواتي أُخبِرن بأن الفروق الجنسية في الرياضيات تعود إلى أسباب خبروية، فهن — في
المقابل — لم يُظهِرن أيَّ أمارة لخطر التنميط. تشير هذه النتائج إلى أن الميول
الطبيعية تجاه الرؤية الماهوية الجينية للجندر يمكن أن تُبطِلها — في بعض المواقف —
تفسيراتٌ خبروية صريحة.
وبالمثل — في دراسة أخرى — قرأت المشارِكاتُ إما مقالًا يناصر النظرية البيولوجية
للجندر وإما مقالًا يؤيد نظرية اجتماعية للجندر. فكانت النتائج أن أولئك اللاتي قرأن
النظرية البيولوجية صدَّقن على الصفات الأنثوية التقليدية (مثل الحياء، الأنوثة، نعومة
الحديث) بدرجة أقوى من أولئك اللاتي قرأن النظرية الاجتماعية.
١٩
مجمل القول أن الناس تميل بطبيعتها إلى إدراك الفروق الجندرية إدراكًا ماهويًّا
جينيًّا؛ أي على أنها حتمية محددة السبب متجانسة طبيعية. وتشير بعض الأبحاث إلى أن
تبيان التأثيرات البيئية على الفروق الجندرية يمكن أن تخفِّض الميول التنميطية لدى
الناس، وتشير بالتالي إلى طريقة ممكنة لمحاربة الماهوية الجينية.
وبينما يمثل العنصرُ والجندر تصنيفاتٍ اجتماعيةً تتأسس عضويةُ المرء فيها لحظة
الميلاد وتبقى ثابتةً لا خلاف عليها (مع بعض الاستثناءات المهمة مثل المتحولين)؛ فإن
هناك تصنيفات اجتماعية لا تكون واضحة لحظة الميلاد. وفي بعض الحالات — مثل التوجه
الجنسي والإجرام والسِّمنة — ثمة مظاهر سلوكية متصاحبة تدخل فيها الإرادة على نحوٍ ما
وتشكل سببًا منافسًا لغيره من الأسباب. وثمة تصنيفات أخرى — مثل المرض العقلي — من
الممكن ألا يقع فيها المرء إلا في مرحلة لاحقة من العمر كأن يُصاب بالفصام. يختلف
العنصر والجندر عن هذه التصنيفات الفئوية الأخرى في أنهما قلَّما يدركهما الناس كشيء
يخضع للإرادة الشخصية، وهم في ذلك متأثرون بالتحيزات الماهوية الجينية كما قلنا
آنفًا.
(٨) الماهوية الجينية والتوجه الجنسي
ثمة تصنيفٌ فئوي اجتماعي طالما ارتبط بالجينات، وهو «التوجه الجنسي»
sexual orientation. في القرن التاسع عشر أشار
عددٌ من العلماء — من بينهم ك. م. بنكارت وباول مورو — بأن التوجه الجنسي شيءٌ
مُوَرَّث، وقد كان المنشأ الجيني للتوجه الجنسي محل نقاش طويل خلال القرن العشرين،
واكتسب مصداقية جديدة عندما ادَّعى هامر وآخرون
٢٠ (١٩٩٣م) أنهم اكتشفوا أمارةً جينيةً (
Xq28)
تتسبب جزئيًّا في الجنسية المثلية في الذكور. جذب هذا البحثُ انتباهَ وسائل الإعلام
بشدة، وأصبحت العلامة الجينية (وهي تضم مائة جين) تُسَمَّى
gay
gene على الرغم من إخفاق المختبرات الأخرى في أن تكرر نتائج هذا
البحث.
تتالت بعد ذلك عشرات المقالات وأثارت نقاشًا لعواقب هذا الكشف. وعلى الرغم من أن
البحث بحد ذاته كان مصوغًا بعناية بوصفه كشفًا مبدئيًّا لعلامة جينية قد تضم جينات
تضطلع بالتوجه الجنسي لدى الرجال؛ فإن الكثير من المقالات الصحفية بَيَّنَت أن هذه
النتيجة المكتشَفة تشير إلى أن الناس ليس لها خيار
في تبنِّي أسلوب حياة مثلي. وركزت مقالاتٌ أخرى على هموم يوجينية مثل الإجهاض الانتقائي
للأجنة «المشبوهة» والاختبارات التشخيصية المصمَّمة للتعرف على مثل هذه الأجنة. وكلتا
الاستجابتين تؤكد أن علاقةً عِلِّية ثابتة بين الجينات والجنسية المثلية قد عُرِفَت.
إن
نفس النوع من الاستجابات الماهوية لم ينتج مثلًا عن مقولة التحليل النفسي بأن الأم
المستبدة والأب المنفصل البارد مسئولان عن نشأة الميول المثلية في الطفل، رغم أن التحكم
الواعي للرضَّع في هذه الألوان من السلوك الوالدي ليس أقوى من تحكُّمهم في جيناتهم.
وهذا — مرةً ثانيةً — دليل على أن الحجج الجينية تؤدي إلى ردود أفعال مختلفة كيفيًّا
عما تؤدي إليه الحجج البيئية.
يترتب على فرضية الأساس الجيني للمثلية أن المثلي مغلوبٌ على أمره، ولا يد له في
توجهه الجنسي، ولا سلطان له على ميوله المثلية؛ ومن ثَمَّ فلا محل للومه وتقريعه
والتمييز ضده. وقد كان هذا هو الواقع في كثير من الأحيان؛ فإدراك الأساس الجيني للمثلية
من شأنه أن يؤدي إلى تقييمات إيجابية للمثليين.
هذه العلاقة بين إدراك الأساس الجيني وبين التسامح تجاه المثليين تبيِّن كيف يمكن
أن
تؤدي الماهوية الجينية إلى «مغالطة المذهب الطبيعي» في بعض المجالات، وفي مناخ سياسي
ما
زال فيه بعض الناس يعتقدون أن المثليين «يختارون» أسلوبَ حياةٍ «لا أخلاقيًّا»؛ فإن
معرفة أساسٍ جيني للتوجه الجنسي لا يدفع الناس فحسب إلى اعتبار التوجه الجنسي شيئًا
منفصلًا ومحتَّمًا بسبب محدد، بل يدفعهم أيضًا إلى خفض تحيزهم ضد المثليين. فمن الواضح
أن السلوكيات ذات المضامين الأخلاقية تفقد سطوتها الأخلاقية إذا نظر الناس إليها كشيءٍ
يتجاوز إرادةَ الفرد. فما إن تُربَط حالةٌ موصومةٌ أخلاقيًّا بحالة جسدية (مثل
الاستعداد الجيني) حتى يراها الناس كحالةٍ خارج السيطرة؛ مما قد يؤدي إلى تعزيز مشاعر
التعاطف مع أعضاء هذه الفئة، ويُفضي إلى كف الملام والاستهجان. هكذا نرى أن الحجج
الجينية قد تخفف التقييمات السلبية في بعض المجالات. ولعل هذا أن يكون ملمحًا إيجابيًّا
ممكنًا للماهوية الجينية؛ غير أن على المرء أن يضع باعتباره أن السياقات السياسية
دينامية، وأن ما يؤخذ اليوم على أنه مخفِّف إيجابي للتعصب تجاه المثليين قد يُتَّخَذ
يومًا ما ذريعةً لممارساتٍ يوجينية.
٢١
(٩) الماهوية الجينية والإجرام
ثمة صلةٌ مشهودةٌ بين الجينات والإجرام تم تسجيلُها في كثير من الحالات الإجرامية
الشهيرة، ونهضت كدعامة كبرى لحركة اليوجينيا في النصف الأوَّل من القرن العشرين. وما
فتئ المنشأ الجيني للإجرام منذ ذلك الوقت يتحلى بقوة إقناعية. وفي عام ١٩٦٥م نُشِرَ
بحثٌ يشير إلى أن السلوك الإجرامي قد يكون مرتبطًا بشذوذ كروموزومي، ولقيَ صدًى
إعلاميًّا واسعًا.
٢٢ وقد وجد جاكوب وزملاؤه عددًا غير عادي من الذكور لديهم كروموزوم
Y زائد (
XYY) بين
نزلاء الإصلاحيات في أسكتلندا، وأومأ إلى أن هذا الشذوذ «يؤهل حامليه للسلوك العدواني
الزائد». وقد اندلع الاهتمامُ الشعبي وتوالت المناقشات حول سؤال المسئولية (المَلومية،
استحقاق اللوم
culpability) والاختيار عند هؤلاء
«الحاملين»
carriers. وسرعان ما بدأ الباحثون
يرفضون فكرة أن الكروموزوم
Y الزائد مرتبط بالعدوانية،
مؤكدين وجود أخطاء ميثودولوجية واستدلالات متحيزة في دراسة جاكوب وزملائه. ورغم رفض
النتيجة الأصلية للبحث فقد ظل هناك ربط عام واضح بين هذا الشذوذ الكروموزومي والإجرام
بعد بضعة عقود.
والحقيقة أنه لا توجد حتى الآن أبحاث إمبيريقية حاشدة تكشف أساسًا جينيًّا للسلوك
الإجرامي رغم أن الاهتمام العلمي بهذا الارتباط لا يزال قويًّا؛ غير أن الاعتقاد في
الأساس الجيني للإجرام هو اعتقاد شائع (مثال ذلك: أن ٦٢٪ من الأمريكيين البيض يعتقدون
أن الميول الإجرامية هي شيء جيني، على الأقل جزئيًّا). وهذه الاعتقادات من الأهمية
بمكان؛ بسبب متضمناتها القانونية بصفةٍ خاصة؛ فالأساس الجيني للسلوك المضاد للمجتمع
يمكن أن يؤدي إلى مغالطة المذهب الطبيعي وإلى النظر إلى فاعل الجريمة على أنه فاقدٌ
للتحكم في نفسه؛ وبالتالي غير مَلوم. ورغم أن السلوك الإجرامي الفعلي نفسه لن يُدرَك
أقلَّ سلبيةً عندما يُعزَى إلى الجينات (المجتمع مثلًا لا يمكن أن يطيق الاغتصاب بغضِّ
النظر عن أسبابه التحتية) فإن فاعل الجريمة قد يُنظَر إليه نظرةً أكثر تعاطُفًا إذا كان
سلوكه يُرَى كشيءٍ خارجٍ عن سيطرته.
من التصورات الأساسية لدى السلك القضائي ولدى عامة الناس على حدٍّ سواء أن المسئولية
الجنائية تستند إلى النية الإجرامية، والاختيار الحر (الإرادة)، وقدرة المرء على التحكم
في أفعاله. يقيِّم القضاةُ والمحلفون ما يُسَمَّى «العقل المذنب»
guilty mind/mens rea؛ أي العنصر القصدي العمدي
في الجريمة. وفي غياب هذا العنصر قد يتلقى المتهم عقوبةً مخففة أو حتى البراءة. إن
العلاقة الحتمية الواضحة بين الجينات تنقص من إدراكنا لمسئولية الفاعل الإجرامي
وامتلاكه لأفعاله، وقد تجعل سلوكَه يبدو لنا خارجًا عن إرادته وسيطرته. من الأمثلة
الطريفة لذلك ما حدث في المحكمة العليا بكاليفورنيا لحالتين متماثلتين للغاية،
لمحاميَين متهمَين باختلاس أموال زبائنهم يواجهان عقوبة الشطب (من جداول المحامين). لم
ينكر أيٌّ من المحاميَين التهمة، وعزا كلاهما الأمرَ إلى تناول الكحول كسببٍ قريب
لسلوكه الشائن؛ غير أن أحد المحاميَين حاجَّ بأن لديه استعدادًا جينيًّا للكحولية،
ووجدت المحكمةُ حججَ التخفيف لدى صاحب الاستعداد الجيني أكثرَ قبولًا، فوُضِعَ تحت
المراقبة وسُمِح له بالاستمرار في ممارسة عمله، بينما شُطِبَ المحامي الآخر من سلك المحامين.
٢٣
ثمة مجموعة أخرى من الأبحاث أُجْرِيَت لدراسة كيف يرتبط الاعتقاد في الحتمية بالسلوك
غير الأخلاقي (بغض النظر عن الأساس الجيني للسلوك ذاته). قُسِّم المشاركون إلى قسمين:
قسم قرأ مقالًا محايدًا وقسم قرأ مقالًا ينكر وجود الإرادة الحرة («فنحن في النهاية
حواسيبُ بيولوجية صممها التطور وشيَّدتها الجينات وبرمجتها البيئة»). عندئذٍ أتيح
للمشاركين بطريقة معينة فرصةٌ للغش في مهمةٍ أُوكِلَت إليهم من أجل مكسبهم الشخصي. كانت
النتيجة أن المشاركين الذين قرءوا المقالات الحتمية ارتكبوا الغش أكثر من أولئك الذين
قرءوا مقالات محايدة. ورغم أنه من غير الواضح ما إذا كانت المقالات الحتمية قد أثرت
بسبب تبيان دور الجينات، فإنها تُثبِت العلاقة بين الاعتقادات القدرية والسلوك غير الأخلاقي.
٢٤
صفوة القول: إن الاعتقاد في الأساس الجيني للسلوك الإجرامي يخفف من تقييم مَلومية
الفاعل وسيطرته على أفعاله. وما زالت الأدلة المباشرة على الأساس الجيني للسلوك
الإجرامي محدودةً نوعًا ما، وإن ظل هناك احتمال بأن تكتشف أبحاث المستقبل ارتباطاتٍ
جينيةً أكثر مما لدينا، وأن تكتشف تفاعلات بين الجينات والبيئة، ورغم ذلك فقد يكون
استخدام حجة: «إن جيناتي جعلتني أفعل ذلك» دفاعًا قضائيًّا محدودًا؛ ذلك أنه قد يكون
سلاحًا ذا حدين، فنقص سيطرة المرء على سلوكه قد يخفف من الملومية المدرَكة؛ غير أنه في
الوقت نفسه يدعم تصورَ الثبات وصعوبة التغير، فإن كان غير مسئول فهو خطرٌ على المجتمع
وقمينٌ بأن يكرر فَعلتَه إذا تُرِكَ طليقًا!
(١٠) الماهوية الجينية والمرض العقلي
من الملاحَظ منذ القِدَم أن الأمراض العقلية «تجري في عائلات». وقد كان انتشار هذه
الأمراض من بين الاهتمامات الرئيسية لحركة اليوجينيا في القرن الماضي. ورغم الأدلة
الكثيرة على العنصر الوراثي الجوهري في انتقال المرض العقلي فإن الحالات التي تعتمد على
بضعة جينات تقتصر على زملات (متلازمات) نادرة وبعض أمراض بيوكيميائية معينة (مثل
زملة كوهن Cohen’s
syndrome،
ومرض ويلسون Wilson’s disease). أمَّا عامة
الأمراض النفسية فالانتقال الجيني فيها أمرٌ معقد ويتضمن عددًا هائلًا من
الجينات.
تختلف نظرة الناس إلى المرض العقلي حين يدركونه كمرضٍ جينيٍّ عنها حين يدركونه كمرضٍ
ذي أساسٍ اجتماعيٍّ بيئي. وبالنظر إلى أن المرض العقلي قد يتضمن أمورًا أخلاقيَّة فإن
العَزو الجيني قد يُثير مغالطة المذهب الطبيعي، ويقلل إدراكنا للفاعلية الإرادية فيه؛
ومن ثَمَّ يثير التعاطف تجاه المصابين به. إن من البيِّن المتواتر أن الناس تميل إلى
التعاطف مع الحالة المحددة بيولوجيًّا (واعتبارها لا إرادية وتبرئة صاحبها من المسئولية
والمَلومية) أكثر من تعاطفها مع الحالة المحدَّدة اجتماعيًّا وثقافيًّا وبيئيًّا؛ ومن
ثَمَّ فإن من ينظرون إلى المرض العقلي على أنه مرض جيني وراثي يميلون إلى إعفاء المريض
من المسئولية عن أفعاله، وإلى توقع مآلٍ سيئ للحالة، وإلى اتخاذ مسافة من المرضى
والتوجس من خطورتهم. وفي كل ذلك تفعل التحيزات الماهوية فِعلَها وتحمل الناسَ على تصور
المرض العقلي كتصنيفٍ ثابتٍ لا يتغير، وناتجٍ عن سبب محدد ومتجانس ومنفصل
وطبيعي.
أمَّا النظرة العلمية الحصيفة التي تضع الأمر في نصابه وترى إلى المرض العقلي كنتاج
لتفاعل البيولوجيا والبيئة — الطبيعة والتنشئة — فمن شأنها أن تخفف من التحيزات
الماهوية وترى الأشياءَ على ما هي عليه.
وصفوة القول — سواء بخصوص العنصر والجِندر من جهة أو بخصوص التوجه الجنسي والإجرام
والمرض العقلي من جهةٍ أخرى: إن الحجج التي تدعم الأساس الجيني تثير استجابات أكثر
قَدَرِية مما تثيره الحجج التي تدعم العواملَ الخبروية. يُبدِي الناسُ تحيُّزًا عندما
يعلمون أن أعضاء الجماعات الإثنية/العنصرية يختلفون في جيناتهم، وتؤدي النساءُ أداءً
أكثر تدنِّيًا في الرياضيات عندما يسمعن أن الرجال يمتلكون جينات رياضية، وينال
المثليون تسامُحًا أكثر إذا قيل: إن هناك جينات للتوجه الجنسي، ويقل اللوم على المجرمين
إذا كان ثمة جينات تتعلق بإجرامهم، وتُعَد الأمراض العقلية أكثر خطورة إذا كان ثمة
جينات ضالعة فيها، ويأكل الناس كعكًا أكثر إذا علموا أن هناك جينات للسِّمنة.
عندما يُنظَر إلى أعضاء جماعةٍ اجتماعيةٍ معينة على أنهم مرتبطون جينيًّا فإنهم
يُدرَكون ككيانٍ ثابتٍ وله عِلَّةٌ محددة، ومتجانس، وطبيعي. ومثل هذه الإدراكات يمكن
أن
تُفضي إلى التنميط والتحيز، وبخاصة إذا كانت العضوية في الفئة الاجتماعية كائنة منذ
الولادة وثابتة إلى حد كبير، كما في حالة العنصر والجِندر. ومع ذلك فعندما ترتبط
العضوية في فئة ارتباطًا وثيقًا بمظاهر سلوكية (مثل المثلية والسِّمنة والإجرام) فإن
إدراك الإرادة قد يَقِل ويَقِل معه إدراك مسئولية العضو في فئة موصومة، وينتج عن ذلك
تعاطفٌ مع العضو وتخفيف الإدانة. كما أن إدراك طبيعية الأمر الناجمة عن إدراك السبب
الجيني قد يحفز مغالطة المذهب الطبيعي التي من شأنها أن تُحسِّن التقييمات
السلبية.
وجدير بالذكر أن الأبحاث الجينية السلوكية تشير إلى أن أغلب السلوك هو وراثي بدرجةٍ
ما؛ مما يومئ إلى أن هذه الألوان من التحيز الماهوي الجيني قد تظهر في كل المجالات
تقريبًا التي يمكن فيها تبيان العنصر الوراثي. مثال ذلك: أنه يبدو محتملًا أن التحيزات
الماهوية الجينية قد تتجلى أيضًا في كيف ينظر الناس إلى الكحولية أو السلوكيات
الإدمانية الأخرى، أو كيف يتصورون شدة الأمراض ومآلها، أو كيف يتصورون مختلف أنواع
السمات والاتجاهات والقدرات. وقد يكشف البحث في المستقبل مجالات أخرى يؤثر فيها العَزو
الجيني تأثيرًا غير منضبط على أفكار الناس وسلوكهم.
ورغم أن الجينات تؤثر في معظم مصائر الحياة على نحو احتمالي؛ إذ يعتمد «التعبير الجيني» gene expression على وجود متغيرات بيئية
معينة، وإذ تتفاعل الجينات مع جينات غيرها؛ فإن الناس عندما يواجهون حججًا جينية تَنشَط
تحيزاتُهم الماهوية، وقد تنتهي بهم إلى أن يروا تلك المصائر بطرائق مختلفة اختلافًا
بعيدًا. إن الجينات — كما يتصورها عامة الناس على الأقل — يمكن أن تقدم تفسيرًا ماديًّا
مَكينًا لسؤال: «لماذا يسلك الناس بالطريقة التي يسلكون بها؟»
(١١) الماهوية الجينية والخطاب الشعبي
يتعرض الناسُ عديمو التمرس الرسمي بعلم الوراثة لحجج تتعلق بالصفات الوراثية للبشر.
وقد ظلوا يتعرضون لذلك طيلة قرون. وسوف نتناول فيما يلي كيف يتفاعل الحديث في الجينات
مع تحيزات الناس الماهوية الجينية، سواء في الماضي في الخطاب الدائر حول حركة اليوجينيا
(تحسين النسل) وما يتصل بها من سياساتٍ عامة، أو في الأزمنة المعاصرة في التصورات
العامة عن البحث الجيني.
(١٢) الماهوية الجينية والأفكار اليوجينية
تتجلى قوةُ التحيزات الماهوية الجينية في تكرار صعود الأيديولوجيات اليوجينية عبر
التاريخ. ونحن نؤكد أن هذه الأيديولوجيات تترتب مباشرةً على الأساليب التي يدرك بها
الناسُ الأسسَ الجينية على أنها ثابتة ومتجانسة وأساسية للشخصية الإنسانية. وما دامت
الجينات تُرَى على أنها مَكمَن العِلِّية، فإنه ينتج عن ذلك أن الجهود الرامية لتحسين
البشرية سوف تتركز على تحسين الجينات أو «جميعة
الجينات» gene pool بصفة أعم. ونحن نتوقع أن الأيديولوجيات اليوجينية سوف تبقى
في صعود ما بَقيت الناسُ تحاول دمج رؤيتها للعالم الاجتماعي بما تتلقاه من الكشوف
الجينية المتعلقة بالخصائص البشرية. وفيما يلي نَصِف باختصارٍ طريق اليوجينيا وكيف
ترتبط بالماهوية الجينية.
كان أول تناول لليوجينيا في التراث الغربي واضحًا في دعوة أفلاطون للحكام (الحراس)
إلى تحسين الدولة عن طريق التحكم في التناسل البشري (على أنه أدرك أن من المهم أن تبقى
هذه السياسة خفيةً عن عامة السكان). يعني ذلك أنه كان من المفهوم أن الناس تمتلك ماهيةً
قابلةً للوراثة تختلف كيفيًّا بين الأفراد، رغم أن آليات هذه الوراثية لم تكن مفهومةً
بعدُ، يترتب منطقيًّا على هذه المقدمة أن من يريد أن يُحسِّن البشرية فإن عليه أن
يستنبت هذه الماهية الوراثية في الأجيال القادمة.
وقد تكررت في التاريخ محاولة وضع برامج لتحسين أمةٍ أو عنصر؛ غير أن هذه الرغبة في
تحسين الذرية والخَلَف كانت تفتقر إلى أي أساس علمي، إلى أن صدر كتاب دارون «أصل
الأنواع». وكانت الصلة بين قول دارون بالسمات الوراثية المتفاوتة في الصلاحية وبين
الرغبة في تحسين ماهية الجنس البشري لافتةً لا يمكن إغفالها. وها هو سير فرنسيس جالتون Francis Galton — عَم دارون — يقترح أن نستخدم
مفهوم الانتخاب الاصطناعي لتحسين الجنس البشري. وما لبثت أفكارُ جالتون مستخدمةً
استعاراتٍ ونتائجَ علميةً من بحوث تربية الحيوان، تثير اهتمامًا متزايدًا من المجتمع
العلمي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وانتشرت — في التربة الخصبة
لتحيزات الناس الماهوية الجينية — في العالم الصناعي انتشار النار في الهشيم.
لم يقتصر إغراء الأيديولوجيات اليوجينية على ذوي الفهم المحدود للوراثة أو الجينات.
فقد اعتنق بعضٌ من أبرز علماء العصر الأفكار والممارسات اليوجينية بحذافيرها، من بينهم
كارل بيرسون ولوثر بربانك ورونالد فيشر، ولحق بهم أيضًا وجوهٌ بارزةٌ مثل ألكسندر
جراهام بل وجورج برناردشو وتيودور روزفلت، جمعتهم رغبتهم في تحسين نوعية «الجيرم بلازم»
البشري.
في هذا الوقت المبكر لم يكن علم الوراثة متميِّزًا عن اليوجينيا، فعلى سبيل المثال
فإن هيئة التحرير المؤسِّسة للمجلة الأمريكية لعلم الوراثة قد صَدَّقت على حركة
اليوجينيا. واندفعت تنظيماتٌ جديدةٌ مثل رابطة اليوجينيا الأمريكية وتنظيم الأُبُوَّة
في تمجيد الأيديولوجيات اليوجينية، بينما كانت رابطة التربية الأمريكية تتحالف معها.
٢٥
وقد وصلت الدعاية اليوجينية حتى إلى المعارض المحلية في قاراتٍ عدة، حيث تم تشجيع
اليوجينيا الإيجابية عن طريق المباريات التي قَدمت ميداليات إلى العائلات والأزواج
والرُّضَّع الأكثر لياقة يوجينية. وقلَّما شهد العالمُ فكرةً علميةً تلقَى مثلَ هذا
الرواج الشعبي، الذي يشهد كم تجاوبت الأيديولوجيات اليوجينية مع التحيزات الماهوية
للناس.
كانت نهاية الجاذبية الواسعة لحركة اليوجينيا سريعة إلى حدٍّ ما، ولكن من المهم أن
نلاحظ أن أفول الحركة لم يكن بسبب مآخذ علمية بالدرجة الأولى (وإن تنامت انتقادات
النظريات اليوجينية بالفعل طوال الثلاثينيات من القرن العشرين). إنما كان الموت المفاجئ
لحركة اليوجينيا نتيجة لتنامي الفهم والامتعاض تجاه اللاإنسانية التي تستلزمها
السياساتُ اليوجينية.
في أمريكا الشمالية تأثرت بعض السياسات بالأيديولوجية اليوجينية وما يُزعَم أنه
«معطيات علمية». فقانون الهجرة الأمريكي لعام ١٩٢٤م خفض حصصَ الهجرة من البلاد التي
يُزعَم أن مواطنيها لديهم درجات كبيرة من القصور الموروث في الذكاء والأخلاق. وبحلول
الأعوام الأولى من القرن العشرين كانت معظم الولايات في أمريكا قد شَرَّعَت تحديدات
للزواج على المتخلفين عقليًّا لأسباب يوجينية صريحة، وامتدت هذه التحديدات إلى تحديدات
على الزواج بين-العنصري interracial. أعقبَت ذلك
محاولات لتحديد النسل من خلال التعقيم. وقد شَرَّعَت ٢٢ ولاية التعقيمَ القسري، فنتج
عن
ذلك حوالي ٢٠٠٠٠ حالة تعقيم قانوني في أواسط الثلاثينيات. وشَرَّعَت كندا بالمثل
تعقيمات إجبارية في ولايتين.
وقد خَفَتَ رعبُ السياسات اليوجينية بأمريكا الشمالية في النهاية إثر صعود الاشتراكية
القومية في أوروبا واعتناقها المعلَن للأيديولوجيات العنصرية اليوجينية. فَرَضَ
النازيون تحديدات على الزواج، تبعتها برامج تعقيم بحجمٍ غير مسبوق بلغت ذروتها في
الإبادة المنظمة للعناصر غير المرغوب فيها (مثل اليهود، الغجر، المعاقين، المثليين).
وقد كان حجم المذبحة التي ارتكبها النازيون هو الذي ألهم عامة الناس والأغلبية الساحقة
للمجتمع العلمي أن يرفض الأيديولوجية اليوجينية بأكثر مما فعل أي تفنيد علمي على
الإطلاق، من الواضح أن هناك أسبابًا كثيرةً وراء صعود اليوجينيا، ولكننا نؤكد أن هذه
الأهوال ما كانت لتحدث لولا أن فكرة تحسين الجميعة الجينية راقت قطاعًا عريضًا من
السكان؛ لأن المنطق الذي تقوم عليه قد تجاوب مع تحيزات الناس الماهوية الجينية.
ورغم كل هذه الارتباطات السلبية العميقة لدى الكثيرين عن اليوجينيا فقد استمر التقدم
الملحوظ في البحث الجيني، واضطرَّنا إلى أن ننظر في طرائق جديدة لتحسين حياة الناس. لقد
أدى الفهم المتنامي للجينات من حيث التعرف عليها وتناولها إلى فتوحات علمية جديدة مثل
التدخل الغذائي لعلاج اضطرابات وحيدة الجين مثل الفينيل كيتونوريا phenylketonuria، والاستئصال الوقائي للثدي لحاملات الأليلات
المرتبطة بسرطان الثدي، والعلاج الجيني التجريبي لأمراض مثل نقص المناعة، والتشخيص
الجيني المسبق لأمراض مثل Tay-Sachs في الأجنة … إلخ.
وجهُ الأمر هنا أن الناس عندما تفهم الجينات كسبب تحتي لمآلات الحياة فإنها ترغب غالبًا
في التحكم في جيناتها بحيث تُحسِّن تلك المآلات.
من الحق أن مثل هذه التقنيات الجينية ذات فائدة هائلة في تحسين حياة الناس؛ غير أننا
نلفت النظر هنا إلى كلفةٍ لهذه الفتوحات قلَّما التفت إليها أحد: لقد دعمت التحيزات
الماهوية لدى الناس وألقت في روعهم أن مصدر مشكلات الحياة ومصدر حلها يقبع في جيناتهم،
وزيَّنَت لسير فرنسيس كريك
F. Crick أن يقول: «لا يحق
لجنين أن يُعلَن إنسانًا حتى يمر باختبارات معينة تخص هِباته الجينية.» إن تحيزاتنا
الماهوية الجينية تزين لنا أن نرى إلى الجينات على أنها الحل النهائي للمشكلات
الاجتماعية، وأن تحسين حياتنا يجعل الأولوية للبحث التقني الجيني على غيره من ضروب
التدخل، تلك الضروب التي قد يثبت أنها أكثر تأثيرًا وأقل كلفةً. وكما لاحظ هورويتز «فإن
التركيز على الجينات يصرف الانتباه عن جهود تغيير البيئة إلى جهود تغيير الجينات
المَعيبة.» إن تحيزاتنا الماهوية تسحرنا بنداء الحلول الجينية لمشكلات الحياة.
٢٦
لقد كانت اليوجينيا والتحسين الجيني نزغًا أضل كثيرًا من حسني النية، ودفعهم إلى
ارتكاب وتبرير كثير من الأفعال الشائنة في أوائل القرن العشرين في جهدٍ ضال لتحسين
الجنس البشري.
(١٣) الماهوية الجينية والتصور الشعبي للبحث الجيني
يسترعي البحثُ المتعلق بالجينات انتباهًا كبيرًا من وسائل الإعلام. ومثلما هو الحال
مع التقارير العلمية الأخرى يتم تبسيط الظواهر العلمية المعقدة وصعبة الفهم للمستمعين؛
غير أن التبسيط في حالة التقارير الجينية تبلغ الحد الذي قد يُضل كثيرًا من القراء عن
فهم الظاهرة. إن أغلب الناس لا يستقي معلوماته عن الجينات إلا من وسائل الإعلام؛ ومن
ثَمَّ كان من المهم النظر في كيفية توصيل هذه المعلومات. وقد قام كونراد ١٩٧٧م بدراسة
علمية، درس فيها بتفصيل كبير كيف تسهم وسائل الإعلام في دعم الحتمية الجينية، فقد
بيَّنَ عددًا من التحيزات في عملية توصيل النتائج العلمية الجينية تبدو بها الجينات
مضطلعةً بدورٍ أكثر محوريةً وحتميةً مما تقوله البيانات العلمية في حقيقة الأمر؛
فالنتائج البحثية المؤيدة (للدور السببي المباشر للجينات في إحداث الأمراض والسلوكات)
تحظى بتغطية إعلامية أكبر بكثير من النتائج المفنِّدة اللاحقة وهي كثيرة الحدوث في
الأبحاث الجينية بشكل خاص؛
٢٧ الأمر الذي يؤدي إلى تضخُّم انطباع الحتمية الجينية دون وجه حق. يذهب
كونراد ٢٠٠٢م إلى أن الإعلام ما فتئ يقدم صورةً مفرطة التبسيط للبحث الجيني. وحين
تُنعَت الظاهرة ﺑ
OGOD (one gene, one disease)؛ أي جين
واحد مرض واحد، فإنها تتخذ علاقةَ «واحد لواحد» حتميةً بين جين محدد ومرض أو سمة محددة،
وتشير إلى «تفسير جيني قوي». هكذا تُنعَت الظواهر الجينية في عناوين الإعلام: «اكتشف
الباحثون جينًا للمِثلية»، أو «جينًا للتطور»، أو ما هو أسوأ بعدُ: «اكتشفوا جين
المثلية»، أو «جين التطور». إنهم بذلك يقدمون صيغةً مفرطة التبسيط للنتائج الأصلية، أو
حتى يقدمون تمثيلًا زائفًا للبينة (مثلًا: لم يُتَوَصَّل إلى «جين مثلي» على الإطلاق).
ورغم أن علاقات واحد لواحد هذه موجودة فعلًا في الأمراض الوحيدة الجين (مثل التليُّف
الكيسي
cystic fibrosis) فإنها تمثل شريحةً صغيرةً
للغاية من الأمراض، ومن أبعد الاحتمالات أن تكون السمات السيكولوجية نتاج بضعة جينات.
إن ظواهر «جين واحد مرض واحد»، وإن كانت تتجاوب بشدة مع تحيزات الناس الماهوية الجينية،
هي من الندرة بمكان.
قليلةٌ هي الأبحاث السيكولوجية التي تبحث — بشكل مباشر — تأثيرات التعرض لتقارير
الإعلام في الجينات على اتجاهات الناس. واستثناءً لذلك أُجرِيَت دراسةٌ استكشفت
استجابات الأمهات للتقارير الإعلامية عن بحثٍ جهيرٍ ادَّعَى أن أداء الأولاد فاق أداء
البنات (من نفس المستوى التعليمي) في الرياضيات. بعد ثلاثة أشهر من التغطية الإعلامية
الأولى للبحث جمع إكلس وجاكوب ١٩٨٦م بيانات أشارت إلى أن الأمهات اللاتي لم يعلمن بذلك
(uninformed mothers) لم يجدن
اختلافًا في تقييمات القدرة الرياضية لأطفالهن. أمَّا الأمهات اللاتي قرأن عن هذا البحث
(misinformed mothers) فقد
رأين أن بناتهن أقل قدرةً في الرياضيات، وأنهن سيجدن فيها مصاعب أكبر، وأن عليهن بذلك
جهد أكبر في الرياضيات. وفضلًا عن ذلك فقد بدا أن اعتقادات الأمهات عن مصاعب بناتهن
الرياضياتية قد كان لها أثرٌ في زيادة قلق البنات في الرياضيات؛ وبالتالي كان مُنبِئًا
قويًّا بأدائهن الرياضياتي ونيَّتِهنَّ أخذَ مجموعات تقوية في الرياضيات.
٢٨ ومجمل القول: إن التعرض لحجج جينية بخصوص الفروق الجنسية في الأداء
الرياضياتي قد أثَّرَ على موقف البنات وسلوكهن أيضًا تجاه الرياضيات. ويبقى أن نبحث
أيضًا في مدى تأثير التغطية الإعلامية لضروب أخرى من النتائج الجينية على موقف الناس
وسلوكهم.
٢٩
غير أن الإفراط في تبسيط الأبحاث الجينية لا يُلام عليه الإعلامُ وحده؛ فالحق أن
الباحثين أنفسهم قد يتنافسون في حب الظهور الإعلامي، وقد تدفعهم الرغبة في جذب اهتمام
الوكالات المموِّلة لأبحاثهم وإغرائهم بالمتضمنات الممكنة لأبحاثهم، فيتواطئون مع هيئة
العلاقات العامة لمؤسساتهم على وضع تقارير تشارك تقارير الإعلام في تبسيطاتها وفي
إخفاقاتها اللاحقة.
تتسم تغطية البحث الجيني بأشياء تتجاوب مع التحيزات الماهوية للناس؛ فالعلماء أوَّلًا
ينعتون الجينات التي يدرسونها بطرائق توحي بعلاقة «جين واحد مرض واحد»، بحيث إن توصيف
الجينات كثيرًا ما يومئ إلى احتمالٍ بإصابة حامليه أكبر من واقع الحال. مثال ذلك:
وهناك ثيمة شائعة أخرى حافزة للماهوية كثيرًا ما تظهر في المناقشات العلمية لعلم
الوراثة، وهي استخدام استعارات metaphors ماهوية لوصف
الجينوم البشري. لقد وُصِفَ «مشروع الجينوم البشري» على أنه البحث عن «ماهية الحياة»
أو
«الكأس المقدسة» Holly Grail التي ستمكننا من فهم
البشرية. تقدِّم هذه التوصيفاتُ إشارةً صريحةً إلى الجينوم بوصفه نوعًا من الطبعة
الزرقاء المتبطنة للطبيعة البشرية. بوسع هذه الاستعارات أن تغلب القارئ على أمره،
فبالنظر إلى أن الناس كثيرًا ما تفهم التصورات وتُدرِك المفاهيم من خلال الاستعارات،
فقد تُفضي بالناس إلى أن تتصور أن الجينات تضطلع بدورٍ جبري.
وثيمة ثالثة شائعة تحفز الماهوية هي أن الجينات أحيانًا ما تُعطَى شكلًا من الفاعلية
الإرادية؛ مما يُفضِي إلى تصورها كياناتٍ واعيةٍ تجرد الشخصَ من إرادته. توصف الجيناتُ
بأنها «أنانية» أو «مُحرِّكة العرائس»، أو تُسبَغ عليها رغبات واعية (مثل: «الجينات
تريد كذا»). حين يُستخدَم هذا كلونٍ من الاختزال الشعري فإنه لا يختلف عن قولنا: «كانت
الغيوم غاضبةً في ذلك اليوم»؛ غير أن استخدام مثل هذه المصطلحات عند شرح الجينات يغير
موقعَ الوعي والضبط locus of control في تصورنا ويعزله
داخل الجينات. تسهم هذه الظاهرة في التعبيرات الماهوية في الأحاديث العامة حول علم
الوراثة.
وبالإجمال، تلعب اللغة دورًا مُهِمًّا في الطريقة التي نفكر بها. إن الصياغة الماهوية
المنيعة للمعلومات المتعلقة بارتباطات النمط الجيني والنمط الظاهري قد تلعب دورًا
محوريًّا في ترسيخ الماهوية الجينية. وفي الوقت نفسه تؤدي الانحيازات الماهوية الجينية
بالعلماء والمعلِّقين على حد سواء إلى اختصار بحثهم مستخدمين أوصافًا
OGOD مفرطة في التبسيط، وترسيمات ذات إرادة فاعلة
واستعارات ماهوية تتسم جميعًا بالتبسيط المُخِل. تشير هذه المراجعات التجريبية السابقة
إلى أن مثل هذه الانحرافات في طريقة توصيل البحث الجيني قد تكون لها نتائج سلبية
متعددة. والمحصلة أن الأشخاص الذين يستمدون معرفتهم عن الجينات من خلال الإعلام
حَرِيُّون أن يُدركوا التأثيرات الجينية بطريقةٍ حتمية ثابتة وخاطئة في الصميم.
(١٤) كيف نحد من اعتناق الناس للماهوية الجينية
رأينا فيما سبق كيف أن الماهوية الجينية مَكينةٌ ومتغلغلة وذات عواقب سلبية شتى. فهل
ثمة طريقة نخفض بها هذه التحيزات؟ هل يمكننا أن نحمل الناسَ على أن تتفهم كيف أن
التعليل الجيني لمآلٍ ما لا يعني بالضرورة أن المآل ثابتٌ ومتجانسٌ وطبيعي وذو سببٍ
محدد؟ كيف نحد من اعتناق الناس للماهوية الجينية؟
من الاستراتيجيات التي من شأنها أن تُضعِف الحتمية الجينية أن نلفت انتباه الناس
إلى
العلاقات التفاعلية بين الجينات والبيئة. من ذلك أن ووكَر وريد ٢٠٠٢م وَجَدا أن الناس
تكوِّن تقييمًا أكثر إيجابيةً للفُصام عندما يتلقون تفسيرًا تفاعليًّا بين الجينات
والبيئة من تقييمهم عندما يتلقون تفسيرًا جينيًّا خالصًا. يشير هذا إلى أن البحث الجيني
يمكن أن يُوَصَّل بطريقةٍ تُضعِف التحيزات الماهوية، وذلك حين يتضمن تفسيرات جينية
ضعيفة (كمقابل للتفسيرات الجينية القوية).
٣١ ولعل الماهوية الجينية أن تَضعف كلما أمكننا تبيان تعَقُّد العلاقات بين
النمط الجيني والنمط الظاهري. قلَّما يتفهم الناس أن التعبيرات الجينية احتمالية
وتحكمها الخبرات والتفاعلات مع الجينات الأخرى، وقلَّما يتفهمون كيف يمكن للجينات أن
تؤثر في طرائق تفاعلنا معها؛ ومن ثَمَّ كيف تشكلها بيئاتنا. كما أن معظم الناس ربما لا
يدرون الدور الذي تلعبه العوامل «التخليقية
المتعاقبة»
epigenetic في نشوء السمات والأمراض المعقدة. ربما لو وصل للناس
تعقُّد وثراء العلاقات بين الجينات ومآلاتها لاستجابوا للتقارير الجينية بطرائق أقل
حتمية. صحيح أن ذلك قد يستعصي على فهم الناس، ولكن عدم الفهم على كل حال خيرٌ من الفهم
الخاطئ. إن الحجج العلمية كثيرًا ما تكون معقدة وقلَّما يتاح فهمُها لمن هو خارج حلقة
الباحثين. معظم الناس مثلًا لا يفهمون نظرية الأوتار (في الفيزياء)؛ غير أنهم لا
يسيِّرون حياتَهم وفق الاعتقاد الخاطئ بأنهم يفهمون الفكرة العامة للنظرية أو يتخذون
قراراتهم الحياتية بناءً على فهمهم الخاطئ.
تبدو التدخلات التعليمية من هذا النوع ملائمةً جِدًّا أثناء فصول العلم في المدرسة
المتوسطة والعليا. في هذه السن لا يُبدي المراهقون عَزوًا طبيعيًّا قويًّا كالذي يُبديه
الأطفال الأصغر،
٣٢ ولا يكون أوان الحتمية الجينية للبالغين قد حلَّ بعدُ، وينبغي خفض التوكيد
على أمثلة الظواهر أحادية الجين، مثل تجارب بازلاء مندل التي تشير إلى تفسير جيني قوي،
مقترنًا بتوكيدٍ عالٍ على تفاعلات الجين والبيئة، تمهيدًا لتعزيز فهم الناس للتفسيرات
الجينية الضعيفة.
وعلى الباحثين في علم الوراثة أن يتوخَّوا الحذرَ من إضفاء الصيغة الماهوية على
نتائجهم في تصريحاتهم الصحفية. وعلى وسائل الإعلام بدورها أن تتحمل مسئوليتها في هذا
الشأن.
وحيث إن الناس تميل إلى ارتكاب مغالطة المذهب الطبيعي عندما تتأمل حالاتٍ ذات أساسٍ
جينيٍّ ومتضمنات أخلاقية، فإن تذكيرهم بهذه المغالطة أثناء تعلُّم أساسٍ جيني لسمةٍ
بشرية قمينٌ أن يقلل التفكير الماهوي. كما أن التحيزات الماهوية يمكن إخمادها بأن يكون
عرض البحث الجيني مصاحَبًا بمفنِّدات تُلقِي الضوء على الطرق اللاحتمية في علاقة
الجينات بمآلات الحياة. مثل هذه الضروب من صياغة الرسائل قد تساعد في تحصين الناس من
شحن التحيزات الماهوية. وسوف يُلقي البحث المستقبلي في تأثيرات صياغة الرسائل وصياغة
الماهوية الجينية الضوءَ على هذا الموضوع الهام.
مجمل
يميل الناس بطبعهم إلى تفسير عوالمهم الاجتماعية وإضفاء معنًى عليها. يصادف الناس
في حياتهم تنوُّعًا بشريًّا كبيرًا، وفي محاولتهم إضفاءَ معنًى على كل ذلك فإنهم
يتأثَّرون بتفسيرين سببيين على الأقل:
-
التفسير الطبيعي الفطري.
-
والتفسير البيئي.
وخلال السياقات المختلفة والعصور المتعاقبة يتراوح البندول مَيلًا بين هذين
التفسيرين؛ غير أن المؤشرات تدل على أن البندول في المجتمعات الغربية المعاصرة يميل
تجاه التفسير الطبيعي الفطري، يعززه الحماسُ الذي تُوصِل به وسائلُ الإعلام كشوفَ
الجينوم. ثمة أدلة ضافية اليوم في مجالات شتى — مثل: العنصر، الجندر، التوجه
الجنسي، الإجرام، المرض العقلي، السِّمنة — على وجود علاقاتٍ عِلِّية بين الجينات
وهذه التصنيفات الفئوية؛ غير أن السمة الغالبة على تصوُّر الناس لهذه العلاقات أنه
يتجاوز البينةَ العلمية، ويأخذ التفسيرَ الجيني الضعيف مأخذَ التفسير الجيني القوي،
ويعزو قدرةً سحريةً للجين على تشكيل خصائص الفرد والجماعة، ويُغفل العناصر
الاجتماعية الثقافية والبيئية. ما إن ينظر الناسُ في فكرة أن الجينات ذات صلة لفهم
بعض الحالات البشرية حتى يندفعوا إلى اعتبار أن المكوِّن الوراثي هو الملمَح
الجوهري للحالة مبالِغين في تقدير تأثيره العِلِّي. وما إن نصوغ الجينات على أنها
عِلَّةُ المشكلة حتى نُكِبَّ على فكرة أن الجينات ستكون هي الحل، وأن الهندسة
الجينية أو السياسات اليوجينية تَعِدنا بالكثير.
والحق أن البحث الجيني لا يزال يقدِّم نتائج مهمة ومثيرة، قد تسهم هذه النتائج في
النهاية في زيادة جودة الحياة من جهات عديدة: زيادة إنتاج الغذاء بواسطة المحاصيل
المعدَّلة جينيًّا، تحسين الصحة من خلال العلاجات الجينية … إلخ. ولكن من الجهة
الأخرى فإن الكشوف الجينية — بالطريقة التي تُوَصَّل بها إلى عامة الناس من جانب
وسائل الإعلام — تميل إلى إثارة التحيزات الماهوية، ودعم الأفكار الجبرية، وصرف
الاهتمام عن دور البيئة في تشكيل السلوك الإنساني، وعن إدراك حجم الإرادة الفردية
والاختيار الحر.
فرغم أهمية البحث الجيني التي لا شك فيها، فإن اتخاذ خطوات حثيثة للحد من الأفكار
والسلوكات البغيضة التي لازمت دراسة الجينات حتى الآن ملازمةَ الكلب؛ سيكون فرضًا
واجبًا علينا حتى نحقق الآمال الكبرى التي نعلقها على هذا البحث.
(١٥) تذييل البروكرُستية السياسية، سليلة نزعة الماهية
البروكرُستية Procrusteanism هي أية نزعة إلى «فرض
القوالب» على الأشياء (أو الأشخاص أو النصوص …) أو لَيِّ الحقائق وتشويه المعطيات
وتلفيق البيانات لكي تنسجم قَسرًا مع مخططٍ ذهنيٍّ مسبق. إنه القولبة الجبرية والتطابق
المُعْتَسَف والانسجام المُبَيَّت.
والبروكرستية السياسية هي أية نزعة إلى صب المواطنين جميعًا في قالبٍ واحد، تعميمًا
للخير والتماسًا للعدالة. تتجَذَّرُ البروكرستية السياسية في «مذهب الماهية» essentialism الفلسفي. وهو الرأي القائل بأن
«للأشياء خصائص
ماهوية» de re essential properties؛ أي خواص ضرورية بمعزلٍ عن تصنيفاتنا وتعريفاتنا، للإنسان من
ثَمَّ ماهيةٌ حقيقيةٌ تميزه عن غيره من الكائنات؛ قد تكون هذه الماهيةُ هي الروح
العاقلة (الإنسان حيوان عاقل)، وقد تكون هي الميل إلى الحياة في تجمعات مدنية (الإنسان
حيوان مدني) … إلخ. المهم أن هناك ماهيةً ثابتةً محددة للإنسان بها يكون إنسانًا
وبدونها يكون أيَّ شيءٍ آخر. هناك «مثال أفلاطوني» أو «صورة» eidos أو «فكرة» idea أزلية
للإنسان ينبغي على الإنسان الحقيقي الأرضي أن يسعى إلى تجسيدها ويقترب منها.
كل أولئك أفكارٌ ميتافيزيقيةٌ مأمونة، لا ضَيْرَ أن يتداولها الفلاسفة فيما بينهم
ويختلفوا حولها على مقاعدهم النظرية الوثيرة. يبدأ الخطرُ — رغم ذلك — حين تقع مثلُ هذه
الأفكار في أيدي (أو بالأحرى رءوس) السياسيين أولي البأس وذوي القدرة على استخدامها في
الواقع الحي ووضعها موضعَ التنفيذ. حين يقعُ للطاغية «المثالي» idealist تصورٌ واضحٌ عما تكونه الطبيعةُ البشريةُ، فقد يرى نفسه
مضطرًّا إلى فرضها بالقوة على رعاياه وصبِّهم في قالبها ضربةَ لازب، وسحق كل مَنْ تحدثه
نفسه بالتمرد على هذا القالب الأزلي الواحد.
هكذا ينشأ ما يسميه أنتوني فلو
Antony Flew — مؤلف
كتاب «سياسة بروكرست» — ﺑ «البروكرستية
الاشتراكية»
socialist Procrusteanism أو «العدالة
المحافظة»
conservative justice. إنها ضرب من اليوتوبيا الاجتماعية تريد أن تفرضَ التجانسَ
على الناس، وتفرضَ المساواةَ المطلقةَ على المواطنين، فتأخذ من البعض وتعطي البعضَ
الآخر حتى يعتدلَ الميزان.
٣٣
إن أنتوني فلو هو بمثابة «ثيسيوس معاصر» يريد أن يحطم البروكرستية بأن يَكشِفَ زيفَها
وتهافتَها ويفضحَ طبيعتها المؤذية المظلمةَ ويخرجها إلى وَضَحِ النهار؛ الأمر هنا ليس
مجرد مبدأ شخصي يدعو إليه من يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، أو ربما بتقديم مثالٍ في
التضحيةِ والبِر (على طريقة ليو تولستوي مثلًا)؛ ولكنه منهجٌ سياسي وإداري يُراد فرضُه
على نطاقٍ هائلٍ بقوةِ الآلةِ الحكومية الجبارة.
لم يقف جنون البروكرستيين السياسيين عند حد:
-
فمنهم مَنْ لم يَقنَع بإعادة توزيع الثروة على الأفراد بالعدل والقسطاس،
فذهب إلى ضرورة تحطيم «نظام الأسرة»: منبع التفاوت بين الناس ومعقل
اللامساواة وحصنها الحَصين.
-
ومنهم من ذهب إلى ضرورة فرض «المساواة المعرفية» cognitive equality؛ فلا ينبغي أن «يعرف» شخصٌ أكثرَ
مما يعرف الآخرون.
-
بل ذهب بعضُهم إلى ضرورة «تحسين النسل» (اليوجينيا eugenics) لاجتثاثِ التفاوت من المنبع … من
البيولوجيا.
من السخرية أن البروكرستية يمكن أن تبلغ مأربها وتَشفي صدرَها ﺑ «المساواة في الجهل»
بقدرِ ما تَشْفيه ﺑ «المساواة في العلم»، وأن تقضي وَطَرَها بالإساءة بقدر ما تقضيه
بالإحسان. إن مذهب المساواة هو عِماد الرفاه وعِماد الضنك أيضًا ما لم يُستبدَل به
مبدأٌ آخر من مبادئ الواجب.
والحق أن النُّظم الشمولية — بمختلف تجلياتها وشتى تمثلاتها — ترتكز على عقيدةٍ
ماهويةٍ غائرةٍ. إن لديها مفهومًا راسخًا لما يكونه الإنسان، وما يكونه خيرُ الإنسان،
وتريد أن تفرضه على الجميع بآليةٍ شاملةٍ تستحق النقدَ وتطمس الاختلاف.