الجزء الثالث
إن جميع مجرى الحياة حتى المُراهقة هو دورُ ضَعْف، ومع ذلك تُوجَد نقطة في أثناء دَوْر العُمُر الأوَّل هذا يجاوِز فيها تقدُّم القوى تقدُّم الحاجات، فيصير الحيوان النامي الذي لا يزال ضعيفًا على الإطلاق قويًّا نسبة. وبما أن احتياجاته لم تَنْمُ كلُّها بعد، فإن قواه الحاضرة تُرْبي على الكفاية قضاءً لما لديه، ويكون ضعيفًا إلى الغاية كرجل، ويكون قويًّا إلى الغاية كولد.
ومن أين يأتي ضَعفُ الرجل؟ يأتي من التفاوت بين قوَّته ورغباته. وأهواؤنا هي التي تجعلنا ضعفاء؛ وذلك لأن قضاءها يتطلَّب من القُوَى ما هو أكثر مما تُعطي الطبيعة. وإذا ما نقصتم الرغبات بدوتم كأنكم زِدتم القُوَى. ومَن يقدِر أكثر مما يرغب تكن عنده قوة احتياطية، ويُعَدُّ قويًّا جِدًّا لا ريب، وهذا هو دور الوَلُودِية الثالث، وهو الذي أتكلم عنه الآن، وأداوم على تسميته ولودية لعدم وجود كلمة خاصة أعبِّرُ بها عنه؛ وذلك لأن هذه السِّن تدنو من المراهقة من غير أن تصل إلى البلوغ.
وتنمو قوى الولد البالغ من العُمُر اثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة بأسرع مما تنمو به احتياجاته، ولا يزال أقوى الأهواء وأعنفها غيرَ معروف، ولا يزال نموه البدني ناقصًا منتظرًا نداء الإرادة كما يلوح، ولا تؤثِّر فيه تقلبات الهواء والفصول إلا قليلًا، وهو يقاومها بلا عناء، وتقوم حرارته الناشئة مقام الثياب، وتقوم شهوة طعامه مقام تعليل غِذائه بالتوابل، وكلُّ ما يمكن أن يُقيت صالحٌ لسنِّه، وهو إذا ما أدركه النُّعاس استلقى على الأرض ونام. وهو يجد حوله كلَّ ما يحتاج إليه، ولا يؤلمه أي احتياجٍ خيالي، ولا عملَ لرأي الآخرين فيه، ولا تبتعد رغباته عن مدى ذراعيه، ولا يستطيع أن يكفي نفسه بنفسه فقط، بل لديه من القُوى ما يمتدُّ إلى ما وراء احتياجه أيضًا، وهذا هو دور حياته الوحيد الذي تزيد قوَّته على احتياجه.
وأشعر بالاعتراض قبل وقوعه، ولن يُقال لي إن للولد من الاحتياجات ما هو أكثر مما أُعطيه، ولكنه سيُنكَر ما أعزوه إليه من القوة، ولن يُفكَّرَ في أنني أتكلم عن تلميذي، لا عن تلك الدُّمى المتنقِّلة التي تطوف بين غرفةٍ وغرفة، والتي تُقلِّبُ صُندوقًا وتحمل أثقالًا من المُقوَّى. وسيُقال لي إن قوة الرجل لا تظهر في غير دور الرجولة، وإن الأرواح الحيوية التي تُعدُّ في أوعيةٍ ملائمةٍ وتنتشر في جميع البدن يمكنها وحدَها أن تمنح العضلات ثباتًا ونشاطًا وقوةً ونابضًا؛ أي ما تنشأ عنه طاقةٌ حقيقية، وهذه هي فلسفة الحُجْرَة. وأمَّا أنا فأدعو إلى التجرِبة، وأرى في أريافكم فتيانًا كبارًا يحرثون ويَقلِبون الأرض ويمسكون المحراث ويملئون بِرميلَ خمر ويسوقون عربة كآبائهم، فيُحسَبون رجالًا لو لم يَنِمَّ صوتهم عليهم، حتى في مدننا ترى أولادًا من العمال والحدادين والقُيُون والبياطرة بالغين مثلَ قوة المُعلِّمين تقريبًا، فلا يَقِلُّون عنهم حِذْقًا إذا ما دُرِّبوا في الوقت المناسب. وإذا وُجِدَ فرق، وهو ما لا أنكره، فأقول مُكرِّرًا إنه أقلُّ كثيرًا مما بين رغبات الرجل الفائرة ورغبات الولد المحدودة. ثُمَّ إن الأمر ليس قاصرًا هنا على القوة البدنية فقط، بل يتناول، خاصة، أيضًا قوة الذهن واستعداد الذهن الذي يُغني عنها أو الذي يوجِّهها.
وهذه الفاصلة التي يَقدِرُ الفردُ فيها أكثرَ مما يَرغب، وإن لم تكن دَوْرَ قُوَّته الكبرى المُطلقة، هي دور قوَّته الكبرى النسبية، وهي أثمن دورٍ في حياته، وهي الدور الذي لا يأتي غير مرةٍ واحدة، وهي الدور القصير جِدًّا، وهي الدور الذي يبدو بالغ القِصَر عند النظر إلى أهمية استخدامه جيِّدًا كما يُرى ذلك فيما بعد.
وما يصنع إذن بهذا الزائد من الخصائص والقُوَى التي يحوز كثيرًا منها في الوقت الحاضر، والتي تفوته في دورٍ آخرَ من العُمُر؟ هو سيسعى في استخدامها في أمورٍ يُمكِنه الاستفادة منها عند الحاجة؛ أي إنه يُلقِي الزائد من وجوده الحاضر في المستقبل؛ أي إن الولد العُصْلُبيَّ سيدَّخِر للرجل الضعيف، ولكنه لن يضع ما يَخزُن في صناديقَ يمكن أن تُسرَق منه، ولا في أنبارٍ خارجةٍ عنه، وفي ذراعيه وفي رأسه وفي نفسه ما يضع الذي يَكسِبُ تملكًا له حقًّا. وهذا هو إذن وقت العمل والعِرفان والدرس، ولاحظوا أنني لست الذي يقوم بهذا الاختيار متحكِّمًا، بل الطبيعة نفسها هي التي تدلُّ عليه.
وللذكاء البشري حدود، ولا يستطيع الإنسانُ أن يَعْرِفَ كلَّ شيء، حتى إنه لا يستطيع أن يَعْرِفَ تمامًا ما يَعْرِفه الآخرون من شيءٍ قليل، وبما أن ما يناقض القضية الباطلة حقيقة، فإن عدد الحقائق لا ينفَد كعدد الأباطيل؛ ولذا يوجد اختيارٌ في الأمور التي يجب أن تُعلَّم كما في الزَّمن الصالح لتعلُّمها. ومن المعارف الواقعة في متناولنا ما هو باطل وما هو غير نافع، وما يُفيدُ في تغذية زهوِ الحائز لها. وعدد المعارف القليل الذي يساعد على رفاهيتنا حقًّا هو الجدير وحدَه بتحرِّي الرجل العاقل؛ ومِنْ ثَمَّ بتحري الولد الذي يُراد جعلُه هكذا، ولا يقوم الأمر على معرفة ما هو كائن، بل على معرفة ما هو نافعٌ فقط.
ومن ذاك العدد القليل أيضًا يجب هنا أن تُخرَج الحقائق التي يتطلب فهمُها قوة إدراكٍ تامة التكوين، أن تُخرَج الحقائق التي تفترض معرفة صِلات الإنسان، فلا يستطيع الولد اكتسابها، أن تُخرَج الحقائق التي تَحمِل الذهن غير المُجرِّب على التفكير الفاسد في موضوعاتٍ أخرى، وإن كانت تلك الحقائق صحيحةً في نفسها.
وها نحن أولاء قد قُصِرنا على دائرةٍ صغيرةٍ بالنسبة إلى وجود الأشياء، ولكن هذه الدائرة تُؤلِّف دائرةً واسعة بالنسبة إلى ذهن الولد! ويا ظُلُمات الإدراك البشري، أيةُ يدٍ مغامِرةٍ كانت من الجُرْأة ما مسَّت معه حِجَابَكِ؟ ويا للهُوَى التي أرى حَفْرها بعلومنا الباطلة حول هذا الفتى التعِس! وارتجِف أنت الذي يقوده من هذه الطُّرُق الخطرة، والذي يرفع أمام عينيه ستار الطبيعة المقدس، وليكن رأسه ورأسك أوَّل ما تطمئن إليه، واخشَ أن يُصاب هذا أو ذاك بالدوار أو أن يُصابا معًا على ما يُحتمل، وخَفْ سِحْرَ الباطل المموَّه وفتون أبخرة الزهو، واذكر — واذكر دائمًا — أن الجهل لا يؤذي أبدًا، وأن الشؤم في الضلال، وأن الإنسان لا يَضِلُّ بما لا يَعْرِف بل يَضِلُّ بما يعتقد أنه يَعْرِف.
وقد يَصلُح تقدُّمه في الهندسة دليلًا لكم وقياسًا صحيحًا عندكم على نموِّ ذكائه، ولكنه إذا ما استطاع أن يَمِيزَ النافع من غير النافع وَجَبَ اتخاذ كثيرٍ من الحذر والبراعة جَذْبًا له إلى الدروس النظرية، وإذا ما أردتم مثلًا أن يبحث عن وَسَطٍ مناسبٍ بين خطين فاصنعوا ما يجب أن يجد معه مربَّعًا مساويًا لمُثلَّثٍ ما، وإذا ما طُلِبَ وَسَطان مناسبان وجب أن يُحمَل أوَّلًا على الاكتراث لمضاعفة المكعب … إلخ. ورَوْا كيف ندنو بالتدريج من المبادئ الخُلقية التي تَميزُ الخيرَ من الشَّر، ولم نَعرف حتى الآن غيرَ قانون الضرورة، والآن نُعْنَى بما هو مفيد، وسننتهي إلى ما هو ملائمٌ حَسَنٌ عما قليل.
وتُحرِّك عينُ الغريزة مختلفَ خصائص الإنسان، ويَعقُب نشاطَ البدنِ الذي يحاول أن ينموَ نشاطُ الذهن الذي يحاول أن يتعلَّم. وليس الأولاد في البُداءة غير قلقين، ثُمَّ يكونون محبين للاطلاع، ويُعَدُّ هذا الفُضول الحسنُ التوجيه مُحرِّكَ العُمُر الذي بلغناه. ولنفرِّق دائمًا بين الميول التي تصدُر عن الطبيعة والميول التي تصدُر عن رأي النَّاس، ويوجد شوقٌ إلى المعرفة ليس له أساسٌ غير الرغبة في الظهور بمظهر التعلُّم، ويوجد شوقٌ آخر إلى المعرفة ينشأ عن حبِّ اطلاعٍ طبيعيٍّ في الإنسان حول كلِّ ما يمكن أن يُهِمَّه عن قُرْبٍ أو بُعْد، وما يكون من رغبةٍ غريزية في الرفاه من تعذُّر إشباع هذه الرغبة تمامًا، يَحفِزُه إلى البحث بلا انقطاع عن وسائلَ جديدةٍ تُعينُ على ذلك. وهذا هو أصل الفضول الأوَّل، وهذا هو الأصل الطبيعي في قلب الإنسان من أنَّ نشوءَه يأتي على نسبةِ أهوائنا ومعارفنا، ولنتمثَّل فيلسوفًا نُفيَ إلى جزيرةٍ قفْرٍ مع آلاتٍ وكُتبٍ عالِمًا أنه سيقضي فيها بقية حياته وحيدًا، فلن يُزعِجَ هذا الفيلسوف نفسه بمعالجة نظام العالم وسنن الجاذبية وحساب التفاضل، ومن المحتمل ألَّا يفتح كتابًا واحدًا مدى حياته، ولكن مع عدم الاستنكاف عن رِياد جزيرته حتى آخر زاوية منها مهما كانت هذه الجزيرة كبيرة، ولْنَحذف من دروسنا الأُولى إذن معارفَ ليس تذَوُّقها طبيعيًّا لدى الإنسان، ولنقتصر على المعارف التي تَحمِلنا الغريزة على البحث عنها.
والأرض هي جزيرة الجنس البشري، والشمس هي أكثر ما يَقِف نظرَنا، وإذا ما أخذنا نبتعد عن أنفسنا وجب أن يقع انتباهنا على هذه وتلك، وهكذا فإن فلسفة جميع الشعوب الوحشية تقريبًا تدور حصرًا حول تقسيمات خيالية عن الأرض وحول ألوهية الشمس.
وقد يُقال: يا له من ابتعاد! لقد كُنَّا نعالج منذ هنيهة ما يمسُّنا، ما يُحيطُ بنا مباشرة، وها نحن أولاء نجوب الأرض ونَقفِز إلى أقاصي العالم بغتةً! إن هذا الابتعاد نتيجةُ تقدُّمِ قُوانا وميلِ ذهننا، وإن اكتراثنا لبقائنا في حالة ضعفنا ونقصنا يَحصُرنا ضِمنَ أنفسنا، وإن رغبتنا في توسيع كياننا في حالة قدرتنا وقوَّتنا تَحْمِلنا إلى ما وراء ذلك وتدفعنا إلى الوثوب إلى أبعد ما يمكننا. ولكن بما أن العالم الذهني لا يزال مجهولًا لدينا، فإن فكرنا لا يذهب إلى ما هو أبعد من عيوننا، ولا يمتد إدراكنا إلا ضمن المسافة التي يقيس.
ولنُحوِّل إحساساتنا إلى أفكار، ولكن لا نقفز بغتةً من الأشياء المحسوسة إلى الأشياء الذهنية؛ فبالأُولى نَصِلُ إلى الثانية، ودعِ الحواس أدِلَّاء أعمالِ الذهنِ الأُولى دائمًا، فلا كتاب غيرُ العالَم، ولا تعليم غيرُ الأعمال. والولد الذي يقرأ لا يفكِّر، وهو لا يفعل غيرَ القراءة، وهو لا يتعلم، بل يحفظ كلمات.
واجعلوا تلميذكم منتبهًا لحادثات الطبيعة، فلسرعان ما تجعلونه مُحبًّا للاطِّلاع، ولكنَّ تغذيةَ فضوله لا تقضي بالمبادرة إلى إشباعه مطلقًا، وضَعُوا الأسئلة ضمن متناوله، ودعوه يَحُلُّها. ولا ينبغي أن يَعْرِف شيئًا عن كونكم قد أطلعتموه عليه، بل عن كونه قد أدركه بنفسه. ولا ينبغي أن يتعلَّم العلم، بل يجب أن يكتشفه، وإذا أقمتم السلطان مقام العقل في ذهنه عاد لا يتعقَّل وصار أُلعوبةَ رأي الآخرين.
وتريدون أن يتعلم هذا الولد الجغرافية، وتُحضِرون له كُراتٍ وخرائطَ، ويا لها من آلات! ولِمَ جميع هذه الرسوم؟ ولِمَ لا تبدءون بإراءته الشيءَ نفسه حتى يَعْرِف الشيء الذي تحدثونه عنه على الأقل؟
وفي مساءٍ جميلٍ يُذهَب للنزهة في مكان ملائم حيث يُرى غياب الشمس عند الأفق الواسع، وحيث تُلاحَظ الأشياء التي تَجعل مكانَ غيابها سهلًا معرفتُه، وفي الغد يُرادُ تنسُّم الهواء العليل، فيُرجَع إلى عين المكان قبل طلوع الشمس، ويُبصَر من بعيدٍ أنها تُؤْذِن نفسها بما تلقيه من خطوط نارية سابقة لها، ويزيد الحريق، ويظهر الشرق مضطرمًا لهيبًا، وعلى نور ذلك ينتظر الكوكب طويلًا قبل أن يطلع، ويُظَنُّ في كل ثانية أنه يُرى ظهوره، ويشاهَدُ أخيرًا، وذلك بأن نقطة تنطلق كالبرق فتملأ جميع الفضاء من فورها، ويَمَّحي حجاب الظلام ويسقط، ويَعْرِف الإنسان منزله ويَجِده مُزْدانًا، وقد اكتسبت الخُضَر في الليل قوةً جديدة، فلما أضاءها النهار الناشئ أبْدَتها الأشعة الأُولى مستورةً بشبكة لامعة من الندى تعكس على العين نورًا وألوانًا، وتجتمع الطيور مواكبَ وتُحَيِّي رَبَّ الحياة متفقة. ولا طير يَسكُت في ذاك الحين، وعلى ما يكون من ضَعفِ تغريدها يُعَدُّ أبطأ وأحلى مما في بقية النهار؛ فهو يَنِمُّ على انتباهٍ من النوم ساكنٍ وانٍ، ويَحمِل توافُقُ جميع هذه الأمور إلى الحواس أثرًا من النضارة يلوح نفوذه حتى الروح، وهنالك يتجلى فتونُ نصفِ ساعةٍ لا يستطيع الإنسان مقاومته، وذلك منظرٌ عظيمٌ جِدًّا، رائعٌ جِدًّا، لطيفٌ جِدًّا، فلا يقدر الإنسان أن يشاهده من غير أن يهتز فؤاده.
ويفيضُ المُعلِّم حماسة، فيُريد أن يشاطره الولد إياها، ويعتقد أنه يُحرك الولد بجعله ينتبه للإحساسات التي حرَّكته بنفسه، ويا لها من حماقة صِرفة! إن بهاء منظر الطبيعة هو في قلب الإنسان، ويجب أن يُشعَر به ليُرى. أجل، إن الولد يُبصِر الأشياء، ولكنه لا يستطيع أن يُبصِر ما يربط بينها من صلات، ولكنه لا يستطيع أن يُدرِكَ ما في ائتلافها من انسجامٍ لطيف، ولا بدَّ له من تجرِبة لم يكتسبها قَط، ولا بدَّ له من مشاعرَ لم يُحِسَّها قَط؛ وذلك ليشعر بالأثر المُركَّب الذي ينشأ عن جميع هذه الإحساسات معًا. وهو إذا لم يَجُبْ سُهولًا جديبةً زمنًا طويلًا، وهو إذا لم تَكْوِ رِجْليه رمالٌ مُحرِقة، وهو إذا لم يَضغطه انعكاسُ الصخور التي لفحتها الشمسُ انعكاسًا خانقًا، فكيف يستطيب الهواء العليل في صباحٍ جميل؟ وكيف تُفتَن حواسُّه بعِطر الأزهار وسِحْر الخُضَر وببخار الندى الرَّطيب وبالمِشية الخفيفة اللطيفة على الأرض المُخضَرَّة؟ وكيف يُوجِب فيه تغريد الطيور هوَى شهوةٍ إذا كان جاهلًا لحركات الغرام واللذة بعد؟ وبأيِّ هفيفٍ يرى ظهورَ نهارٍ بالغٍ تلك الروعة إذا لم يستطِع خيالُه أن يصوِّر له ما يمكن أن يملأه؟ وأخيرًا كيف يَرِق لجمالِ منظرِ الطبيعةِ إذا كان يجهل اليدَ التي عُنِيَت بزَخْرفتِها؟
ولا تُوجِّهوا إلى الولد من الكلام ما لا يستطيع أن يَفهم، فلا وصفَ ولا بلاغةَ ولا مجازَ ولا شعرَ، فليس الآن وقتُ الإحساس والذوق، وداوِموا على الوضوح والبساطة، وأن تكونوا فاترين عالمين أن زمن اتخاذ لغةٍ أخرى لا يأتي إلا باكرًا.
وهو إذ يُنشَّأُ على روح مبادئنا وعلى استنباط جميع وسائله من نفسه، وهو إذ لا يستعين بالآخرين إلا بعد أن يُدرِك عدم كفايته، فإنه يفحصُ طويلًا كلَّ موضوعٍ جديدٍ يراه ملتزمًا جانبَ الصمت، ويكون مفكِّرًا لا سَئولًا، واكتَفُوا بِعَرْض الأشياء عليه في الوقت المناسب، ثُمَّ إذا ما أبصرتم حُبَّ الاطِّلاع فيه قائمًا بما فيه الكفاية فضعوا له من الأسئلة المختصرة ما يَحُلُّه.
وفي هذه الأثناء، وبعد أن تُنعِموا النظرَ معه في الشمس البازغة، وبعد أن تجعلوه يلاحظ الجبال والأشياء المجاورة الأخرى من ذات الجهة، وبعد أن تَدَعوه يتكلَّم حَوْل ذلك بلا تعبٍ اسكُتُوا لبضع دقائق كرجلٍ سابحٍ في الخيال، ثُمَّ قولوا له: «إنني أفكِّرُ في أمر الشمس التي غَرَبت أمسِ مساء هنالك، والتي طلعت اليوم صباحًا هناك، فكيف يمكن وقوع هذا؟» ولا تضيفوا شيئًا إلى ذاك. وإذا ما وَضَع لكم أسئلةً فلا تُجيبوه عنها مطلقًا، وإنما كلِّموه عن شيء آخر، ودَعُوه وشأنَه واثقين بأنه سيُفكِّر في ذلك.
ويجب لكي يتعوَّد الولد الانتباه ولكي تَقِف نظرَه بعضُ الحقائق المحسوسة، أن تُترك له هذه الحقيقة بضعة أيامٍ من القلق قبل اكتشافها. وهو إذا لم يتمثَّلها على هذا الوجه بما فيه الكفاية كان هنالك من الوسائل ما يجعلها أكثر بروزًا أيضًا، وهذه الوسيلة هي إعادة السؤال، وهو إذا كان لا يَعْرِف كيف تأتي الشمس من مغربها إلى مشرقها فإنه يَعْرِف كيف تأتي من مشرقها إلى مغربها على الأقل، وعيناه وحدَهما تُطلعانه على ذلك، فأوضحوا السؤال الأوَّل بالآخر إذن، وهنالك إمَّا أن يكون تلميذكم من الغباوة المطلقة، وإمَّا أن يكون التشابه من الوضوح البالغ ما يُمكن معه أن يفوته ذلك، وهذا هو درسه الأوَّل في علم الفلك.
وبما أننا نَسير في كل وقتٍ على مَهْلٍ من فكرٍ محسوسٍ إلى فكرٍ محسوس، وبما أن إيلافَنا أحدَ الفكرين يتطلب زمنًا طويلًا قبل انتقالنا إلى الآخر، وبما أننا لا نُكْرِه تلميذَنا على الانتباه مطلقًا، فإنه لا بدَّ من انقضاء وقت طويل على هذا الدرس الأوَّل في معرفة مجرى الشمس وشكل الأرض. ولكن بما أن حركات الأجرام السماوية الظاهرةَ كلَّها تابعةٌ لذات المبدأ، وبما أن الرَّصد الأوَّل يؤدي إلى جميع الأرصاد الأخرى، فإنه يُحتاجُ إلى أقل جُهْد، وإن كان يُحتاج إلى أكثر وقتٍ للوصول من الدورة اليومية إلى حساب الكسوف والخسوف، وذلك مما للوصول إلى إدراك الليل والنهار إدراكًا حسنًا.
وإذ إن الشمس تدور حول الأرض فإنه يرسم دائرة، ولا بدَّ لكل دائرة من مركز، وهذا ما عَلِمْناه سابقًا، ولا تُمكِنُ رؤية هذا المركز لأنه في وَسَط الأرض، ولكنه يُمكن تعيين نقطتَين متقابلتَين على السطح، ويُعَدُّ العود المارُّ من النقاط الثلاث والممتدُّ حتى السماء من الناحيتَين محور الأرض ومحور حركة الشمس اليومية، وإذا ما دار الخُذروف المستدير على رأسه مثَّل السماءَ الدائرة على محورها، ومَثَّلَ طَرَفا الخُذروفِ القطبين، ويَسُرُّ الولدَ أن يَعرِف أحدهما، وأدُلُّه عليه بذَنَب الدُّب الأصغر، وهذا من لَهْو الليل، وتُؤْلَف الكواكب بالتدريج؛ ومِنْ ثَمَّ ينشأ أوَّل ذوق في معرفة السيارات والبروج.
ولقد رأينا طلوعَ الشمس في منتصف الصيف، وسنرى طلوعَها في عيد الميلاد أو في يومٍ جميلٍ آخر من أيام الشتاء؛ وذلك لأننا لسنا كُسالى كما هو معلوم، ولأننا نحسُبُ اقتحام البرد من الألعاب، وأُعنَى بالقيام بهذا الرَّصَدِ الثاني في عين المكان الذي قُمنا فيه بالرَّصَد الأوَّل، وإذا ما أُبديَ شيءٌ من البراعة في إعداد المعاينة لم يَفُت هذا أو ذاك أن يَهتِف قائلًا: «وي! وي! يا له من منظرٍ فَكِهٍ! عادت الشمس لا تَطْلُع من عين المكان! هنا دلائلُنا السابقة، والآن تَطلُع هنالك … إلخ. إذن، يوجد شرقُ صيفٍ وشرقُ شتاءٍ … إلخ.» ويا أيها المُعلِّم الشاب، أنت على الطريق، فيجب أن تكون هذه الأمثلة كافية لتعليم الكُرة بوضوحٍ ولاتخاذ الأرضِ للأرض والشمسِ للشمس.
وعلى العموم لا تستبدل الرمزَ بالشيء مطلقًا إلا إذا تعذَّر عليك إراءته؛ وذلك لأن الرمز يستغرق انتباه الولد ويُنسيه الشيء المُمثَّل.
ولا نعرفُ أن نضعَ أنفسنا في مكانِ الأولادِ مطلقًا، ولا نَنفُذ أفكارَهم ونُعِيرُهم أفكارَنا، وفي كلِّ وقتٍ نَتَّبِعُ براهيننا الخاصَّة بسلاسِلَ من الحقائق، فلا نَرْكُم في رءوسِهم سوى تُرَّهاتٍ وأضاليل.
ويُجادَل حوْل اختيارِ التحليلِ أو التركيبِ في دراسةِ العلوم، ولكن لا يُحتاج إلى الاختيارِ دائمًا؛ فمما يحدُث أحيانًا إمكانُ التحليلِ والتركيبِ في المباحثِ عينِها، وإمكانُ إرشادِ الولدِ بالمنهاجِ التعليمي مع اعتقاده أنَّه لا يصنعُ غيرَ التحليل. وهنالك إذ يتَّخذُ هذا وذاك فإنه ينتفعُ ببراهينهما مقابلة، وهو إذ يذهب من النقطتَين المتقابلتَين معًا، وذلك من غيرِ أن يُفكِّر في سلوكهِ عينَ الطريق، فإنه يُدْهَشُ من التقائهما، ويكون هذا الدَّهَش مُمتِعًا جِدًّا، ومن ذلك أنني أريد تناول الجغرافية من هذين الحدَّيْن، وأن أضيف إلى درس تحولات الكرة الأرضية قياس أجزائها بادئًا من المكان الذي يُسكَن، فبينا يَدرُس الولدُ الكُرَة وينتقل إلى السموات على هذا الوجه أعيدوه إلى تقسيم الأرض ودُلُّوه إلى موطنه قبل كلِّ شيء.
وستكون نقطتاه الأولَيَان في الجغرافية مدينتَه التي يقيم بها ومنزلَ أبيه في الريف، ثُمَّ الأماكنَ المتوسطة، ثُمَّ الأنهارَ المجاورة، ثُمَّ منظرَ الشمس وكيفيةَ الاتجاه، وهذه هي نقطة الالتقاء. ولْيَصنع الخريطة بنفسه، ولتكن الخريطة بسيطة جِدًّا، ولْيكن أوَّلَ ما تشتمل عليه موضعان يُضيفُ إليهما مواضعَ أخرى مقدارًا فمقدارًا، وذلك كلَّما عَرَف مساوفَها ومراكزَها أو قدَّرها، وتُدرِكون أيُّ فائدةٍ قد حبَوْناه بها مقدمًا بجعلنا بيكارًا في عينيه.
ومع ذلك فإن مما لا مراء فيه وجوبَ إرشاده قليلًا، ولكن قليلًا جِدًّا، وذلك غير أن يَشعر، فإذا ما أخطأ فدَعُوه وخطأَه، ولا تُصلِحوا خطأه مطلقًا، وانتظروا صامتِين حتى يراه ويُصلِحَه بنفسه، أو انتظروا على الأكثر فُرصة ملائمة تأتون فيها من الأعمال ما يَشعُر معه بخطئه. وهو إذا لم يُخطئ قَطُّ لم تَكْمُل معرفته، وهو فضلًا عن ذلك لا يحتاج إلى معرفة طُبغرافية البلد معرفة تامة، بل يحتاج إلى وسيلة الاطلاع عليها، وليس من المهم كثيرًا أن يجمع في رأسه خرائط، وذلك على أن يتمثَّل جيِّدًا ما تُمثِّلُه، وعلى أن يكون لديه فكرٌ واضحٌ عن الفنِّ النافع في وضعها، وانظروا إلى الفرق بين معرفة تلاميذكم وجهل تلميذي! هم يَعْرِفون الخرائط، وهو يضعها، وهذه زخارف جديدة يُزيِّن بها غرفته.
واذكروا دائمًا عدم قيام روح منهاجي على تعليم الولد أمورًا كثيرة، بل على عدم إدخالي في دماغه غيرَ أفكارٍ صائبةٍ واضحة، وليس من المهم ألَّا يَعْرِف شيئًا، ولكن على ألَّا يخطئ، ولا أضع في رأسه حقائق إلا لصيانته من الخطأ الذي يتعلَّمُ وضعه في مكانها، ويأتيه الصواب والتمييز ببطء، وتُسرِع المُبتَسَراتُ إليه جملة، والمُبْتَسَرات هي التي تجب وقايته منها. ولكنكم إذا نظرتم إلى العِلم نفسه خُضتم بحرًا لا قعر له ولا ساحل، خُضتُم بحرًا مملوءًا صخرًا لا عود منه مطلقًا. وإذا ما رأيتُ رجلًا مُولعًا بالمعارف يَدَع نفسه تُغوَى بفتونها، فيعدو وراء واحدةٍ بعد الأخرى من غير أن يستطيع الوقوف، اعتقدتُ أنني أرى ولدًا على الشاطئ يجمعُ صدفًا، فيأخذ في حَمْلها، ثُمَّ يُغرَى بما لا يزال يرى فيُلقي ما حَمَلَ ثُمَّ يعود فيأخذه حتى يُثقَلَ بكثرة ما نال فلا يَعرِف كيف يختار، فيرمي جميع ما حاز ويرجِع فارغًا.
وكان الزَّمن طويلًا في الدور الأوَّل من العُمُر، فلم نحاول غير إضاعته خشية سوء استعماله، والأمر هناك عكس ذلك، وليس لدينا ما يكفي لصُنع ما يكون نافعًا، وفكِّروا في اقتراب الأهواء، وفي أنها إذا ما قَرَعت الباب عاد تلميذكم لا ينتبه لغيرها. ويكون دورُ الذكاء الهادئُ من القِصَر ما يمُرُّ معه بسرعة، ويكون من كثرة العادات الضرورية ما يُعَدُّ من الحماقة أن يُرَادَ معه كونه كافيًا لجعْل الولد عالمًا. ولا يَعْنيكم أن تعلِّموه العلوم، بل أن تمنحوه من الذوق ما يُحبُّها معه ومن المناهج ما يتعلَّمها به عندما يصبح هذا الذوق أحسن نشوءًا. ولا ريب في أن هذا مبدأ أساسي لكل تربية صالحة.
وهذا أيضًا وقتُ تعويده بالتدريج إنعامَ النظر في عين الموضوع، ولكن ليس القسر، بل اللذة أو الرغبة، ما يجبُ أن يؤدي إلى هذا الانتباه، ويجب أن يُعنَى كثيرًا بألَّا يُرهقه الانتباه مطلقًا، وبألَّا يُفرَط فيه حتى السَّأم، فارقبوا الأمرَ دائمًا إذَن، ومهما يكُنْ من أمرٍ فدَعُوا كلَّ شيءٍ قبْل أن يسأم؛ وذلك لأن مقدار ما يتعلَّم ليس من الأهمية بمقدار عدم جعله يتعلَّم على الرغم منه.
وإذا سألكم بنفسه فأجيبوه بمقدار ما يجب لتغذية حُبِّ الاطلاع فيه، لا لإشباعه، وإذا ما أبصرتم أنه لا يسأل ليتعلم، بل يَهْذِرُ بإرهاقكم بأسئلةٍ سخيفة، فقِفوا من فَوْرِكم واثقين بأنه عاد لا يكترث للسؤال عن الشيء، ولكن ليستعبدكم لاستنطاقاته؛ ولذا يجب أن يكون التفاتكم إلى الباعث الذي يَحمِلُه على الكلام أكثر مما إلى الكلمات التي يَنطِق بها، ولا يلبث هذا التحذير الذي كان أقل لزومًا حتى الآن أن يصبح بالغ الأهمية حينما يأخذ الولد في التعقُّل.
وتوجد سلسلةٌ من الحقائق ترتبط جميع العلوم بها في مبادئ شاملة، وتنمو بالتعاقب، وهذه السلسلة هي منهاج الفلاسفة، وليس بها ما نُعنَى به الآن، وإنما يوجَدُ مِنهاجٌ مختلفٌ آخر يمكِنُ كلَّ موضوعٍ خاصٍّ أن يستدعيَ به موضوعًا آخر، فيَنِمُّ على ما يليه دائمًا، وهَلُمَّ جَرًّا. وهذا النظام الذي يُغذِّي بفضولٍ مستمرٍّ ما يطلب الجميعُ من انتباه؛ هو النظام الذي يَتَّبِعُه مُعظَم النَّاس، ولا سيَّما اللازم للأولاد. ونحن إذ نَقصِد أن نضع خرائطنا، يجب أن نرسمَ دوائرَ لنصف النهار، وما يكون من نقطتي تقاطعٍ بين ظلال الصباح والمساء المتساوية يُعطي فلكيًّا في الثالثة عشرة من سنيه دائرة نصف نهارٍ رائعة. بَيْدَ أن دوائرَ نصفِ النهارِ هذه تزول، ولا بُدَّ من انقضاءِ وقتٍ حتى تُرْسَم، وهي تقضي بالعمل في عينِ المكانِ دائمًا، وما يُبذَل من كثيرِ عنايةٍ وجهدٍ يُورِثُه سأمًا في نهاية الأمر، وقد أبصرنا هذا، فنتلافاه مقدمًا.
وها أنا ذا داخلٌ دائرة الجزئيات المُطوَّلة الدقيقة، وأسمع تذمُّرَكم أيها القراء فأقتحمه، ولا أريد أن أُساير مَلالكم مُطلَقًا، فأضحِّي بأنفع قِسمٍ من هذا الكتاب، وتحزَّبوا على إسهابي لتحزُّبي على شكواكم.
ونَعُود إلى المنزل، ونتكلم حول بطَّة السوق، ويَعِنُّ لنا أن نُقلِّدَها، ونتناول إبرةً صالحةً مُمغنَطةً جيِّدًا، ونشتمل عليها بشمع أبيض، ونجعلها على شكل بطة على قدْر الإمكان، وذلك على أن تَنفُذَ الإبرةُ جسمَها، وأن يكون الرأس منها مِنقارًا، ونضع البطة على الماء، ونُدني من المِنقار حلْقة مفتاح، ونُبصِر بسرورٍ يَسهُلُ إدراكه اتِّباع البطة للمفتاح كاتِّباع بطة السوق لكِسرة الخبز. وأمَّا ملاحظة الاتجاه الذي تَقِفُ البطة عليه فوق الماء عندما تُترَك ساكنة؛ فهو ما نصنعه في مرةٍ أخرى، وأمَّا الآن فلا نريد أن نفعل أكثر من ذلك لانهماكنا في موضوعنا كليًّا.
وفي المساء نفسِه نعود إلى السوقِ مع خُبزٍ مُعَدٍّ في جيوبنا، ويعود المشعوذُ إلى دوره، فيقول له عُوَيْلِمي الذي لا يكادُ يَملِك نفسَه، إن تمثيلَ هذا الدورِ غيرُ صعب، وإنه يستطيع أن يقومَ بمثله، ويُكَلَّف بذلك، فيُخرِج من جيبِه حالًا كِسرَةَ خُبزٍ مشتملةً على قطعةٍ من الحديد، ويَخفِق فؤادُه عند دُنوِّه من المِنضدة، وترتجف يده تقريبًا عند عرضِه كِسرَة الخبز، وتأتي البطة وتتبعه، ويصرخ الولد وينطُّ فَرَحًا، وما كان من تصفيق الحضور وهُتافهم أدار رأسه وأطار لُبَّه، ومع ذلك يأتي المشعوذُ القانط لتقبيله وتهنئته، ولكي يرجو منه أن يُشرِّفه بحضوره في الغد مرةً أخرى، مُضيفًا إلى ذلك قولَه إنه سيبذُل جُهدَه في جمْع أُناسٍ أكثر من أولئك ليهتفوا لبراعته، ويشمَخُ عُوَيْلِمِي الطبيعيُّ بأنفه ويريد أن يثرثر، وأمنعه من الكلام حالًا، وأعود به مشمولًا ثناء.
والولد حتى الغد يَعُدُّ الدقائق بقلقٍ مُضحِك، وهو يدعو كلَّ مَن يلاقي، وهو يَوَدُّ لو يكون جميع النوع البشريِّ شاهدَ مَجْدِه، وهو ينتظر الساعة بعياء، وهو يسبِقُها، ويُهرَع إلى المُلتَقى، ويجِد القاعة زاخرة، وينفرِج غمُّه حين يدخُلها، ولا بدَّ من تقدُّم ألعابٍ أُخَرَ، ويتفوق المشعوذ ويأتي بالعجائب، ولا يرى الولد شيئًا من كلِّ هذا، ويتململ، ويعرق، ولا يكاد يتنفَّس، ويقضي وقته في مسِّه كِسرَة الخبز داخل جيبه بيدٍ مرتعشةٍ جَزَعًا. وأخيرًا يأتي دوره، ويُقدِّمه المُعلِّم إلى الجمهور مُحتفيًا، ويقترب على استحياء، ويُخرِجُ كِسرَة خبزه. ويا لتقلُّب أمورِ البشر من جديد! لقد صارت البطة الطائعة بالأمس نَفُورًا اليوم؛ فهي تولِّي ذَنَبها وتفِرُّ بدلًا من أن تُقدِّم مِنقارَها، وهي تتجنَّب كِسرَة الخبز واليد التي تَعْرِضها بمثل الجهد الذي أبدته في اتِّباعهما سابقًا، ويحاول ألف مرةٍ على غير جدوَى، ويُسخَر منه تِباعًا، ويتوجَّع الولدُ ويقولُ إنه خُدِع، وإن بطَّةً أُخرى استُبدِلت بالأُولى، ويدعو المشعوِذَ إلى اجتذابها.
ويتناول المشعوذُ كِسرَةَ خُبزٍ من غير أن يجيب، ويُقدِّمها إلى البطة، وتتبع البطة كِسرَة الخبز من فورها، وتأتي اليد التي تجتذبها، ويتناول الولد ذاتَ الكِسرةِ فلا ينال نجاحًا كما في المرة الماضية، وهو يرى البطة تهزأ به وتدور حول الحوض، وأخيرًا يبتعد مرتبكًا تمامًا غير متجرِّئٍ على مواجهة السخريات.
وهنالك يتناول المشعوذ كِسرة الخبز التي كان الولد قد أحضرها ويستخدمها بتوفيقٍ كالذي اتفق لكِسرَته، وذلك أنه يُخرِج الحديدة منها أمام جميع النَّاس، وهذا هُزُوءٌ آخرُ على حسابنا، ثُمَّ إنه يجتذب البطة كما في السابق بهذه الخُبزَة التي أُخليت على ذاك الوجه. وهو يفعل الشيء عينه بكسرةٍ أُخرى قُطِعَت أمام النَّاس من قِبَل شخص ثالث، وهو يَصنَع مثل هذا بقفازه ومن طَرَف إصبعه. وأخيرًا ينأى إلى وَسَط الغرفة ويُعلِنُ بتبجُّحٍ خاصٍّ بمن هم على شاكلته أن بطته ليست أقلَّ إطاعةً لصوته منها لحركة يده، ويُكلِّمُها وتُطيع، ويقول لها أن تذهب إلى ناحية اليمين فتذهب، ويقول لها أن تعود فتعود، ويأمرها بأن تدور فتدور، وتتمُّ الحركة بسرعةٍ وَفْقَ الأمر، ويتضاعف الهُتافُ فيكون خِزيًا علينا بهذا المقدار، ونَنسَلُّ من غير أن يشعر بنا أحد، ونختلي في غرفتنا من غير أن نَقُصَّ خبر نجاحنا على النَّاس كما كُنَّا عازمين عليه.
ويُقرَع بابُنا في صباح الغد، وأفتح فأجِدُ أن المشعوذ هو الطارق، ويشكو بتواضعٍ من سلوكنا، وماذا صنع نحونا حتى نريدَ الإساءة إلى سُمعة ألعابه ونَحرِمَه عيشه؟ وما يكون من عجيب إذن في صنعةِ اجتذابِ بطةٍ من شَمْعٍ حتى يُبتاع هذا الشرف ضَرًّا بمعاش رجل شريف؟ «صدِّقوني يا سادتي، لو كان عندي نُبوغٌ آخرُ لأعيش ما باهيت بهذا مطلقًا، وثِقوا بأن الرجل الذي قضى حياته في ممارسة هذه الصنعة الحقيرة يَعرِفُها أكثر مما تعرفون أنتم الذين يُعنَوْن بها لبضع ساعات. وإذا كنتُ لم أُبدِ لكم في البُداءة أحسنَ ما عندي من حِيَل؛ فذلك لأنه لا ينبغي أن يُبادَر بطيشٍ إلى عَرْضِ ما يُعْرَف، وإني أُعنَى دائمًا بحفظِ أروعِ الحِيَل لإظهاره في الوقتِ المناسب، ولا يزال يوجد لديَّ من الأدوارِ ما أقِفُ به عند حدٍّ كلَّ فتًى قليلِ الفطنة. وبعدُ أيها السادة، ترونني قد أتيتُ مختارًا لأُعْلِمكم ذلك السرَّ الذي حيَّرَكم كثيرًا، راجيًا ألَّا تسيئوا استعماله ضَرًّا بي، وأن تكونوا أكثر احترازًا في المستقبل.»
وهنالك أطلعَنا على جهازه، فرأينا دَهِشين أنه لا يَعدو كونه مغنطيسًا قويًّا حَسَنَ الإعداد، كان يُحرِّكه ولدٌ مُختَفٍ تحت مِنضَدةٍ من غير أن يُشعَر به.
ويطوي الرجل آلته، ونُريد أن نُقدِّم إليه هديةً بعد الشكر له والاعتذار إليه، فيرفُضها ويقول: «كلا يا سادتي، لا أكون مَدينًا لكم بشُكران حتى أقبلَ عطاياكم، وسأدَعُكم مَدينين لي على الرغم منكم، وهذا هو انتقامي الوحيد، واعلموا وجود جُودٍ في جميع الأحوال، وأجود بحِيَلي من غير أن أُلقي دروسًا عنها.»
وينصرف، ويتركُنا نحن الاثنين خَجِلين جِدًّا، وألوم نفسي على سلوكي سبيلَ التساهل، وأعِدُ الولدَ بأنني سأضع مصلحته في المرتبة الأُولى لمرةٍ أخرى، فأخبره بأغاليطه قبل أن يقترف منها، وذلك لاقتراب الوقت الذي تتغير فيه صِلاتُنا، والذي يجب أن تَعْقُب شدةُ المُعلِّم فيه مجاملةَ الصديق، ويجب أن يَقَعَ هذا التحوُّل بالتدريج، ويجب أن يُبصَر كلُّ شيء، وأن يقع ما يُبصَرُ من مَدًى بعيدٍ جِدًّا.
وفي الغد نعود إلى السوق لنرى الحيلةَ التي عرفنا سِرَّها حديثًا، ونقترب من المشعوذ سُقراطَ حاملين له أعظمَ احترام. ولم نكد نجرؤ على رَفْعِ أعيننا إليه حتى غَمرَنا بضروب الإكرام ووضعَنا في مكانٍ ممتاز، فكان لنا بهذا حِسُّ خِزْيٍ أيضًا، ويقوم بحِيَله كالعادة، ولكنه يتلهَّى بالبطة ويجاريها طويلًا ناظرًا إلينا في الغالب بنظرات المُفاخِر، ونعرِف كل شيء، ولا ننبس ببنت شفة، فلو جرؤ تلميذي على فتح فمه لكان ولدًا يستحقُّ السحق.
وإنَّا، بعد أن علمنا أن المغنطيس يؤثِّر في الأجسام الأخرى، لم يَبْقَ لدينا ما نبادر إليه غيرُ صُنع آلةٍ مشابهةٍ للتي رأينا، وأن نُعِدَّ مِنضدةً مُجوَّفةً وحَوْضًا مبسوطًا على مستوى المِنضَدة مملوءًا ماءً ضحضَاحًا، وأن نُعِدَّ بطةً حسَنةَ الصُّنع … إلخ. ونُنعِمُ النظر حول الحوض غالبًا، فنلاحظ أخيرًا أن البطة الساكنة تَتْبع عينَ الاتجاه دائمًا، ونتتبَّع هذه التجرِبة ونفحَصُ هذا الاتجاه فنجِدُ أنه من الجنوب إلى الشمال. ولا نحتاج إلى ما هو أكثر من هذا؛ فقد وُجِدَت بَوْصَلَتُنا أو ما يَعْدِلها، وهكذا نلج نطاق الفِزْياء.
وتشتمل الأرض على أقاليمَ كثيرة، وتختلف هذه الأقاليم باختلاف درجات الحرارة، وتختلف الفصول اختلافًا محسوسًا كلَّما اقْتُرب من القطب، وتنقبض جميع الأجسام بالبرد وتنبسط بالحر، وأكثرُ ما تُقاسُ به هذه النتيجة في الموائع، وأكثرُ ما تكون محسوسةً في المشروبات الروحية، ومن هنا أتى ميزان الحرارة، والريح تلطِمُ الوجه؛ ولذا فإن الهواء جسمٌ سيَّال، ويُشعَر بالهواء وإن لم تُوجَد وسيلةٌ لرؤيته، واقلِبوا كأسًا في الماء تجِدوا أنه لا يملؤها ما لم تتركوا للهواء مَخرَجًا؛ ولذا يكون الهواء قادرًا على المقاومة، واغْطِسوا الكأسَ أكثر من ذلك في الماء تَجِدوا الماء يَكسِب فضاءً من الهواء من غير أن يَملأ هذا الفضاء تمامًا؛ ولذا يكون الهواء قادرًا على الانقباض إلى حَدٍّ معيَّن، وتَنِطُّ الكُرَةُ المملوءة هواءً مضغوطًا بأحسن مما تكون مملوءةً بأية مادةٍ أخرى؛ ولذا يُعَدُّ الهواء جسمًا مَطَّاطًا، واستلْقُوا في الحمَّام، وارفعوا ذراعكم أُفقيًّا خارج الماء تشعُروا بأنها مُثقَلَةٌ بأوزانٍ هائلة؛ ولذا يكون الهواء جسمًا ثقيلًا، ووازنوا بين الهواء والسيَّالات الأخرى تستطيعوا قياس ثِقَله، ومن هنا أتى ميزانُ الجوِّ والمِمَصُّ والأنبوبُ الهوائي ومُفَرِّغةُ الهواء. ولو بحثتَ في قوانين تَوازُنِ الأجسامِ وتَوازُنِ السوائل؛ لوجدتَها قد قامتْ على تجارِبَ غليظةٍ كهذه، ولا أرغبُ في دخولِ غرفةِ الفيزياء التجريبية لشيءٍ من جميع ذلك، فلا يروقني جميعُ جهازِ هذه الآلاتِ والأدوات؛ فالجوُّ العلميُّ قاتلٌ للعلم؛ وذلك لأن جميع هذه الآلات تخيف الولد أو لأن صُوَرَها تُقاسِمُ ما يجب أن يُبديه من انتباهٍ نحو نتائجها وتستَرِقُ هذا الانتباه.
وأريد أن نصنع جميع آلاتنا بأنفسنا، ولا أريد البدءَ بصنع الآلة قبل التجرِبة، ولكنني أريد بعد أن نُبصِرَ التجرِبةَ مصادفةً مثلًا، أن نخترع الآلة التي تُحقَّق بها، وأُفَضِّلُ ألَّا تكون آلاتُنا متقنةً دقيقة، وأن تكون لدينا أفكارٌ أكثرُ وضوحًا عما يجب أن تكون عليه هذه الآلات وعما يجب أن تؤدي إليه من أعمال، وإني كأوَّل درسٍ عن توازن الأجسام والقُوَى لا أبحث عن الموازين، وإنما أضع عَصًا بالعَرْض على ظَهرِ كُرسيٍّ وأقيسُ بين قِسمَي العصا عند التوازن، وأُضيف إلى الأوزان من ناحيةٍ ومن أخرى، فأجعلُها متساويةً تارةً ومتفاوتةً تارةً أخرى، وأجذب العصا وأدفَعها كما تقضي به الضرورة، فأجدُ أخيرًا أن التوازن ينشأ عن نسبةٍ متقابلةٍ بين مقدار الأوزان وطول العَتَل، وهكذا يصير عُوَيْلِمي الفِزيَويُّ قادرًا على تعديل الموازين قبل أن يراها.
ولا مِرَاء في أن ما يناله الإنسان من معارفَ حَوْلَ الأشياء عن تَعلُّمٍ ذاتيٍّ يكون أكثر وضوحًا وضمانًا من المعارف التي يتلقاها من الآخرين، وأَضِفْ إلى هذا ما يكون من عدم تعويد الإنسان عقلَه أن يخضَع لذي سلطانٍ بدناءة، فضلًا عن ظهوره أكثر براعةً في اكتشافه نِسَبًا وربطه أفكارًا واختراعه أجهزةً مما يحدُث له، عند انتحاله جميع هذه الأمور تلقينًا، من انحطاط ذهنه في البلادة، شأنُ جسم الإنسان الذي يُلبَسُ ويُحذَى ويُخدَمُ دائمًا من قِبَل أُجرائه، ويُجَرُّ من قِبَل خَيْله فيفقد قوة أعضائه وعادتها في آخر الأمر. وكان بوالو يفاخِرُ بأنه عَلَّم راسين نظمَ الشعر بصعوبة، فبين كثيرٍ من المناهج الرائعة لتعلُّم العلوم بأخصر الطرق ترانا محتاجين كثيرًا إلى مَن يَمنَحُنا منهاجًا نتعلَّمُها به مع الجُهْد.
وأكثرُ ما يُشعَرُ به من فائدةٍ في هذه الأبحاث البطيئة المُتعِبة هو أن يُحفظ الجسم في أثناء الدروس النظرية نشيطًا، والأعضاء مَرِنَة، وأن تُدرَّب الأيدي بلا انقطاع على ما ينفع الرجلَ من عملٍ وعادات. وكَثُرَت الآلات التي اختُرِعت لتكون دليلًا لنا في تجارِبنا وتقومَ مقام دِقَّة حواسِّنا، فتؤدي إلى إهمال تمرينها، ويُغني مقياسُ المساحة عن تقدير اتساع الزوايا، وتعتمد العين التي كانت تُقدِّر المسافات بدقة، على السلسلة التي تَذْرَعها عِوضًا منها، ويُعفيني القَبَّان من الوزن الذي كنت أعْرِفه باليد، وكلَّما كانت آلاتُنا متقنةً غَدَت أعضاؤنا غليظةً خُرْقًا، وكلَّما جمعنا آلاتٍ حولنا عُدنا لا نجِدُ منها في أنفسنا شيئًا.
ولكنْ متى بَذلْنا في صُنْع هذه الآلات من الحِذْق ما يُعَوِّض منها، ومتى استعملنا في تكوينها من الفَطَانة ما نستغني معه عنها؛ كان هذا غُنْمًا بلا غُرْم، وكان هذا إضافةَ فنٍّ إلى الطبيعة، وصِرْنا أكثرَ دِقةً من غير أن نصبح أقلَّ مهارة، وإذا ما شَغَلْتُ الولدَ في مَصنَعٍ بدلًا من تغرِيَته على الكتب عَمِلَت يداه نفعًا لذهنه، وأضحى فيلسوفًا مع اعتقاده أنه ليس سوى عامل. ثُمَّ إنه يُوجَد لهذا التمرين من المنافع الأخرى ما أتكلم عنه فيما بعد، فيُرى كيف يُمكِن أن يُرْقى من الرياضات الفلسفية إلى وظائف الرجل الحقيقية.
ومما قلتُ سابقًا إن المعارف النظرية الصِّرْفة لا تلائم الأولاد مُطلَقًا، حتى مَنْ يَدنو من سنِّ المراهقة، ولكن من غير إدخالٍ لهم ضِمْنَ نِطاقِ الفيزياء، اصنع على الخصوص ما يرتبط به بعضُ التجارِب في بعض، وذلك بشيءٍ من الاستنباط؛ وذلك ليستطيعوا بهذا التسلسل أن يَضَعوها منتظمةً في أذهانهم، وأن يذكُروها عند الحاجة؛ فمن الصعوبة بمكانٍ أن تستقر الأعمال، حتى البراهينُ المنعزلة، بذاكرتهم عند عدم وجود وسيلةٍ تردُّها إليها.
وفي البحث عن سُنَن الطبيعة ابدَءوا دائمًا بأكثر الحادثات شيوعًا وأشدِّها ظهورًا، وعوِّدوا تلميذَكم عدمَ عَدِّ هذه الحادثات عِلَلًا، بل وقائع، وأتناول حجرًا، وأزعُم أنني أضعه في الهواء وأفتح يدي، ويَسْقُط الحجر، وأُبصِرُ إميلَ منتبهًا لما أفعل، وأقول له: لِمَ سَقَط هذا الحجر؟
وأيُّ ولد يَقْصُر عن فهْم هذا السؤال؟ لا أحد، ولا إميلَ أيضًا، وذلك ما لم أكُن قد بذلتُ جهدًا كبيرًا في تعليمه عدمَ الجواب عنه. وسيقول الجميع إن الحجر يسقُط لأنه ثقيل، وما الثقيل؟ هو الذي يسقط، أيسقُط الحجر لأنه يسقُط إذن؟ وهنا يتوقَّف فيلسوفي الصغير جِدِّيًّا، وهذا هو درْسُه الأوَّل في الفيزياء النظرية، وسواءٌ أأفاده هذا الدرس على هذا الوجه أم لم يُفِدْه كان هذا الدرس صائبًا دائمًا.
وكلَّما تقدَّم الولدُ ذكاءً حَمَلَتْنا عواملُ مهمةٌ أخرى على كثير من الحَذَر في اختيار أشاغيله، وهو إذا ما انتهى إلى معرفةِ نفسه بما فيه الكفاية ليتمثَّل ما يقوم عليه رفاهُه استطاع من فَوره أن يُدرِك من العلائق التي تكون على شيءٍ من الاتساع للحكم فيما يلائمه وما لا يلائمه، وهو يكون حينئذٍ في حالٍ يَشْعُرُ معها بالفرق بين الجِدِّ والهَزْل، فلا يَعُدُّ هذا غيرَ إراحةٍ لذاك. وهنالك يُمكِن الأمورَ ذات النفع الحقيقي أن تدخُل ضِمْن دروسه، وأن تُلزمه بتطبيقٍ لها أثبت مما يُعيرُه من الأُلْهُوَّات البسيطة. ومن شأن قانون الضرورة الناشئ دائمًا أن يُعَلِّمَ الإنسان باكرًا عَمَلَ ما لا يَروقه اجتنابًا لسوءٍ يؤذيه أكثرَ من ذاك، وهذه هي عادةُ الحَذَر، وعن هذا الحَذَر الحسن الترتيب أو السيئ التنظيم ينشأ كلُّ حكمةٍ بشريةٍ أو بؤسٍ بشري.
وكلُّ إنسانٍ يريد أن يكون سعيدًا، ولكنَّ كونَ الإنسان سعيدًا يقضي ببدءِ الإنسان أن يَعْرِف ما السعادة، وتكون سعادةُ الرجلِ الفطريِّ بسيطةً بساطةَ حياته، وهي تقوم على عدم ألَمِه، وهي تتألف من الصحة والحرية والضرورة، وغيرُ هذا سعادةُ الإنسان الأدبي، ولكن ليست هذه موضوع البحث هنا، ولا أكرر كثيرًا أنه لا يوجد غيرُ الأشياء الحسية ما يُمكن أن يكترث له الأولاد، ولا سيَّما مَن لم يُوقَظ زهوُهم، ومَن لم يُفسَدوا قَطُّ بُسمِّ الرأي.
وإذا ما أبصَرَ الأولادُ احتياجاتِهم قبل أن يُحِسُّوها نَمَّ هذا على سابق تقدُّم ذكائهم كثيرًا، فيأخذون في معرفة قيمة الوقت، وهنالك يكون من المهمِّ أن يُعَوَّدوا استخدامه في الأمور المفيدة، ولكنْ على أن تكون هذه الفائدة مما يُبصِرُه مَنْ في سِنِّهم، وأن تكون في متناوَل مداركهم. ولا ينبغي أن يُعرَض عليهم حالًا كلُّ ما يرتبط في النظامِ الأدبيِّ وعادة المجتمع؛ فمن السخافة أن يُطالَبوا بملازمة أمورٍ قيل لهم بإبهامٍ إنها تنطوي على خيرٍ لهم من غير أن يَعرِفوا ما هذا الخير، ووُكِّد لهم أنهم ينتفعون بها إذا ما صاروا كِبارًا، وذلك من غير أن تكون لهم الآن أيةُ مصلحةٍ في هذه الفائدة المزعومة التي لا يستطيعون فهْمَها.
ومن المهم أن يَعرِف الرجلُ أمورًا كثيرة لا يُمكِن الولدَ أن يدرك فائدتها، ولكن هل يجب، وهل يمكن أن يتعلَّم الولد كلَّ ما يهمُّ الرجلَ أن يَعْرِفه؟ واسْعَوا في تعليم الولد كلَّ ما هو صالحٌ له تَرَوا أن هذا يستغرق جميعَ وقته، ولِمَ تريدون أن يَعكف الولد على دروسِ عُمُرٍ قليلِ الاطمئنان إلى بلوغه ضِرارًا بدروسٍ تلائمه اليوم؟ وستقولون: «ولكن أيكون من الوقت ما تتعلم فيه ما يَجبُ أن يُعرَف عندما يَحِلُّ الوقتُ الذي تستعمله فيه؟» وأجهَلُ هذا، ولكن الذي أعْرِف هو أن من المتعذر تَعلُّمَه قبل الأوان؛ وذلك لأن التجرِبة والشعور مُعلِّمانا الحقيقيان، وما كان الرجلُ ليَعْرِف ما يلائم الرجل إلا في الأحوال التي يوجَدُ فيها. ويَعْرِف الولدُ أنه صُنِع ليصير رجلًا، وتُعَدُّ جميعُ الأفكارِ التي يُمكِنُ أن تكون لديه حَوْلَ حال الرجل فُرَصَ تعليمٍ له، غير أنه يجب أن يبقى جاهلًا جهلًا مطلقًا للأفكار التي تدور حول تلك الحال ولا تكون في متناوله، وليس جميع كتابي غيرَ دليلٍ مستمرٍّ على هذا المبدأ في التَّربية.
ومتى انتهينا إلى إعطاء تلميذنا فكرةً عن كلمة «مفيد» كانت لدينا وسيلةٌ كبيرةٌ أخرى للسيطرة عليه؛ وذلك لأن لهذه الكلمة فعلًا عظيمًا فيه ما دام لا يُوجَدُ لها سوى معنًى واحدٍ مناسبٍ لسنِّه، وما دام يُبصِر فيها بوضوحٍ ما يلائم رفاهيته الحاضرة. وأمَّا أولادكم فلا عَمَلَ لهذه الكلمة فيهم مطلقًا؛ وذلك لأنكم لم تُعنَوا بإعطائهم فكرةً عنها تكون في متناوَلهم، ولأنه يُعهَدُ إلى آخرين دائمًا أن يتداركوا ما يكون مفيدًا لهم، فلا يحتاجون إلى التفكير بأنفسهم في ذلك مطلقًا، ولا يَعْرِفون ما الفائدة.
وما فائدة ذلك؟ هذه هي الكلمة المقدسة من الآن فصاعدًا، هذه هي الكلمة المحدِّدةُ بيني وبينه لجميع أفعال حياتنا، وهذا هو السؤال الذي يَتْبع من ناحيتي اتِّباعًا لا مراءَ فيه جميعَ الأسئلة، فيَصلُح زاجرًا لتلك الأسئلة الكثيرة السخيفة المُمِلَّة التي يُضنْي بها الأولادُ بلا مَهْلٍ وعلى غير جدْوَى، جميعَ مَن يحيطون بهم؛ وذلك ليمارسوا نحوهم نوعًا من السلطان أكثرَ من قصدِهم أن يفوزوا بفائدةٍ ما. ولا يَسأل إلا كما كان يسأل سُقراطُ ذلك الذي يُعلَّم، كأهمِّ درسٍ يُلقَى عليه، ألَّا يرغب في معرفةِ شيءٍ غيرِ نافع، فلا يَطرَحَ سؤالًا من غير سبب؛ وذلك لأنه يَعْرِف أنه سيُطلَب منه أن يُبيِّن سببَه قبل أن يَظْفَرَ بجوابٍ عنه.
ورَوْا أيَّةُ آلةٍ قويَّةٍ أضعُ بين أيديكم لتؤثِّروا في تلميذكم، وبما أنه لا يَعْرِف سببَ أيِّ شيءٍ فإنكم تستطيعون أن تحمِلوه على السكوت متى أردتم. وعلى العكس، ما أعظمَ ما تَجِدون في معارفكم وتجربتكم من نَفْعٍ في إطلاعه على فائدة جميع ما تُقدِّمون إليه! وذلك لأنه من غير أن تُنسَبوا إلى الخطأ ينطوي وضعُكم هذا السؤالَ له على تعليمه أن يَضَعَ لكم عينَ السؤال بدَوْره، ويجب عليكم أن تتوقَّعوا في كلِّ ما تَعرِضون عليه فيما بعد أن يسير على مثالكم، فلا يفوته أن يقول لكم: «وما فائدة ذلك؟»
وقد يكون هنا أصعبُ شَرَك يجتنبه مُعلِّم، وذلك أن الولد عند طَرْح سؤاله إذا لم تحاولوا غيرَ الخروج من المأزق، فقدَّمتم إليه سببًا عنه لا يستطيع أن يُدْركه؛ يرى أنكم تستندون في دليلكم إلى أفكاركم لا إلى أفكاره، فيعتقد أن ما تقولون له صالحٌ لِسنِّكم لا لِسنِّه، فيعود غيرَ معتمدٍ عليكم، وهنالك كلُّ الخسران. ولكن أين المُعلِّم الذي يتفضَّلُ بالوقوف فجأةً ويعترف بخطئه أمام تلميذه؟ إن الجميع يتَّبِعُ قاعدةً قائلةً بعدم الاعتراف حتى بالخطأ الذي يقترف فعلًا، وأمَّا أنا فأتخذ قاعدةً قائلةً بالاعتراف حتى بالخطأ الذي لم أصنع، وذلك عندما أعجِزُ عن بَسْطِ أسبابي ضِمْن متناوَله. وهكذا، بما أن سلوكي يقوم على الوضوح في نفسه دائمًا، فإنه لا يرتاب منه دائمًا، وبهذا أحتفظ بأعظمِ اعتمادٍ حين أفترض لنفسي خطأً يكتمون مِثْلَه عند صدوره عنهم فِعْلًا.
وأوَّلُ ما يجب أن يَخْطُر ببالكم نُدرَةُ عَرْضِكم عليه ما يُلزَم بتعلُّمه؛ فهو الذي يجب أن يَرْغبَ فيه، وأن يبحث عنه وأن يجِدَه، وعليكم أن تضعوه ضِمْنَ متناوَله، وأن توُلِّدوا فيه هذه الرغبة بلباقة، وأن تُجهِّزوه بوسائل قضائها، ومن ثمَّ يجب أن تكون أسئلتكم قليلة الوقوع، ولكن مع حُسن الاختيار. وبما أنه يكون لديه ما يَطْرَح عليكم من الأسئلة أكثرَ مما تَطْرَحون عليه بدرجاتٍ فإنكم تكونون أكثرَ سِتْرًا دائمًا، وفي حالٍ تسألونه معها غالبًا: «ما فائدة معرفة ما تسأل عنه؟»
ثُمَّ بما أن مما يهمُّ قليلًا أن يَعْلَم هذا أو ذاك، على أن يُحسِنَ تَمَثُّلَ ما يتعلَّم واستعمالِ ما يتعلَّم؛ فإنه يَحْسُن عدمُ إعطائه إيضاحًا صالحًا عما تقولون له، عندما يُعْوِزُكم هذا الإيضاح، ولكن لا تتردَّدوا في أن تقولوا له: «ليس لديَّ جوابٌ حسنٌ أعطيك إياه، كنتُ على خطأ، فدَعْنا نَطرَح الموضوعَ جانبًا.» وإذا كان درسُكم في غيرِ محلِّه بالحقيقة، فلا ضَيْرَ عليكم أن تتركوه تمامًا، وهو إذا لم يكن هكذا لم تَلْبَثوا أن تَجِدوا مع قليلٍ من العناية فرصةَ جَعْل فائدته أمرًا محسوسًا.
ولا أُحبُّ الإيضاح بالكلام مطلقًا، فلا يُعيرُه الشُّبَّانُ غيرَ انتباهٍ قليل، وهم لا يحفظونه أبدًا، فالأشياءَ! الأشياءَ! ولن أكرِّر بما فيه الكفاية كوننا نمنَحُ الكلماتِ قدرةً كبيرة، فبِتربيتنا القائمة على الثرثرة لا نصنع غير ثَرْثارِين.
بَيْدَ أن إميل الذي نُشِّئَ تنشئةً أكثرَ خشونة، والذي نُلاقي عناءً كبيرًا في تعليمه فكرةً صعبة، لا يستمع لشيء من جميع هذا، وهو يهرُبُ عند أوَّل كلمة لا يفهَمُها مُتبَخْتِرًا حول الغرفة تاركًا إياي أُسهِبُ في الكلام وحدي. ولنبحث عن حلٍّ أخشنَ من ذاك، فلا قيمة لجهازي العلمي عنده.
وقد كُنَّا نلاحظ موضعَ الغابة الواقعة شمالَ مُونْمورَنْسي عندما قاطعني بسؤاله المزعج، وهو: «ما فائدة هذا؟» وأقول له: «الحقُّ معك، ولكن دعنا نُفكِّر في الأمر مليًّا، فإذا ما وجدناه غير صالحٍ لشيءٍ لم نَعُد إليه؛ وذلك لأن الأُلْهُوَّات المفيدة لا تُعوِزنا.» ونجد شيئًا آخرَ نفعله مُعْرِضين عن الجِغرافية بقية يومنا.
وفي صباح الغد أقترحُ عليه القيامَ بنُزهة قبل الفطور، ولا يطلُب ما هو أحسن من هذا، ويبدو الأولاد مستعدين للعدوِ دائمًا؛ ولهذا ساقان صالحتان، ونَصعد في الغابة، ونجوب المروج، ونَتِيه، ولا نعرف أين نحن. وعندما أردنا العودَ لم نَستَطِع أن نجدَ طريقنا. ويمر الوقت ويُقبِلُ الحَر، ونجوع، ونُسرِع، ونهيم على وجوهنا عبثًا، ولا نجد في كلِّ مكانٍ غيرَ الغاب والمقالع والسهول، ولا نجِدُ مُعلِّمًا نهتدي به، ونزيد حَرًّا وتَعَبًا وجوعًا، ولا نزيد بسيرنا إلا تَيَهانًا، وأخيرًا نجلِسُ للاستراحة والتشاور، وأفترض أن إميلَ نُشِّئ كأي ولدٍ آخر؛ فلا يُشير مطلقًا، ويبكي ولا يَعْرِف أننا عند باب مُونْمُورنْسي التي يحجُبها عنَّا دَغَل، غير أن هذا الدَّغَلَ غابةٌ في نظره، وولدٌ في مثل قامته يُدفَن في الدَّغل.
ونقضي بضع دقائق صامتِين، وأقول له مع شيء من القلق: «أي إميلي العزيز، ما نصنع للخروج من هنا؟»
واعْلَموا أنه إذا لم يَقُلْ هذه الجملة الأخيرة، فإنه يُفكِّر فيها ولا حَرَجَ، وذلك بشرط ألَّا أكون الذي يقولها، وثِقوا كما هو الواقع بأنه لن ينسى درسُ هذا النهار مدى حياته، وذلك بدلًا من أن ينساه في الغد لو كنت قد اقتصرت على افتراضه له في غرفته، فيجب الكلام ما أمكنت الأفعال، وألَّا يُقالَ غيرُ ما يُستطاع من الأعمال.
ولا يَتوَقَّع القارئ أنني أبلُغ من ازدرائه ما أورد له مثلًا عن كلِّ نوعٍ من الدرس، ولكن مهما تكُن المسألة فإنني لا أستطيع أن أُحثَّ المُعلِّم على قياس برهانه بقابلية التلميذ؛ وذلك لأن الخطر كما قلت ليس فيما لا يَفهم مطلقًا، بل فيما يعتقد أنه يفهمه.
ومما أذكُر أنني أردت مَنْحَ أحدِ الأولاد مَيْلًا إلى الكيمياء، وذلك بعد أن أطلعتُه على كثيرٍ من الرواسب المعدِنية، فأوضحت له كيف يُصنَع المِداد، وقلتُ له إن سواده ينشأ عن حديدٍ مُجزَّأ تجزئةً دقيقة، منفصلٍ عن الزاج، وراسبٍ بسائل قلويٍّ. وبينما كنت قائمًا بإيضاحي العلمي إذ قاطعني الغادر الصغير بسؤالٍ كنت قد علَّمته إياه، وأقع في حَيرة كبيرة.
يُغَشُّ كثيرٌ من الغِلال لإظهاره أحسن من حقيقته، ويَخْدَعُ هذا الغِشُّ العين والذوقَ، ولكنه ضار، ويجعل الشيء المغشوش بظاهره الجميل أسوأ مما كان عليه سابقًا.
وتُغشُّ المشروبات، ولا سيَّما الخمر؛ وذلك لصعوبة اكتشاف الغش، ولأن الخادع يُعطَى ربحًا كبيرًا.
وتُغشُّ الخَمر المُزَّة أو الخضراء بالمُرْداسَنْج، والمُرْداسَنج مُحَضَّرٌ من الرصاص، والرصاص إذا رُكِّب مع الحوامض أسفَر عن مِلْحٍ حُلْوٍ مُعَدِّلٍ لحموضة الخمر، ولكنه سامٌّ لمن يتناوله؛ ولذا فإن من المهمِّ أن يُعْرَف قبل شُرب الخمر المُشتبه فيها، هل هي مُرْداسَنْجية أو لا، وهذا ما أصنع لاكتشاف ذاك.
لا تشتمل الخمرُ على روحٍ ملتهبٍ فقط، كما أبصرتم من العَرَق الذي يُستخرج منها، بل تشتمل على الحامض أيضًا، كما يُمْكِنكم أن تَعرِفوا ذلك من الخلِّ أو الثُّفْلِ الذي يُستَخرَج منها كذلك.
وللحامض علاقةٌ بالموادِّ المعدِنية، وهو يتحد معها بالانحلال تكوينًا لملحٍ مركَّب كالصدأ الذي ليس سوى حديدٍ مُنحلٍّ بالحامض المشتملِ عليه الهواء أو الماء، وكالزِّنجار الذي ليس سوى نحاسٍ منحلٍّ بالخلِّ.
غير أنه يوجد لذات الحامض علائقُ بالمواد القلوية أكثر مما بالمواد المعدِنية، وذلك من حيث كون الحامض محمولًا، بتدخُّلٍ من الأُولى في الأملاح المركَّبة التي حدثتكم عنها، على إرخاء المعدِن المتحِد به ليرتبط في القِلْي.
وهنالك تَرْسُب المادة المعدِنية، التي خرجت من الحامض المُمْسِك لها منحلة، وتجعَلُ المائعَ كثيفًا.
ولِذا فإن إحدى تَيْنِك الخمرَيْن إذا كانت مُرْداسَنجية فإن حامضها يُمسك المُرْداسَنج منحلًّا، فإذا صببتُ المائع القلوي عليها فإن الحامض يُحمَلُ على إطلاق المُرداسَنْج ليتَّحد بالقِلْي، وبما أن الرصاص يعودُ غير منحلٍّ فإنه يظهر ثانيةً ويكدِّر المائع، ثُمَّ يرسُب في أسفل القَدَح.
ثُمَّ أصُبُّ من شرابي القلويِّ في القدحَيْن تتابعًا، فأمَّا قدح خمري المنزلية فيبقى رائقًا شفَّافًا، وأمَّا الآخر فيُعكَّر في ثانية، فإذا ما انقضت ساعةٌ رُئي الرصاص راسبًا رسوبًا واضحًا في أسفل القدح.
فتلك هي الخمر الطبيعية الصافية التي يَصْلُحُ شُرْبُها كما أقول مُكرِّرًا، وهذه هي الخمر المغشوشة التي تَسُمُّ، ويُكتَشَفُ هذا بذات المعارف التي تسألونني عن فائدتها، والذي يَعْرِف جيِّدًا كيف يُصْنَع الحِبْرُ يَعْرِفُ الخمرَ المغشوشة أيضًا.
وقد كنتُ مسرورًا بمثالي كثيرًا، ومع ذلك فإنني أرى عدمَ وَقْفِه لنظر الولد مطلقًا، وكان لا بُدَّ لي من قليلِ وقتٍ حتى أشعُرَ بأنني لم آتِ غيرَ حماقة، وإني من غير بحثٍ في أن من المتعذر على ولدٍ في الثانية عشرةَ من سِنِيه أن يتتبَّع إيضاحي، أرى أن فائدة هذه التجرِبة لا تدخل نِطاق ذهنه؛ وذلك لأنه إذ يذُوق الخمرَيْن يجدهما صالحتَين، فلا يُعِيرُ أيَّ فكرٍ من كلمة الغِشِّ التي رأيت أنني أوضحتها له جيِّدًا، حتى إنه لم يكن للكلمتَين الأخريَيْن (الوبيل والسُّمِّ) أيُّ معنًى عنده؛ فهو قد كان في مثل حال مؤرخ الطبيب فِليب، وهذه هي حال جميع الأولاد.
ولا وجود عندنا لما بين المعلولات والعلل من صِلاتٍ لا نُبصِرُ ارتباطَها، كما أنه لا وجودَ عندنا لِما ليس لدينا عنه فِكْرٌ من الخير والشر، كما أنه لا وجود عندنا لما لا نُحِسُّ من الاحتياجات مطلقًا، ومن المُحال أن نكترث بهذه الأمور لصنع أمورٍ ترتبط فيها. ويُبصِرُ ابنُ الخامسة عشرة سعادةَ الرجل الحكيم، ويُبصر ابن الثلاثين جلال الفردوس، ولا يُبذَل غيرُ مجهودٍ قليلٍ لنيلهما إذا لم يُتمثَّل كُلٌّ منهما، وإذا ما وقع تمثُّلُهما لم يُبذَل غير مجهودٍ قليلٍ أيضًا عند عدم الرغبة فيهما، وعند عدم الشعور بملاءمتهما لنا. أجل، إن من السهل إقناع ولدٍ بأن ما يُرَادُ تعليمه إياه نافع، ولكن إقناعه لا يُعَدُّ شيئًا إذا لم يُعرَفُ كيف يُحمَلُ على اعتقاده؛ فمن العبث أن يجعلنا العقلُ الهادئ نستحسن أو نستهجن، وليس غير الولع ما يُسيِّرُنا، وكيف نُولَع بمنافعَ لا وجود لها عندنا بَعْد؟
ولا تُطلِعوا الولدَ على شيءٍ لا يستطيع أن يراه، وبينا تكون البشرية غريبة عنه تقريبًا ولا يمكن رفْعه إلى حال الإنسان، أنزِلوا الإنسانَ إلى حال الولد من أجلِه، وبينا تُفكِّرون فيما يُمكِن أن يكون نافعًا له في دَورٍ آخَرَ من العُمُر لا تُحدِّثوه عن أمرٍ غيرِ ما يرى الآن فائدته. ثُمَّ لا تقابلوا بينه وبين الأولاد الآخرين مقابلةَ قياس، ولا تُحدِثوا منافساتٍ ولا مباريات، ولا مسابقاتِ عدوٍ أيضًا، وذلك عندما يأخذ في التعقُّل، فأفضِّل مائة مرة ألَّا يتعلَّمَ ما لا يتعلَّمُ إلا عن حسدٍ وزَهو، وإنما أُدوِّن في كلِّ عامٍ ما يتفق له من تقدُّم، فأقابل بين هذا وما يتمُّ له في العام القادم، وأقول له: «لقد نموت كثيرًا، وهذا هو الخندقُ الذي وثبت عليه والثِّقْل الذي حملتَه، وهذا هو البُعد الذي رميت إليه حصاةً والميدان الذي قطعته عدوًا بنَفَس واحد … إلخ. ولنرَ الآن ما أنت صانع.» وهكذا فإني أحرِّضُه من غير أن أجعله حاسدًا لأحد، وإذا أراد أن يتفوَّق على أعماله السابقة فليَصْنَع، فلا أرى ضررًا في منافسته لنفسه.
وأمْقُتُ الكتبَ، والكتبُ لا تُعلِّمُ غيرَ الكلام حول ما لا يُعلَم، ويُرْوى أن هِرْمِس نقش أصول العلم على أعمدةٍ حفظًا لِمَا اكتشفَ من طوفانٍ يقع، فلو طَبَعها في رءوس النَّاس لُنقِلَت جيلًا بعد جيل؛ فالأدمغة الحسنة هي أضمن ما تُنقَش عليه المعارف البشرية.
أفلا توجدُ وسيلةٌ يُقرَّب بها بين دروسٍ كثيرةٍ مبعثرةٍ في كتبٍ كثيرة، فتُجمَع في موضعٍ مشتركٍ يَسهُل أن تُرى فيه، ويكونَ من الممتع أن تُتَّبَع عنده، ويُمكِنَ اتِّخاذُها مُغريةً حتى في ذلك الدَّور من العُمُر؟ ولو أمكن اكتشافُ حالٍ تبدو فيها جميع احتياجات الإنسان الطبيعية محسوسةً في ذهن الولد، وحيث تتقدَّم وسائل قضاء هذه الاحتياجات متعاقِبةً بعين السهولة؛ لوجب أن تُعطى مُخيِّلَتُه أوَّل تمرينٍ برسم تلك الحال رسمًا حيًّا ساذجًا.
أيها الفيلسوف الهُمام، أرى اشتعال مُخيِّلتك، لا تُزْعِج نفسك؛ فتلك حالٌ عُرِفَت سابقًا، وقد وُصِفَت بأحسنَ كثيرًا من وَصْفك إياها بنفسك، وهذا من غير إجحافٍ بك، وذلك مع أعظمِ حقيقةٍ وأكثرِ بساطةٍ على الأقل. وبما أنه لا بدَّ لنا من الكتب على الإطلاق فإن لدينا من الكتب، كما أرى، ما يُزوِّد بأفضلِ رسالةٍ في التَّربية الطبيعية، وسيكون هذا أوَّلَ كتاب يقرؤه إميل، وستتألَّف من هذا الكتاب وحدَه مكتبتُه لزمنٍ طويل، وسيحتلُّ مكانًا ممتازًا في كل وقت، وسيكون المتنَ الذي لا تكون أحاديثُنا حول العلوم الطبيعية غيرَ شَرْحٍ له، وسيُتَّخذ دليلًا في أثناء تقدُّمنا نحو حُسن الرأي، وستروقنا مطالعته دائمًا ما ظلَّ ذوقُنا غيرَ فاسد. وما هذا الكتاب العجيب إذن؟ أهو أرِسطو؟ أهو بليني؟ أهو بوفون؟ كلا، وإنما هو روبنسُن كرُوزو.
رُوبنسُن كروزو في جزيرته، هو وحيدٌ محرومٌ مساعدةَ أمثالِه وأدواتِ جميع الصنائع، وهو مع ذلك يتدارك معاشَه ويُدبِّرُ بقاءه، حتى إنه ينال شيئًا من الرفاهية، وهذا أمرٌ نافعٌ في كل دَور من العُمُر، ويوجد ألفُ وسيلةٍ لجعْله مقبولًا لدى الأولاد، وإليك كيف نَبلُغُ الجزيرة القفرَ التي صَلَحَت للقياس في البُداءة. وأوافق على أن تلك الحال ليست حال الرجل الاجتماعي، ومن المحتمل ألَّا تكون جزيرة إميل، ولكنها عينُ الحال التي يجب أن تُقدَّر جميع الأحوال الأخرى عليها، وتُرَى أضمن وسيلةٍ للترفُّع عن المُبتسَرات، وتنظيم الأحكام وَفْقَ ما بين الأمور من علاقاتٍ حقيقية، في وضع الإنسان نفسه موضع الرجل المنعزل، وفي حكمه في الأشياء كما يحكم هذا الرجل المنعزل ناظرًا إلى فائدتها الخاصة.
وإذا ما أُزيل كلُّ حشوٍ من هذه القصة وُجِدَ أنها تبدأ بغرق سفينة روبنسن بالقرب من جزيرته، وأنها تنتهي بوصول السفينة التي حضرت لإخراجه منها، فيكون هذا لهوًا ودرسًا لإميلَ معًا، وذلك في دَور عُمُره الذي هو موضوعنا هنا. وأريد أن يدور بها رأسه، وألَّا ينفك يُعنَى بقَصرِه ومَعْزِه وزَرْعه، وأن يتعلَّم مفصَّلًا في الأشياء — لا في الكتب — جميعَ ما تجبُ معرفته في مثل هذه الحال، وأن يتصور أنه روبنسن بنفسه، وأن يُبصر أنه لابِسٌ جلودًا وطرطورًا وحاملٌ سيفًا كبيرًا، وكلُّ ما عند روبنسن من جهازٍ غليظ، وحائزٌ مِظلَّةً قريبةً منه، فلا يكاد يحتاج إليها. وأريد أن يشغلَ بالَه بما يتخذ من التدابير إذا ما أعْوزَه هذا الشيء أو ذاك، وأن يدرُس سلوكَ بَطَلِه، وأن يبحث في هل أهمل شيئًا، وفي وجود خيرٍ من ذاك يَعْمل، وأن يُقيِّد خطأه، وأن يستفيد منه لكيلا يقع في حالٍ مماثل، فلا يتطرَّق إليكم شكٌّ في عزْمه على إقامة مثل هذه المؤسسة لنفسه؛ فهذا قصرٌ في الهواء لمن هو في عُمُره السعيد حيث لا يُعرَف من السعادة غيرُ الحرية والحاجيَّات.
ويا لَلْوسيلة التي يُجهِّز بها هذا الهوسُ رجلًا ماهرًا لم يجدها إلا ليستعملَها! يكون الولد الذي يبادر إلى إقامة مستودَعٍ في جزيرته أشدَّ حماسةً للتعلُّم من حماسة المُعلِّم للتعليم؛ فهو يريد أن يَعْرِف كلَّ ما هو مفيد، ولا يريد أن يَعْرِف غير هذا. وأنتم تعودون غير مضطرين إلى إرشاده، ولا يكون عليكم غيرُ إمساكه. ولنُسرع إذن في إسكانه هذه الجزيرة ما قَصَرَ سعادته عليها؛ وذلك لاقتراب اليوم الذي لا يُريد فيه أن يعيش في هذه الجزيرة وحدَه، وإن كان يريد أن يستمرَّ على العيش فيها، ولأن «الجُمُعة» التي لا تمسُّه الآن لا تكفيه زمنًا طويلًا.
وتؤدي مزاولة الفنون الطبيعية، التي يكفي رجلٌ واحدٌ للقيام بها، إلى البحث عن الفنون الصناعية التي تحتاج إلى تضافرِ كثيرٍ من الأيدي. أجل، تُمكِن ممارسة الفنون الطبيعية من قِبَل مُنعزلين، تُمكن ممارستها من قِبل متوحشين، ولكن الفنون الصناعية لا يمكن أن تظهر في غير المجتمع، وهي تجعل المجتمع أمرًا ضروريًّا، ويكفي الإنسانُ نفسَه ما عَرَف الاحتياجَ البدنيَّ فقط، ويجعل انتحالُ الفائضِ توزيعَ العملِ والتقسيمَ أمرًا ضروريًّا؛ وذلك لأن الرجل الذي يعمل وحيدًا إذا كان لا يكسِب غيرَ رزقه فإن مائة رجلٍ يعملون متفقين ينالون من الأرزاق ما يعيش منه مئتا رجل؛ ولذا فإنه إذا ما استراح فريقٌ من الآدميين وجب تعاون ذُرعان مَن يعملون لتلافي بطالة مَن لا يعملون شيئًا.
ويجب أن يقوم أعظم جُهْدٍ تَبذُلون على إبعادكم من ذهن تلميذكم جميعَ مفاهيم الصلات الاجتماعية التي لا تكون ضمن متناوَله، ولكن إذا ما حَمَلكم تسلسُل المعارف على إراءته اتِّباع بعض النَّاس لبعض اتِّباعًا متقابلًا فوجِّهوا جميع انتباهه نحو الصناعة والفنون الميكانِيَّة التي تَجعل بعضَهم مفيدًا لبعض، وذلك بدلًا من إراءته ذلك الاتِّباعَ من الناحية الأدبية. وإذا ما أخذتموه من مصنعٍ إلى مصنعٍ فدَعُوه يُجرِّب كلَّ عملٍ يرى، ولا تدَعُوه يتركه من غير أن يَعْرِف تمامًا سببَ كلِّ ما يُعمَل هناك، أو سببَ كلِّ ما يسترعي انتباهه؛ ولذا فاعملوا بأنفسكم، وأعْطُوه المَثلَ في كلِّ موضع، وكونوا تلميذًا في كلِّ مكانٍ لتجعلوا منه أستاذًا، واعلموا أنه ينال في ساعةِ عملٍ من العلم بأمورٍ أكثرَ مما ينال من إيضاحٍ يدوم نهارًا بأسْرِه.
وما يكون أمر تلاميذكم إذا ما تركتموهم ينتحِلون هذا المُبتَسَرَ الأحمق، وإذا ما يسَّرتموه بأنفسكم، وإذا ما رأوْكم تَدْخلون مثلًا حانوتَ صائغٍ برعايةٍ أكبرَ مما تدخلون به دُكَّان قَفَّال؟ وأيُّ حُكْمٍ يساورهم حول أجر الفنون الحقيقيِّ وحولَ قيمة الأشياء الحقيقية عندما يَرَون في كلِّ مكان ثمنَ الوهميِّ مباينًا للثمن المستخرَج من النفع الحقيقي، وأن الشيء كلَّما زاد تكليفًا قلَّ ما يُساوي؟ ومتى تركتم هذه الأفكار تَدْخُل رأسهم فدَعُوا ما بقي من تربيتهم؛ فهم سيكونون كبقية النَّاس على الرغم منكم، وتكونون قد خسرتم جهود أربع عشرةَ سنة.
وإميل، حين يميل إلى تأثيث جزيرته، تكون له طُرُزٌ أخرى في النظر، ومن شأن روبنسن أن كان يوجِّه نظرَه إلى دُكَّانِ حدَّادٍ أكثرَ من توجيهه إلى تَوافهِ سعيد؛ فالحداد كان يَلُوح له رجلًا بالغَ الاحترام، وسعيدٌ كان يلوح له مُمَخْرِقًا حقيرًا.
«خُلِقَ ابني ليعيشَ في العالم، وهو لن يعيشَ مع العقلاء، بل مع المجانين؛ ولذا يجبُ أن يَعْرِفَ جنونَهم ما داموا يريدون أن يُقادُوا بالجنون. أجلْ، قد تكونُ معرفةُ الأشياءِ الحقيقيةِ أمرًا حسنًا، بَيْدَ أن معرفةَ الرجالِ وآرائهم أفضلُ من ذلك؛ وذلك لأن الإنسانَ في المجتمعِ البشريِّ أعظمُ آلةٍ للإنسان؛ فأعقلُ النَّاس هو خيرُ مَن يستعمل هذه الآلة. وما فائدة تلقين الأولاد فكرةً عن نظامٍ خياليٍّ مخالفٍ للنظام الذي يجدونه قائمًا، والذي يجب أن يُرتِّبوا أمورهم على مقتضاه؟ وليكُن أوَّلَ ما تُعطُونهم إياه من الدروس أن يكونوا عقلاء، ثُمَّ تُلْقون عليهم دروسًا يرون بها سبب كون الآخرين من المجانين.»
وهذه هي المبادئ المموَّهة التي يستند إليها حَذَرُ الآباء الزائف في جعل أولادهم عبيدًا لما يُغَذُّونهم به من مُبْتَسَرَات، ولُعَبًا لجُمهورٍ مجنونٍ يَرَون أن يجعلوا منه آلة أهوائهم، وما أكثرَ الأشياء التي يجب أن نَعْرِفها قبل أن نَعْرِف الإنسان! إن الإنسان هو آخرُ ما يَدرُسُ العاقل، وأنتم تقصدون أن تجعلوا منه أوَّل ما يدرُس الولدُ! فابدءوا بتعليمه تقديرَ إحساساتنا قبل أن تُعلِّموه إياها، وهل يُعرَف الجنون عندما يُخطأُ في عَدِّه عقلًا؟ ويقضي كونُ الإنسان عاقلًا بفرْز مَن ليس عاقلًا، وكيف يَعْرِف ولدُكم الرجال إذا كان لا يَعْرِف أن يحكُم في آرائهم ولا أن يَمِيزَ خطأهم؟ ومن السُّوء أن يُعرَف ما يُفكِّرون فيه على حين يُجهَلُ كونُ ما يُفكِّرون فيه خطأً أو صوابًا؛ ولذا فلتكُن الأشياء كما هي أوَّل ما تُعلِّمون ولدَكم، ثُمَّ تعلِّمونه الوجهَ الذي تبدو به لأعيننا، وهكذا فإنه سيَعْرِف أن يقابل بين الرأي الشعبي والحقيقة، وأن يرتقي فوق العوام؛ وذلك لأن المُبْتَسَرات لا تُعرَف بعد أن تُعتَنَق، ولا يقود الرجلُ الشعبَ إذا ما شابهه، ولكنكم إذا ما أخذتم في تعليمه الرأيَ العامَّ قبل تعليمه تقديرَه فاعْلموا أن هذا يَغدو رأيَه ولن تقدروا على إزالته مهما بذلتُم من جُهْد؛ ومِنْ ثَمَّ أرى أنَّ جعْلَ الفتى حصيفًا يستلزم حُسنَ تكوين أفكاره بدلًا من أن نُملي عليه أفكارنا.
وأنتم ترون أني لم أُحَدِّث تلميذي عن الرجال حتى الآن، ولا بُدَّ من أن يكون قد بلغ من الرشاد ما يُصغي معه إليَّ، ولم تكن صِلاته بنوعه من الوضوح بعْدُ ما يستطيع معه أن يحكم في الآخرين بنفسه، ولا يَعْرِف موجودًا بشريًّا غيرَ نفسه، حتى إنه بعيدٌ من أن يَعْرِف نفسه، ولكنه إذا كان لا يحمل غير آراءٍ قليلةٍ عن نفسه فإن هذه الآراء القليلة التي يحمِلُ صائبةٌ على الأقل، وهو يجهلُ ما مكانُ الآخرين، غير أنه يشعر بمكانه ويلزَمُه، وقد ربطناه بسلاسل الضرورة بدلًا من القوانين الاجتماعية التي لا يستطيع معرفتها، وهو لا يكاد يكون غيرَ جسم، فلنُداوم على معاملته كأنه هكذا.
ويوجد نظامٌ ليس أقلَّ طبيعة، وهو أكثرُ صوابًا، تُقدَّرُ الفنون به وَفْقَ العلائق الضرورية التي تربِط بينها، جاعلًا أكثرها استقلالًا في المرتبة الأُولى، وجاعلًا في المرتبة الأخيرة ما يتبَعُ منها أكبرَ عددٍ من غيرها، ويشابه السابقَ هذا النظامُ الذي يُزَوِّد باعتباراتٍ مهمةٍ حَوْل المجتمع العام، وهو يخضع لذاتِ العكس في تقدير النَّاس، وذلك أن استعمالَ الموادِّ الأُولى يتمُّ في الحِرَف غيرِ ذاتِ الشرفِ وغيرِ ذاتِ الرِّبح تقريبًا، وأن هذه المواد كلَّما تقلَّبَت عليها الأيدي زاد أجرُ العمل وصار شريفًا. ولا أبحث في هل من الصواب كونُ الصناعة تكون عظيمةً وتستحقُّ أجرًا في الفنون الدقيقة التي تمنَحُ آخرَ شكلٍ لهذه الموادِّ أكثرَ مما يستحقُّه أوَّلُ عملٍ يُحوِّلها إلى استعمال النَّاس، وإنما أقول في كلِّ شيءٍ إن الفن الذي يكون استعماله أكثرَ عمومًا وأعظم لزومًا هو، لا ريب، ذلك الفنُّ الذي يستحقُّ أكبرَ تقدير، وإن الفنَّ الذي هو أقلُّ ما يحتاج إلى الفنون الأخرى يستحقُّ تقديرًا أكبر مما تستحقه الفنون التابعة؛ وذلك لأنه أكثرَ حريةً وأقربُ إلى الاستقلال؛ فهذه هي القواعد الحقيقية في تقدير الفنون والصناعة، وأمَّا غيرُها فمُرادِيٌّ تابعٌ للرأي العام.
والزراعةُ هي أوَّلُ الفنون وأكثرُها اعتبارًا، وأضعُ الحِدادةَ في المرتبة الثانية، وأضع النجارةَ في المرتبة الثالثة، وهُلمَّ جرًّا، وهذا ما يحكُم به الولدُ ضَبْطًا إذا لم تُغْوِه المُبْتَسَرَات العاميَّة. ويا للتأملات المهمة التي يستخرجها إميلُ من روبنسن حول ذلك! وفيمَ يُفكِّرُ حين يرى الفنونَ لا تتكامل إلا بانقسامها وبتكثيرِ آلاتِ كلٍّ منها تكثيرًا لا حدَّ له؟ وسيقول في نفسه: «إن جميع هؤلاء النَّاس حاذقون بما يُعَدُّون معه من الحمقى. والناظرُ إليهم يعتقد أنهم يخافون ألَّا تنفعَهم أذرُعُهم وأصابعُهم في شيءٍ ما داموا يخترعون آلاتٍ تُغنيهم عنها، وتراهم مُعبَّدين لألفِ فنٍّ حتى يزاولوا فنًّا واحدًا، فكأنه يجب أن تكون لكلِّ عاملٍ مدينة. وأمَّا أنا ورفيقي فإننا نُنفِقُ ذكاءنا في شطارتنا، فنصنع من الآلات ما نستطيع حَمْلَه في كلِّ مكان، وما كان جميعُ أولئك الذين يُباهُون بقرائحهم في باريس ليقدِروا على شيءٍ في جزيرتنا، وهم يكونون تلاميذَ لنا فيها بدَوْرِهم.»
ويا أيها القارئ، لا تَقِفْ هنا عند رؤيةِ التمرين البدني وبراعةِ يدَيْ تلميذنا، ولكن انظُر أيُّ توجيهٍ نوجِّه به ذاك الفضولَ الصبياني، انظر إلى الحِسِّ وروح الاختراع والبصر بالأمور، انظُر أيُّ رأسٍ نُكوِّنُ له، وهو يريد أن يَعْرِف كلَّ شيء، وأن يَعْرِف سببَ كلِّ شيء، في كلِّ ما يَرى وكلِّ ما يَعمَل، وهو يريد دائمًا أن يَرجِعَ إلى الأُولى بين آلةٍ وآلة، وهو لن يقول بافتراض شيء، وهو سيَرفِض تعلُّمَ كلِّ ما يتطلب سابقَ معرفةٍ غير حائزٍ لها، وهو إذا ما رأى صُنْعَ نابضٍ أراد أن يَعْرِف كيف استُخرِج الفولاذُ من المَعْدِن، وهو إذا ما رأى جَمْعَ قِطَعِ صُندوقٍ أراد أن يَعرِف كيف قُطِعَت الشجرة، وهو إذا ما عَمِل بنفسه في كلِّ آلةٍ يستخدمها لم يَفُته أن يقول: «إذا كنتُ غيرَ حائزٍ لهذه الآلة فكيف أستطيع صُنْعَ مثلها أو كيف أستغني عنها؟»
ومع ذلك فإن من الخطأ الذي يَصْعُب اجتنابُه فيما يُولَعُ به المُعلِّم من الأشاغيل هو أن يُفترَض للولد عَينُ هذا الذوق دائمًا، وكونوا على حَذرٍ عندما يستحوذ لَهْوُ العملِ عليكم، من أن يعتريَه سأمٌ فلا يَجرؤ على إظهاره؛ فالولدُ يجب أن يكون بيت القصيد، ويجب أن تكونوا للولد كُليًّا، فتلاحظوه وتَرْقُبُوه بلا انقطاع ومن غير أن يَشعُر، ويجب أن تُبصروا جميعَ مشاعره مُقدَّمًا، وأن تَتلافَوا ما لا ينبغي وجودُه عنده، وأخيرًا يجب أن تشغَلوه بما لا يُحِسُّ معه أنه نافعٌ للشيء فقط، بل أن يكون من عوامل سروره إدراكُه نفعَ ما يصنَع أيضًا.
ويقوم مجتمع الفنون على مبادَلة الصنعة، ويقوم مجتمع التجارة على مبادلة السِّلع، ويقوم مجتمع البنوك على مبادلة النقود والسِّمات، وتتماسك جميعُ هذه الأفكار، وقد اتُّخِذَت جميعُ المفاهيم الابتدائية. وقد طرحنا أُسُسَ جميع هذا منذ الدَّوْر الأوَّل من العُمُر بعَوْنٍ من البستاني رُوبِرْت، والآن لم يبقَ علينا غيرُ تعميم هذه الأفكارِ وبسْطِها بأمثلةٍ كثيرة، وذلك ليُحمَل الولدُ على إدراك الأعمال التجارية التي تُتَّخذُ بنفسها وتُجْعَل أمرًا محسوسًا بجزئيات التَّارِيخ الطبيعي التي تُعنَى بما يُنتِج كلُّ بلدٍ على الخصوص، وبجزئيات الفنون والعلوم التي تُعْنَى بالمِلاحة، ثُمَّ بمشكلة النقل على حسبِ بُعْدِ الأماكن وعلى حسب موقع الأرَضين والبحار والأنهار … إلخ.
ولا يستطيع أيُّ مجتمع أن يُوجَدَ من غير مبادلة، ولا تستطيع أية مبادلة أن تُوجد من غير قياسٍ مشترك، ولا يستطيع أيُّ قياس مشترك أن يُوجَد من غير مساواة، وهكذا فإن القانون الأوَّل لكل مجتمعٍ يقوم على مساواةٍ عَهدِيةٍ سواءٌ بين النَّاس أو بين الأشياء.
وتَجعَلُ المساواة العهدية بين النَّاس — المختلفة عن المساواة الطبيعية — أمرَ الحقِّ الوضعي؛ أي الحكومة والقوانين، أمرًا ضروريًّا، ويجب أن تكون معارفُ الولد السِّياسيَّة واضحةً محدودة، فلا ينبغي أن يَعْرِف شيئًا عن الحكومة على العموم غير ما يناسب حقَّ التملُّك الذي يُوجَدُ لديه فكرةٌ عنه.
وقد أدَّت المساواةُ العهدية بين الأشياء إلى اختراع النقد؛ وذلك لأن النقد ليس غيرَ حدِّ مقابلةٍ بين قيمة الأشياء من مختلف الأنواع. وعلى هذا المعنى يكون النقد رابطةَ المجتمعِ الحقيقية، غير أن كلَّ شيءٍ يُمكن أن يكون نقدًا، وقديمًا كانت الماشية نقدًا، ولا يزال الصَّدَف نقدًا عند كثيرٍ من الأمم، وكان الحديد نقدًا في إسبارطة، وكان الجِلدُ نقدًا في إسوج، ونحن نتخذ نقدَنا من الذهب والفضة.
وبما أن المعادنَ أسهلُ نقْلًا فقد اتُّخِذَتْ وسائطَ جامعةً بين جميع المبادلات، وقد حُوِّلت هذه المعادن إلى نقدٍ توفيرًا للكيْل أو الوزن عند كلِّ مبادلة؛ وذلك لأن سِمَة النقد ليست غيرَ شهادةٍ بأن القطعة الموسومة هكذا تشتمل على هذا الوزن أو ذاك، والأميرُ وحدَه هو صاحب الحقِّ في ضَرْب النقد ما دام وحدَه صاحبَ الحقِّ في الادِّعاء بكَوْن شهادته نافذةً بين جميعِ الشعب.
ويُدرِك أغبى النَّاسِ فائدةَ هذا الاختراع إذا ما أُوضِحَتْ له على هذا الوجه، ومن الصعب أن يقابَل مباشرةً بين أشياءَ مختلفةٍ طبيعةً، كالجُوخ والقمح مثلًا، ولكنه إذا ما وُجِد مقياسٌ مشترَك — أي النقد — سَهُلَ على الصانع والزارع أن يَرُدَّا قيمةَ الأشياءِ التي يريدون مبادلتَها إلى هذا المقياس المشترك، فإذا كان مقدار الجُوج يَعْدِل مبلغًا من النقد وكان مقدارُ القمح يَعدِل كذلك عينَ المبلغ من النقد، فإن الذي يحدث هو أن التاجرَ إذ يأخذ هذا القمحَ في مقابل جُوخِه يكون قد أتى مبادلةً عادلة، وهكذا فإن الأموال المختلفة الأنواع تصيرُ بالنقد صالحةً للقياس مُمْكنًا أن يُقابَل بينها.
ولا تذهبوا إلى ما هو أبعد من هذا فتُدْخِلوا إلى الإيضاح نتائجَ هذا النظام الأدبية، ويجب في كل أمرٍ أن يُحْسَن عَرْض العادات قبل أن يُبْدَى سوءُ الاستعمالات، وإذا كنتم تَزعْمون أنكم تَشْرَحون للأولاد كيف تؤدِّي الرموزُ إلى إهمال الأشياء، وكيف نشأ عن النقد جميعُ أوهام الرأي العام، وكيف يجب أن يكون أغنى البلاد أفقرَها في كلِّ شيء، فإنكم تكونون قد عاملتم هؤلاء الأولادَ كرجالٍ عقلاء — لا كفلاسفةٍ فقط — وتكونون قد ادَّعَيتُم إسماعَهم ما لم يُدرِكْه غيرُ قليلٍ من الفلاسفة.
وما أكثرَ الأمورَ الممتِعة التي يُمكِن أن يُحوَّل إليها فضولُ التلميذ على هذا الوجه من غير أن تُترَك العلائقُ الحقيقيةُ والماديةُ التي تكون في متناوَله، ومن غير أن يُسمَح بتسرُّب فكرٍ في ذهنه لا يستطيع إدراكَه! ولا يقوم فَنُّ المُعلِّم على جعْل الولد يستند في مشاهداته إلى دقائقَ تافهة، بل على تقريبِ ذهنهِ بلا انقطاعٍ من علائقَ يجب أن يَعْرِفَها ذات يومٍ ليحكُم حكمًا صائبًا حول نظام المجتمع المدنيِّ الصالح أو الطالح، ويجب أن يكون المُعلِّم قادرًا على التوفيق بين الأحاديث التي يُلهيه بها وجَوْلاتِ الذهن التي حَبَاه بها، ومسألةٌ مثلُ هذه لا يُمكِن تلميذًا آخرَ أن يلتفت إليها ستُزْعجُ إميلَ ستة أشهر.
ونذهب لتناول الغَداء في منزلِ مُوسِر، ونَجِد استعدادَ عيد، نجِدُ كثيرًا من النَّاس والخَدَم، ونجد كثيرًا من الأطباق وصُحون الأطعمة اللطيفة الفاخرة، وتنطوي عُدَّة النعيم والعيد هذه على أمرٍ مُسْكرٍ لِمن لم يتعوَّدْها، وأُبصِرُ تأثيرَ جميعِ هذا في تلميذي الفتيِّ. وبيْنا تُقدَّم الأطعمة، وبيْنا تتعاقب الآنية، وبيْنا يسود المائدةَ ألفُ حديثٍ صاخب، أدنُو من أُذُن تلميذي وأقول له همسًا: «كم عدد الأيدي التي تناولت ما ترى قبل أن تَصِلَ إلى هذه المائدة؟» وما أكثرَ الأفكارَ التي أُثيرُها في دماغه بهذه الكلمات القليلة! تزول غيوم الهَذَيان حالًا، ويتصوَّر ويتأمَّل ويَحسُب ويضطربُ باله، وها هو ذا يتفلسف منزويًا وحدَه، وها هو ذا يسألني، على حينِ يَهْذي الفلاسفةُ ويَهْذِرون كالأولاد بفعل الخمر أو بفعل الجالساتِ حولَهم، وأمتنع عن الجواب، وأصْرِفه إلى وقتٍ آخَر، ويفرُغ صبرُه، ويَنسى الأكلَ والشرب، ويتحرَّق شوْقًا إلى وُجوده خارجَ المائدة ليحادثني براحةٍ. وأيُّ موضوعٍ يُثيرُ فضوله! وأيةُ عبارةٍ تُوجِب تعليمَه! وما يكون رأيُه — بعقلٍ صحيحٍ لم يَسطِعْ أن يُفسِدَه شيء — في التَّرف عندما يجدُ أن جميعَ بقاعِ العالم تعاونت، وأن من المحتمل أن تكون عشرون مليونًا من الأيادي قد عَمِلَت زمنًا طويلًا، وأن حياةَ الألوف من النَّاس زَهَقَتْ، لِتَعْرِض عليه من الثياب الفاخرة ظُهْرًا ما يُودِع صُوانَه مساء؟
وارقُبُوا بدقةٍ تلك النتائج الخفيةَ التي يستنبطها في فؤاده من جميع هذه المشاهدات، وإذا ما رقبْتموه بأقلَّ مما أفترِضُ أمْكَنَ أن يُحوِّل تأملاتِه إلى معنًى آخَر، فيَعُدَّ نفسه ذا شأنٍ في العالم حين يرى تضافرَ كثيرٍ من الجهود في إعداد غدائه، وإذا ما أحسستم بهذه البرهنة سهُلَ عليكم أن تَحُولوا دون وقوعها، أو أن تمحُوا تأثيرها من فورِكم على الأقل. وبما أنه لا يَعْرِف حتى الآن أن ينتحل الأمورَ إلا بمُتْعتها المادية، فإنه لا يستطيع أن يحكم في ملاءمتها له أو عدمِ ملاءمتها له إلا بالعلائق المحسوسة، وما يكون من مقابلةٍ بين غداءٍ ريفيٍّ بسيطٍ مُعَدٍّ بالتمرين ومُعلَّلٍ بالجوع والحرية والسرور، ووليمته الفاخرة جِدًّا والبالغةِ التنظيم يكفي لإشعاره بأن جميعَ جهازِ المأدبة لم يُنعِم عليه بأية فائدةٍ حقيقيةٍ كانت، وبأن مَعِدته إذْ غادرت مائدة القروي راضيةً رِضاءها عن مائدة الغنيِّ، لم تَكسِب من هذه ولا تلك ما يستطيع أن يدعوه مالًا له في الحقيقة.
ولنتمثَّلْ ما يُمكِنُ المُعلِّمَ في مِثْلِ هذه الحال أن يقول له: اذكُرْ هذين الطعامَين جيِّدًا، وقرِّر بنفسك أيهما أمتعك أكثرَ من الآخر، وأيهما أورثك سرورًا أعظمَ من الآخر، وأيهما أكلت بشهوةٍ وشربت بلذةٍ وضحكت منه بمرحٍ أشدَّ مما اتفق لك بالآخر، وأيهما دام بلا سأمٍ — ومن غير احتياجٍ إلى أن يتجدد بسُمُطٍ أخرى — أطولَ مما دام الآخر؟ ومع ذلك فانظُر إلى الفرق، إن هذا الخبز الأسمر الذي تَجِده جيِّدًا ينشأ عن القمح الذي يحصُدُه هذا الفلاح، وإن خمرَه الغليظة السوداء، ولكن مع إرواءٍ واستمراء، مصنوعةٌ من غلَّة كَرْمه، وإن بياضاته تأتي من قُنَّبه، وتُغزَل في الشتاء من قِبَل امرأته وبناته وخادمته، وإن لوازمَ مائدتِه لا تُعَدُّ بيَدٍ غيرِ يدِ أُسْرته، وإن أقربَ رَحًى وسُوقٍ هما حَدَّا العالَمِ عنده، فما تمتُّعك في الحقيقة، إذنْ، بما تُقدِّمه الأرضُ البعيدةُ وأيدي الرجال على المائدةِ الأخرى؟ إذا كان كلُّ ذاك لا يَعرِض عليك أطيبَ طعام، فما تكون قد كَسَبْتَ من هذا اليُسْر؟ وما مقدارُ ما صُنِعَ منه لك؟ ويُمكِنُ المُعلِّمَ أن يضيف إلى ذلك قوله: لو كنتَ ربَّ المنزل لكان لك أقلُّ نفعٍ في ذلك؛ وذلك لأن ما تَبْذُل من جهدٍ في عَرْض بهجتك على الآخرين يَنْزِع منك هذه البهجة؛ فالعناء واقعٌ عليك، واللذةُ لهم.
وستكون أمثلتي الصالحةُ لولدٍ واحدٍ سيئةً لألفٍ آخرين، وإذا ما اتُّخِذَ روحُها عُرِف جيِّدًا كيف تُغيَّر عند الحاجة، ويتوقف الخيارُ على درْسِ قريحةِ كلِّ واحد، ويتوقف هذا الدرس على الفُرَص التي تَظْهَر بها هذه القريحة. ولن يُتصوَّر أننا نستطيع في السِّنين الثلاث أو الأربع التي نشغلُها هنا أن نمنح الولدَ الموهوب فكرةً عن جميع الفنون والعلوم الطبيعية كافيةً لتعلُّمِها ذات يومٍ من تلقاء نفسه، ولكننا إذ نَعْرِض أمامه جميعَ الموضوعات التي يهمُّه أن يَعْرِفها نضَعُه في حالٍ يَنْمو بها ميلُه ونبوغُه، ويأتي بها أُولى الخُطوات نحو الموضوع الذي تَحْمِلُه إليه قريحته، ونَدُلُّ بها على الطريق التي يجب فَتحُها لمساعَدة الطبيعة.
ولسلسلة المعارف المحدودة — ولكن الصائبة — هذه فائدةٌ أخرى، وهي أن تبدوَ له بروابطها وصِلاتها، وأن تُوضَع كُلُّها في أماكنها بتقديرٍ منه، وأن يُحال فيه دون المُبْتَسَرَاتِ التي يتخذُها معظمُ النَّاسِ عُدَّةَ ما يتعهَّدون من مواهبَ إقصاءً لمن يُغفِلونها، ومَن يَرَ نظامَ الكلِّ جيِّدًا يُبصِرِ المكانَ الذي يجبُ أن يكون للجزء، ومن يرَ الجزءَ جيِّدًا ويَعْرِفْه معْرِفَةً أساسيةً يستطِعْ أن يكون رجلًا عالمًا، ويكون الأوَّل رجلًا حصيفًا، وأنتم تذكُرون أن الحصافةَ هي ما نَقتَرِح اكتسابَه أكثرَ من اكتساب العلم.
ومهما يكن من أمرٍ فإن منهاجي مستقلٌّ عن أمثلتي، وهو قائمٌ على قياس قابليات الإنسان بمختلف أدوار عُمُره، وعلى اختيار الأعمال الملائمة لقابلياته. وأعتقد أن من السهل وجودَ منهاجٍ آخرَ يَلُوح به أنه يُعْمَلُ ما هو أحسن، ولكنه إذا ما كان أقلَّ صلاحًا للنوع والسِّنِّ والجنس، فإنني أشُكُّ في أن يتَّفِقَ له ذاتُ النجاح.
ونحن حين بدأنا هذا الدور الثاني استفدنا من زيادة قُوَانا على احتياجاتنا، حَمْلًا لنا خارجَ أنفسنا. وقد انطلقنا إلى السموات، وقد قِسْنا الأرضَ، وقد اقتطفنا سُنَنَ الطبيعة، والخلاصةُ أننا طُفْنا في الجزيرةِ بأسْرِها، والآن نَعود إلى أنفسنا، وندنو من مسكننا دُنُوًّا غيرَ محسوس، ومن السعادةِ البالغةِ ألَّا نَجِدَه حين نَدْخُلُه قبضةَ عَدوٍّ يُهدِّدُنا ويستعدُّ للاستيلاءِ عليه!
وإذا ما نُظِرَ إلى هذا المبدأ وُجِدَ أن الإنسان الذي يُريدُ عَدَّ نفسه منعزلًا لا يُمكِنُ إلا أن يكون بائسًا لعدمِ استناده إلى أحد، ولكفاية نفسه بنفسه، حتى إنه يتعذَّر عليه البقاء؛ وذلك لأنه إذ يَجِدُ الأرضَ بأجمعها مِلكًا لي ولك، وليس له غيرُ بَدَنه، فمن أين ينال ما يحتاج إليه؟ ونحن إذ نخرج من حال الطبيعة نُلزِم أمثالنا بالخروج منها أيضًا، فلا أحد يستطيع البقاء فيها على الرغم من الآخرين. ومما يُعَدُّ خروجًا منها حقًّا أن يُراد البقاءُ فيها مع تعذُّر العيش؛ وذلك لأن البقاء قانون الطبيعة الأوَّل.
وهكذا فإن أفكارًا عن الصِّلات الاجتماعية تتكوَّن في ذهنِ الولدِ بالتدريج، حتى قبل أن يستطيعَ أن يكون عُضوًا عاملًا في المجتمع حقًّا، ويرى إميلُ أن حيازتَه آلاتٍ لاستعماله تقضي بأن يكون لديه منها ما هو صالحٌ لاستعمال الآخرين، فينالَ به مبادلةً أشياءَ ضروريةً واقعةً تحت تصرُّفهم، ويسهُلُ عليَّ أن أجعله يشعُر بضرورة هذه المبادلات، وأن يكون في حالٍ ينتفع معه بها.
«يجب أن أعيشَ يا سيِّدي.» هذا ما قاله كاتبٌ هَجَّاءٌ بائسٌ لقسِّيسٍ لامَهُ على رِجْسِ هذه الحِرْفة. «لا أرى ضرورةً إليها.» هذا ما أجابَ به ذاك السَّرِيُّ ببرودة؛ فهذا الجوابُ الرائعُ من قِسٍّ يُعَدُّ جافيًا زائفًا إذا ما خرجَ من فمٍ آخَر؛ فمن الواجبِ أن يعيشَ كلُّ إنسان، ويَلُوحُ لي أنه لا يوجدُ ردٌّ على هذا البرهانِ الذي يعطيه كلُّ واحدٍ من القوةِ الكبيرةِ أو الصغيرةِ على حسبِ ما يكون عنده من إنسانيةٍ قليلةٍ أو كثيرة، وذلك بالنسبةِ إلى مَن يستعملُه تجاه نفسه. وبما أن مَقْتَ الموتِ أشدُّ ما تلقيه الطبيعة فينا من كراهية؛ فإنه يُستَنْتَج من هذا كَوْنُ الطبيعة تُبيحُ كلَّ شيءٍ لمن ليس لديه وسيلةٌ ممكنةٌ أخرى للعَيْش، ومن البعيد عن تلك البساطة الابتدائية ما يتعلَّمه الإنسانُ الفاضل من المبادئ حَوْلَ ازدراء حياته والتضحية بها في سبيل واجبه. ويا لسعادة الشعوب التي يُمكن الإنسانَ أن يكون صالحًا فيها من غيرِ جُهْد، وعادلًا من غير فضيلة! وإذا وُجِدَت في العالم حالُ بؤسٍ لا يستطيعُ كلُّ واحدٍ أن يعيش فيها من غيرِ أن يصنع شرًّا، وحيث يكون المواطنون خبيثين عن ضرورة، فإن الشَّرِير لا يكون الشخصَ الذي يجب أن يُشْنَق، بل الذي يضطرُّه إلى أن يصير هكذا.
وإميل، حين يَعْرِف ما الحياة، يكون أوَّلَ ما أُعنَى به هو أن أُعلِّمه حِفظَها، وحتى الآن لم أُفرِّق قَطُّ بين الأحوال والمراتب والثروات، وكذلك لن أُفرِّق بينها فيما بَعْدُ مُطلَقًا، وذلك لأن الإنسان هُوَ هُوَ في جميع الأحوال. وبما أن مَعِدَة الغنيِّ ليست أكبرَ من مَعِدة الفقير وليست أصلحَ منها هَضْمًا، وبما أن ذراعَي السيد ليستا أطولَ من ذراعَي عبْده، وبما أن الكبير ليس أبلغَ طولًا من ابن الشعب، ثُمَّ بما أن الاحتياجاتِ الطبيعيةَ هي هي في كلِّ مكان، فإن من الواجب أن تكون وسائلُ قضائها متساويةً في كلِّ مكان. واجعلوا تربيةَ الإنسانِ ملائمةً للإنسان، لا لِما ليس منه مطلقًا، ألَا تَرون أنكم بعملِكم على تكوينه لحالٍ واحدةٍ حَصْرًا تجعلونه غيرَ نافعٍ لأيةِ حالٍ أخرى، وأنه إذا ما جُعِلَ وَلُوعًا بالثَّراءِ لم تعملوا على غيرِ جعْله تَعِسًا؟ وأيُّ شيءٍ أدعى إلى السخرية من أميرٍ إقطاعيٍّ صار مُعسِرًا فبدا حاملًا في بؤسه مُبْتَسَرات مَوْلده؟ وأيُّ شيءٍ أدعى إلى الازدراء من غنيٍّ أصبح فقيرًا فصار يذكر ما حُفَّ به الفقر من احتقار، فأخذ يشعُرُ بأنه أضحى آخرَ النَّاس؟ تكون لأحدهما حرفةُ اللصِّ العام، وتكون للآخر حِرفةُ الخادم المتذلل بالقول الجميل: «يجب أن أعيش.»
ومهما يَكُنْ من أمرِ الرجلِ أو المواطنِ فإنه ليس لديه من المال ما يَضَعُ في المجتمع غيرُ نفسه، وأمَّا أموالُه الأخرى فخاصَّةٌ بالمجتمع على الرغم منه، وإذا ما كان الرجل غنيًّا فهو إمَّا ألَّا يتمتع بغناه وإمَّا أن يتمتع به الجُمهورُ أيضًا، وفي الحال الأُولى يَسْرقُ من الآخرين ما يَحْرم نفسَه إياه، وفي الحال الثانية لا يُعطيهم شيئًا، وهكذا فإنه يَحْمِل الدَّيْنَ الاجتماعيَّ كاملًا ما دام لا يؤدِّي من غيرِ ماله، ويخدم والدي المجتمع إذ يَكسِبُ ماله، وليكن كذلك؛ فهو قد دفع دَينه لا دَينَكم، وأنتم مَدينون للآخرين أكثرَ مما لو كنتم قد وُلِدْتم بلا مال ما دُمتم قد وُلِدْتم مُنْعَمًا عليكم. وليس من الإنصاف مطلقًا أن يكون ما صَنَعَه الواحدُ للمجتمع مؤدِّيًا لدَيْنِ رجلٍ آخرَ نحو المجتمع؛ وذلك لأن كلَّ واحدٍ إذ كان مدينًا بكامله فإنه لا يستطيع أن يَدْفَع عن غير نفسه، ولا يَقْدِرُ أبٌ أن يترك لابنه حقًّا غيرَ نافعٍ لأمثاله، والواقعُ أنكم تقولون إنه يَصْنَع هذا مع ذلك بنَقلِه إليه ثرواته التي هي دليلُ العملِ وقيمته، ومَن يأكُلْ في البِطالة ما لم يكن قد اكتسبه بنفسه يُعَدُّ سارقًا له، ولا يختلف ذو الدخل الذي تدفعه إليه الدولة بلا مقابلٍ عن قاطع الطريق الذي يعيش على حساب أبناء السبيل. وأمَّا الرجل المنعزل، إذ كان خارجَ المجتمع وغيرَ مَدينٍ لأحدٍ بشيء، فإنه يحقُّ له أن يعيش كما يروقه، ولكنَّ الرجل في المجتمع؛ حيث يعيش على حساب الآخرين بحكم الضرورة، فإنه مدينٌ لهؤلاء بالعمل في مقابل حِفْظهم له، ولا يوجَدُ استثناءٌ لهذا؛ فالعمل إذَن واجبٌ لازمٌ للإنسان الاجتماعي، ويُحسَب الغنيُّ أو الفقيرُ والقويُّ أو الضعيفُ — أيْ كلُّ بَطَّالٍ — سارقًا.
والحقُّ أن عمل اليد بين جميع الأشاغيل التي يُمكِن أن تُزَوِّد بمعاش الإنسان، هو أكثرُ ما يُدْنيه من حال الطبيعة، وأن حال الصانع بين جميع الأحوال هي أكثرُ ما يكون استقلالًا عن النصيب والنَّاس، ولا يَخضَع الصانع لغير عمله، وهو حُر، وهو حُرٌّ بمقدار ما يكون الأكَّارُ عبدًا؛ وذلك لأن هذا تابعٌ لحقله الذي تَقَعُ غَلَّتُه تحت تَصَرُّف غيره، ويُمْكِن العدوَّ أو الأميرَ أو الجارَ القويَّ أو إحدى القضايا أن يَسلُبَه هذا الحقلَ، ويُمكِن بهذا الحقل أن يُظلَمَ بألف أسلوب، ولكنه إذا ما أُريد ظلمُ الصانع في أيِّ محلٍّ لم تَلبَثْ أمتعتُه أن تُحْزَم وينصرف من فَوْره، ومع ذلك فإن الزِّراعة أُولى حِرَف الإنسان، وهي أفضلُ ما يُزاوِل، وأنفُع ما يُمارِس؛ ومِنْ ثَمَّ تُعَدُّ أشرفَ ما يتعاطى، ولا أقول لإميل: «تعلَّم الزراعة.» فهو يَعْرِفُها، وهو دَرِبٌ بجميعِ الأعمالِ الريفية، وبهذه الأعمال قد بدأ، وإليها يَرجع بلا انقطاع. ولِذا أقول له: «احْرُث تراثَ أبيك، ولكنك إذا ما أضعت هذا التراث، أو لم يكن عندك تراثٌ قَط، فما تصنع؟ تعلَّمْ حرفة.»
حِرفةٌ لابني! ابني صانعٌ! أَوَتُفكِّرُ في هذا أيها السيد؟ تفكيري في هذا خيرٌ من تفكيركِ يا سيِّدتي، أنتِ التي تُريدُ ألَّا تجعَلَ منه رجلًا لا يقدر أن يكون غير لوردٍ أو مَرْكيزٍ أو أمير، أو أقلَّ من شيءٍ ذاتَ يومٍ على ما يُحتمَل. وأمَّا أنا، فأريد أن أمنحه مرتبةً لا يُمكِن أن يخسَرَها، أريد أن أمنحه مرتبةً تُشرِّفه في جميع الأزمان، أريدُ أن أرفعه إلى حال الإنسان، وعلى ما يُمكِن أن تقولي سيكون له في تلك المرتبة مُساوون أقلُّ ممن يكونون له منكِ.
والحَرْفُ يقتل والروحُ يُحيي، ولأن تُتَعلَّم حِرْفةٌ لمعرفةِ حرفةٍ أقلُّ أهميةً من التغلُّبِ على المُبْتَسَرَات التي تزدريها، ولن تُلزَموا بالعمل لتعيشوا. وي! يا للحيف، يا للحيف عليكم! ولكن لا ضَيْرَ، لا تعملوا عن ضرورة، واعملوا من أجل المجد، واهبِطوا إلى حال الصانع لتكونوا فوق حالكم، وابدءوا بأن تكونوا مستقلِّين عن الثراء والأشياء لتقهروهما، وابدءوا بالسيطرة على الرأي العام حتى تُسيْطِروا به.
واذكُروا أنني لا أطالبكم بنبوغٍ مطلقًا، وإنما أطالبكم بحرفة، بحرفةٍ حقيقية، بفنٍّ ميكانيٍّ مَحْض؛ حيث تعمل الأيدي أكثرَ من عمل الرأس، وحيث لا يُنال الثراء، بل يُمكن الاستغناء عنه. وقد رأيتُ في بيوت، يُستبعد جِدًّا أن تُلِمَّ بها الفاقة، آباءً يبلغون من الحذَرِ ما يُضيفون معه إلى عنايتهم بتعليم أولادهم عنايةً بتزويدهم بمعارفَ يستطيعون الانتفاعَ بها للعيش عند النوائب. ويعتقد هؤلاء الآباء الناظرون إلى العواقب أنهم يعملون كثيرًا، وهم لا يعملون شيئًا؛ وذلك لأن الوسائل التي يرون أنهم يُجهِّزون بها أولادهم تتوقف على عينِ الثراء الذي يريدون جعلَهم يَعْلُونه، فإذا لم يُوجَد صاحب هذه المواهب الجميلة في أحوالٍ ملائمةٍ للانتفاع بها هَلَكَ بؤسًا كأنه لم يَحُزْ واحدةً منها.
وإذا ما قام الأمرُ على الحِيَلِ والدسائس تساوَى استعمالُها للبقاء في سَعَةٍ واستعمالُها حين البؤس لِلْعَوْد إلى الحال الأُولى، وإذا كنتم تتعهدون الفنونَ التي يتوقَّف نجاحُها على شهرة المتفنِّن، وإذا كنتم تجعَلْون أنفسكم صالحين لخِدَمٍ لا تُنال بغير المحاباة، فما نفع جميع هذا عندما تَقِزُّ نفسُكم من العالم حقًّا وتزدرون الوسائلَ التي لا يُمكِن النجاحُ فيه بغيرها؟ لقد درستُم السياسةَ ومصالحَ الأمراء، وهذا حَسَن، ولكن ما تصنعون بهذه المعارف إذا كنتم لا تستطيعون الوصولَ إلى الوزراء ونساء البلاط ورؤساء الدواوين، وإذا كنتم لا تَعْرِفون سِرَّ الوقوعِ موقعَ الرِّضا عندهم، وإذا كان الجميع لا يجدون المُخادِعَ فيكم، فمن يلائمهم؟ وكونوا بنَّائين أو مصوِّرين، ولكن لا بُدَّ من التعريف بنبوغكم، أَوَتظُنُّون أنكم تعرضون أثرَكم في الرَّدْهة من غيرِ سابقِ تمهيد؟ وَيْ! ليست هذه وسيلةَ الشروع في الموضوع! يجب أن تكونوا من الأكاديمية، حتى إنه يجب أن تكونوا محلَّ رعايةٍ لتنالوا في زاويةٍ من الجدارِ مكانًا قاتمًا. دَعُوا المِسْطَرَة والمِنقاش جانبًا، واركَبُوا عربة، واقرَعوا بابًا بعد بابٍ تنالوا شُهرَة. واعلموا إذن أن لجميعِ هذه الأبوابِ المشهورةِ حُجَّابًا وحُرَّاسًا لا يسمعون بغيرِ الإشارة، وتقع آذانُهم في أيديهم، وإذا ما أردتم تدريسَ ما تعلَّمتم وأن تُصبِحوا أساتذةَ جِغرافيةٍ أو رياضياتٍ أو لغاتٍ أو موسيقا أو تصويرٍ؛ وَجَبَ أن تجدوا طُلَّابًا، ومِنْ ثَمَّ مادحين، ورَوْا أن مِن المهم أن تكونوا مخادعين أكثرَ من أن تكونوا ماهرين، فإذا كنتم لا تعرِفون مهنةً غيرَ ما عندكم لم تُعَدُّوا غير جاهلين.
وانُظروا إذنْ مقدارَ ما عليه جميعُ هذه الوسائلِ الرائعةِ من قلةِ متانة، ومقدار لزوم الوسائل الأخرى لكم لتنتفعوا بتلك، ثُمَّ ما تُصبِحون بهذا الهبوط الواني؟ تُذِلُّكم النوازل من غيرِ أن تُهذِّبَكم، وأنتم إذ تَغدُون أُلعوبة الرأي العام أكثرَ مما في أي زمن، فكيف ترتفعون فوقَ المُبْتَسَرات التي هي حَكَمُ مصيركم؟ وكيف تَزدرون الذِّلة والنقائصَ التي تحتاجون إليها لتعيشوا؟ كنتم تابعين للثروات، والآن تتبعون الأثرياء، وأنتم لم تصنعوا غير زيادة عبوديتكم سوءًا وإرهاقِها ببؤسكم، وها أنتم أولاء تَبْدُون فقراءَ من غير أن تكونوا أحرارًا، وهذه هي أسوأ حالٍ يُمكِن أن يَقَعَ فيها إنسان.
ولكنكم إذا ما استعنتم بأيديكم وبما تَعرِفون من استعمالها عند الحاجة، بَدَلًا من أن تلجئوا لتعيشوا إلى تلك المعارفِ العاليةِ التي جُعِلَت لتغذية الروح لا البدن؛ زالت جميع المصاعب، وأصبحت جميعُ الحِيَل غيرَ مجدية، وصارت الوسيلةُ حاضرةً دائمًا وقتَ استعمالها، وعادت الاستقامة والفضيلة لا تكونان عائقتَين للحياة، وعُدتم لا تحتاجون إلى النذالة والكَذِب أمام الكبراء، ولا إلى المرونة والتذلُّل أمام الخبثاء، ولا إلى المجاملة الخسيسة تجاه جميع النَّاس من مُقتَرِضين وسارقين ومَن إليهم ممن تتخذون نحوهم ذاتَ الوضع عندما لا تملِكون شيئًا، ولا يَمسُّكم رأي الآخرين مطلقًا، ولا يكون عليكم أن تتزلَّفوا إلى أحد، ولا أن تتملَّقوا لبليد، ولا أن تستميلوا حاجبًا، ولا أن تَرْشُوا بغيًّا أو تأتوا بتبجيلها أمرًا إدًّا. وما أكثرَ الأوغادَ الذين يديرون الشئونَ العظيمة! ولا أهميةَ لذلك ما دام هذا لا يمنعُكم في حياتكم القاتمة أن تكونوا صالحين حائزين لِخُبْزكم، وتَدخلون أوَّلَ دكانٍ للحرفة التي تعلمتم، وتقولون: «أحتاج إلى عملٍ أيها المُعلِّم.» ويقول: «هناك مكانك أيها الرفيق، فاعمل.» وتكسِبون غداءكم قبل وقت الغداء، وإذا كنتم من ذوي النشاط والقناعة فإنكم تكونون حائزين، قبل مرور ثمانية أيام، لِما تعيشون به ثمانية أيام، وستحيَوْن حياةً حرةً صحيةً صحيحةً جديةً مستقيمة، وليس من ضياع الوقت أن يقع الكسب على هذا الوجه.
وهذه هي الروح التي يجب أن تكون دليلًا لنا في اختيار مهنة إميل، وإن شئت فقل إن على إميل لا علينا أن يقوم بهذا الخِيار؛ وذلك لأن المبادئ التي أُشبِعَ منها أوجبت ادِّخاره في نفسه ازدراءً طبيعيًّا للأشياء غيرِ المفيدة، ولأنه لا يرضى بإنفاق وقته في الأعمال التي لا قيمة لها، ولا يَعرِف للأشياء قيمةً غيرَ ما لفائدتها الحقيقية، فلا بُدَّ له من حرفةٍ يُمكِن أن تنفع رُوبنسن في جزيرته.
وإذا ما عَرَضْنا أمامَ الولد مُنتجات الطبيعة والفن، وأثَرْنا فضوله، وتتبَّعْنا ما يسوقه إليه، كانت لنا بهذا فائدةُ دراسةِ أذواقهِ ومشاربِه وميوله، وتَبيُّنِ أوَّل بَريقٍ من ذهنه عند وجود شيءٍ مُقرَّرٍ من ذلك فيه، ويقوم الخطأ الشائع الذي يجب أن تُصانوا منه على عَزْوِكم إلى توقُّدِ القريحة فِعْلَ الحِين، وعلى عَدِّكم من المَيل الواضحِ نحو هذا الفن أو ذاك روحَ التقليد المشتركة بين الإنسان والقِرْد، والتي تحمل كلًّا منهما آليًّا على الرغبة في صُنْع كلِّ ما يَرى صُنْعَه من غيرِ أن يُعرَف كثيرًا وجهُ الفائدة فيه. والعالَم زاخرٌ بالصُّنَّاع، ولا سيَّما المتفننون، الذين ليس لديهم استعدادٌ فطريٌّ للفنِّ الذي يزاولون، والذي دُفِعوا إليه منذ صِبَاهم، فبُتَّ فيه عن عواملَ أخرى أو غُرَّ به عن غَيْرةٍ ظاهرةٍ كان من الممكن أن تَحْفِزَهم إلى فنٍّ آخرَ أيضًا لو كانوا قد رأَوْا مزاولةَ هذا الفن حالًا. وهذا يسمعُ طَبْلًا فيظنُّ نفسه قائدًا، وذاك يرى بناءً فيريد أن يكون مهندسًا معماريًّا، وكلٌّ يُساقُ إلى الحرفة التي يشاهد القيامَ بها إذا ما اعتقدها مُعتَبَرَة.
ومما حدث أن عرفتُ خادمًا رأى مُعلِّمَه وهو يرسُم ويصوِّر، فأقنَع نفسَه بأن يكون مُصوِّرًا ورسَّامًا، وتناوَل القلمَ الرصاصيَّ منذ الدقيقة التي اتخذ فيها هذا القرار، ولم يترك هذا القلم إلا ليتناولَ ريشةَ الرسم والتصوير التي لم يتركها مدى حياته، وأخذ يرسُم كلَّ ما يقعُ نظره عليه غيرَ مستعينٍ بدروسٍ ولا قواعد. وقضى ثلاث سنين بكاملها لاصقًا بخرابيشه التي لم يكن ليحرِّكه عنها شيءٌ غيرُ خِدْمته، وما كان ليرُدَّه عن ذلك ما تمَّ له من تقدُّمٍ قليلٍ ناشئٍ عن استعداده العادي. وقد رأيته يقضي أشهرَ صيفٍ شديدَ الحرِّ في غرفةِ انتظارٍ صغيرةٍ مواجهةٍ للجَنوب، في هذه الغرفة التي يختنق الإنسانُ إذا مرَّ منها، في هذه الغرفة التي يجلس فيها، وإن شئت فقُل يُسمَّرُ فيها، على كرسيٍّ أمام كرة، فيرسُم هذه الكرةَ ويرسُمها ثانية، ويعود إلى رسْمها ويستأنفه بلا انقطاعٍ وبعنادٍ لا يُدفَع إلى أن رَضِيَ عن استدارتها، ويَحْبوه مُعلِّمه بعطْفه، ويُرشِدُه متفنِّن، حتى بلغ درجةً يخلعُ معها ثوبَ الخدمة ويعيش من ريشته، ويقوم الثبات مقام النبوغ إلى حدٍّ ما، وقد انتهى إلى هذا الحد، ولن يجاوزه مطلقًا، ويستحقُّ جَلَدُ هذا الخادم الشريف وطموحه الثناءَ، وهو سيكون دائمًا محل تقدير من أجل مثابرته وإخلاصه وأخلاقه، ولكنه لن يصنع غير صُوَرٍ من الدرجة الثالثة، ومن ذا الذي لم يُخدَع بغَيرته فيَعُدَّه ذا نبوغٍ حقيقي؟ يوجَدُ فرقٌ بين الإعجاب بعملٍ والأهليةِ له، ولا بدَّ من مشاهداتٍ أدقَّ مما يُتصوَّر لتيقُّنِ النبوغ الحقيقي والذوق الحقيقي في الولد الذي يُبدي رغباته أكثرَ من أهلياته، والذي يُفصَلُ في أمره بالأُولى عن عدمِ معرفةٍ بدَرْس الأخرى. وأتمنَّى وجودَ رجلٍ مِفْضالٍ يضعُ لنا رسالةً عن فنِّ رقابة الأولاد، وعلى ما لمعرفة هذا الفنِّ من أهميةٍ عظيمةٍ تَرى الآباء والمُعلِّمين لا يزالون جاهلين مبادئَه.
ولكننا هنا نُعلِّقُ أهميةً كبيرةً على اختيار الحرْفة على ما يحتمل، وبما أن الأمر يدور حولَ العملِ اليدوي، فإن هذا الاختيار ليس ذا بال بالنسبة إلى إميل. وإميلُ قد أتمَّ إلى الآن أكثرَ من نصف تخرُّجه بالتمرينات التي شغلناه بها حتى اليوم الحاضر، وما تريدون أن يصنع؟ هو مستعدٌّ لكلِّ شيء، وهو يَعْرِف استعمال المِعزقة والمِجرفة، وهو يَعْرِف استخدام المِخرطة والمِطرقة والمِنجر والمِبرد، وهو مُلِمٌّ بآلات جميع الحِرَف، وعاد لا يلتفت إلى غير حيازة آلاتٍ تكون من السرعة والسهولة ما تَعدِل معه في العَجَلة أحسنَ العمال الذين يستخدمونها، وهو من هذه الناحية ذو مَزِيَّةٍ يفوق بها الجميع؛ أي إنه ذو رشاقةٍ في البدن ومرونةٍ في الأعضاء يتَّخِذُ بهما جميعَ الأوضاع بلا مشقةٍ ويطيل بها جميع الحركات بلا جُهد. ثُمَّ إن له أعضاءً صالحةً حسنةَ التدريب، وهو عارفٌ بجميع الجهاز الفني، ولا تُعْوِزُه غيرُ العادة ليستطيع العمل مثل مُعلِّم، والعادة لا تُنال إلا مع الوقت. وأيُّ الحِرَفِ بَقِيَ علينا أن نختار فتَمْنح من الوقت ما يكون معه نشيطًا فيها؟ وليس حَوْلَ غيرِ هذا ما يَدُورُ الأمر.
وأُحرِّم على تلميذي الحِرَف غيرَ الصحية، لا الحِرَفَ الشاقة، ولا الحِرَفَ الخَطِرَةَ أيضًا؛ فهذه الحِرَف تُمرِّن القوة والشجاعة معًا، وهي صالحةٌ للرجال وحدَهم، وليس للنساء دعْوَى بها مطلقًا، وكيف لا يخجَلون من تطاولهم على حِرَفٍ خاصةٍ بهن؟
«قليلٌ عددُ مَن يُحارِبُ من النساء، وقليلٌ من النساء مَن يأكلُ خبزَ الأبطال، وأنتنَّ تغزِلن الصوف، فمتى تمَّ عملُكنَّ أتيتنَّ به في السِّلال.»
وأشعُرُ بأنني أسهبت في بيانِ ذلك لدى معاصريَّ اللُّطفاء، ولكنني أدَعُ نفسي تُساق بقوة النتائج أحيانًا. وإذا ما اعترى رجلًا ما خَجَلٌ من العملِ علانيةً مُجَهَّزًا بمِنْحَتٍ ومُنَطَّقًا بِوزْرةٍ من جِلْدٍ لم أرَ فيه غيرَ عبدٍ للرأي العامِّ مُعَدٍّ للحياء من عملِ الخيرِ عند الضحك من ذوي الصلاح. ومع ذلك دعْنا نُذعِن لمُبْتَسَرِ الآباء في كلِّ ما لا يُمكِن أن يَضُرَّ رأي الأولاد، وليس من الضروري أن تُزاوَلَ جميعُ المِهنِ النافعةِ تكريمًا لها كلِّها، وإنما يكفي ألَّا يُقدِّرَ الإنسانُ واحدةً منها على أنها دون مستواه. وإذا كان لنا حقُّ الخِيار بلا إكراه، فلِمَ لا نختارُ من المهن التي هي من مرتبةٍ واحدةٍ ما ينطوي على بهجةٍ وملاءمةٍ ويدلُّ عليه المَيْل؟ إن الأعمالَ المَعدِنيةَ مفيدة، وهي أكثرُ الأعمالِ فائدة، ومع ذلك فإنني لا أجعلُ من ابنكم بَيْطارًا ولا قفَّالًا ولا حدَّادًا، ما لم يكن لديَّ سببٌ خاصٌّ يحملني على ذلك؛ وذلك لأنني لا أُحبُّ أن أرى له في معمل الحديد وجهَ جبَّار، وكذلك لن أجعل منه بنَّاءً ولا حذَّاء. أجلْ، يجب القيامُ بجميع الحِرَف، ولكنه يجب على مَن يستطيع الخِيارَ أن ينظر إلى النظافة. ولا ينطوي هذا على معنى المبتَسَر الطَّبقي، وحواسُّنا هي دليلُنا في هذا الأمر. ثُمَّ إنني لا أُحِبُّ المهنَ السخيفةَ التي يكون العمالُ فيها خالين من الصناعة ومعدودين آليين، فلا يُحرِّكون أيديَهم في غيرِ ذاتِ العمل، كالحَاكة وصانعي الجوارب ونشَّاري الحجارة، وما فائدة استخدام رجالٍ أذكياءَ في هذه الحِرَف؟ لا يعدو الأمرُ حدَّ آلةٍ تنتهي إلى آلة.
وإني بعد إنعام النظر في جميع الحِرَف أُحِبُّ النِّجارة أكثر من سواها، وهي ملائمةٌ لذوق تلميذي، ولا غرو؛ فهي نظيفةٌ مفيدة، وهي تُزاوَل في المنزل، وهي تستكِدُّ البَدَن، وهي تستلزم في العمل مهارةً وبراعة، ولا يخرُج الهَيَفُ والذوقُ من شكل مصنوعاتها الذي تُعيِّنُه الفائدة.
وإذا ما حدَث اتِّفاقًا أن تَحوَّل تلميذُكم بحزْمٍ نحو العلوم النظرية، فإنني لا ألومكم على منحه مِهنةً ملائمةً لميوله، وذلك كأن يتعلَّم مثلًا صُنْعَ آلاتٍ رياضيةٍ ونظاراتٍ ومَرَاقِبَ … إلخ.
وأريدُ أن أتعلَّم مع إميل حرفتَه وقتَ تعلُّمه إياها؛ وذلك لاعتقادي أنه لا يجيد تعلُّمَ غيرِ ما نتعلَّمُ معًا؛ ولذا فإن كلانا يأخذ في التخرُّج ولا نقصد أن نُعَامَلَ مثلَ سيدَيْن، ولكن مثل تلميذَيْن حقيقيَّيْن جادَّيْن. ولِمَ لا نكون هكذا فِعْلًا؟ لقد كان القيصر بطرس نجارًا في مصنع السفن وطبَّالًا في كتائبه، أَوَتظنون أن هذا الأمير لا يعدِلُكم مَوْلدًا أو مهنة؟ تُدرِكون أنني لا أقول هذا لإميل، بل لكم أيًّا كنتم.
ومن دواعي الأسف أننا لا نستطيع قضاءَ جميع وقتنا في المصنع؛ فلسنا تلميذَيْن من العمال، بل تلميذَان من الرجال، ويكون التخرُّجُ في هذه الحرفة الأخيرة أشقَّ مما في الأخرى وأطوَل، وكيف نصنَع إذَن؟ أنتخذُ مُعلِّمَ مِنْجَرٍ ساعةً في اليوم كما يُتَّخَذُ مُعلِّمُ الرقص؟ كلا، لا نكون تلميذَيْن، بل طالبَيْن، وذلك أننا نطمح ببصرنا أن نكون نجَّارَيْن أكثر من أن نتعلَّم النجارة؛ ولذلك أرى أن نذهب في كلِّ أسبوعٍ مرةً أو مرتَين على الأقل لقضاء نهارنا بكامله عند المُعلِّم، فننهض حين نهوضه ونعمل قبل أن يعمل ونأكل على مائدته ونشتغل تحت إمرَته، حتى إذا ما كان لنا شرف العشاء مع أسرته عُدنا — عندما نريد — إلى فِراشنا الخشن، وهذا هو الوجه الذي تُتعلَّمُ به حِرَفٌ كثيرةٌ معًا، وهذا هو السبيل الذي يُمارَس به عملُ اليد من غير إهمال التخرُّج الآخر.
ولْنتذرَّعْ بالبساطة عند عمل الخير، ودَعْنا لا نُبدي زَهْوًا حيث نكافح الزهو، ومَن يزْهُ بفوزه على المُبْتَسَرات يتضمَّن زهوه هذا خضوعًا لها، ويُروى أن من عادة آل عثمان القديمة إلزامَ السلطان بالعمل بيديه، وكلٌّ يَعلَم أن آثار اليد السلطانية لا يُمكن أن تكون من غير الروائع؛ ولذا فهو يوزِّع هذه الروائع بأُبَّهةٍ بين أكابر الدولة، ويُدفَع ثمنها وَفْق مقام الصانع. وما أرى من شرٍّ في هذا لا يقوم على هذا الجَوْر المزعوم؛ وذلك لأنه على العكس خير؛ وذلك لأن الأمير إذ يُكرِه الأكابرَ على مقاسمته أسلابَ الشعب يكون أقلَّ اضطرارًا إلى سلْب الشعب مباشرة؛ فهذا تخفيفٌ للاستبداد، ولولاه ما استطاع هذا الحكمُ الفظيع أن يدوم.
والشرُّ الحقيقيُّ في مثل هذه العادة يقوم على إعطاء ذلك الرجل المسكين فكرةً عن مزيته، وهو، كالملك ميداس، يرى تحويلَ كلِّ ما يَمَسُّ إلى ذهب، ولكنه لا يُبصِر أيُّ الآذان يُنبِت. ونُريد أن نحفَظ لإميلَ أذنيه القصيرتَين، فنصون يديه من تلك الأهلية الغنية، فلا يعود عليه عمله بغير ثَمنِ المصنوع لا بثَمَن الصانع، ولا نُطيقُ أن يُحكَم فيما يصنع من غير أن يُقابَل بينه وبين ما يصنع أصلحُ المُعلِّمين، ولْيُقوَّم عملُه بالعمل نفسه، لا بكونه صادرًا عنه، وقولوا عما هو مصنوعٌ جيِّدًا: «هذا مصنوعٌ جيِّدًا.» ولكن لا تضيفوا إلى هذا قولكم: «مَن صنعَ هذا؟» وإذا قال من تلقاء نفسه مفاخِرًا مُعجَبًا بذاته: «إنِّي أنا الذي صنعه.» فقولوا له بفتور: «هو حَسَنُ الصنع، ولا يهمني أن تكون أنت قد صنعتَه أو غيرُك.»
ويا أيتها الأمُّ الصالحة، احذَري ما يُعَدُّ لكِ من الأكاذيب على الخصوص، وإذا كان ابنُك يعلَمُ أشياءَ كثيرةً فكوني في ريبٍ من كلِّ ما يَعلَم، وإذا كان من التَّعَسِ ما يُنشَّأُ معه بباريسَ وكان غنيًّا هَلَكَ، وستكون لديه جميعُ قرائحِ المتفننين الماهرين ما وُجِد فيها، وهو يعود غيرَ حائزٍ شيئًا منها عند ابتعاده عنهم، والغنيُّ في باريسَ يَعرِف كلَّ شيء، ولا يُوجَد جاهلٌ غيرُ الفقير، وهذه العاصمةُ زاخرةٌ بالهُواة، ولا سيَّما الهاويات اللائي يقُمن بأشغالهن كما يَخترعُ مسيو غِيُّومُ ألوانَه. وأعْرِف لهذا استثناءاتٍ ثلاثةً مُكرَّمةً بين الرجال، وقد تَزيدُ على هذا، ولكنني لا أعْرِف أيَّ استثناءٍ بين النساء، وأشكُّ في وجود شيءٍ من هذا، وعلى العموم يُكتَسَبُ اسمٌ في الفنون كما في الحُلَّة فيَغدو الواحدُ متفنِّنًا أو حَكَمًا بين المتفننين كما يغدو دكتورًا في الحقوق وقاضيًا.
ولِذا فإنه إذا ثَبَتَ ذات مرةٍ أن من الجميل معرفةَ حِرفة، فإن أولادكم لم يَلبثوا أن يَعْرِفوها من غير أن يتعلَّموها، فيَظْهروا مثلَ مستشاري زُوريخ، ولا شيءَ من هذا العُرْف والظاهر لإميل الذي يحظى بالحقيقة دائمًا، ولا تقولوا ما يَعرِف، ولكن دَعُوه يتعلَّم صامتًا، ودَعُوه يصنع روائعَ دائمًا على ألَّا يُدعى مُعلِّمًا، ولا تَدَعوه يَظهَر بلَقَبِه، بل بفعله عاملًا.
وإذا كنتُ قد صنعتُ حتى الآن ما أُفْقَهُ به، فإن من الواجب أن يُدرَك كيف أُلقي، بعادةِ تمرينِ البدنِ وعَمَلِ الأيدي، ذوْقَ التأمُّل والتفكير في تلميذي إلقاءً غيرَ محسوس، وذلك لأُوازنَ بين كَسَله الناشئ عن عدمِ اكتراثه لآراء الرجال، وسكونِ أهوائه، فيجب أن يَعْمَل مِثْلَ فلَّاح، وأن يفكِّرَ مثل فيلسوف لكيلا يكون مُتوانيًا تواني الهَمَجي، ويقوم سِرُّ التَّربية الأعظم على جعْل تمرينات البدن وتمرينات الذهن خادمةً دائمًا مثلَ تَرَاخٍ من أحدهما نحو الآخر.
ولكن حَذَارِ أن تُعجِّلوا المعارفَ التي تقتضي ذهنًا أكثرَ نَضْجًا، ولا يبقى إميلُ عاملًا زمنًا طويلًا من غير أن يَشْعُر من تلقاء نفسه بتفاوت الأحوال الذي لم يلاحظه في البُداءة، وهو يُريد أن يَدرُسَني بدوري مستندًا إلى المبادئ التي أعطيته إياها والتي هي في متناوله. وهو إذ يتلقَّى كلَّ شيءٍ منِّي وحدي، وهو إذ يرى نفسه قريبًا جِدًّا من حال الفقراء، يريد أن يَعرِف سبب بُعدِي منها كثيرًا، وقد يَطرَح عليَّ مثلَ الأسئلة الخطرة الآتية بغتةً، وهي: «أنت غني، وقد قلت لي هذا، وهذا الذي أرى، والغنيُّ مَدينٌ بعمله للمجتمع أيضًا ما دام رجلًا، ولكن ما تَصْنَعُ في سبيل المجتمع إذن؟» وما يقول عن هذا مُعلِّمٌ فاضل؟ أجهل ذلك، وقد يكون من الغباوة ما يُحدِّث معه الولدَ عن الجهود التي يبذُلها من أجله. وأمَّا أنا، فإن المَصْنع ينتشلني من المُعضِلة، فأقول: «هذا سؤالٌ جميلٌ يا إميل العزيز، وأَعِدُك بالجواب عن نفسي إذا ما استطعتَ الجواب عن نفسك بما أنت راضٍ عنه، وريثما يقع ذلك سأُعنى بأن أعطيك وأعطي الفقراء ما يفيض منِّي، وبأن أصنعَ مائدةً أو مقعدًا في كلِّ أسبوعٍ لكيلا أكون غير نافعٍ تمامًا.»
وها نحن أولاء نعود إلى أنفسنا، وها هو ذا ولدُكم أوْشَكَ ألَّا يكون ولدًا داخلًا نَفْسَه، وها هو ذا يَشْعُرُ أكثرَ مما في أي وقتٍ بالضرورة التي تربطه بالأشياء، وقد مَرَّنَّا ذهنه وتمييزه بعد أن بدأنا بتمرينِ بَدَنِه وحواسِّه. وأخيرًا جمعنا بين عادة أعضائه ومداركه جاعلين منه موجودًا عاملًا ومُفكِّرًا، وعاد لا يبقى علينا لإكمال الإنسان غيرُ تكوين موجودٍ مُحِبٍّ حَسَّاس؛ أي إتمام العقل بالإحساس، ولكن دعْنا قبْل الدخول في نظام الأمور الجديد هذا، نُلقِ نظرةً على النظام الذي نخرُج منه لنرى على أتمِّ ما يُمكن ما بلغناه من حَدٍّ.
ولم يكن لدى تلميذنا غيرُ إحساساتٍ في بدء الأمر، فصارت لديه أفكار، ولم يَكُ قادرًا على غيرِ الإحساس، فصار الآن يَحْكُم؛ وذلك لأنه ينشأ عن المقابلة بين كثيرٍ من الإحساسات المتعاقبة، أو التي تقعُ معًا، وما يدور حَوْلَها من رأيٍ، ضَرْبٌ من الإحساس المختلط أو المركَّب الذي أُسميه فكرًا.
والوجهُ الذي تُكَوَّن به الأفكارُ هو الذي يُنعِمُ على الذهن البشري بطابع، والذهنُ الذي لا يُكوِّنُ أفكارَه إلا وَفْقَ العلائق الحقيقية هو ذهنٌ متين، والذهن الذي يكتفي بالعلائق الظاهرة هو ذهنٌ سطحي، والذهنُ الذي يرى العلائق كما هي هو ذهنٌ سديد، والذهنُ الذي يسيء تقدير العلائق هو ذهنٌ فاسد، والذهنُ الذي يختلق علائقَ خياليةً لا تَمُتُّ إلى الحقيقة ولا إلى الظاهر بصلةٍ هو ذهنٌ أحمق، والذهنُ الذي لا يقوم بالمقايسة مطلقًا هو ذهنٌ غبي، وما يكون من استعدادٍ كبيرٍ أو صغيرٍ للمقابلة بين الأفكار ولاكتشاف العلائق هو الذي يجعل الذهنَ كبيرًا أو صغيرًا في النَّاس … إلخ.
وليست الأفكارُ البسيطةُ سوى إحساساتٍ مقابَلٍ بينها، ويوجد في الإحساسات البسيطة وفي الإحساسات المركَّبة من الأحكام ما أسميه أفكارًا بسيطة، والحكم في الإحساس منفعلٌ مَحْضًا، وهو يُوَكِّد أنه يُشْعَرُ بما يُشعَرُ به، والحكمُ في الإدراك أو الفكر فاعل، وهو يُوَفِّقُ ويقابِل ويُعَيِّنُ ما بين العلائق التي لا يُحدِّدها الحِس، وهذا هو كلُّ الفرْق، ولكنه فرقٌ كبير، ولا تخدعنا الطبيعة مطلقًا، ونحن الذين يُخادعون أنفسَهم دائمًا.
ومما رأيتُ تقديمُ جُبنَةٍ مُجمَّدةٍ إلى ولدٍ في الثامنة من سِنيه، ويحمِل الملعقة إلى فمه من غير أن يَعْرِف ما هذا، ويصرخ قائلًا: «آه! إن هذا يُحرِقني!» ويُبتلى بإحساسٍ شديد، وحَرُّ النار هو أشدُّ ما يَعرِف، ويظنُّ ذاك من هذا، ومع ذلك فإنه ينخدع؛ فالبردُ الشديد يَقرُصه، ولكنه لا يُحرِقه، وليس هذان الإحساسان متشابهَين، ما دام الذين يُبتَلون بهما لا يَخْلِطون بينهما مطلقًا، وليس الإحساس إذن هو الذي يَخدعه بل الحُكمُ الذي يَحْمِلُ عنه.
ومثلُ هذا حالُ الذي يرى لأوَّل مرةٍ مرآةً أو آلةً بصرية، أو الذي يدخل قبوًا عميقًا في وَسَط الشتاء أو الصيف، أو الذي يغمس يدَه الحارة جِدًّا أو الباردة جِدًّا في الماء الفاتر، أو الذي يُدَحْرِج كُرَةً صغيرةً بين إصبعين معقوفتَين، وإذا ما اكتفى بالقول عما يَشعُر به أو يُحِسُّه فإن حُكْمَه إذْ يكون منفعلًا صِرفًا كان من المتعذِّر أن يُخدَع، ولكنه إذا ما حَكَم في الأشياء على حَسَب الظاهر كان حكمُه فاعلًا، فيقيس ويقيم بالاستقراء علائقَ لا يشعُر بها، وهنالك يُخدَع أو يُمكِن أن يُخدَع، ولا بدَّ له من التجرِبة حتى يُصحِّح الخطأ أو يَحُولَ دون وقوعه.
وأَرُوا تلميذَكم في الليل سُحبًا تَمُرُّ بينه وبين القمر، تَرَوه يعتقد أن القمر هو الذي يمُرُّ إلى جهةٍ معاكسة، وأن السحُبَ واقفة، ويقوم اعتقادُه هذا على استقراءٍ خاطفٍ لِما يرى عادةً من حركة الأشياء الصغيرة وسكون الأشياء الكبيرة، ولِما تبدو السُّحب له أعظمَ من القمر الذي لا يستطيع تقديرَ بُعدِه. وهو إذا ما كان في مرْكبٍ يشُقُّ الماء ونظر إلى الساحل من بُعدٍ قليلٍ وقعَ في الخطأ المعاكس، واعتقد أن الأرض تجري، وذلك بما أنه لا يُحِسُّ حركته، فإنه يَعُدُّ المرْكبَ والبحر أو النهر وجميع أُفُقه كُلًّا غيرَ متحرك، ولا يَلوح له الشاطئ الذي يُبصِر جرْيَه غيرَ جزءٍ من ذلك.
وإذا ما رأى الولدُ للمرة الأُولى عصًا مغمورًا نصفُها في الماء أبصرَ عصًا مكسورة، والحِسُّ صحيح، وهو لا ينفكُّ يكون صحيحًا، ولو لم نَعْرِف السبب، وإذا ما سألتموه إذن عما يرى قال: «عصًا مكسورة.» وهو يقول الصحيح، وذلك ليقينه بأن لديه إحساسًا عن عصًا مكسورة، ولكنه إذا ما ذهب إلى ما هو أبعدُ من ذلك مخدوعًا في حكمه، فوَكَّدَ أنه يرى عصًا مكسورة، ثُمَّ وَكَّد أن ما يرى هو عصًا مكسورةٌ بالحقيقة، فإن قولَه هذا يكون حينئذٍ فاسدًا. ولِمَ هذا؟ ذلك لأنه يصيرُ إذ ذاك فاعلًا، ولأنه عاد لا يَحكُم عن ملاحظةٍ بل عن استقراء، وذلك بتوكيده ما لا يُحِس؛ أي إن الحكم الذي يتلقَّاه بحسٍّ يُؤيَّدُ بحسٍّ آخر.
وبما أن الرجال كلَّما عَرَفوا خُدِعوا، فإن الجهلَ هو الوسيلةُ الوحيدةُ لاجتناب الخطأ، وإذا لم تَحكُموا مُطلَقًا لم تنخدعوا مطلقًا، وهذا هو درسُ الطبيعة كما هو درسُ العقل. وإذا عدوتَ ما للأشياء مَعنَا من علائقَ مباشرةٍ قليلةٍ جِدًّا محسوسةٍ جِدًّا لم يُساوِرنا غيرُ عدم اكتراثٍ عميقٍ نحو البقية بحكم الطبيعة، وما كان الهمجيُّ ليُدير رِجْله حتى يشاهدَ أروعَ الآلات وجميعَ عجائب الكهربا، وكلمةُ «ما يهمُّني؟» هي أكثرُ ما يألفُ الجاهلُ وأكثرُ ما يلائم الحكيم.
بَيدَ أن من المؤسفِ أن عادتْ هذه الكلمة لا تُواتينا؛ فكلُّ شيءٍ يهمُّنا ما اتَّبعْنا كلَّ شيء، ويَمتدُّ فُضُولنا مع احتياجنا بحكم الضرورة، وهذا هو السبب في عزوِي كبيرَ فُضُولٍ إلى الفيلسوفِ وعدمِ عَزوي أيَّ فُضولٍ إلى الهمجي، وذلك أن هذا لا يحتاج إلى أحد، وأن ذاك يحتاج إلى جميع النَّاس، ولا سيَّما المعجَبون.
وسيُقال لي إنني أَخرُج عن الطبيعة، ولا أعتقد ذلك؛ فالطبيعة تختار وسائلها وتُنظِّمُها وَفْقَ الحاجة، لا وَفْقَ الرأي. والواقعُ أن الاحتياجات تختلف باختلاف حال النَّاس، وأنه يوجد اختلافٌ كبيرٌ بين الإنسانِ الطبيعي الذي يعيش في حال الطبيعة والإنسانِ الطبيعي الذي يعيش في حال المجتمع. وليس إميلُ همجيًّا يُقصَى إلى الصحارَى، بل همجيٌّ جُعِلَ ليقيم بالمدن، ويجب أن يَعْرِف كيف يَجِدُ في المدن ما يحتاج إليه وأن ينتفع بسكانها، وأن يعيش معهم على الأقل وإن لم يكن مثلَهم.
ولا بدَّ له من الحكم على الرغم منه ما كان في سواءِ كثيرٍ من العلائق الجديدة، فلْنُعَلِّمه كيف يُحسِن الحُكمَ إذن.
وأحسنُ أسلوب لتعلُّم حُسن الحُكم هو ما يُفضي إلى تبسيط تجارِبنا أكثرَ من سواه، والذي يغنينا حتى عن هذه التجارِب من غيرِ وقوعٍ في الخطأ؛ ومِنْ ثَمَّ نقول إنه يجب بعد تحقيقِ ما بين الحواسِّ من علائقَ في زمنٍ طويل، أن يُتعلَّم أيضًا تحقيقُ علائقِ كلِّ حاسةٍ بنفسها، ومن غير احتياجٍ إلى الاستعانة بحاسَّةٍ أخرى. وهنالك يغدو كلُّ إحساسٍ فكرًا لدينا، ويكون هذا الفكرُ مطابقًا للحقيقة دائمًا، وهذا هو نوعُ المعرفة الذي حاولت جمْعه في هذا الدَّور الثالث من حياة الإنسان.
ويتطلب هذا الأسلوبُ في السَّير صبرًا وحَذَرًا لا تجدهما في غير قليل من المُعلِّمين، ولا يتعلم التلميذ الحُكْمَ بغيرهما مطلقًا، ومن ذلك أن التلميذ إذا ما خُدِع بظاهر العصا المكسورة بادرتم لإطلاعه على خطئه إلى سَحْبِ العصا خارج الماء، فتُزيلون ضلالَه على ما يحتمل، ولكنْ ما تُعلِّمونه؟ لا شيءَ غيرَ ما يتعلَّمه بنفسه من فوْره. ويْ! ليس هذا ما يجب أن يُصْنَع! وأقلُّ من هذا اعتبارًا أن تُعلِّموه حقيقةً بدلًا من أن تُطلِعوه على ما يجبُ أن يتخذَ لاكتشافِ الحقيقةِ دائمًا، ولا ينبغي أن يُزال ضلاله حالًا لحُسن تعليمه، ولْأتَّخِذْ نفسي مع إميل مثلًا.
وأوَّلُ ما في الأمر هو أن الولد الذي يُربَّى على الطريقة المعتادة لا يُعْوِزه أن يكون إيجابيًّا جوابُه عن ثاني السؤالين المُفترَضَين، فيقول لا ريب: «إن هذه عصًا مكسورة.» وأشكُّ كثيرًا في أن يأتي إميلُ عينَ الجواب، وإميلُ لا يبادر إلى الحُكم مطلقًا لِما لا يُبصِر من ضرورةِ كونه عالمًا أو ظهوره بمظهر العالم أبدًا، وإميل لا يحكم في غير الجَلي، وإميل كثيرُ البُعد من أن يرى ذلك جليًّا في تلك الدقيقة، وهو العارف بمقدار ما تكون عُرْضَةً له من وهمٍ أحكامُنا وَفْقَ الظواهر، إذا كان هذا في حقل المناظر.
ثُمَّ بما أنه يَعْرِف عن تجرِبة أن أكثرَ أسئلتي تَفَهًا ينطوي دائمًا، على أمرٍ لا يُبصِرُه في البُداءة، فإنه لم يتعوَّد قَطُّ أن يأتي جوابًا طائشًا، وهو على العكس يَحْذَر منه وينتبه إليه ويفحصه بعنايةٍ فائقةٍ قبل أن يجيب عنه، وما كان ليأتيَ جوابًا لا يَرضى عنه بنفسه، وهو الذي لا يرضى إلا بصعوبة، ثُمَّ إن كلانا لا يفتخر بمعرفة حقيقة الأمور، بل باجتناب الخطأ، وترانا نخجَل من إبدائنا سببًا غيرَ صالح أكثرَ مِن خجلِنا عند عدم اكتشافنا هذا السببَ على الإطلاق. وكلمة «لا أعْرِف» تلائمُنا كثيرًا، ونحن نَبلُغ من تكرارها كثيرًا ما لا نجد معه أنها تُكلِّف أيًّا منَّا شيئًا، ولكن سواءٌ أأفلَت ذاك الطيشُ منه أم اجتنبه بكلمة «لا أعْرِف» الملائمة لنا كان جوابي واحدًا، وهو: «لننظرْ، لندرُس.»
وهذه العصا المغمورُ نصفها في الماء مُثبتةٌ عموديًّا، وما أكثرَ ما يجب أن نأتيَ من أفعال لنعرِف هل هي مكسورةٌ قبل أن نَسحبها من الماء أو قبل أن نَمسَّها!
-
(١)
إن أوَّل ما نصنع هو أننا ندورُ حوْل العصا ونرى القِسمَ المكسورَ يدُور مثلَنا، وعينُنا هي التي تُغيِّرُه إذنْ، وما كانت النَّظراتُ لتُحرِّكَ الأجسام.
-
(٢)
ثُمَّ ننظرُ عموديًّا فوق طرَفِ العصا الواقعِ خارجَ الماء، وهنالك تعود العصا غيرَ مُعوَجَّة، ويُخفي طرَفُ العصا القريبُ من عينِنا طرَفَها الآخرَ بإحكام،٢٣ فهل قَوَّمتْ عينُنا العصا؟
-
(٣)
ونحرِّك سطحَ الماء، ونرى العصا تَنثني في قِطَعٍ كثيرة، وتتحرَّك مُعوَجَّةً وتتَّبعُ تموُّجات الماء، وهل تكفي الحركةُ التي نُوجِبُها في هذا الماءِ لكسرِ العصا وإلَانَتِها وصَهْرِها على ذلك الوجه؟
-
(٤)
ونُسيلُ الماءَ ونرى العصا تستقيم مقدارًا فمقدارًا، وذلك كلَّما نَقَصَ الماء، أَوَلَيْس هذا يُوفِي على الغايةِ لتنويرِ الواقعِ وكشفِ الانكسار؟ وليس من الصحيحِ إذنْ أن النظرَ يَخدَعنا ما دُمنا نحتاجُ إليه وحدَه في إصلاح الخطأ الذي نَعْزُوه إليه.
وإذا ما افترضنا الولدَ من الغباوة ما لا يَشْعُر معه بنتيجة هذه التجارِب، فإنه يجب أن تُستَدعى اللامسةُ لمساعدة الباصرة هنالك، ودَعُوا العصا على حالها بَدَلًا من سَحْبِها خارجَ الماء، واجعلوا الولدَ يُمِرُّ يدَه عليها بين طرَفَيها؛ فهو لن يُحِسَّ زاوية، وليست العصا مكسورةً إذَنْ.
وستقولون لي إنه لا يوجد هنا أحكامٌ فقط، بل برهنةٌ شكلية، وهذا حق، ولكن ألَا ترون أن الذهن إذا ما بَلَغَ مرحلةَ الأفكار لم يَلبَث كلُّ حُكْمٍ أن يكون برهنة؟ إن الشعور بكلِّ إحساسٍ هو قضية، هو حُكْم؛ ولذا فإنه إذا ما قُوبل بين إحساسٍ وآخرَ فإنه يُبرهَنُ حالًا؛ ففنُّ الحُكم وفنُّ البرهنة هما هما تمامًا.
ولن يتعلَّم إميلُ علمَ انكسارِ النورِ مطلقًا، أو إنني أريد أن يتعلمه حول هذه العصا، وهو لن يُشرِّح الحشرات مطلقًا، وهو لن يَعُدَّ أكلافَ الشمس مطلقًا، وهو لن يَعْرِف ما المُجْهِر ولا المِرْقَب، وسيسخرُ تلاميذُكم العلماءُ من جهْلِه، وهم ليسوا على غير حقٍّ في هذا؛ وذلك لأنني أريد أن يخترع الآلات قبل أن يستخدمها، وأنتم في شكٍّ من كون هذا يتمُّ سريعًا.
ذلك هو روحُ منهاجي في هذا القسم، وإذا ما أدار الولد كُرَةً صغيرةً بين إصبعَيْن معقوفتَين واعتقدَ أنه يشعُر بكرتَين، لم أسمح له بأن ينظرَ إلى ذلك قبل أن يَقنع بأنه لا يوجدُ غير كُرَةٍ هنالك.
وأرى أن هذا الإيضاح يكفي لإظهارِ ما اتفق لذهن الولدِ من تقدُّمٍ إظهارًا جليًّا، وللدلالة على الطريق التي سُلِكَت وصولًا إلى ذلك التقدم، ولكنَّ من المحتمل أن تكونوا قد ذُعِرتم من مقدار الأشياء التي عَرَضتُها عليه، وأنتم تخشون أن أُرهِقَ ذهنَه بهذه المعارفِ الزاخرة. والعكس هو الواقع؛ فأنا أعلِّمه أن يجهلَها أكثرَ من أن يَعْرِفها، وأنا أدلُّه على طريقِ العلم السهلة حقًّا، ولكن مع طولٍ بالغٍ وبُطءٍ في السَّير، وأنا أحمله على الخطوات الأُولى حتى يَعْرِف الدخول، ولكن لا أسمحُ له بالذهاب بعيدًا على الإطلاق.
وهو إذْ يُلزَم بالتعلُّم لنفسه، يستعملُ عقلَه لا عقلَ الآخرين؛ وذلك لأنه لا ينبغي إعطاءُ السلطانِ شيئًا لكيلا يُعطَى العُرْفُ شيئًا، ويأتينا مُعظَم الأضاليل من الآخرين أكثرَ من صدوره عن أنفسنا، ويجب أن ينشأ عن هذا التمرينِ المستمرِّ قوةٌ في الذهن مشابهةٌ لما يُعطاه البدنُ بالعملِ والتَّعب، وتكون الفائدةُ الأخرى في التقدُّم على نسبة القُوَى، فلا يَحمِلُ الذهنُ والبَدنُ غيرَ ما يَقْدِران على حَمْله، ومتى حازَ الإدراكُ أمورًا قبل خَزْنها في الذاكرة فإن ما يأخذه منها فيما بعدُ يكون مالَه، وذلك بدلًا من أن يُعرَّض لأخذِ ما ليس له من الذاكرة بإرهاقها على غيرِ علمٍ منه.
وما لدى إميلَ من معارفَ قليلٌ، غيرَ أن ما عنده من المعارفِ هو مالُه حقًّا، ولا يَعْرِف شيئًا نصفَ معرفة، وبين الأمورِ القليلةِ التي يَعرِف، ويَعْرِف جيِّدًا ويُعَدُّ أكثرَ ما يَعْرِف أهميةً، هو وجودُ أمورٍ كثيرةٍ يجهلُها، ويمكنه أن يَعْرِفها ذات يوم، ووجودُ أمورٍ أكثرَ من هذه يَعْرِفُها أناسٌ آخرون، ولن يَعْرِفَها مدى حياته، ووجودُ أمورٍ أخرى غيرِ محصورةِ العددِ لن يَعْرِفها أحد. وهو حائزٌ لذهنٍ شامل، لا بالمعارف، بل بالقدرةِ على اكتسابها، حائزٌ لذهنٍ عريضٍ لامعٍ مستعدٍّ لكلِّ شيء، قابلٍ للتعلُّم إذا لم يكن متعلِّمًا كما قال مونتين. ويكفيني أن يكون عارفًا ﺑ «ما الفائدة؟» حَوْلَ كلِّ ما يصنع، وﺑ «لماذا؟» حولَ كلِّ ما يعتقد، وذلك كما أقولُ ثانيةً، أن غرضي ليس منحه علْمًا، بل تعليمُه اكتسابَه عند الحاجة، بل تقديرُ قيمته الحقيقية تمامًا، بل جعْلُه يحبُّ الحقيقةَ أكثرَ من كلِّ شيء. أجل، إن التقدُّم بهذا المنهاج يكون قليلًا، ولكنه لا يُؤتى من الخُطُوات ما هو غيرُ مفيد، ولا نكون مُكرَهين على الرجوع إلى الوراء.
وليس لدى إميلَ غيرُ معارفَ طبيعيةٍ وفزيَويةٍ صِرْفة، وهو لا يَعْرِف حتى اسم التَّارِيخ، ولا عِلمَ الأخلاق وما بعد الطبيعة، وهو يَعْرِفُ علائقَ الإنسانِ الجوهريةَ بالأشياء، ولكنه لا يَعْرِف أيةَ علاقةٍ خُلُقية بين إنسان وإنسان. وهو قليلُ المعرفة بتعميم الأفكار وقليلُ إتيانٍ بالمُجرَّدات، وهو يرى صفاتٍ مشتركةً بين بعض الأجسام من غير أن يُبرْهن حول هذه الصفات بنفسها، وهو يَعْرِف الاتساعَ المُجرَّد مستعينًا بالأشكال الهندسية، وهو يَعْرِف الكمية المجرَّدة مستعينًا بالرموز الجبرية، وهذه الأشكال والرموز هي أركان هذه المجردات التي تركن إليها حواسُّه، وهو لا يحاولُ معرفةَ الأشياءِ بطبيعتها مطلقًا، ولكنه يحاولها بالعلائق التي تهمُّه فقط، وهو لا يُقدِّر ما هو غريبٌ عنه بغيرِ علاقته معه. ولكن هذا التقديرَ صحيحٌ مُحكَم، ولا دخلَ للهوى والمُبْتَسَر فيه، وهو أكثرُ ما يُقدِّر الأشياءَ الأعظمَ فائدةً له، وهو إذْ لا يعدِل عن هذا الطريقِ في التقديرِ فإنه لا يلتفتُ إلى المُبْتَسَر مطلقًا.
وإميلُ مُجِدٌّ قَنوعٌ صبورٌ رصينٌ مملوءٌ شجاعة، وما كان خيالُه غيرُ المشتعلِ قطعًا، ليُجسِّمَ له الأخطارَ مطلقًا، وهو يتأثَّرُ بأمراضٍ قليلةٍ عارفًا كيف يَصْبِرُ عليها بثبات؛ وذلك لأنه لم يتعلَّم قَطُّ أن يناهض القَدَر، وهو لا يَعْرِف جيِّدًا ما الموت أيضًا. ولكن بما أنه تعوَّد معاناةَ سُنَّةِ الضرورةِ بلا مقاومةٍ فإنه يموت عند وجوبِ الموت بلا أنينٍ ولا انتفاض، وهذا كلُّ ما تَسمح به الطبيعةُ في تلك الساعة الكريهة لدى الجميع، وتُعدُّ الحياة الحرة وقلةُ الاكتراث لأمور البشر أفضلَ طريقةٍ لتعلُّم الموت.
والخلاصةُ أن إميلَ له من الفضيلة كلُّ ما يتعلَّق بشخصه، وهو لكي يحوز الفضائل الاجتماعية أيضًا، لا يُعْوِزه غيرُ معرفة العلاقات التي تقتضيها، ولا يُعْوِزه غيرُ المعارف التي ترى ذهنَه مستعدًّا كلَّ الاستعداد لتقبُّلِها.
وهو ينظُر إلى نفسه غيرَ ملتفتٍ إلى الآخرين، وهو يجدُ من الحَسَن ألَّا يُفكِّر الآخرون فيه مطلقًا، وهو لا يطلُب شيئًا من أحد، ولا يرى أنه مَدينٌ بشيءٍ لأحد، وهو وحيدٌ في المجتمع البشري، ولا يعتمد على غيرِ نفْسه، ويَحِقُّ له أن يعتمد على نفْسه أكثرَ من سواه؛ وذلك لأنه كلُّ ما يُمكِنُ الإنسانَ أن يكونه في مثلِ سنِّه، وهو خالٍ من الأضاليل، أو إنه ليس لديه من هذه غيرُ ما لا مَفرَّ منه، وهو خالٍ من العيوب، أو إنه ليس لديه من هذه غيرُ ما لا يستطيع إنسانٌ أن يتَّقيَه، وهو ذو جسمٍ سليمٍ وأعضاءٍ رشيقةٍ وذهنٍ صحيحٍ خالٍ من المُبْتَسَرات وقلبٍ طليقٍ خالٍ من الأهواء. ولم يَكَدِ العُجْب الذي هو أوَّلُ الأهواءِ وأقربُها إلى الجِبِلَّة، يُساوِرُ فؤادَه بَعد، وهو من غيرِ أن يُقلِقَ راحةَ أحد، قد عاش راضيًا سعيدًا حُرًّا بمقدارِ ما تأذن فيه الطبيعة، أَوَتجدون الولدَ الذي بَلَغَ الخامسة عشرة من سِنيه على هذا الوضع قد أضاع سِنيه السابقة؟