غير أن هذه المزايا المقدَّرة ينبغي ألا تعمينا عن العيوب وعن أوجه القصور في التقسيمات
المرَضية المعاصرة؛ فالطب النفسي اليوم في تَحوُّلٍ دائب، والكشوف الجديدة في علم الأعصاب
والجينات قمينةٌ أن تتحدى عاجلًا الكثير من دعائمه النظرية الحالية، وبخاصة تلك التي
تتعلق
بالتسبيب وبتعريف الاضطرابات النفسية، والعلاجات الجديدة التي تستهدف منظومات وظيفية
بعينها
في الدماغ سوف تتطلب منه تقسيمًا أفضل تمييزًا للشرائح الإكلينيكية المستفيدة.
من أجل ذلك هناك الآن دعوة واسعة النطاق بأن دليلنا التشخيصي لن يكون أفضل من سابقيه
ما
لم تتحسن درجة «صدق» مفاهيمه التشخيصية، وحبذا لو قَيَّمنا صدق كل تشخيص وأدرَجنا له
درجةَ
صدقٍ صريحةً في الدليل تُبيِّن إلى أي مدًى تم التحقق من هذا الصدق.
(٢) الافتراض الضمني بوجود «كيان
مرضي» disease entity
كان الحصفاء من الممارسين على وعي منذ زمنٍ طويل بأن الفئات categories التشخيصية هي مجرد تصورات، مبرَّرة فقط بقدر ما تقدم إطارًا
مفيدًا لتنظيم وتفسير تَعَقُّد الخبرة الإكلينيكية؛ لكي نستمد منه استدلالات عن مآل
الاضطرابات ولكي يرشد قراراتنا العلاجية. ولكن المؤسف أنه ما إن يعم استخدام مفهوم
تشخيصي — مثل «الفصام» أو «زملة حرب الخليج» — حتى يناله «التشييء» reification؛ أي يتم اعتباره كيانًا واقعيًّا يقبع
من وراء أعراض المريض ويفسرها ولا يصح الشك في صدقه.
و«التشييء»
٤ خطأ عام في التفكير: لقد برع البشر في خلق تصورات مجردة تساعدهم في تصنيف
حشودٍ غفيرةٍ من الأشياء العيانية. ومن سوء الحظ أن هذه العملية يمكن أن تمضي أيضًا في
الاتجاه العكسي، فيُعامَل المفهوم المجرد كما لو كان شيئًا واقعيًّا. ورغم أن واضعي
الدليل التشخيصي للاضطرابات النفسية
(DSM) وغيره من
الاضطرابات حريصون على الإشارة إلى أنه «ليس ثمة افتراض بأن كل فئة
category تشخيصية للاضطراب النفسي هي كيان منفصل تمامًا
وذو حدودٍ مطلقة تفصله عن بقية الاضطرابات النفسية أو عن السواء»؛ رغم ذلك فإن مجرد
إدراج التصور التشخيصي في مجموعة مصطلحات رسمية وتزويده بتعريفٍ مركب دقيق ينزع إلى حفز
هذا التشييء الماكر.
لقد كان روبنز وجوز وكندلر — الذين اقترحوا معايير الصدق المذكورة آنفًا — يفترضون
ضمنًا أن الاضطرابات النفسية كياناتٌ منفصلةٌ قائمةٌ بذاتها. أمَّا احتمال أن
الاضطرابات قد يندمج أحدُها بالآخر بدون حَدٍّ طبيعي فيما بينهما فهو ببساطة شيء لم
يخطر لهم. لقد ظنُّوا مثلًا أن انتشار الاضطراب بين الأقارب دليل على أن هذا الاضطراب
كيانٌ صادق، في حين أن هذا الكشف يتوافق بنفس الدرجة مع وجود متصَلٍ continuum من التغيرات. ويبدو أن إمكان وجود
انتشار prevalence عالٍ لأكثر من اضطراب واحد في
أقارب المريض لم يخطر لهم. وقد ظنوا أن محدودية النجاح في التنبؤ بمآل الاضطرابات
وتداخل نتائج الدراسات العائلية يدلان على أن معايير الفصل (بين الفصام ذي المآل الجيد
والفصام ذي المآل السيئ) بحاجة إلى مزيد من التحسين، ولم يَدُرْ بِخَلَدِهم أن النتائج
ربما قد حدثت بسبب عدم وجود حَدٍّ طبيعي بينهما، وهي واقعة جديرة بأن تُعثر جميع
محاولات التحسين القائمة على تهذيب المعايير التشخيصية.
وقد قام الكثيرون بمحاولاتٍ عديدةٍ لإثبات وجود حدودٍ طبيعية بين الزملات المرضية
المتقاربة أو بين زُملةٍ شائعة مثل الاكتئاب الجسيم، وبين السواء (إما بتحديد
منطقة خَلاء zone of rarity أو بكشف علاقةٍ غير
خطية بين صورة الأعراض وبين متغير مؤيِّد مثل المآل أو الوراثية)، ولكن أغلب هذه
المحاولات باءت بالفشل.
كما بينت مسوحٌ عديدةٌ لعامة السكان أن أقل فروق في تعريف الزملات الفردة (مثل
الاكتئاب الجسيم) قد يؤدي إلى فروق كبيرة في درجة الانتشار المسجَّلة. وهذا يعني أن
الحد الذي يرسمه التعريف لا يناظر نطاقَ خلاءٍ طبيعيًّا؛ أي لا يمثل «تخمًا»
boundary واقعيًّا حقيقيًّا.
وقد تبين في الوقت ذاته أن العديد من الجينات المختلفة يُسهم في سببيات
etiology أغلب الزملات الطبنفسية، وأن بعض هذه الجينات
هي عوامل خطر ضالعة في تسبيب زملاتٍ يُفترَض أنها غير متقاربة. كما أن العديد من
الزملات الأخرى في اﻟ
DSM/ICD تتواتر لدى أقارب مرضى
الفصام أو الاضطراب الوجداني؛ الأمر الذي أفضى إلى مفهوم اضطرابات «الطيف الفصامي والطيف
الوجداني»
schizophrenia spectrum and affective spectrum. وقد وُجِدَ أيضًا أن الخلل الجيني نفسه قد يؤدي إلى زملاتٍ
طبنفسية متباينة. مثال ذلك: أن ٣ من مواضع الاستهداف المزعومة المرتبطة بالاضطراب ثنائي
القطبية (على الكروموزوم ١٣، ١٨، ٢٢) تسهم أيضًا فيما يبدو في تسبيب الفصام.
٥ وفضلًا عن ذلك فإن الأساس الجيني لاضطراب القلق المعمَّم مطابق تقريبًا
للأساس الجيني للاكتئاب الجسيم.
٦ والأساس الجيني للفصام يضم — فيما يبدو — طيفًا من الاضطرابات الأخرى تشمل
اضطراب الشخصية فصامية النمط واضطراب الشخصية البارانويدية وحتى الاضطراب الوجداني الذهاني.
٧ ويبدو أن مثل هذا التداخل في القابلية الجينية لزملاتٍ نحسبها متباعدة هو
القاعدة وليس الاستثناء.
وقد وُجِدَ أن العوامل البيئية الواحدة تُفضي باحتمالات متساوية إلى زملات متباينة
عديدة. مثال ذلك: أن الإيذاء الجسدي والجنسي والإهمال في الطفولة يؤدي إلى الاستهداف
لكل من القلق والاكتئاب في مرحلة الرشد؛ والإيذاء الجنسي قد يؤدي إلى الاستهداف للشرَه
العصبي (النُّهام) وأيضًا إلى الاعتماد على الكحول وسائر المواد.
٨
(٣) التحرر المتزايد من وهم فرضية «الكيان المرضي»
رغم شيوع لفظة «مرض» disease في كلٍّ من الخطاب
الطبي والخطاب العام؛ فإن هذه اللفظة في الحقيقة ليس لها تعريفٌ خالٍ من الالتباس
ويقبله الجميع، وإن كانت الغالبية تبتلع الوهمَ المُرِيحَ القائل بأننا جميعًا نعرف ما
تعنيه هذه اللفظة.
أدرَجَ ألبرت وزملاؤه
Albert et al. (١٩٨٨م)
٩ ستة تصورات عامة عَمَّا تكونه الحالات التي قد يُقال إنها تشكل «مَرضًا»،
تتراوح من «الاسمية»
nominalism والنظريات النسبية
الاجتماعية (أي إن شيئًا ما يُعَد «مرضًا» إذا سماه المجتمعُ أو مهنةٌ ما في المجتمع
بهذا الاسم) والمثالية الاجتماعية (التقصير عن بلوغ مثالٍ اجتماعي للصحة التامة)، إلى
المفاهيم الإحصائية المعيارية من الوجهة الاجتماعية (الانحراف عن «السواء»
normality المُعرَّف إحصائيًّا)، ومفهوم «واقعية المرض»
disease realism (الحيود الثابت موضوعيًّا عن
الأداء البيولوجي التكيفي). وقد تبنَّى ألبرت وزملاؤه هذا النموذج الأخير على أنه
الأكثر ملاءمة للوضع الحالي للطب، فأكدوا أن الأعراض والعلامات الإكلينيكية لا تشكِّل
المرض، وأننا لا يمكننا أن نقول: إننا اكتشفنا المرض حقًّا (واقعيًّا) إلا إذا تعرَّفنا
بوضوح على الآليات العِلِّيَّة لهذا المرض.
ورغم أن كلًّا من هذه المفاهيم العامة للمرض قد استُخدِمَ في الطب النفسي في وقتٍ
من
الأوقات فإن نموذج «واقعية المرض» (في صيغتيه البيولوجية والسيكودينامية كلتيهما) هو
الذي ساد منذ نهاية القرن التاسع عشر. وقد ظل كربلين
Kraepelin (وهو نصيرٌ مخلصٌ ﻟ «واقعية المرض») زمنًا طويلًا يعتقد أن
«العَتَه المبكر»
dementia praecox وجنون الهوس
الاكتئابي — المُعَرَّفَين عن طريق الملاحظة الجاهدة لأعراضهما وعلاماتهما — يمثلان
نوعين متمايزين من المرض الدماغي سوف تكتشف الباثولوجيا العصبية والسيكولوجيا التجريبية
وعلم الوراثة آلياتهما العِلِّيَّة في النهاية. وبالرغم من ذلك فقد تخلَّى كربلين
أخيرًا عن فرضية أن هذين الاضطرابين كيانان مرضيان متمايزان، واقترح بدلًا من ذلك
نموذجًا «بُعديًّا»
dimensional في الصميم. وفي نفس
الوقت تقريبًا كتب ياسبرز أن فكرة الكيان
المرضي
disease entity هي في الحقيقة فكرة بالمعنى الكانتي للكلمة: تَصوُّر لهدفٍ لا
يمكن المرء الوصول إليه ولكنه يشير — مع ذلك — إلى طريقٍ للبحث المثمر، ويقدِّم
توجُّهًا «صادقًا»
valid لبحوثٍ إمبيريقية معينة.
وأضاف عندئذٍ أنه بالرغم من أن «فكرة الكيانات المرضية قد أصبحت التوجه المثمر لبحوث
الطب النفسي الخاص فإن الكيانات المرضية الفعلية لا وجود لها.»
١٠
يتصل هذا الحديث بالجدل الدائر حاليًّا بخصوص التقسيم المرضي في الطب النفسي من
وجهين: الأوَّل: أن مفهوم الكيانات المرضية المنفصلة ومفهوم الأبعاد (متصل التغَيُّر)
ليسا سبيلين متخارجين (ينفي أحدُهما الآخر) لتصوُّر الاضطرابات الطبنفسية، فكلاهما
متوافق مع نموذج عتبة في «تصور»
المرض threshold model of disease، وقد يقدم تفسيرًا للقِطَع المتباينة أو حتى المتداخلة من
المَراضة الطبنفسية. والثاني: أن الظواهر السطحية للمرض النفسي (أي مجموعة الأعراض
والعلامات والمسار والمآل) لا تقدم أساسًا مضمونًا لتقرير صدق الفئة التشخيصية أو
العنوان التشخيصي، بمعنى رسم آلية بيولوجية محددة ضرورية وكافية.
وقد قدم عديد من المعلقين المطَّلعين أدلةً تومئ إلى أنه لا توجد حدود طبيعية بين
الاضطراب النفسي المدرَك وبين السواء أو الصحة. واقترح ويديجر وكلارك
Widiger and Clark١١ (٢٠٠٠م) أن التفاوت في الأعراض الطبنفسية قد يمثَّل بواسطة «وساد منظم
لأبعاد من مجموعات أعراض» أفضل مما يمثَّل بمجموعة من الفئات التصنيفية
categories المنفصلة. ويذهب كلونينجر
Cloninger١٢ (١٩٩٩م) بقوة إلى أن «ليس هناك دليل إمبيريقي لحدودٍ طبيعيةٍ بين الزملات
الكبرى»، وأنه «لم يجد أحدٌ قط مجموعةَ أعراضٍ أو علامات أو اختبارات تفصل الاضطرابات
النفسية تمامًا إلى فئاتٍ غير متداخلة»، وأن «المقاربة القاطيغورية مغلوطة في
الصميم».
ويشكو جينسبرج وزملاؤه
Ginsburg et al. (١٩٩٦م) —
وقد أُحبِطوا من فشل عقدين من البحث المُضني لكشف أي جينات تتبطن الاضطرابات الطبنفسية
— أن «التقسيم المرضي الحالي المتضمَّن في اﻟ
DSM IV لا
يحدد أنماطًا ظاهريةً
phenotypes من أجل البحث الجيني.»
١٣
وتمثل المَراضة المتصاحبة
comorbidity مشكلةً
إضافيةً تزداد إلحاحًا كلما تكشَّف امتدادُها الكامل عن طريق الدراسات الاجتماعية
community studies. وقد قال سوليفان وكندلر
Sullivan and Kendler (١٩٩٨م): إن مقياس
المَراضة المتصاحبة بين الاكتئاب الجسيم ومختلف اضطرابات القلق وزملات الإدمان لا يتسق
مع النظرة التقليدية إلى هذه الاضطرابات الطبنفسية على أنها كيانات مرضية متمايزة.
١٤
والحق أن تقسيماتنا المرضية التي نحفظها بإجلال قد فشلت في أن تقدم لنا أي استبصارات
كبرى في سببيات أيٍّ من الزملات الرئيسية.
تراكمت هذه الضروب من الفشل والإحباط فأدت بألن فرنسيس — رئيس الحملة التي أنتجت
اﻟ
DSM IV — وهيلين
إجَر
Helen Egger إلى تعليق حزين (على أنه ذو بصيرة، ربما، واستشفاف) بأننا في
الطب النفسي «نَمُر بالمرحلة الفلكية التدويرية التي كان فيها علم الفلك قبل كوبرنيقوس،
وكانت فيها البيولوجيا قبل دارون. لا شك أن نَسَقَنا الوصفي الحالي المعقد وغير الأنيق
inelegant سوف يُستبدَل به نماذج أكثر «بساطة»
simplicity١٥ و«أناقة»
elegance.
١٦
نحن نتفهم هذا الإحباط في ضوء فشل التقسيم الجديد الثوري الذي يقدمه اﻟ
DSM III وما تلاه في أن يُفضي إلى استبصارات كبرى
في سببيات أيٍّ من الزملات الرئيسية؛ غير أن هذا
الإحباط قد لا يكون له ما يبرره حتى الآن، فرغم تنامي الافتراض (على الأقل داخل مجتمع
البحث العلمي) بأن أغلب الاضطرابات الطبنفسية المدرَكة حاليًّا ليست كياناتٍ مَرَضية؛
فإن هذا الاعتقاد لم تتم البرهنة عليه قَط؛ لأن البرهنة على ذلك تتطلب أنماطًا من البحث
لم نبلغ إليها حتى الآن.
(٤) تطبيق مفهوم الصدق على التشخيصات
إذا كان تفاوت الأعراض الطبنفسية هو حقًّا شيءٌ متصل ولا يتكتل في تجمعاتٍ ذات حدودٍ
بَيِّنة، وإذا كانت أغلب الفئات التشخيصية لا تعدو أن تكون مواضع اعتسافية في فضاء
متعدد الأبعاد، فإن من الصعب أن نرى كيف يمكن أن تُعَد هذه الفئات التشخيصية «صادقة»
بصفة مشروعة. ومن جهة أخرى فإن ثمة قلة من الفئات التشخيصية في الطب النفسي مقبولة
بالإجماع كفئاتٍ صادقة. وأغلب هذه الفئات يُسَمِّي أسباب التخلف العقلي أو العَتَه:
زملة داون، الفينيل كيتونوريا، مرض هنتنجتون، مرض جاكوب كروتسفيلد»؛ ومن ثَمَّ يقترح
روبرت كندل وأسين
جبلنسكي
R. Kendell and A. Jablensky١٧ (٢٠٠٣م) أن الفئة التشخيصية توصف بالصدق إذا توافر فيها أحد الشرطين
التاليين:
والحق أن وجود حدود واضحة أو فروق كيفية عند مستوى الخصائص المعرِّفة أهم من
السببيات
(etiology) لتقرير صدق الفئة التشخيصية،
وذلك للأسباب التالية:
- (١)
أن فهم السببيات ليس «كل أو لا شيء»، وكثيرًا ما يتفتح بالتدريج أو يبزغ
على مراحل مع اتضاح شبكة معقدة من الأحداث المتفاعلة.
- (٢)
قد يكون الحد واضحًا أو ثابتًا قبل معرفة السبب التحتي بزمنٍ
طويلٍ.
- (٣)
معظم الاضطرابات النفسية (وبعض الاضطرابات النيورولوجية مثل الصعَر torticollis والصداع النصفي وخلل التوتر المُشَوِّه dystonia deformans) ما
زالت تُعَرَّف بواسطة زملاتها الإكلينيكية؛ لأن سببياتها ما زالت مجهولة
إلى حد كبير. إن لدينا سببًا وجيهًا لقبول أي زملة مجهولة السبب كفئةٍ
صادقة إذا ما ثبت أن مثل هذه الزملة منفصلة عن الزملات المجاورة بواسطة
«منطقة خَلاء»؛ فمثل هذا الدليل على وجود حَد طبيعي يومئ بقوة (وإن لم
يبرهن) إلى أن سببيات هذه الزملة تختلف عن سببيات جيرانها، ومن شأن هذا
الدليل أن يعمل كحافز قوي على البحث العلمي من أجل تبيان سببيات
الزملات.
هكذا كان مسار العلم الطبي. ولكن ما دام الكثير من تصوراتنا الحالية الخاصة بالزملات
الطبنفسية لا تعكس انقطاعات أصلية في تغيُّر الأعراض، فمن المستبعَد أن تبقى بعد
الاستكشاف الناجح لأساسها البيولوجي. لقد بقيت زملةُ داون ومرض هنتنجتون بعد اكتشاف
أساسهما البيولوجي؛ لأنهما كانا قائمين على انقطاع حقيقي في الأعراض والعلامات. أمَّا
تقسيمنا الطبنفسي فلا يفي بهذا الشرط؛ ومن ثَمَّ فسوف يتم التخلي عنه عاجلًا أم آجلًا
وتَبَنِّي تقسيم «بُعدي»
dimensional بدلًا منه. إن
جميع الفئات التصنيفية الموجودة سوف تختفي؛ لأنها «غير
صادقة»
invalid، وسوف تحل محلها مجموعةٌ من الأبعاد
dimensions، وسوف تنتقل الأسئلة حينئذٍ إلى تلك الأبعاد:
قلَّما يُستخدَم «نطاق الخلاء» (منطقة الخلاء) في تقسيم الاضطرابات الطبية الأخرى؛
لأن كل الأمراض في أفرع الطب الأخرى معرَّفة على مستوًى أكثر أساسيةً من زملاتها،
ومميَّزٌ أحدها من الآخر بفروقٍ جيدة التأسيس في الباثولوجيا والسببيات. وهذا هو السبب
في أن مسألة «صدق» التشخيص هناك قلَّما تُطرَح وقلَّما تُنَاقَش برغم أن كثيرًا من
الأمراض في الطب تتشارك في زملات متشابهة للغاية:
-
فكثير من الحُميات المُعدية تتشارك في زملة أعراضٍ هي ارتفاع الحرارة
والوهن والتعرق والصداع والطفح الجلدي واضطراب الجهاز الهضمي؛ غير أن
الجراثيم المسبِّبة — المتباينة والتي يمكن تمييزها — هي خصائص تعريفية
حاسمة.
-
وقد يتمثل كلٌّ من الدرن
الرئوي pulmonary tuberculosis والسرطان
القصبي bronchial
carcinoma في صورة إكلينيكية متماثلة تمامًا؛ غير أنهما
أيضًا متمايزان تمامًا حين نعاين عُصيَّات ونُعاين هيستوباثولوجيا
السرطان.
أمَّا الطب النفسي الآن فهو بعيد عن مثل هذا اليقين التشخيصي. الطب النفسي الآن في
نفس الوضع الذي كان عليه معظم الطب منذ ٢٠٠ عام، حيث كان مضطرًّا بَعدُ إلى تعريف معظم
اضطراباته بواسطة زملاتها؛ ومن ثَمَّ فما دام الطب النفسي مضطرًّا إلى التمييز بين
اضطراباته بواسطة التمييز بين زملات فإن «صدق» المفاهيم التشخيصية يظل أمرًا مهمًّا في
الطب النفسي. وإن استخدام نطاقات الخلاء لتأسيس «صدق» التشخيصات هو أفضل استراتيجية
متاحة لنا في المرحلة الحالية من تطور الطب النفسي.
جدوى التشخيصات
قلنا: إن معظم الاضطرابات الطبنفسية الحالية — بما فيها الفصام — لا يمكن أن توصف
بأنها فئات تصنيفية «صادقة» valid؛ غير أن هذا لا
يعني بحالٍ أنها غير ذات نفع أو جدوى. ويُقال للعنوان التشخيصي: إنه نافع أو مُجْدٍ
إذا كان يقدم معلومات معتبَرة عن التنبؤ (التكهن/الإنذار) prognosis والمآل المرجَّح للعلاج، و/أو قضايا قابلة
للاختبار عن المُلازِمات correlates البيولوجية
والاجتماعية.
بهذا التصور للجدوى ينبغي أن نقول: إن كثيرًا من مفاهيمنا النوزولوجية (الخاصة
بتصنيف الأمراض) الحالية مفيدة للممارسين الإكلينيكيين إلى أقصى حد؛ إنهم ببساطة لا
يستطيعون الاستغناء عنها؛ فهي تمدهم بمعلومات قيِّمة للغاية عن احتمالات الشفاء
والانتكاس والتدهور والعجز الاجتماعي، وترشد قراراتهم العلاجية، وتزودهم بمعلومات
ثرية عن المرضى المماثلين لمرضاهم عبر العالم: صورة أعراضهم وشخصياتهم قبل المرض
وخلفياتهم العائلية وتحولاتهم بمرور الزمن ونتائج التجارب الإكلينيكية لعلاجات
بديلة عديدة والبحث في سببيات الزملة، كل هذه معلومات مفيدة ولا غِنَى عنها
أحيانًا، سواء كانت الفئة التشخيصية المعنية صادقة أم لا.
وهناك فرق آخر بين «الصدق»
validity
و«الجدوى»
utility؛ فالصدق خاصية ثابتة للفئة
التشخيصية (الفئة — من حيث المبدأ — هي إما صادقة أو غير صادقة) وصدقها لا يعتمد
على السياق. أمَّا الجدوى فليست خاصية «كل أو لا شيء»، بل خاصية متدرجة تعتمد
جزئيًّا على السياق
context-specific:
-
فالفصام قد يكون مفهومًا قيِّمًا للغاية للأطباء النفسيين الممارسين،
ولكنه قليل الجدوى للمحامي الجنائي أو للعالم الذي يستكشف الأساس
الجيني للذهان.
-
والاضطراب الوجداني ثنائي القطبية قد يكون مفهومًا بالغ النفع في
وحدة حالات حادة بمستشفى (حيث تميز بين الحالات الذهانية التي تتطلب
علاجًا دوائيًّا طويل الأمد والحالات التي لا تتطلب ذلك)، ولكنه مفهوم
أقل نفعًا في برنامج تأهيلي.
-
اضطراب الشخصية الحدية مفهوم مفيد لكثير من العلاجات النفيسة، ولكن
ليس مفيدًا لكثير من الأطباء النفسيين ذوي التوجه البيولوجي.
وهناك فرقٌ ثالثٌ هو أن التعريفات البديلة العديدة للمفهوم التشخيصي الواحد لا
يمكن أن تكون جميعًا صادقةً، ولكنها يمكن أن تكون جميعًا مجديةً في سياقاتٍ مختلفة؛
فتعريف اﻟ DSM IV للفصام مفيد بصفة خاصة في التنبؤ
بالمآل؛ إذ ينطوي على درجة ما من الإزمان. ولكن تعريفًا أكثر اتِّساعًا بكثير بحيث
يضم طيفًا متنوِّعًا هو أنفع في حصر زملةٍ ذات قابلية وراثية عالية.
متضمنات ذلك في البحث العلمي
منذ مجيء اﻟ DSM III (١٩٨٠م) والنسخة البحثية ﻟﻠ
ICD 10 (١٩٩٣م) صار الباحثون تحت ضغطٍ من
المنظمات المموِّلة ومحرِّري الدوريات العلمية لكي يستخدموا التعريفات والمعايير
الرسمية ويلتزموا بها في أبحاثهم، وقد حققوا بذلك ثباتًا (عِوَلًا) reliability ودقةً كبيرين لموضوعهم، وتمكنوا من
تكرار تجارب غيرهم متى شاءوا.
وعلى الرغم من ذلك فإن التمسك العبودي بتعريفات ومعايير الزملات الخاصة باﻟ
DSM وICD تشكل
عائقًا حقيقيًّا لتقدُّم العمل البحثي في أنحاء خاصة مثل السببيات والجينيات … إلخ.
وما دامت هذه الفئات التصنيفية غير صادقة بالأساس فإن لدينا ما يدعونا إلى استخدام
معايير مغايرة تمامًا (مثل عَرَضٍ محوري واحد، حد أدنى على مقياسٍ ما، خلل معرفي
معين، خلل نيوروفيزيولوجي أو فارماكولوجي). حقًّا إن إحباط أهل البحث العلمي (في
الجينات والسيكولوجيا والطب النفسي) من المنظومة الزملاتية المعاصرة له وجاهته
ومبرراته.
كما أن ضغط الهيئات المموِّلة ومحرري الدوريات وإصرارهم على استخدام التعريف
«الرسمي» لزملةٍ لم يَثبُت «صدقُها» هو أمرٌ لا مسوِّغ له، ويشير إلى أن الاعتبارات
السياسية والاجتماعية والقضائية تُقحِم نفسَها عنوةً على ما ينبغي أن يكون قرارًا
علميًّا خالصًا.
إذن رغم فوائد الالتزام بالتعريفات الرسمية فإن على الباحثين أن يكونوا أحرارًا
في استخدام تعريفٍ آخر من أجل إطلاق العمل البحثي في مجالات كثيرة، ومن أجل التغلب
على عيوب التعريف القياسي على أقل تقدير.
تعليق
لقد طالما سَلَّمَ القائمون على الطب النفسي والسيكولوجيا بأن هدف أي نسق
نوزولوجي هو «تقطيع الطبيعة من مفاصلها»، يتضمن هذا أن ثمة مفصلًا وأن المرء لا
ينشر في العظم. ولكن إذا لم يكن ثمة حدود طبيعية بين الزملات النوزولوجية فمَن
يُدرِينا حقًّا أننا لا ننشر في العظم؟
إن تقطيعنا (في مجال الطب النفسي) قد يكون أكثر رعونةً حتى من ذلك، يذكر
كورنينج Corning (١٩٨٦م) مثالًا على التقسيم
بمجرد تشابه المظهر، فيذكر ما فعله طفله ذو الستة أعوام بمكتبه عندما تركه فيه بعد
الظهر ليرأس اجتماعًا مهمًّا: عاد كورنينج إلى مكتبه بعد الاجتماع ليجد أن طفله قد
«أعاد ترتيب نظام الملفات» في المكتب؛ فجمَّع الملفات البنية تجميعًا أنيقًا في
كومة على الأرضية. وكذا الحال مع الملفات الأخرى. وقد نزع الطفل الوثائق الموجودة
في كل ملف ووضعها في الكومات المناسبة لها (في نظره)؛ فالأوراق الصفراء ذات القطع
المعين وُضِعَت في كومة، والبيضاء ذات الشكل المعين في كومة، والكراسات الصفراء ذات
القطع المعين في كومة، والأوراق البيضاء المطبوع عليها في كومة … وهكذا. وعندما عاد
الأب وجد طفله يعلنه مفتخرًا أنه «سَوَّى له فوضى المكتب».
يومئ كورنينج أن تقسيم طفله مماثل للتقسيم الطبنفسي، حيث يأخذ تحليلٌ قائمٌ على
مظاهر خارجية مكانَ تحليلٍ للفئات من جهة المعلومات التي تتضمنها.
١٩
إن اﻟ DSM وICD
تقسيمان فئويان (قاطيغوريان)؛ غير أنه من حيث المبدأ يمكن للتنوع في أعراض الاضطراب
النفسي أن يُمثَّل بواسطة مجموعة من «الأبعاد» dimensions وليس ﺑ «فئات
تصنيفية» categories متعددة.
وإذا كانت تقسيمات المرض في أفرع الطب الأخرى قاطيغورية كلها بلا استثناء، فذلك
لأن: (١) من الخصائص الأساسية للذهنية البشرية والمطمورة في الأسماء العامة
(اسم الجنس) generic
nouns في
لغة الحياة اليومية، تمييز الفئات التصنيفية للأشياء (الكراسي، الأحصنة، الكواكب …
إلخ). (٢) قد تم التسليم تقليديًّا بأن معظم الأمراض هي كيانات متمايزة.
وقد دَرَجَ الأطباء النفسيون في الماضي على افتراض أن الاضطرابات النفسية هي
أيضًا كيانات متمايزة منفصل أحدها عن الآخر: إما بمجموعة محددة من الأعراض، وإما
بسببيات محددة ثابتة (وقد ثبت ذلك حقًّا بالنسبة لحالات قليلة مثل: زملة داون،
الفينيل كيتونوريا، مرض ألزهيمر، مرض جاكوب كروتسفيلد).
إلا أنه في العشرين عامًا الماضية تزايد التشكيك في فرضية الكيان المَرَضي مع
تراكم الأدلة بأن الاضطرابات المرضية، مثل: الاكتئاب الجسيم واضطرابات القلق
والفصام والاضطراب ثنائي القطبية … يلتحم خِفيَةً أحدُها بالآخر وأحدُها بالسواء.
وفضلًا عن ذلك فإن العوامل الجينية والبيئية المتبطنة لهذه الزملات هي في الأغلب
«غير محددة» non-specific.
لقد بات واضحًا يومًا بعد يوم أنْ ليس هناك شيء من قبيل الحدود الطبيعية بين
الزملات الكبرى، وأن المقاربة القاطيغورية مغلوطة بالأساس؛ الأمر الذي حمل
الممارسين والباحثين المستنيرين على اقتراح مقاربة «بُعدية» dimensional؛ أي القول بأن تفاوت الأعراض الطبنفسية قد يُمثَّل
بواسطة الأبعاد أفضل مما يمثل بواسطة مجموعة من
الفئات التصنيفية، وبخاصة في مجال سمات الشخصية، وقد لاحظ الفيلسوف همبل Hempel منذ أكثر من نصف قرن أن معظم العلوم يبدأ
بتقسيم قاطيغوري لموضوعه ولكنه في الغالب يستعيض عنه بالأبعاد عندما يتيسَّر له
قياسٌ أكثر دقة.
مزايا تأسيس التقسيمات القادمة على الأبعاد
-
من شأن ذلك أن تختفي مشكلة المرضى الذين يستوفون معايير فئتين أو أكثر من
الفئات التصنيفية في الوقت نفسه، أو الذين يقفون على الحدود بين فئتين
متجاورتين.
-
وأن تزول الحاجة «البروكرستية» إلى لَيِّ أعراض المريض الفرد لكي تنسجم
قَسْرًا مع تصوُّرٍ نمطي مسبق.
-
وأن يتيح توصيل معلومات مفيدة أكثر من ذي قبل، ويُدخِل واقعية جديدة في
افتراضات الممارسين عن طبيعة الاضطرابات النفسية.
مساوئ تأسيس التقسيمات المرضية على أبعاد
-
(١)
لقد تعوَّد الممارسون الإكلينيكيون على التفكير بلغة الفئات التصنيفية
التشخيصية diagnostic categories. إنهم يفكرون بلغة القاطيغوري، وكثير من معرفتهم
الإكلينيكية مخزونة بهذا الفورمات، ومعظم المعرفة القائمة عن أسباب الأمراض
النفسية وصورتها الإكلينيكية وعلاجها والتنبؤ بمسارها قد استُفيدت
ونُظِّمَت مرتبطةً بهذه الفئات التصنيفية.
-
(٢)
اتخاذ القرارات الفورية والمناسبة عن علاج المرضى الأفراد يكون أيسر
بكثيرٍ إذا أمكن وضع المريض على نحوٍ وثيقٍ داخل فئة تشخيصية منه إذا
وُضِعَ في نقطةٍ ما في فضاءٍ متعدد الأبعاد.
بالنظر إلى هذه الأسباب وإلى عدم توافر نسقٍ بُعدي ناضج في الوقت الحالي ربما
يكون من الابتسار أن نندفع إلى وضع تقسيم نوزولوجي قائم كله على الأبعاد. إن من
الحصافة أن نقصر استخدام الأبعاد في الوقت الحالي على مجالات محدودة، مثل اضطرابات
الشخصية، وأن نختبر جدوى هذا الاستخدام بالمقارنة بالمدخل القاطيغوري. فإذا ما
تبيَّنَ لنا أن النظام البُعدي للشخصية يعمل جيدًا وأنه مقبول من جانب الممارسين،
فقد يكون من الملائم آنذاك أن نستكشف جدوى المقاربات البُعدية في مجالات أخرى مثل
الذهان واضطرابات المِزاج.
الاضطرابات النفسية «أنواع
عملية» Practical Kinds
في ورقة علمية متميزة بعنوان «الاضطرابات الطبنفسية ليست أنواعًا طبيعية» يتبنى
بيتر زاتشار
Peter Zachar٢٠ (٢٠٠٠م) الإبستمولوجيا البراجماتية المضادة للماهوية، ويخلص إلى أن
الاضطرابات الطبنفسية، شأنها شأن كل شيء آخر، ليست أنواعًا طبيعية. ينتقد زاتشار
الفكرة الماهوية القائلة بأن الاضطرابات الطبنفسية ينبغي تصورها على أنها أنواع
طبيعية تتحدد تمامًا بالإحالة إلى خواصها الباطنة، وإلا فإنها تكون فئات تصنيفية
اعتباطية.
يقول زاتشار إن تصور الاضطرابات الطبنفسية على أنها كيانات مُسَيَّجة في الطبيعة
هو تصور لا يتسق مع فهم الطب للمرض وفهم البيولوجيا التطورية للنوع Species. وعلى النقيض من ذلك يدفع زتشار بمفهوم
«الأنواع العملية» Practical Kinds، وهي أنماط
مستقرة تُعَرَّف على مستويات متفاوتة من الصدق Validity والثبات Reliability،
ويذهب إلى أن هذا التفكير اللاماهوي هو أكثر اتساقًا مع وجهة النظر العلمية إلى
العالم.
إن من الخطأ أن نفهم اللزمات الطبنفسية على أنها فئات تصنيفية محددة بحدود ولها
شروط داخلية، ضرورية وكافية، لتشخيصها؛ فهذه طريقة غير صائبة في النظر إلى أي شيء،
لأنها تصادر بأننا ننظر إليه كما بعين إله، وبأن هناك وصفًا دقيقًا واحدًا لما
يكونه هذا الشيء في الواقع، بمعزل عن الطريقة التي نتصوره بها. وعلى الأطباء
النفسيين أن يَكُفوا عن مثل هذه النظرة سواء تبنَّوا النموذج الطبي أو النموذج
السيكومتري (الخاص بالقياس النفسي). إنما تتخذ الاضطراباتُ الطبنفسية مُتَّصَلًا Continuum من «الأنواع العملية»، وأفضل طريقة
لتصورها هي الطريقة البراجماتية.
و«العقار»
Drug أو «الدواء»، كما يصفه
جورنشتاين
Gorenstein٢١ (١٩٩٢م)، مثال جيد للنوع العملي. فالدواء فئة تصنيفية عليا تصف الدور
الذي تضطلع به مجموعات متباينة من المركبات الكيميائية في الممارسة الطبية. تتضمن
الأدوية «مطهرات الحلق، وخافضات الكولستيرول، وبخاخات الأنف، وراخيات العضلات،
والمضادات الحيوية، والحفاضات الملطفة للطفح الجلدي». الكثير من شتى ضروب المركبات
يمكن أن تكون دواء. إذن كَون الشيء دواءً ليس خاصةً باطنة متأصلة لأي مادة
كيميائية، بل هو «خاصة
علائقية»
Relational Property. يرى جورنشتاين أن المرض النفسي نوع عملي من هذا
الصنف.
والأنواع العملية غائمة مهوشة Fuzzy بدرجة أكبر
من الأنواع الطبيعية، ولكنها ليست اعتباطية. ويتطلب تقسيم الأنواع العملية، إذ
تُحدَّد سيكومتريًّا، معاييرَ متوازنة تغيرِّ قِيَمها في السياقات المختلفة. ونتيجة
لذلك فليس ثمة «ثبات» Reliability تام للأنواع
العملية. ويمكن تصوُّرها كائنةً على «مُتَّصَل» Continuum وبعضها أعلى ثباتًا من بعض.
يذهب زاتشار إلى أن اﻟ
DSM نفسه لا يقوم على
النموذج التقليدي للفئات التشخيصية بل على نموذج «النمط البدني للفئات»
Prototype Model of Categories، وهي
محاولة لتبيُّن كيف يصنف البشر بالفعل الأشياء والمفاهيم، وتستند إلى عمل عالمة
النفس إليانور روش، س.
ميرفيس
Eleanor Rosch and C Mervis٢٢ (١٩٧٥م)، وهي طريقة مضادة للماهوية بشدة. تقتضي الفئات التقليدية
(الأنواع الطبيعية) أن تكون للفئة تخوم محددة؛ بحيث إن شيئًا ما إما أن يكون عضوًا
في الفئة أو لا يكون (المريخ إما كوكب أو لا، والشكل إما مثلث أو مربع … ولا يمكن
أن يكون الاثنين معًا). وللفئات التقليدية أيضًا مجموعة من الخواص الضرورية
والكافية التي تعرِّفها. ويُعَد تعريف أرسطو للإنسان بأنه «حيوان عاقل» مثالًا
للتفيئة التقليدية. وهكذا يعبِّر حد «حيوان عاقل» عن ماهية ما يعنيه أن يكون شيءٌ
ما إنسانًا. وبهذه الوجهة من الرأي فإن أي شخص استطاع أن يقرأ كتاب الطبيعة فقد
أمكنه أن يعرف ماذا يكون شيء ما حقًّا وصدقًا.
وعلى النقيض من الفئات التقليدية فإن فئات
«نموذج النمط البدني» لها «حدود غائمة»؛ ومن ثَم فليس واضحًا دائمًا من يكون ومن لا
يكون عضوًا في الفئة. وبعض الأعضاء أكثر نموذجيَّة من غيرهم كأعضاء في الفئة. من
ذلك أن العصفور أكثر نموذجيَّة كنمطٍ بدئي للطيور من النعامة، وعرش الملك أكثر
نموذجية ككرسي من جوال حبوب. ولأية فئة معينة من هذا الصنف هناك أمثلة نموذجية
(العصفور طائر) وأمثلة غير نموذجية (الحوت من الثدييات) وأمثلة بين بين (مسند الكتب
جزء من الأثاث). كما أن فئات نموذج النمط البدني ليس لها شروط ضرورية وكافية
تُعَرِّف العضوية فيها. فأعضاء هذه الفئة لا يلزمهم أن يشاركوا في جميع الخواص،
وإنما يشاركون في «تشابه
عائلي»
Family
Resemblance. يعني ذلك أن ثمة معايير بديلة لوضع الشيء في فئة. فالمرضى
يُشخَّصون في اﻟ
DSM بقدر ما يطابقون مجموعة من
المعايير، ولكن ليس ثمة معيار واحد (أو مجموعة معايير) ضروري وكافٍ. وتُسمَّى هذه
الطريقة استراتيجية المعيار
المتعدد الخصائص
Polythetic Criterion Strategy، وهي صيغة من نموذج «النمط البدئي». وتنظَّم
مجموعات المعايير المتعددة الخصائص بحيث تُدرَج المعايير الأكثر نموذجية أولًا.
وكما لاحظ ويديجر وفرانسيس
Widiger and Francis٢٣ (١٩٩٤م) هناك ٩٣ طريقة مختلفة للإيفاء بمعايير تشخيص المريض كاضطراب
الشخصية الحدية في
DSM-III-R، و٨٤٨ طريقة مختلفة
للإيفاء بمعايير اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع. إن زملة اضطراب الشخصية المضادة
للمجتمع هي عائلة من أنواع الشخصية وليست نوعًا منفصلًا واحدًا.
ولكي يهدئ زاتشار من روع أصحاب الصرامة العقلية من القُراء ممن لا يُلِمُّون
بتفاصيل البراجماتية يقول إن غياب معايير مطلقة لا يترك الممارسين مع مبدأ
«كله ماشي» anything goes؛ فالمعايير لا تزال
تفعل فعلًا يتجاوز الهوى الشخصي. من ذلك أنه بالرغم من أن معايير الفصام والشخصية
الحدية تُعَد في طبيعتها ذات نمط بدني (حيث توجد حالات نموذجية لكل منهما وحالات
بينية) فما زال هناك فرق بين الفصام والشخصية الحدية. ورغم أن المشخِّصين لا يمكنهم
تقديم مجموعة واحدة من الشروط الضرورية والكافية (معًا) لتشخيص الفصام فلا يزال
بالإمكان تميز الفصام عن غيره من الاضطرابات. كما أن بوسعنا أن نقدم الكثير من
الأسباب لقولنا إن «اضطراب الشخصية العنصرية» ليس اضطرابًا طبنفسيًّا مشروعًا دون
أن يضطرنا ذلك إلى القول بأننا نقطِّع الطبيعة من المفاصل. كلا، إن مبدأ «كله ماشي»
ليس خيارًا مطروحًا.
الإبستمولوجيا البراجماتية
تذهب البراجماتية إلى أن النظريات والنماذج
أدوات تساعدنا في أن نبحر خلال العالم. وصدق هذه النظريات يكمن في نفعها العملي.
والبراجماتيون، شأنهم شأن العلماء الطبيعيين، منفتحون على احتمال أن نموذجًا أفضل
يمكن دائما أن يُطَوَّر. وهذا يَقِيهم من الاعتقاد السهل بأن فئاتهم تناظر مباشرة
حالَ الأشياء كما هي عليه واقعيًّا. وأفضل تصوُّر للنماذج أن نعتبرها «وصفات»
Prescriptions؛ أي أدوات ممكنة لفهم العالم، لا
«أوصافَا»
Descriptions؛ أي عبارات جازمة عما
يكونه العالم على الحقيقة. يتسق هذا الصنف من اللاماهوية البراجماتية أيضًا مع
القضايا الثلاث التالية من لاكوف
Lakoff٢٤ (١٩٨٧م):
-
ثمة عالمٌ خارج الكائنات البشرية.
-
العالم هو، بطريقةٍ ما، سببُ معرفتنا.
-
بعض المنظومات الاعتقادية أفضل من غيرها.
النموذج الطبي مضاد للماهوية
كان التقسيم ولا يزال واحدًا من أهم المشكلات في الطب النفسي. وهو يتضمن تقرير أي
الزملات ينبغي على الأطباء النفسيين أن يشخصوها ويعالجوها. يود أنصار النموذج
البيوطبي أن يعرِّفوا الزملات مثلًا تُعَرُّف الزملات الأخرى في الطب:
-
فتشمل الخطوة الأولى تحليلًا إكلينيكيًّا، حيث يلاحَظ أن علاماتٍ
وأعراضًا شتى تحدث معًا بطريقةٍ تشير إلى أن في الأمر شيئًا يعمل أكثر
من الصدفة. هكذا يومئ تزامن التهاب الحلق وسيولة الأنف والصداع واحتقان
الصدر إلى زملةٍ مندمجة، تُصنَّف على أنها «الزكام» Common Cold. يسمَّى هذا بالمظهر
الإكلينيكي للمرض.
-
والخطوة التالية أن نَصِفَ مسارَ المرض، فنجد أن احتقان الحلق قد
يظهر أولًا ويزول، ثم يحدث احتقان الجيوب الأنفية متمثلًا في تصريفٍ
أصفر، يتبعه تصريفٌ شفاف عندما يصبح الشخصُ غير مُعدٍ. وعند نقطةٍ ما
في العملية ينشأ احتقان الصدر وقد يلبث أسابيع. والشفاء تلقائي.
-
في هذا النموذج تكون للزملات سببيات مشتركة وبالتالي علاج مشترك. أما
وصف الآليات الجسمية لإنتاج الزملة فهو لُب لُباب النموذج البيوطبي.
وما إن يتضح أن ثمة مثل هذه الآليات يُطلَق على الزملات «أمراضًا»
وتُصَوَّر تقليديًّا على أنها أنواع طبيعية.
إذا كانت الزملات الطبنفسية أنواعًا طبيعيةً فقد تساعدنا المتغيرات البيولوجية،
مثل المُدَوَّنات الجينية والاستجابة الدوائية، في فصل واقعِها المتبطِّن لها.
يفترض بعض الأطباء النفسيين وبعض السيكولوجيين أنه ما دامت الأمراض الجسمية هي
الواقع الوطيد العلم الطب فإنه لكي نكون صائبين علميًّا فإن علينا أن نفهم الاكتئاب
والفصام على أنهما مرضان جسميان. وهما كمرضَين لا بد أن لهما عمليات باثولوجية
تحتية. مثال ذلك أن الاضطراب الطبنفسي «الخَزَل
العام»
General Paresis الذي كان وبائيًّا في يوم ما يمكن أن تتفاوت فيه الصورة
الإكلينيكية من زملة بارانويدية إلى زملة اكتئابية إلى زملة عَظَمة، غير أن العملية
الباثولوجية التحتية هي نفسها.
٢٥ والعملية الباثولوجية التحتية هي زهري غير معالَج
Untreated Syphilis. ووجود البكتريا
الملتوية
Spirochete ضروري وكافٍ لتشخيص
الزهري.
يرى ستاتس Staats (١٩٩١م) أن من خصائص العلم
الناضج والموحَّد هو القدرة على أن يرى كيف أن الظواهر المتباينة سطحيًّا هي في
الحقيقة مظاهر لنفس الظواهر، تجليات مثلًا لعملية باثولوجية تحتية. إن تفسير الفصام
والاكتئاب مثلما تم تفسير الخَزَل العام هو هدف هام بالنسبة للنموذج
البيوطبي.
ورغم أن فكرة أن تصور الزملات كأمراض سوف يساعد أهل الصحة النفسية في اكتشاف
الأنواع الطبنفسية، فإن الأمراض لا يمكن أن تُتَصوَّر فقط على أنها كيانات جسمية
منفصلة. وفيما يلي سنتفحص مفهوم النوع Species
ونبيِّن أن علماء البيولوجيا التطورية يرفضون فكرة الحدود المطلقة بين الأنواع.
فإذا كانت الأمراض والأنواع لا تُعتبر أنواعًا طبيعية فالاضطرابات الطبنفسية أيضًا
ينبغي ألا تُعتبَر أنواعًا طبيعية.
يقول روث وكرول
Roth and Kroll٢٦ (١٩٨٦م):
هكذا، مثلًا، ليس كل من يتعرض للدرن (السل) يُصاب بالمرض في صورته
التامة. تعتمد حالة جهاز المناعة على التكوين الجيني للمُضيف host، وحالته الغذائية، والعدوى الفيروسية
التي قد تؤدي إلى زملة نقص المناعة، والتعرض السابق لجراثيم ميكروبية
مشابهة، وحالة الإجهاد، وحالة القلق، ومستوى المعنويات ووجود اكتئاب،
وتغيرات حياتية كبرى مستجدة، وغير ذلك من العوامل السيكولوجية.
عصيات الدرن شرط ضروري ولكن ليس كافيًا لمرض الدرن. توجد العدوى في المُضِيف،
وتنتج العمليات المرضية من التفاعل بين العدوى والمضيف. إنها خواص «علائقية»
Relational لا خواص باطنة صميمة. ويبيِّن
والاس
Wallace (١٩٩١م) أن اللاماهوية تتعلق
بالعلاج أيضًا. فيلاحظ أنه رغم أن الأمراض المعدية هي الأمراض الأكثر ارتكازًا
فسيولوجيًّا في علم الطب فإن:
لا يمكن تعريف الأنواع العملية تعريفًا تامًّا في حدود خواصها الباطنة، ومن ثم
فإن المعايير الخارجية ضالعةٌ في تعريفها. ويذكر جورنشتاين Gorenstein (١٩٩٢م) أننا نخطئ إذ نخلط بين مسألة الأساس البيولوجي
لِزُملاتٍ مثل الفصام والشخصية الحدية وبين السؤال عما إذا كانت هذه الزملات
أمراضًا. فإثبات أن لها أساسًا بيولوجيًّا ليس برهانًا على أنها أمراض، مثلما أن
إثبات وجود أساسٍ بيولوجي للانبساط Extroversion
ليس برهانًا على أنه مرض. ذلك أن صفة «مرض» تنطوي على تقييم اجتماعي بسوء التكيف،
وهي مشكلة مختلفة عن مشكلة تقرير ما إذا كان الفصام موجودًا. إن ادعاء أن شخصًا ما
فيه مرض يعني في الحقيقة أن ثمة شيئًا ما غير صحيح ويحتاج إلى أن يعالَج. والأمراض،
شأنها شأن جميع الأنواع العملية، لا يمكن تعريفها بالتمام بالنظر إلى خواصها
الباطنة.
ومثال آخر على دور المعايير الخارجية في تعريف الأنواع العملية هو موقف رابطة
الطب النفسي الأمريكية إذ أعادت تصنيف الجنسية المثلية من انحرافِ جنسي باثولوجي
إلى تَنَوُّعٍ سَوِيٍّ في التوجه الجنسي. فنحن (في الغرب) لا نزال ننظر إلى المثلية
كنوعٍ من السلوك له أساسٌ بيولوجي ولكننا لا نراه مرضًا سيء التكيف. بل إن المثليين
لَيتخذون الأساسَ البيولوجي للمثلية كدليلٍ على أنهم أسوياء. منذ ثلاثين عامًا كان
كشف أساس بيولوجي قمينًا أن يُعَد تأييدًا لوجودٍ حقيقي لمرضٍ ما. ولكن إذا كان
المجتمع لا يريد أن يُسَمِّي المثلية مرضًا يحتاج إلى أن يعالَج فإن أساسها الجيني
لن يُسَمَّى مرضًا.
من الاستراتيجيات الواعدة التي اتُّخِذَت لإنقاذ نموذج الفئة التصنيفية
Category التقليدي أن نستبدل بمفهوم «المرض»
مفهوم «الاضطراب». يُعَرِّف ويكفيلد
Wakefield
(١٩٩٢م) الاضطراب النفسي على أنه «عسر وظيفي ضار». تشير لفظة «ضار» إلى واقعة أن
الحالة لها عواقب سلبية على الشخص، تشمل نقصان الهناءة، معرَّفةً بواسطة القيم
والمعاني الاجتماعية. ويشير تعبير «عُسر وظيفي» إلى واقعة أن شيئًا ما غير حسن قد
لحق بآليةٍ داخلية، فلم تعد تعمل بالطريقة التي كانت قد صُمِّمَت لكي تعمل بها.
٢٨
يتماشَى تعريف ويكفيلد مع نموذج الفئة التصنيفية التقليدي في أن «فشل التصميم»
و«الضرر» هما، مجتمِعَين، ضروريان وكافيان لتسمية حالة معينة اضطرابًا، حيث فشلُ
التصميم هو العملية الباثولوجية التحتية. يعرِّف ويكفيلد العُسر الوظيفي مثلما كان
الفلاسفة التوماويون (أتباع توما الأكويني) يُعَرِّفون «الشر»، على أنه حرمان-غياب
شيءٍ كان ينبغي أن يكون هناك. إنه ليس «كيانًا» Entity. والتحدي الأكبر في استخدام هذا النموذج هو في تقرير ما
الذي ينبغي أن يكون هناك.
يقول بيتر زاتشار إنه غير مقتنع بأن مفهوم ويكفيلد عن العُسر الوظيفي الضار
مطروحٌ على أنه نوع طبيعي؛ لأن معيار الضرر لا يشير إلى خواص داخلية أو باطنة.
فللضرر عند ويكفيلد يعني سيئ التكيف. وما دام سوء التكيف جزءًا من معنى الاضطرابات
الطبنفسية فإن تعريف الاضطرابات الطبنفسية على أنها مُماهية لحالة داخلية ثابتة
سيكون غير كافٍ. لأنه بدلًا من تعريف التكيف بوجود سمات ثابتة باطنة، يُعَرَّف
التكيف بأنه أَيُّما شيء يُضفي ميزةً تنافسية. فإذا ما تغيرت البيئة المحلية فإن ما
يُعَدُّ تكيفيًّا يتغير، بحيث إن السمات التكيفية في مواقف معينة قد تكون غير
تكيفية في مواقف أخرى. مثال ذلك أنك إن كنتَ في حالة سيكولوجية من التوجس لأنك
تعتقد أن المافيا تحاول أن تقتلك فإن حالتك تُعَد تكيفية إذا كنتَ مرشِدًا للحكومة
والمافيا تحاول فعلًا أن تقتلك. وهذه الحالة السيكولوجية نفسها تكون سيئة التوافق
إذا كنتَ في «ضلال» Delusion والمافيا لا تحاول
قتلك. مثل هذه الحالات لديها ما يسميه الفلاسفة «مضمون ضيق»، ولا يمكن تقدير نصيبها
من التكيفية بمعزل عن شروطٍ خارجية، وبخاصة المعايير والممارسات الاجتماعية.
حتى فشل التصميم لا يمكن أن يُفهَم بالإشارة إلى الخواص الداخلية وحدها، بل ينبغي
أن نسأل أية بيئة تلك التي يهدف التصميم إلى التكيف معها. إنما يعمل الانتخابُ
الطبيعي على تفاعلات بين الكائن الحي والبيئة. وإن آليات داخلية واحدة قد تشكل
فشلًا تصميميًّا لنوع فرعي Subspecies وكفاءة
تصميمية لنوعٍ فرعي آخر، بحسب تاريخهما التطوري. فشل التصميم إذن ليس نوعًا
طبيعيًّا يتحدد بالنظر فقط إلى خواص داخلية ثابتة.
أنواع الكائنات Species ليست أنواعًا
طبيعية
قد يفيدك، إذا بدا لك النموذج اللاماهوي مُتساهلًا ذهنيًّا أكثر من اللازم، أن
تعلم أن وجود الأنواع الطبيعية مشكوك فيه أيضًا في علم الحيوان وعلم الحفريات. يقول
هُول
Hull (١٩٨٩م) مثلًا إن الأنواع تجريدات
إحصائية وليست ماهيات:
قلَّما يتمكن المرءُ في أية نقطة زمنية أن يكشف مجموعةً من السمات
يمتلكها جميع أعضاء نوع ما ولا يمتلكها أي أعضاء في بعض الأنواع الأخرى.
وفضلًا عن ذلك فإن أعضاء الأجيال المتتابعة لنفس النوع تتصف عادة بمجموعة
سماتٍ مختلفة اختلافًا طفيفًا.
٢٩
إن فكرة التطور نفسها مضادة لفكرة وجود ماهيات ثابتة، أو بنية باطنة ثابتة تحدد
جميع أعضاء النوع. لم يعد البيولوجيون يعتبرون علاقة «الفرد-النوع» individual-species مماثلة لعلاقة
«العضو-الفئة» member-class حيث ينتمي الأعضاء
للفئة بسبب اشتراكهم في خواص عامة (مشتركة)، وإنما ينظرون إليها على أنها أقرب إلى
علاقة «الخلية-المتعضِّي» cell-organism حيث
الخلايا الفردة تشيِّد متعضيًا أكبر. وبدلًا من لفظة
Organism فإنهم يتبعون دارون في استخدام لفظة
Population
(السكان/ مجتمع الأفراد). يعرِّف دارون الأنواع
في حدود سكان من أفراد متفردة وليس من أفراد يشتركون في ماهيةٍ عامة. و«السكان»
منظومة جينية وسلوكية وإيكولوجية يتنافس أعضاؤها فيما بينهم ويتنافسون ككلٍّ مع
أعضاء الأنواع الأخرى. بهذا الفهم لا تعود الفروق الفردية قصورات أو اختلالات أو
مصادفات كما يحلو للماهوي تسميتها، وإنما الفروق الفردية شيء محوري في فهم الطبيعة
السائلة للأنواع على المدى الطويل.
ارفع مزايا التقسيم قدر المستطاع وعَوِّض عيوبَه
إذا كان فلاسفة البيولوجيا على صواب فينبغي أن يكون مُنَظِّرو النموذج الطبي
قادرين على اقتراح منظومات تصنيفية بديلة لتعريف الزملات، وقد يكون لدى كل منظومة
مجموعات مختلفة من الزملات. تنشأ المخططات التصنيفية على مستويات مختلفة من
التحليل، متضمنة (على سبيل المثال لا الحصر) المستوى الجيني، المستوى
النيوروكيميائي، المستوى التشريحي، المستوى الاجتماعي الثقافي. وقد لا تكون هذه
المخططات متشاكلة (يماثل أحدُها الآخر في الشكل). وسيكون لكل تصنيف «صدق» Validity لأغراض معينة، ولكن لا يمكن أن يسمَّى أي
منها التصنيف الحق.
يفضل البعض النماذجَ «البُعدية» التي تم اكتشافها بالقياس النفسي، وينتقدون
النماذج «القاطيغورية» المكتشفة إكلينيكيًّا لأنها عندهم «بناءات افتراضية»،
و«اعتباطية»، و«فئات غير حادثة طبيعيًّا». يؤكد هؤلاء أن مشكلة المَراضة المصاحبة Comorbility في اﻟ
DSM غير مقبولة في منظومة يُفترَض أنها مكونة
من كيانات منفصلة. يومئ هذا النقد إلى أن أبعادهم القائمة على نموذج العوامل الخمسة
للشخصية بريء من هذا العيب وأنه سوف يقطِّع الطبيعة، بطريقةٍ ما، من مفاصلها. فهل
هذا صحيح؟
الحق أن هناك ما يدعونا إلى القول بأن مناهج القياس النفسي لكشف الأبعاد
السيكولوجية لا تُقَطِّع الطبيعة من مفاصلها. صحيحٌ أنه ما إن يتم تعديد بارامترات
معينة حتى تبزغ حلول ثابتة نسبيًّا، ولكن غَيِّر البارامترات وسوف تظهر، ربما، حلول
مختلفة. ومن البديهي أننا في تقطيع الطبيعة ينبغي ألا نجد مفاصل مختلفة كلما
غَيَّرنا السكاكين! وحين ننظر في الأمر تحت عنوان «الواقعية العلمية في مقابل
المذهب الأداتي» Scientific Realism vs Instrumentalism فإن النماذج البُعدية لا تَفِي هي ذاتها
بالمعايير التي يستخدمها أنصارُها لرفض النماذج القاطيغورية.
كما أن تسمية العوامل تتطلب أحكامًا ذاتية إلى حد كبير. من ذلك أن عامل
«حي الضمير» Conscientious في نموذج الأبعاد
الخمسة للشخصية يمكن أيضًا تسميته عامل «يُعتمَد عليه»، أو «مسئول»، أو «مُدَقِّق»،
أو «ملتزم»، أو حتى «متزلِّف»! (مثلما قال لي مرةً شابٌّ متمرد من مرضاي). ليست هذه
مجرد مترادفات: إنه أشبه بوصف شخص ما بأنه «مَرِن» مقابل وصفه بأنه «رِخو»، أو
«متصلب» مقابل «صارم». فللألفاظ المختلفة ظلال مختلفة؛ وليست هذه بأنواع طبيعية.
كما أن ثمة خلطًا بين العامل والمقياس المشتق من العامل. إن المقاييس ليست عوامل؛
إن هي إلا بناءات مريحة عمليًّا.
في أوائل التسعينيات، أثناء وضع اﻟ
DSM IV
اقتُرِحَت الأبعاد الخمسة كبديلٍ لفئات اضطراب الشخصية. يقيس اﻟ
NEO-PI٣٠ خمس سمات: العصابية
Neuroticism،
الانبساطية
Extroversion، الانفتاح
Openness، الضمير (الحي)
Conscientiousness، القبول
Agreeableness. تسمى هذه «الخمس الكبار»، لأنها ظهرت في برامج بحثية
كبرى عديدة من التحليل العاملي عبر السنين. وفي مراجعتها لبداياتها التصورية يدعي
ماكري وكوستا
McCrae and Costa (١٩٩٠م) أن اﻟ
NEO-PI قائم على أوصاف الشخصية الموجودة في
اللغات الطبيعية، والتي يسميانها «الحكمة
الشعبية»
Folk Wisdom. وهما يَدَّعِيان أن جميع السمات الهامة قد تم اختزانها
في اللغات الطبيعية عبر القرون؛ ويستخدمان أدلة على اتساق العوامل عبر الثقافات لكي
يخلُصا إلى أنهما قد كشفا البنيةَ العمومية (العالمية) للشخصية.
مثل هذا القول لن يلقى القبول من جميع الفلاسفة والسيكولوجيين. مثال ذلك أن ألفرد
نورث هويتهد (١٩٣٨م)، فيما يسميه «مغالطة المعجم
المكتمل» Fallacy of the Perfect
Dictionary، ينتقد الفكرة الخبيثة القائلة بأن «البشر قد خطر لوعيهم
جميعُ الأفكار الأساسية القابلة للتطبيق في خبرتهم.»
الحق أن الخمس الكبار (عند ماكري وكوستا) كانت قبل ذلك «الثلاث الكبار» عندهما
(العصابية، الانبساطية، الانفتاح)، ثم قررا فيما بعد أن بنية الشخصية تَغَيَّرَت
وأضافا عاملين هما الضمير والانفتاح، وليس من المستبعد إن شاء أحدٌ التحسين أن
يتغير النموذج مرة أخرى.
نموذج اللاتشخيص عند منينجر
من السخرية أن التقسيم البُعدي شبيه غاية الشبه بالنموذج المضاد للتشخيص
anti-diagnostic model عند
كارل منينجر
Karl Menninger الذي ذهب إلى أن
الفئات التصنيفية في الكتب الدراسية لا يمكن أن تساعدنا حقًّا في فهم مشكلات الناس،
وأن علينا، بدلًا من ذلك، أن نفكر بلغة المقاييس والمساطر: فمن يقع عند إحدى
نهايتَي المقياس سيكون «سيء التوافق»، ومن يقع عند النهاية المقابِلة يكون
«مُتوافقًا»، وما إن يدخل الناس في مجالٍ سيء التوافق حتى يُفترَض أن يساعدهم أهلُ
الصحة النفسية في اكتشاف كيف يحققون قدرًا أكبر من حِس «السواء».
٣١ تتطابق هذه التوصية بانسجام مع اقتراح ويديجر
Widiger (١٩٩٤م) بأن يشرع الممارسون الصحيون بتقدير درجة سوء
التوافق ثم يقرروا موقع الشخص على الأبعاد الأساسية للشخصية لكي يفهموا طبيعة سوء
التوافق عنده.
يدعي منينجر أن علينا، بدلًا من استخدام حالات ثابتة تسمَّى «كيانات مرضية»، أن
نفكر بلغة المواقع المتبدِّلة على مقاييس متعددة للأداء الوظيفي للشخصية. وفي توازٍ
مثير مع الكريبلينية الجديدة يطلِق منينجر على هذه الوجهة من الرأي اسم الجاكسونية
الجديدة، نسبةً إلى هجلينج جاكسون. وهو يَعنِي بذلك تركيزًا على التمييز الكمي
(البُعدي) بدلًا من التمييز الفئوي (القاطيغوري) بين الأنواع المختلفة من المرض
النفسي. إن ما يقترح أنصار الاتجاه البُعدي الجُدد إضافتَه للطب النفسي الجاكسوني
الجديد هو نموذج مؤسس علميًّا للأداء الوظيفي للشخصية.
سمات الشخصية ذات الأساس الجيني ليست أنواعًا طبيعية
قد يقع مفكرو القياس النفسي أيضًا، شأنهم شأن بعض الأطباء، في الخلط بين وجود
أساسٍ بيولوجي لشيءٍ ما وكَون هذا الشيء نوعًا طبيعيًّا. مثال ذلك أن ليكين وتيليجين
Lykken and Tellegen (١٩٩٦م) يذهبان إلى أن
البناءات الشعبية من قبيل السلبية، والسعادة، والإيثار، لها أساس بيولوجي/جيني.
٣٢ (كما تشير ساندرا سكار
Sandra Scar
(١٩٨٧م) إلى أن ٢٤–٤٠٪ منا تفاوت الشخصية ينجم من الوراثة).
٣٣ وبالنظر إلى هذه الكشوف قد يخلص السيكولوجيون إلى أن بعض السمات
النفسية موجودة واقعيًّا كأنواعٍ طبيعية.
ولكن، أولًا: فكرة أن السمات التي لها أساس بيولوجي هي السمات الموجودة واقعيًّا
هي فكرة ينبغي أن تكون مزدراة كتحصيل حاصل عند كل مفكر مادي؛ فجميع الحالات
المعرفية أو العاطفية لا يمكن أن توجد دون أدمغة. ووفقًا للأطروحة المادية
«الدماغ بوصفه قِوامًا» brain-as-substrate
فإن كل حالة سيكولوجية لها ضربٌ ما من الأساس الجيني. فالسبب في أن الصخرة، مثلًا،
لا يمكن أن تكتب أو تحب هو أنها لا تمتلك أساسًا بيولوجيًّا للاكتئاب أو للحساب. إن
أي سمة (مثل الانبساطية) أو حالة معرفية انفعالية (مثل الاكتئاب) توجد بسبب
الاستعداد البيولوجي، وكل جانب من جوانب السيكولوجيا البشرية لها أساس
بيولوجي.
ثانيًا: أن تقول إن شيئًا ما له أساس جيني لا يعني أن هذا الشيء كيانٌ منفصل على
مستوى الدنا DNA. فمثلًا السمات الأخرى من مثل
التقليدية، التدين، الهناءة، الجنوح، الثبات الانفعالي، قوة الأنا، ومدة مشاهدة
التليفزيون … قد تَبَيَّنَ أن لها أيضًا أساسًا جينيًّا. ولسنا نظن أن أسلافنا
طوَّروا جينًا لمدة مشاهدة التليفزيون! فالميول للاستجابة للاحتمالات التي تقدمها
ثقافة المرء لم تتطور وفي البال هذه الاحتمالات.
بالنسبة لمشاهدة التليفزيون يُحتمل أن يكون هناك أساس جيني، برنامج تخليق بروتين
يخلق جهارًا عصبيًّا ذا استعداد معرفي وجداني يبدأ عملية تفضي في النهاية إلى شخص
يُكثِر مشاهدة التليفزيون إن واتته الفرصة؛ غير أن النقطة النهائية في العملية ليست
أساسًا بيولوجيًّا. ويَصدُق الشيء نفسه بالنسبة لسمات الشخصية، فهي نواتج نهائية
ولا يمكن أن تُرَد إلى معايير باطنة ضرورية وكافية. قد تكون الجينيات ضرورية كبادئة
عمليات، ولكنها ليست أسبابًا كافية لأغلب السمات.
عندما ننظر إلى سمة ما (مثل الانبساطية) أو زملة ما (مثل الاضطراب ثنائي القطبية)
فإن التغاير المتصاحب Covariation، السيكولوجي
والسلوكي والبيولوجي، يعكس نوعًا ما من التنظيم المترابط باتساق شديد بحيث يمكننا
القول بأن ثمة شيئًا ما هناك، ولا يمكننا البتة رده إلى تغاير متصاحب بيولوجي فقط.
ليس ثمة خواص باطنة تجعل السمات والزملات ما هي. السمات والزملات أنواع
عملية.
خلاصة
ليس ثمة شروط باطنة للأشياء، ضرورية وكافية، تجعلها شيئًا ما كالكرسي. الكراسي
ليست أنوعًا طبيعية. ولدينا أيضًا أسباب كثيرة لرفض الاعتقاد بأن الزملات،
والأمراض، وأنواع الأحياء، وسمات الشخصية، أنواع طبيعية. هذه خاصة لأي منظومة فئوية
(قاطيغورية) يمكن أيضًا أن تُعتبَر متصلة أو بُعدية Dimensional لا النموذج الطبي التقليدي ومناهجه لفصل المرض، ولا
المقاربة الرياضية للسيكولوجي في التصنيف، نجحت في فصل ما يمكن أن يسمَّى «أنواعًا
طبيعية». صحيح أن كليهما اكتشف أنماطًا ثابتة هي أكثر من مجرد اختراعات؛ غير أن
فكرة واقع باطن منفصل، قابل للتحديد باستخدام التجريب البيولوجي والتحليل الإحصائي
المعقد وحدهما هي فكرة مغلوطة. إنا يلزمنا الكثير جدًّا من المتغيرات والدلائل
الأخرى لكي نُفرِد الأنماط، ومن شأن تبنِّي مناهج أخرى أو أولويات برهانية أخرى أن
يغير الأنماط التي تجدها.
يعرض ميهل
Meehl٣٤ (١٩٨٦م) مزايا تَصَوُّر الفئات التشخيصية على أنها مفاهيم مفتوحة،
ويعتبر أيَّ استراتيجيةٍ أخرى «موبِقةً علميًّا»
Scientifically Malignant. فالواقع سيكون دائمًا أعقد مما تحصره فئاتُنا
التصنيفية
Categories. فمهما كنا محددين في تعريف
اضطرابات مثل الفصام، فسوف يكون علينا دائمًا أن نعترف باستثناءات، بحالات لا تطابق
النموذج. وكلما زاد تحديد المعايير ازادت الاستثناءات التي يمكن توقعها. بوسعنا
تجنب مشكلة الاستثناءات باستخدام تعريفات أوسع، ولكن من شأن ذلك أن يقلل الثبات
(العول)
Reliability. ليس ثمة ما يسوِّغ تصور
فئاتنا التصنيفية على أنها أنواع طبيعية؛ أي على أنها مفاهيم مطلقة مغلقة. وإنه
لأدعم للانفتاح العلمي على الدليل
evidence أن
نعتبر الفئات التصنيفية
Categories الطبنفسية
أنواعًا عملية لا أنواعًا طبيعية.