الجزء الخامس
ها نحن أولاء قد وصلنا إلى الفصل الأخير من الفَتاء، ولكننا لم نَبلغ الخاتمةَ بعد.
وليس من الحَسَن أن يكون الرجلُ وحيدًا، وإميلُ رجل، وكُنَّا قد وعدناه برفيقة، فيجب إعطاؤه إياها، وهذه الرفيقة هي صوفية، وأين مأواها؟ وأين نجدها؟ يجب أن تُعرَف لتُوجَد، ولنعرفْ مَن هي أوَّلًا، ثُمَّ نَكون أحسنَ حكمًا في الأماكن التي تَسكُن. ولا يكون عملنا قد انتهى بالعثور عليها، وقد قال لوك: «بما أن فتانا الماجد أوشك أن يتزوج، فقد أنى وقتُ تركِه بجانب خليلته.» فبهذه الكلمات يتمُّ كتابه. وأمَّا أنا الذي لم يكن لي شرفُ تنشئةِ ماجد، فإنني أحترزُ من اتِّباع لوك في ذلك.
صُوفْيَة أو المرأة
يجب أن تكون صُوفْيةُ امرأةً كما أن إميلَ رجل، أي يجب أن تكون حائزةً جميعَ ما يلائم بِنيةَ نوعها وجنسها للقيام بدورها في النظام المادي والأدبي، ولنبدأ إذن بفحصِ ما بين جنسنا وجنسها من تشابهٍ واختلاف.
وإذا عَدَوْتَ كلَّ ما لا يتعلَّق بالجنس وجدْتَ المرأةَ رجلًا، فلها عينُ الأعضاء وعين الاحتياجات وعين الخصائص؛ فالآلة أُلِّفَت على ذات الطراز، وقِطَعُها هي هي، وعملُ إحداها هو عمل الأخرى، وتتشابه الهيئة، ومهما يكن الوجه الذي تَنْظُرُ به إليها فإنها لا تختلف فيما بينها إلا بمقدار.
وترى للمرأة والرجل في كلِّ ما يتعلَّق بالجنس علاقاتٍ في كلِّ مكانٍ واختلافاتٍ في كلِّ مكان، وتنشأ صعوبةُ المقابَلةِ بينهما عن تعييننا في بِنْيَةِ كلٍّ منهما ما هو خاصٌّ بالجنس وما هو غير خاصٍّ به. ويَدُلُّ علمُ التشريح المقارَن، حتى المشاهدةُ وحدَها تَدُل، على وجودِ فروقٍ عامةٍ بينهما تظهرُ غيرَ خاصةٍ بالجنس مطلَقًا، وهي خاصةٌ به مع ذلك، ولكنْ بصِلاتٍ لا تدخل ضمن نطاق انتباهنا. ونحن لا نعرف المدى الذي يمكن أن تمتدَّ إليه هذه الصلات، والأمرُ الوحيد الذي نعلمه علمَ اليقين هو أن كلَّ ما هو مشتركٌ بينهما هو من النوع، وأن كلَّ ما هو مختلف بينهما هو من الجنس. ونرى بعد النظر إلى وجهةِ النظر المزدوجة هذه أنه يوجد بينهما من المطابقات والاختلافات ما يكون من عجائب الطبيعة معه أن تستطيع صُنع موجودَيْن بالِغَي التشابه بتكوينهما مختلفين بهذا المقدار.
ولا بُدَّ من تأثير هذه العلاقات والاختلافات في الأخلاق، وهذه النتيجة واضحةٌ موافقةٌ للتجرِبة، وهي تدلُّ على بُطْلِ المجادلات حَوْلَ تفضيل أحد الجنسين أو المساواة بينهما، وذلك كما لو كان كلٌّ من الجنسين يسيرُ نحو غايات الطبيعة وَفْقَ مصيره الخاص، فلا يكون أكثرَ كمالًا في هذا إلا إذا كان أكثرَ مشابهةً للآخر! وهما يتساويان فيما هو مشتركٌ بينهما، وهما لا يُقارَن بينهما فيما يختلفان فيه، ولا ينبغي للمرأة الكاملة والرجل الكامل أن يتشابها روحًا أكثرَ من أن يتشابها وجهًا، ولا يَقبَل الكمالُ زيادةً ولا نقصانًا في ذلك.
وكلٌّ من الجنسين يساعِد، باقترانهما، على الغرض المشترك متساويًا، ولكن ليس على طرازٍ واحد. وينشأ عن هذا التنوُّعِ أوَّلُ اختلافٍ يُمْكِن تعيينه في العلائقِ الأدبية بين الجنسين، فيجب أن يكون أحدُهما فاعلًا قويًّا وأن يكون الآخرُ منفعلًا ضعيفًا، ويجب أن يُريدَ أحدُهما ويَقدِرَ بحكم الضرورة، ويكفي أن يُقاوِمَ الآخرُ قليلًا.
ويُسْفِرُ تقريرُ هذا المبدأ عن كونِ المرأةِ خُلِقت لِتَروقَ الرجل، وإذا ما وجب أن يَرُوقَها الرجلُ بدوره فذاك عن ضرورةٍ أقلَّ مباشرة؛ فمَزِيَّةُ الرجل في قدرته، وهو يروقُ لأنه قويٌّ فقط. أجلْ، ليس هنا قانون الحُب، وأوافق على هذا، وإنما هذا قانونُ الطبيعة السابقُ للحُبِّ نفسه.
وإذا كانت المرأة قد خُلِقَت لتقع موقِعَ الرِّضا وتخضَع، فإنه يجب عليها أن تصير مقبولةً عند الرجل بدلًا من إغضابه؛ فقوة المرأة في فتونها، وبهذا الفُتُون يجب أن تحمله على أن يجد قوَّته وأن يستعملها، وأضمنُ فنٍّ في إنعاش هذه القوة هو جعلها ضرورية بالمقاومة، وهنالك تقترن الأنانيةُ بالرغبة ويفوز أحدُهما بالنصر الذي يُنيلُه الآخر إياه؛ ومِنْ ثَمَّ يُولَدُ الهجومُ والدفاع وجُرْأة أحد الجنسين وحشمة الآخر، ثُمَّ الحياءُ والخجلُ اللذان تُسلِّح الطبيعةُ بهما الضعيفَ لإخضاعِ القويِّ.
ومَن يستطيعُ أن يتصوَّر أن الطبيعة فَرضت ذات السُّلَف لهذا الجنس وذاك الجنس، وأن الأوَّل الذي يَشْعر بالرغبة يجب أن يكون أوَّلَ مَن يُبديها أيضًا؟ ويا للفساد الغريب في الحكم! وبما أن للمشروع نتائجَ بالغةَ الاختلاف لدى الجنسين، فهل من الطبيعي أن يكون عندهما عينُ الجُرأة في الإقدام عليه؟ وكيف لا يُرى بمثلِ ذلك التفاوت العظيم في الحِصَّة المشتركة، كونُ الاحتياطي إذا كان لا يَفرِضُ على أحدهما ما تَفرِض الطبيعة على الآخر من الاعتدال، فإنه لا يلبث أن ينشأ عن هذا في الحال فساد الاثنَين، فيَهْلِك النوعُ البشري بالوسائل التي قامت لحفظه؟ وإذا وُجِد، مع السهولة التي يُثيرُ النساء بها حواسَّ الرجال ويوقظن في قلوبهم بقايا مِزاجٍ خامدٍ تقريبًا، إقليمٌ تَعِسٌ في الأرض، تُدْخِل الفلسفة إليه تلك العادة، ولا سيَّما في البلاد الحارة؛ حيث يُولَد إناثٌ أكثر من الذكور ويَجُرْنَ عليهم، فإنهم يذهبون ضحايا لهنَّ في آخرِ الأمر، ويَرون أنفسهم مقودين إلى الموت من غير أن يقدروا على رَدِّه مطلقًا.
وقد أراد الكائن الأعلى أن يُكرِّم النوعَ البشريَّ بإنعامه على الإنسان بميولٍ لا حدَّ لها، كما أنه أنعم عليه في الوقت نفسه بقانونٍ ناظمٍ لها، حتى يكون طليقًا مُسيطِرًا على نفسه؛ فهو إذ يُسْلِمُه إلى أهواءٍ متطرِّفة يضيف العقلَ إلى هذه الأهواء حتى يهيمن عليها، وهو إذ يُسْلِمُ المرأةَ إلى رغائبَ لا حَدَّ لها يضيف الحياءَ إلى هذه الرغائبِ حتى يَرْدَعها. وهو، زيادةً على ذلك، يُضيف أيضًا مكافأةً حاضرةً إلى حُسْن استعمال القابليات، أي يضيف الذوقَ الذي يُنال من صالحِ الأمورِ عند اتخاذها قاعدةً للأعمال، وهذا يساوي غريزةَ الحيوانات كما يَلوح لي.
وسواءٌ أقاسمت الأنثى الرجلَ شهواتِه أم لا، وسواءٌ أرغِبتْ في قضائها أم لم ترغبْ، تدفعه وتدافع عن نفسها دائمًا، ولكن ليس بذات القوة دائمًا، ولا بذات الفوز نتيجة. ويجب لفوز المهاجم أن يأذنَ المهاجَمُ فيه، أو أن يشير به، وما أكثر الوسائل اللَّبِقة التي يُتذرَّع بها لحمْلِ الصائلِ على استعمال قُوَّته! وما كان أكثرُ جميع الأفعال حريةً وحلاوةً ليقبَلَ عُنفًا حقيقيًّا مطلقًا؛ فالطبيعة والعقل يأبيان ذلك، وذلك من حيث إن الطبيعة زوَّدت الأضعفَ بما يحتاج إليه من القوة للمقاومة إذا ما أرادها، ومن حيث إن العقل يقضي بكون العنف الحقيقي أفظعَ جميعِ الأفعال، فضلًا عن أنه مخالِفٌ لمقصِده، وذلك لكون الرجل يَشْهر هكذا حربًا على رفيقته ويُجيز لها الدفاع عن نفسها وحريَّتها حتى على حساب حياة المعتدِي، ولكونِ المرأةِ وحدَها حَكَمًا في الحال التي تكون عليها، فلا يكون للولد أبٌ مطلقًا إذا ما استطاع كلُّ رجلٍ اغتصابَ حقوقه، وبكونه تابعًا للأضعف حقيقة. وليس هذا عن انتحالٍ لعادة الغزل التافهة، ولا عن كرم الحامي الزاهي، ولكن عن قانون الطبيعة الثابت الذي يمنح المرأة سهولةً في تحريك الشهوات أكثرَ من منحها الرجلَ سهولةَ قضائها، فتجعلُ هذا، مع ما عنده من ذلك، تابعًا لرغبتها، وتُكرهه بدوره على طلب رضاها نيلًا لموافقتها على تركِه يكونُ الأقوى. وهنالك يكون أحلى ما عند الرجل في فوزه شكُّه في كونِ الضعفِ هو الذي يُذْعِنُ للقوة أو في كَوْن الإرادة هي التي تَخْضع. ويقوم مَكرُ المرأةِ العاديُّ على ترْك هذا الشكِّ ماثلًا بينه وبينها، ويلائم ذِهنُ النساء في هذا بُنْيتَهن ملاءمةً تامَّة، فيُقِمن مجدَهن على ضَعْفِهن بعيداتٍ من الخَجَل منه، وذلك أن عضلاتِهن المَرِنة تكون بلا مقاومة، وذلك أنهن يُبدين عجزَهن عن رفْع أخفِّ الأثقال فيستحينَ من أن يكنَّ قويات. ولِمَ هذا؟ لا يكون هذا من أجل ظهورهن ناعمات، بل عن احترازٍ أكثرَ مهارة، وذلك أنهن يُزوِّدْنَ أنفسهن بالمعاذير من بعيدٍ وبحقِّ كونهن ضعيفاتٍ عند الضرورة.
وتأثيرُ هذه الاختلافات في الآراء حولَ الطباعِ أمرٌ محسوس، ويُعَدُّ الغزلُ الحديثُ نتيجةً لها، وإذْ كان الرجال يجدون اتِّباع ملاذِّهم لإرادة الجنس اللطيف بأكثرَ مما لم يتصوروا، فقد قهروا هذه الإرادةَ بملاطفاتٍ عَوَّضهم هذا الجنسُ منها خيرَ تعويض.
ورَوْا كيف أن البدنيَّ يسوقنا إلى الأدبي سوقًا غيرَ محسوس، وكيف أنه ينشأ عن اقتران الجنسين الغليظ أحلى قوانين الحُبِّ بالتدريج، ولا يقوم سلطان النساء على إرادة الرجال مطلقًا، بل لأن الطبيعة أرادته هكذا، وكان هذا السلطانُ للنساء قبْل ظهورهن حائزاتٍ له، وهِرْكُولُ نفسه هو الذي اعتقدَ اغتصابَه لبنات تِسْبِيوس الخمسين، فاضطُرَّ إلى الغَزْل بالقُرْب من أُنْفال. ولم يكُن شَمْشون الجبارُ بالغَ القوةِ أمامَ دَلِيلة؛ فهذا السلطانُ خاصٌّ بالنساء، ولا يمكن نزعُه منهن حتى عندما يُسِئنَ استعمالَه، ولو أمكَن فَقْدُهنَّ له لكان هذا الفقدانُ قد وقع منذ زمنٍ طويل.
ولا يوجَد أيُّ تماثُلٍ بين الرجل والمرأة من حيث الجنس، وليس الذكرُ ذكرًا إلا في بعض الأحوال، والمرأة امرأةٌ مدى حياتها، أو مدى فتائها على الأقل، وكلُّ شيءٍ يُذكِّرها بجنْسها بلا انقطاع، ولا بُدَّ لها من بنيةٍ تلائم وظائفها حتى تُحْسِن القيامَ بهذه الوظائف، ولا بُدَّ لها من المداراة في أثناء حَمْلها، ولا بُدَّ لها من السكون في نِفاسها، ولا بُدَّ لها من حياةٍ منزليةٍ ناعمةٍ لإرضاع أولادها، ولا بُدَّ لها لتربية أولادها من الصبر والرفق وما لا يُخمِدُه شيءٌ من الغَيْرة والعطف. وهي تَصْلح أن تكون أداةَ وَصْلٍ بينهم وبين أبيهم، وهي وحدَها تُحبِّبُهم إليه، وهي وحدَها تُوحي إليه من الثقة ما يَدْعُوهم معه أولادَه. ويا لاحتياجه إلى اللُّطف والعناية حتى يَشُدَّ جميعَ الأُسرَة برابطةِ الاتحاد! وأخيرًا لا ينبغي أن يُعَدَّ جميعُ هذا من الفضائل، بَلْ من الميول التي لولاها لانطفأ النوعُ البشريُّ من فوره.
وما يُلْزَمُ به الجنسان من واجباتٍ ليس واحدًا، ولا يُمْكن أن يكون واحدًا، بالنسبة إلى كلِّ واحدٍ منهما، وإذا ما ألِمَت المرأةُ من التفاوت غيرِ العادل الذي يجعَلُه الرجلُ في ذلك كانت مخطئة؛ فليس هذا التفاوتُ نظامًا بشريًّا مطلقًا، أو إن هذا التفاوتَ ليس على الأقلِّ من عملِ المُبْتَسر مطلقًا، بل من عمل العقل، وذلك أن الطبيعة جعلت من الجنس الذي حمَّلَتْه الأولادَ وديعةً مسئولًا لدى الجنس الآخر. ولا مِراءَ في أنه لا يجوز لشخصٍ أن ينقُضَ عهدَه، فيُعَدُّ كلُّ زوجٍ خائنٍ يَحْرِم امرأتَه ثَمَنَ واجباتِ جنسِها الصارمةِ ظالمًا غليظًا. ولكن المرأة الخائنة تصنع ما هو أعظم؛ فهي تَحُلُّ الأسرةَ وتقطَعُ جميعَ الروابط الطبيعية، وهي حين تُعْطي الرجلَ أولادًا ليسوا له تكون قد خانته وخانتهم، وذلك بإضافتها الغدرَ إلى عدمِ الوفاء. ومن العسيرِ عليَّ أن أرى أيُّ اختلالٍ وذنْبٍ لا يَلزَمُ ذلك، فإذا وُجِدَ في العالَم حالٌ هائلٌ كان هذا حالَ أبٍ تعِسٍ لا يثق بامرأته، فلا يجرؤ على السيرِ مع أحلى مشاعر فؤاده، حالَ أبٍ يشُكُّ حين يُقبِّلُ ولدَه في تقبيله ولدَ غيره، في تقبيلِ رَهْنِ شَيْنِه الذي هو سالبُ تُراثِ أولاده الحقيقيين. وما تكون الأسرة حينئذٍ إذا لم تكن جمعيةً من الأعداءِ الخَفِيِّين الذين تُسلِّحُ امرأةٌ مذنبةٌ بعضَهم ضِدَّ بعضٍ مع حَمْلِهم على الظهورِ بمظهرِ المتحابِّين؟
وليس من المهمِّ إذن أن تكون المرأةُ وفيَّةً فقط، بل يجب أن يُقضى بأنها هكذا من قِبَل زوجِها وأقربائِها وجميعِ النَّاس. ومن المهم أن تكون مُحتشمةً منتبهةً متبصِّرة، وأن تُقدِّم إلى أعين الآخرين كما تُقدِّم إلى ضميرها الخاص شهادةً على فضيلتها. وأخيرًا، إذا كان من المهمِّ أن يُحِبَّ الأبُ أولاده، فإن من المهم أن يُقدِّر أمَّهم. وهذه هي الأسبابُ التي تَضَع الظاهرَ في عِداد واجبات النساء، ولا تجعلُ الشرفَ والصيتَ أقلَّ لزومًا من العَفاف، ومن هذه المبادئ يُشتَق، مع الفَرْق الخُلُقيِّ بين الجنسين، عاملُ واجبٍ ولياقةٍ يَفرِضُ على النساء خاصَّةً أدقَّ انتباهٍ في سلوكهنَّ وأوضاعهنَّ ورزانتهن. ويُعَدُّ الادِّعاءُ الغامضُ بأن الجنسين متساويان وبأن واجباتهما واحدةٌ تَيْهًا في الكلام الفارغ، ولا ينطوي هذا الكلامُ على شيءٍ ما دام لا يُجيبُ عن ذلك.
وأُوافق على وجودِ بلادٍ تلدُ النساءُ فيها بلا عناءٍ تقريبًا، ويُرضِعن أولادهن فيها بلا جهدٍ تقريبًا، ولكنَّ الرجالَ في هذه البلاد نفسِها يمشون نصفَ عُراةٍ في كلِّ وقت، ويصرعون الضواري، ويَحْمِلون قاربًا كأنه جِراب، ويقومون بضروب الصيد على مسافةِ سبعمائة فرسخٍ أو ثمانمائة فرسخ، وينامون في العَراء، ويحتمِلون ما لا يُمكِن تصديقُه من المتاعب، ويقضون عِدَّةَ أيامٍ من غير أن يأكلوا. وإذا ما صار النساءُ عُصْلُبياتٍ صارَ الرِّجالُ أكثرَ منهم بأسًا، وإذا ما أصبح الرجالُ مُتْرَفين أصبح النساءُ أعظمَ منهم تَرَفًا، وإذا ما تغيَّر الفريقان على السواء بقيَ الفرْق كما هو.
وأفلاطونُ في جمهوريته يمنحُ النساء ما يمنح الرجالَ من تمريناتٍ رياضية، وأعتقد هذا جيِّدًا، وبما أنه نَزَع الأُسَرَ الخاصةَ من حكومته، وبما أنه عاد لا يَعْرِف ما يصنعُ بالنساء، فقد رأى أنه مضطرٌّ إلى جعْلهن رجالًا. وقد نظَّمَ هذا الداهيةُ الأغرُّ كلَّ شيء، وأبصرَ كلَّ شيء، وقد استعدَّ لاعتراضٍ لم يفكِّر أحدٌ في توجيهه إليه على ما يحتمل، ولكنه أساء حلَّ الاعتراض الذي يُوجَّه إليه. ولا أتكلم مُطلَقًا عن شركةِ الزوجات المزعومة التي يُثبِتُ ما وُجِّه إليها من تأنيبٍ مُكرَّرٍ أن الذين أتَوْه لم يقرءوا كتابَه قَط، وإنما أتكلم عن ذلك العبثِ المدنيِّ الذي يَخْلِط في كل مكان بين الجنسين في ذات الخِدَم والأعمال، والذي لا يمكن أن يُعْوِزَه توليدُ ما لا يُطاق من سوء الاستعمال، وإنما أتكلم عن هدمِ أحلى مشاعرِ الطبيعةِ التي يُضَحَّى بها في سبيلِ شعورٍ مصنوعٍ لا يُمكن أن يدومَ بدونها، وذلك كما لو كان من غيرِ الواجبِ وجودُ سبيلٍ طبيعيٍّ لتكوينِ روابطِ عهدٍ! وذلك كما لو كان حُبُّ الإنسان لأقربائه شيئًا آخَر غير المبدأ الواجب نحو الدولة! وذلك كما لو كان القلبُ لا يرتبط في الوطن الأكبر بالوطن الأصغر؛ أي الأسرة! وذلك كما لو كان الابنُ الصالحُ والزوجُ الصالحُ والأبُ الصالحُ لا يُكوِّنون المواطنَ الصالح!
وإذا ثَبَتَ مرَّةً أنه ليس للرجل والمرأة عينُ الأخلاق والمِزاج، وأنه لا ينبغي أن يكون لهما عينُ الأخلاق والمِزاج، تَبِع ذلك كونُه لا يجوز أن تكون لهما عينُ التَّربية. وإذا ما اتَّبَعا مناحي الطبيعة وجبَ أن يَسيرا متعاونَين، ولكن ليس من الواجب عليهما أن يقوما بذات الأمور. أجل، إن غايةَ الأعمالِ مشتركة، ولكنَّ الأعمالَ مختلفة؛ ومِنْ ثَمَّ تختلف الميولُ التي توجِّهُها، وإني بعد أن سعيتُ في تكوين الرجل الطبيعيِّ وجبَ أن نرى أيضًا كيف يَجِبُ أن تُكوَّن المرأةُ التي تناسب هذا الرجل.
وإذا أردتم أن تكونوا حَسَني التوجيه دائمًا، فاتَّبِعُوا مَنَاحيَ الطبيعةِ دائمًا. ويجب احترامُ كلِّ ما يَمِيزُ الجنسَ على أنه من صُنْع الطبيعة، وأنتم تقولون، بلا انقطاع، إنه يوجد للنساء من هذه النقائص أو تلك ما ليس عندنا، فزهوُكم يخدَعُكم؛ فما تجدون من هذه النقائصِ يُعَدُّ مزايا لهن، وكلُّ شيءٍ يَسيرُ سيرًا أقلَّ صلاحًا إذا عَطِلْنَ من تلك النقائص، وحُولُوا دونَ انحطاط تلك النقائص، ولكن احترِزوا من القضاء عليها.
ولا يكفُّ النساء من ناحيتهن عن الصُّراخِ قائلات: إننا نُنَشِّئُهنَّ ليكُنَّ مغروراتٍ غنِجَات، وإننا نُلهِيهنَّ دائمًا بصِبيانياتٍ حتى يَسهُلَ علينا أن نبقى سادةً لهن، وهن يَلُمْننا على نقائصَ نَلُومُهنَّ عليها. فيا لَلْحماقة! فمتى صار الرجالُ يتدخلون في تربيةِ البنات؟ وما الذي يمنعُ الأمهاتِ من تنشئتهن كما يَروقُهن؟ ليست لهن كلياتٌ مطلقًا، فيا لَلْبلاء العظيم! ويْ! لو سَمَحَ الرَّبُّ بألَّا يكون للصبيان شيءٌ من ذلك لنشئوا على ما هو أصلحُ وأقربُ إلى الصواب. وهل تُكرَه بناتُكم على قضاء أوقاتهن في توافهِ الأمور؟ وهل يُحمَلن مُكرَهاتٍ على قضاء نصف حياتهن في أمورِ زينتهن سَيرًا على غِراركم؟ ومَن يمنعكم من تعليمهن أو من حمْلهن على التعلُّم كما تشاءون؟ وهل يقع الذَّنْب علينا إذا ما طِبْنَ لنا عن حُسْنٍ فيهن، وإذا ما أغويننا بغُناجهن، وإذا كان الفنُّ الذي يتعلَّمنه منكم يجتذبنا ويفتِنُنا، وإذا كُنَّا نُحِبُّ أن نراهنَّ رائعاتِ الهندام، وإذا كُنَّا نَدَعُهن يشحذْن على مَهْلٍ ما يُخْضِعْننا له من السلاح؟ وَيْ! اذهبوا إلى تنشئتهن كالرجال، والرجالُ يوافقون على ذلك طيِّبي الخاطر، وهنَّ كلَّما أردن مشابهةَ الرجال قَلَّت سيطرتُهن عليهم، وهنالك يصير الرجالُ سادةً حقًّا.
أجلْ، إن جميعَ خصائص الجنسين المشتركة ليست مقسومةً بينهما على السواء، ولكنها إذا ما نُظِرَ إليها في مجموعها وُجِد أن كلَّ واحدٍ من الجنسين يعتاضُ من الآخر. والمرأة أكثرُ قيمةً كامرأةٍ وأقلُّ قيمةً كرجل، وهي تُفضَّلُ حيث تُروِّج حقوقها، وهي تبقى دوننا حيث تريد اغتصابَ حقوقِنا، ولا يمكن ردُّ هذه الحقيقة العامة بغير استثناءات؛ أي بغيرِ أُسلوبٍ في البرهنة ثابتٍ يأتي به ذوو الأُنسِ من أنصار الجنس اللطيف.
ولِذا فإن من الواضح أنَّ تَعَهُّدَ صفاتِ الرَّجلِ في المرأةِ وإهمالَ ما هو خاصٌّ بهن ينطوي على الإضرارِ بهن، ويبلُغ ذواتُ المكْر من رؤيةِ ذلك جيِّدًا ما لا يُخدَعن معه بذلك، وهنَّ حين يُجاهِدْنَ في اغتصابِ منافعنا لا يترُكْنَ منافعهن، ولكن بما أنهن لا يستطِعن تدبيرَ أمرِ هذه وتلك جيِّدًا لتباينهما؛ فإنه ينشأ عن ذلك بقاؤهن دونَ مستواهن من غير ارتقاءٍ إلى مستوانا، وخُسرانُهن نصفَ قيمتهن، واتَّبِعي نصيحتي، أيتها الأمُّ العاقلة، فلا تجعَلي من ابنتك رجلًا صالحًا لما ينطوي عليه هذا من تكذيبٍ للطبيعة، واصنعي منها امرأةً صالحة، وثقي بأن هذا أفضلُ لنا ولها.
وهل يُستدَلُّ من ذلك وجوبُ تنشئتها جاهلةً لكلِّ شيء، مقصورةً على الواجبات المنزلية وحدَها؟ وهل يصنعُ الرجلُ خادمتَه من رفيقته؟ وهل يَحْرِمُ نفسه نحوَها من أعظمِ فُتُونٍ في المجتمع؟ وهل يمنعُها من الشعور بشيءٍ ومن معرفة أيِّ شيءٍ إمعانًا في استعبادها؟ وهل يَجْعَلُ منها تمثالًا مُتحرِّكًا؟ كلَّا، لا ريب؛ فليس هذا ما تقول الطبيعةُ التي منحت النساءَ روحًا كثيرةَ الرِّقة بالغةَ اللطافة، والطبيعة على العكس تريد أن يُفكِّرْنَ ويَحْكُمْنَ ويُحبِبْنَ ويَعرِفن ويتعهَّدن ذهنَهن كما يتعهدن صورتَهن، وهذه هي الأسلحة التي أنعمت الطبيعةُ بها عليهن لتقوم مقامَ القوة التي تُعْوِزُهنَّ ولتوجيهِ قُوَّتنا، ويجب عليهن أن يتعلَّمن أمورًا كثيرة، على أن تكون معرفةُ هذه الأمور ملائمةً لهن.
وسواءٌ عليَّ أنظرتُ إلى غرضِ الجنس الخاصِّ أم لاحظتُ ميولَه أم عدَدْتُ واجباته، وجدْتُ كلَّ شيء يتضافر تضافرًا متساويًا على دَلَالتي إلى شكل التَّربية التي تلائمه. أجلْ، إن كلًّا من المرأة والرجل خُلِقَ في سبيل الآخر، غيرَ أن اتِّباع أحدِهما للآخر ليس متساويًا؛ فالرجال تابعون للنساء برغائبهم، والنساءُ تابعاتٌ للرجال برغائبهن واحتياجاتهن. ونحن نعيش بدونهنَّ أكثرَ من عيشهنَّ بدوننا، وذلك أنه يجب، لحيازتهنَّ الحاجيَّ ولوجودهن في حالهن، أن نُعطيَهن إياه، وأن نريدَ إعطاءهن إياه، وأن نُقدِّر استحقاقهن له، وهن تابعاتٌ لمشاعرنا، ولِمَا نَجعلُ من ثمنٍ لمزيتهن، ولِمَا يكونُ عندنا من فكرٍ عن فتونِهن وفضائلهن، حتى إن من مقتضيات قانون الطبيعة أن يكون النساءُ تحت رحمة أحكام الرجال من أجل أنفسهن ومن أجل أولادهن، فلا يكفي أن يكُنَّ أهلًا للتقدير، بل يجب أن يكُنَّ مُقَدَّرات، ولا يكفي أن يكنَّ جميلات، بل يجب أن يَرُقن، ولا يكفي أن يَكُنَّ حكيمات، بل يجب أن يُعرَفن هكذا. وليست سعادتهن في سلوكهن، ولكن في سُمْعَتهن، وليس من الممكن استطاعةُ التي توافق على عدِّها شائنةً أن تكونَ شريفةً مطْلَقًا. ولا يتوقَّف أمرُ الرجل الذي يعمَلُ صالحًا على غيرِ نفْسه، ويستطيع الرجل أن يقتحم الحكمَ العام، ولكن المرأة إذا ما عَمِلَت صالحًا لا تكون قد قامت بغير نصف عملها؛ فما يدور حَوْلها من فكرٍ لا يكون عندها أقلَّ أهميةً مما هي عليه حقيقة؛ ومِنْ ثَمَّ يُرى أن نظام تربيتها يجب أن يكون من هذه الناحية مخالفًا لنظام تربيتنا، أي إنَّ رأيَ النَّاس قبرٌ للفضيلة بين الرجال، ويكون عرشُه بين النساء.
وتتوقف بِنْيةُ الأولاد على حُسْن بِنْية الأمهات في بدء الأمر، ويتوقَّف أوَّل تربية للرجال على عناية النساء، وتتوقَّف على النساء كذلك طباعُهم وأهواؤُهم وأذواقُهم ورغائبُهم، وسعادتُهم أيضًا. وهكذا، فإنَّ كلَّ تربيةٍ للنساء يجب أن تُرسَم نظرًا إلى الرجال، وتقوم واجباتُ النساء في جميع الأوقات على وقوعِهنَّ موقعَ الرِّضا لديهم، وعلى فائدتهن لهم، وعلى تحبيب أنفسهن لهم، وعلى تمجيدِهن من قِبَلهم، وعلى تنشئتهن لهم فتيانًا، وعنايتهن بهم كِبَارًا، وعلى نصيحتهم وتسليتهم وجَعْلِ الحياةِ مقبولةً حُلْوَةً عندهم، وهذا ما يجبُ تعليمُهن إياه منذ صِباهن، ويُبتَعَد عن الغايةِ ما ابتُعِدَ عن هذا المبدأ؛ فلا يكون لجميعِ التعاليمِ التي تُلقى عليهن نَفْعٌ لسعادتهن وسعادتنا.
ولكنَّ كلَّ امرأة، وإن كانت تريد أن تروقَ الرجالَ، وكان لِزامًا عليها أن تريدَ ذلك، يُوجَد فرقٌ كبيرٌ بين رَوَقانها رجُلَ الفضلِ والأنسِ حقًّا، وإرادتِها أن تروقَ صِغارَ اللطفاء الذين يشينون جنسَهم والجنسَ الذي يُقلِّدونه. وما كانت الطبيعةُ ولا العقلُ ليستطيعا حملَ المرأةِ على أن تُحِبَّ في الرجالِ مَن يشابهها، وكذلك لا ينبغي للمرأةِ أن تنتحلَ أوضاعَ الرجالِ فتحاول حمْلَهم على حُبِّها.
ولذا فإنَّ النساءَ إذا ما تَرَكْنَ احتشامَ جنسِهنَّ ووقارَه واتخذن أوضاعَ هؤلاء الطائشين، ابتعدن عن اتِّباعِ ما يُسِّرْن له وعَدَلْنَ عنه، وحَرَمنَ أنفسَهن ما يَرين أنهن اغتصبْنه من حقوق، وهن يَقُلن: «لو كُنَّا غيرَ هذا ما وقعنا موقعَ الرِّضا عند الرجال مُطلَقًا.» وهن يَكْذِبن؛ فلا بُدَّ من جنونِ المرأة حتى تُحِبَّ المجانين، وتدُلُّ الرغبةُ في اجتذاب أولئك النَّاس على ذوقِ التي توطِّن نفسَها على ذلك، وإذا وُجِدَ من الرجال مَن هم غيرُ طائشين مطلقًا بادرتْ إلى جعلهم طائشين، ويكون طيشُهم من صُنْعها أكثرَ من أن يكون طيشُها من صُنْعهم. وإذا كانت المرأةُ تحبُّ الرجالَ الصادقين وتريد أن تروقَهم اتَّخَذَت من الوسائل ما يلائم غرضَها. وتكونُ المرأةُ ذاتَ دَلالٍ عن وضْع، ولكنَّ الدَّلال يتغيَّر شكلًا وموضوعًا وَفْقَ مقاصِدها، فلنُنظِّم هذه المقاصد وَفْقَ أغراض الطبيعة، وهنالك تنالُ المرأةُ ما يلائمها من التَّربية.
وصُغريات البناتِ يُحببن الزينةَ منذ ولادتهن تقريبًا، وهنَّ لا يرضين أن يكُنَّ حِسانًا، وإنما يُردن أن يُرَينَ هكذا. ويُرى من خلال ملامحهن أنَّ هذا الالتفاتَ يَشْغَل بالَهن منذ البُداءة، وهنَّ لا يَكَدْن يكنَّ في حالٍ يُدرِكن بها ما يُقال لهن حتى يُسَيطَرَ عليهن بما يُفكَّرُ فيه حوْلَهن. وإذا كنتم من الخِفَّة ما تَعرِضون معه ذات الباعث على الصبيان لم تَجِدوا له ذاتَ السلطان عليهم، وهُم إذا ما كانوا ذوي استقلالٍ وكان لهم لَعِبُهم قلَّت مبالاتُهم إلى الغاية بما يُمكن أن يُفكَّر في أمرهم، وليس بغير فعْل الوقت والجُهد ما يُجْعَلون خاضعين لحُكم عينِ القانون.
ومهما تكن الجهةُ التي يأتي منها هذا الدرسُ الأوَّلُ إلى البنات، فإنه يُعَدُّ صالحًا جِدًّا. وبما أن البَدَنَ يسبقُ الذهنَ ولادة، فإن تمرين البدنِ هو أوَّلُ ما يَجِبُ أن يكون، وهذا النظام مشترَكٌ بين الجنسين، غيرَ أن غرَضَ هذا التمرين مختلف؛ فهو يَكُون نُموَّ القُوى في جنس، وهو يكون نُموَّ المحاسِنِ في الجنس الآخر. ولا يَعْني هذا أن تكون هذه الصفاتُ أو تلك في هذا الجنس أو ذاك حصرًا، وإنما تكون على نسبةٍ معكوسة. ولا بُدَّ من وجودِ قوَّةٍ كافيةٍ في النساء حتى يأتين جميعَ ما يأتين بلَطافة، ولا بُدَّ من مهارةٍ في الرجال حتى يأتوا جميعَ ما يأتون بسهولةٍ.
ويبدأ تخنُّث الرجال بإفراط النساء في التخنُّث، ولا ينبغي للنساء أن يَكنَّ قويَّاتٍ كالرجال، بل من أجل الرجال، وذلك لكي يكونَ مَن يَضعن من الرجالِ أقوياءَ أيضًا، وبهذا تكون الأديار؛ حيث يَتناول الطالبات الداخليات طعامًا غليظًا، ولكن مع كثيرِ نُزَهٍ ومسابقاتٍ وألعابٍ في الهواء الطَّلْق وفي الحدائق، أفضلَ من المنزل الأبوي حيث تتناول البنتُ غذاءً ناعمًا، وتُدارى أو تُعزَّرُ دائمًا، وحيث تجلس على مرأى من أمِّها في غرفةٍ محكمةِ الإغلاق، فلا تجرؤ على النهوض والمشي ولا على الكلام والهمس، ولا تتمتع بساعةٍ من الحرية، فلا تلعب ولا تَثِب ولا تركُض ولا تصرُخ، وتلزَم نزَقَ سنِّها الطبيعي، فإما رخاءٌ خَطِرٌ وإمَّا جَفَاءٌ طائش، ولا شيء وَفْقَ العقل، وهذا هو الوجه الذي يُقوَّض به بدنُ الشباب وقلبُه.
وكانت بنات إسبارطة يتدربن كالفتيان على الألعاب العسكرية، لا ليذهبن إلى الحرب، بل ليحمِلْنَ ذات يومٍ أولادًا قادرين على احتمال مشاقِّها. وليس هذا هو الذي أستحسن؛ فلا يقضي منحُ الدولةِ جنودًا أن تَحملَ الأمهات بنادقَ ويَقُمن بتمرينٍ على الطريقة البُروسية، وإنما أجِدُ أن التَّربية اليونانية كانت على العموم كثيرةَ البراعة من هذه الناحية؛ فكانت الفتياتُ يَظهَرن عَلَنًا في الغالب، ولكن مع تجمُّعٍ فيما بينهن وعدم اختلاطٍ بالفِتيان، وما كنتَ ترى عيدًا تقريبًا ولا قُربانًا ولا احتفالًا، لا تُرى فيه أفواجٌ من بناتِ وجوهِ المواطنين، وهن مُتوَّجاتٌ بالزهور مُرتِّلاتٌ للأناشيد مؤلِّفاتٌ أجواقًا للرقص حاملاتٌ سِلالًا وآنيةً وتَقْدِماتٍ وعارِضاتٌ على حواسِّ الأغارقة الفاسدة منظرًا ساحرًا صالحًا لموازنةِ ما للرياضة البدنية النابية من أثرٍ سيئ. ومهما يكن من عملٍ لهذه العادة في قلوب الرجال، فقد كانت نافعةً دائمًا في منْح الجنسِ بِنْيةً حسنةً في شبابه بتمريناتٍ مستحبَّةٍ معتدلةٍ صحية، وفي شحذ ذوقه وتكوينه برغبةٍ مستمرة في الوقوع موقعَ الرِّضا، وذلك من غير مجازفةٍ بالأخلاق.
وكان هؤلاء الفتياتُ إذا ما تزوَّجن عُدْنَ لا يُرَينَ بين النَّاس، وصِرن مقصوراتٍ في بيوتهن، قاصراتٍ جميعَ جهودهن على تدبير منازلهن والعناية بأُسَرِهن، وهذا هو طرازُ الحياة الذي تأمر الطبيعةُ والعقلُ به الجنس. ثُمَّ إن هؤلاء الأمهاتِ كُنَّ يَضَعن أصحَّ رجالِ العالَم وأقواهم وأحسنهم تقويمًا. وعلى ما كان يتمتَّع به بعضُ الجُزُر من سُمعةٍ سيئة، فإن من الثابت أن جميعَ الأمم، ومنها الرومانُ أيضًا، لم تشمَل ما اشتملت عليه بلادُ اليونان في الزَّمن القديم من النساء الجامعات بين الحكمة والأُنس، وبين الأخلاق والجَمال.
ومما يُعْرَف أنَّ اتساع الثياب الذي لا يُضايق الجسمَ مُطلَقًا كان يساعد كثيرًا على تركهِ لبدنِ الجنسين تلك النِّسبَ الرائعةَ في تماثيلهما، فلا تزال تصلُح أن تكون نموذجًا في الفن بعد أن انقطعت الطبيعةُ المُشوَّهةُ عن تقديمه بيننا. ولم يكن لأولئك عهدٌ بشيءٍ من جميعِ هذه العوائق القوطية وهذه الكثرةِ في الرُّبُط التي تضغط أعضاءنا من كلِّ ناحية. وكان نساؤهم يجهلن استعمالَ هذه القوالبِ الحوتيَّةِ التي يُنكِّر نساؤنا بها قاماتهن أكثرَ من الدَّلَالة عليها. ولا أستطيع أن أتصوَّر أن هذا السوءَ في الاستعمال، الذي أُمعِنَ فيه بإنكلترة إلى حدٍّ لا يُتَصوَّر، لا يؤدي إلى انحطاطِ النوعِ في آخرِ الأمر، فأذهب إلى أن الفتونَ الذي يُهدَف إليه بهذا يَنِمُّ على ذوقٍ فاسد؛ فليس من المستحسَن أن تُرى المرأةُ مَقطوعةً إلى قسمين كالزُّنبور، لِمَا ينطوي عليه هذا من إيذاءِ النظر وإيلامِ الخيال؛ فلِدِقَّة القَدِّ نِسَبُها وقياسُها ككلِّ شيءٍ آخر، فإذا وقعت مجاوزةُ ذلك ظَهَرَ العيب، حتى إن هذا العيبَ يقفُ النظرَ في العُرْي، فلِمَ يَكُون جمالًا تحت الثياب!
ولا أجرؤ على اعتصارِ الأسباب التي يُصِرُّ النساء بها على الادِّراع هكذا، فيظهر صدرٌ هابطٌ وبطنٌ ضخمٌ … إلخ. وأوافق على أن هذا يُستكرَه في التي تكون في العشرين من سِنِيها، ولكن هذا يعود غيرَ مؤذٍ للنظر فيمن تكون في الثلاثين. وبما أنه يجب في كلِّ وقتٍ أن نكون على الرغم مِنَّا في حالٍ نروق معه الطبيعةَ، وألَّا تُخدَعَ عينُ الرجل في ذلك مُطلَقًا؛ فإن هذه العيوبَ تكون أقلَّ إغاظةً في كلِّ سِنٍّ من انتحالِ تصنُّعاتِ ابنةٍ صغيرةٍ انتحالًا أخرقَ في الأربعين من العُمُر.
ويُعَدُّ من الذوقِ الفاسدِ كلُّ ما يضايق الطبيعةَ ويضغَطُها، ويَصدُقُ هذا في أزيانِ البَدَن كما يصدُق في أزيان الذهن. ويجب أن تأتي الحياة والصحة والعقل والراحة في المرتبة الأُولى، ولا تكون المَلَاحة بلا راحةٍ مُطلَقًا، وليست الرقَّةُ ذُبولًا، فلا يَقضي الروقانُ بأن يكون الإنسانُ عليلًا. أجلْ، تُثار الرأفة عند التألُّم، غيرَ أن اللذة والرغبة تَنْشُدان صحةً ناضرة.
وللأولاد من الجنسين أُلْهُوَّاتٌ مشتركة كثيرة، وهذا الذي يجب أن يكون، أَوَلَا يكونُ لهم عينُ اللهوِ إذا ما كَبِروا؟ وكذلك يوجد لهم من الأذواق الخاصة ما يَمِيزُ بعضَهم من بعض؛ فالبنون يَنشُدُون الحركةَ والضوضاءَ والطبولَ والدُّوَّامَ والمركباتِ الصغيرة، والبناتُ يفضِّلنَ على ذلك ما يُمتِعُ النظرَ وينفعُ للزينة، كالمرايا والحُلي والشُّرُط، ولا سيَّما اللُّعَب، واللُّعبة هي الأُلْهُوَّة الخاصةُ بهذا الجنس، وهذا يدلُّ دلالةً واضحةً على مَيلِها إلى ما قُدِّرَت له، وفي الحِلْية تتجلَّى طبيعةُ فنِّ الروقان، وهذا كلُّ ما يستطيعُ الأولاد تعَهُّدَه من هذا الفن.
وتَرَوْن ابنةً صغيرةً تقضي نهارَها حوْل لُعْبتها، فلا تنفكُّ تُغيِّر ثيابَها، فتُلْبِسها وتعرِّيها مائةَ مرة، ولا تفتأ تقوم بترتيباتٍ جديدة من الزُّخرف حَسنةِ المطابقة أو سيئةِ الموافقة، من غيرِ ما ضرر. أجلْ، يُعْوِز الأصابعَ مهارة، ولمَّا يُكوَّن الذوق، ولكن مع تجلِّي الميل. ويمضي الوقتُ وهي منهمكةٌ بذاك العمل الدائم من غير أن تشعُر بمروره، وتمرُّ الساعات من غيرِ أن تشعُر بمضيِّها، حتى إنها تنسى وَجَبَاتِها؛ فهي أكثرُ شوقًا إلى الزينة مما إلى الطعام. ولكنكم ستقولون إنها تُزيِّنُ لُعبَتَها لا شخصَها، ولا ريبَ في أنها ترى لُعْبَتها ولا ترى نفسها، وهي لا تستطيع صنْعَ شيءٍ لنفسِها، وهي لم تتكوَّن، وهي ليست ذاتَ قريحةٍ أو قوة، وهي ليست شيئًا بعد، وهي منصرفةٌ إلى لُعْبَتها دائمًا، واضعةٌ جميعَ دَلالها فيها، ولن تبقى هكذا؛ فهي تنتظر الزَّمن الذي تَكون فيه لُعْبَتَها بنفسها.
وذاك، إذنْ، أوَّلُ مَيْلٍ مُقرَّرٍ جيِّدًا، فما عليكم غيرُ تَتبُّعِ هذا الميل وتنظيمه. ولا مِراءَ في أن البنتِ الصغيرةِ تَودُّ من صميمِ فؤادِها أن تزخرفَ لُعْبتَها وأن تُقوِّم عُقَدَ كُمِّها ومِنْدِيل عُنُقها وتعاريج ثوبها وتخاريم ردائها، وهي تُجْعَل في جميع هذا من اتِّباع ذوقِ الآخرين اتِّباعًا وثيقًا ما يكون من الخيرِ معه أن تعتمد فيه على حِذْقها. وهكذا يأتي الباعثُ للدروس الأُولى التي تُلقى عليها، وليست هذه جهودًا تُكلَّفُ بها، بل ألطافٌ تُحبَى بها. والواقع أن جميعَ البنات الصغار يتعلَّمنَ القراءة والكتابة على مضضٍ تقريبًا، ولكن استعمال الإبرة هو ما يتعلمنَه عن رضًا دائمًا، وهن يتصوَّرن مقدَّمًا أن يكُنَّ كبيراتٍ فيَرَون مع اللذة إمكانَ انتفاعِهن بهذه الأهليات للتَّجمُّل ذاتَ يوم.
ويسهُلُ اتِّباعُ هذه الطريقِ الأُولى المفتوحة؛ فالخِياطة والتطريز والتخريم أمورٌ تأتي من نفسها، وليس وشيُ الفَرْشِ وثيقَ القُرْب من رضاهن. والنِّجَادةُ كثيرةٌ البُعد منهن؛ فالأثاث أمرٌ غيرُ تابعٍ للشخص، وإنما يتعَّلق بآراءٍ أخرى. ويُعَدُّ وشيُ الفَرْش أُلْهُوَّة النساء، ولا يساور البناتِ الصغيراتِ كبيرُ رغبةٍ فيه مطلقًا.
ويمتدُّ هذا التقدُّم الاختياريُّ بسهولةٍ حتى الرَّسم؛ وذلك لأن هذا الفنَّ ليس غريبًا عن فنِّ اللُّبْس الأنيق، ولكنني لا أُريد شَغْلَهنَّ بالمناظر، وأقلُّ من هذا شَغلي لهن بالهيئة، وتَكفِيهنَّ أوراقُ الشجرِ والفواكهُ ووشيُ الفَرش وكلُّ ما يمكن أن يكون نافعًا لمنْحِ الأزْيان نطاقًا جميلًا، ولجعْلِ البنتِ قاضيةً في أمرِ التطريز عندما لا تجد نموذجًا يُعجِبُها. وإذا كان يُهِمُّ الرجالَ على العموم أن يَقْصِروا دراساتهم على معارفَ نافعةٍ لهم، فإن هذا يُهِمُّ النساء أكثرَ مما يُهمُّهم؛ وذلك لأن حياة النساء، وإن كانت أقلَّ مشقَّة، وكانت، أو وجَبَ أن تكون، أكثرَ مثابرةً على القيام بواجباتهن وأكثرَ تقطُّعًا بمختلف الواجبات، لا تَسْمح لهن بأن يتجرَّدْن — عن خِيارٍ — لأيٍّ من أعمالِ النبوغِ الأخرى ضَرًّا بواجباتهن.
وسَوِّغوا ما تَفرضُون على صِغار البنات من جهود، ولكن افرِضوا هذه الجهود عليهن دائمًا؛ فالفراغ والعقوق كلاهما أخطرُ ما يكون من النقائص على البنات، وهما أقلُّ ما يُشفَى منه إذا ما تعوَّدْنَهما، ويقضي الواجبُ على البنات بأن يَكُنَّ حَذِراتٍ مجتهدات، وليس هذا كلَّ ما في الأمر، فيجب أن يُضايَقْنَ باكرًا. وإذا كان هذا البلاءُ ملازمًا لهن فهو غيرُ منفصلٍ عن جنسهن، وهن لا يتخلصن منه إلا ليُكابدن ما هو أشدُّ منه بدرجات، وهن يقضين أعمارَهن مستعبَداتٍ لأدومِ ضَيْقٍ وأشدِّ عُسر، أي ضَيْقِ الليَاقة، ويجب أن يُعوَّدن الاقتسارَ في البُداءة لكيلا يُكلِّفَهن شيئًا مطلقًا، كما يجب أن يُعوَّدن قَمْعَ جميعِ أهوائهن كيما يُخضَعن لعزائم الآخرين، وإذا أردْن العملَ دائمًا وجب حمْلُهنَّ على عدم عمل شيءٍ أحيانًا. ويُعَدُّ الإسرافُ والطيشُ والتقلُّب نقائصَ تُولَدُ بسهولةٍ من ميولهن الفاسدة الأُولى، والتي تُتَّبَع دائمًا. وعلِّموهن قَهْرَ أنفسِهن على الخصوص منعًا لهذه المساوئ. وتقوم حياةُ المرأة الصالحة في مراكزنا الحُمْق على جهادٍ مستمرٍّ ضد نفسها، ومن الإنصاف أن يقاسِم هذا الجنسُ ألمَ الشُّرور التي أورَثَنا إياها.
وحُولُوا دونَ سَأمِ البنات في أثناء أشاغيلهن، ودُون شَغفهن في أُلْهُوَّاتهن، وذلك كما يقع دائمًا في التربيات العامية؛ حيث يُوضَعُ جميعُ السَّأم في ناحيةٍ ويُوضَع كلُّ لهوٍ في ناحيةٍ أخرى كما قال فِنِيلُون. وإذا ما اتُّبِعَت القواعدُ السابقة فإنه لا يكون للأوَّل من هذين المحذورين مكانٌ إلا عند عدم وقوع مَن يحيط بالبنات موقعَ الرِّضا لدى هؤلاء البنات. فالبنت الصغيرة التي تُحِبُّ أمَّها أو صديقتها تعمل نهارها كلَّه بجانبها من غيرِ سأم، والهَذْر وحدَه هو الذي يُعوِّضها من جميع ضَيْقها، ولكن إذا كانت لا تُطِيق مَن تُسيطر عليها فإنها تجزع من كلِّ ما تقع عليه عينُها، ومن الصعب جِدًّا أن يَحْسُن ذات يومٍ وضعُ البنات اللاتي لا تَسُرُّهن صحبةُ أمهاتهن أكثرَ مما تَسرُّهن صحبةُ أيِّ شخصٍ آخَر في العالم. ولكن يجب للحكم في مشاعرهن الحقيقية أن يُدرَسن، لا أن يُعتمد على ما يَقُلن؛ وذلك لأنهن مصانِعاتٌ مُداجيات، يَعْرِفن التنكُّر باكرًا، وكذلك لا ينبغي أن يُؤمرن بمحبةِ أمهاتهن؛ فالحبُّ لا يصدُر عن واجبٍ مطلَقًا. ولا ينفع القسرُ هنا، ويَحْمِل الولعُ والرعايةُ والعادةُ على حُبِّ البنت لأمِّها إذا لم تفعل الأمُّ ما يجلِبُ إليها حقدَ البنت، حتى إن الضِّيق الذي تُمسِكُ الأمُّ به ابنتَها، والذي تُحْسَن إدارتُه، يزيد ذلك الولعَ بدلًا من إضعافه؛ وذلك لأن الخضوعَ إذ كان أمرًا طبيعيًّا لدى النساء فإن البنات يَشعُرْن بأنهن خُلِقْنَ للطاعة.
وهنَّ — لذات السبب القائل بأن لديهن، أو يجب أن يكون لديهن، قليلُ حريةٍ — يَعمَلن بأقصى ما يُترك لهن منها، وهن إذ كن متناهياتٍ في كلِّ شيء يتجرَّدْن لألعابِهن بحُمَيَّا أشدَّ من حُمَيَّا الصِّبيان، وهذا هو المحذور الثاني الذي تكلمتُ عنه. ويجب أن تكون الحُمَيَّا مشوبةً بالاعتدال؛ وذلك لأنها عِلة كثير من المعايب الخاصة بالنساء، ومنها هوى الولع الذي تنتقل به المرأةُ اليوم إلى هذا أو ذاك الغرضِ الذي لا تُبصره غدًا، وكذلك تقلُّبُ الميولِ هو من الشؤم عليهن كإفراطهن، ويأتيهن هذا وذاك من ذاتِ المصدر. ولا تَنْزِعوا منهن الجَذَل والضَّحك والصَّخب والألعاب المَرِحة، ولكن حُولُوا دون شِبَعِهن من أحدها طَلَبًا لآخرَ، ولا تَدَعُوهنَّ في حياتهن دقيقةً بلا رادع، وعوِّدوهنَّ قطْع ألعابهن والعودَ إلى أشاغيلهن بلا تذمُّر، وهنا تكفي العادةُ وحدَها؛ فالعادة لا تفعل غيرَ مساعدة الطبيعة.
وينشأ عن هذا القَسْرِ المعتادِ انقيادٌ يَحتاج إليه النساءُ مدى حياتهن ما فَتِئن يَخْضعن لرجلٍ أو لأحكامِ الرجال، فلا يُسمَحُ لهن أن يَكُنَّ فوق هذه الأحكام. واللُّطفُ أوَّلُ صفات المرأة وأهمُّها. والمرأة، إذ خُلِقَت لإطاعة مخلوقٍ كالرجل ناقصٍ أيضًا، مُفعَمٍ بالمعايب غالبًا، مملوءٍ بالشوائب دائمًا، وجبَ أن تتعلَّم باكرًا أن تصبِرَ حتى على الجَوْر، وأن تَحتمل خطأ الزوج من غيرِ أن تشتكي. وليس عليها أن تكون لطيفةً من أجله، بل من أجل نفسها. ولا تؤدي شراسةُ النساء وعنادُهن إلى غيرِ زيادة آلام النساء وسوءِ معاملتهن من قِبَل الأزواج. والأزواجُ يشعرون بأنه لا ينبغي لهن أن يغلبْنَهم بهذه الأسلحة. ولم يَصْنعهن الربُّ ضعيفاتٍ قَطُّ ليكن متجبِّرات، ولم يُنعِم الربُّ عليهن قَطُّ بصوتٍ بالغِ العذوبة ليَنطِقن بالشتائم، ولم يجعل الربُّ لهن تلك الملامحَ الدقيقة ليشوِّهنها بالغضب. وهن إذا ما سَخِطن نَسين أنفسهن. أجلْ، إن الحقَّ بجانبهن في شكواهن غالبًا، ولكنهن يكن مخطئاتٍ إذا ما وَبَّخن؛ فكلٌّ مُلزَمٌ بالمحافظة على لهجة جنسه، فإذا كان الزوج كثيرَ الرِّقة أمكنه جعلُ المرأةِ قليلةَ الحياء، ولكنَّ لطفَ المرأة يَرُدُّه ويتغلَّب عليه عاجلًا أو آجلًا ما لم يكن غُولًا.
ولْيكُن البناتُ طائعاتٍ دائمًا، ولكنْ لا ينبغي أن تكون الأمهاتُ متصلِّبَاتٍ دائمًا، ولا يجوز جعلُ البنتِ تَعِسَةً جعْلًا لها طائعة، ولا يجوز خَبْلُها جعلًا لها محتشمة. وعلى العكس، لا يغيظُني أن يُسمَحَ لها في الحين بعد الحين باستعمال شيءٍ من الشطارة، لا لاجتنابِ الجزاءِ على عصيانها، بل لإعفائها من الطاعة. ولا يُقصَد جعلُ خضوعها شاقًّا، فيكفي حمْلُها على الشعور به. وتُعَدُّ الحيلةُ من مواهب الجنس الطبيعية، وبما أني قانعٌ بأن جميعَ الميولِ صالحةٌ مستقيمةٌ بذاتها، فإني أرى تَعَهُّدَ الحيلة كالميول الأخرى، والمُهِمُّ في منْع سوء استعمالها.
وأحْتكمُ في صحَّةِ هذه الملاحظةِ إلى كلِّ ناظرٍ حسَنِ النِّية، ولا أريدُ أن يُفحَصَ النساءُ أنفسُهن حولَ ذلك مطلَقًا، فيُمْكِن نُظُمَنا المزعجةَ أن تَحْمِلهن على شحذِ أذهانهن، وإنما أريد فحصَ البنات، وإنما أريد فحصَ صِغار البنات اللاتي وُلِدن حديثًا كما أودُّ أن أقول، فيقابَلُ بينهن وبين صغارِ البنين الذين هم من لِدَاتهن، فإذا لم يَبْدُ هؤلاءِ ثقلاءَ طائشين أغبياء بجانبهن كنتُ مخطئًا لا مِراء. وليُسمَحْ لي بإيرادِ مثالٍ واحدٍ عن السذاجة الصِّبيانية.
والواقعُ أنها أرادت تلافيَ ذلك الإغفالِ من غير أن تُتَّهم بعصيان، فألقت نظرةً على جميع الأطباق مشيرةً إليها بإصبعها قائلةً بصوتٍ عالٍ: «لقد أكلت من هذا، وقد أكلت من ذاك.» بَيْدَ أنها تخطَّت الطَّبَقَ الذي لم تأكل منه من غيرِ أن تقول كلمة، ولكنْ على وجهٍ يثير انتباه بعضِهم فيسألها: «ألم تأكلي من هذا؟» فتجيب هذه النَّهِمَة الصغيرة مُطرِقةً قائلةً بلُطفٍ: «وَيْ! كلَّا.» ولا أضيف شيئًا، وقابلوا بين هذا التدبير الذي هو حيلةُ بنتٍ، وذلك التدبيرِ الذي هو حيلة صبي.
وما هو كائنٌ حسن، ولا يوجد قانونٌ عامٌّ سيئ، وتُعَدُّ هذه الشطارة الخاصة التي حُبيَ بها الجنس النسوي تعويضًا عادلًا من القوة التي تُعْوِزه، ولولا هذا ما كانت المرأة رفيقةَ الرجل، ولولا هذا لكانت أمَةً له. والمرأة بهذه الأفضلية في الموهبة تظلُّ مساويةً له وتسيطر عليه بإطاعتها إياه، وكلُّ شيءٍ مضادٌّ للمرأة، ولها ما يعاكسها في نقائصنا وفي حيائها وضَعْفها، ولا يوجد ما يقول لها غيرُ حِذْقها وجمالها، أَوَليس من الصواب أن تتعهَّد هذا وذاك؟ بَيْدَ أن الجمال ليس عامًّا، وهو يزول بألفِ عارض، وهو يتلاشى مع السِّنين، والعادة تقضي على تأثيره، واللَّقَانة وحدَها هي وسيلةُ الجنس النسوي الحقيقية، لا تلك اللقانة الحمقاء التي تُعارُ قيمةً كبيرة في العالَم من غيرِ أن يكون لها أقلُّ نفعٍ في جعْل الحياة سعيدة، بل اللقانة الملائمة لحالها، واللباقة في الانتفاع بحالنا والتغلُّب على منافعنا الخاصة. ولا يُعرَف مقدارُ ما لنا من فائدةٍ في حِذْق النساء هذا، ولا مقدارُ ما يُضيفُ من فتونٍ إلى مجتمع الجنسين، ولا مقدارُ نفْعِه في قهْرِ نَزَقِ الأولاد، ولا مقدارُ ما يَرْدَع من أزواجٍ غِلاظ، ولا مقدارُ ما يَحفَظُ من راحةٍ في المنزل الذي يسوده الشقاق لولا ذلك. وأعْرِف أن النساء الماكرات الخبيثات يُسِئن استعمال ذلك، ولكن ما الشيء الذي لا يُساءُ استعمالُه بالعيب؟ فلا نَقْضِ مطلقًا على وسائلِ السعادة لأن الخبثاء يستعملونها للأذى أحيانًا.
ويُمكن الإشراقُ بالحُلِي، ولكن لا يُراقُ بغيرِ الشخص، ولسنا أَزْياننا مطلقًا، وفي الغالب تَعْطَلُ أزيانُنا بقوة ما تُبْتَغَى. وفي الغالبِ تكون الأزيانُ التي تُوجِبُ ملاحظةَ مَن تَحمِلُها أقلَّ ما يُلاحَظ، وتكون تربيةُ الفتيات عندنا على عكس ذلك تمامًا؛ فهنَّ يُوعَدْن بأزيانٍ مكافأة، وتُحبَّبُ إليهن الحُلِيُّ المنشودة، ويُقال للواحدةِ منهن عندما تَزَّيَّنُ كثيرًا: «يا لها من جميلة!» مع أن العكس هو ما يجب أن يُقال لهن، فيسمعن أنه لا يُقصَد بكثرة الزينة غيرُ سَتْرِ النقائص، وأن فوزَ الجمالِ الحقيقي هو بإشراقه بنفسه. ويُعَدُّ حُبُّ المُوضات من فساد الذوق؛ فالوجوه لا تتغيَّر بها، وبما أن الوجه يبقى كما هو، فإن ما يُلائمه مرةً يُلائمه دائمًا.
ومتى أبصرْتُ الفتاةَ تميسُ في حِلْيَتها صرفتُ همِّي إلى وجهها الذي نُكِّرَ على هذا النحو، وإلى ما يُمكِنُ النَّاسَ أن يُفكِّروا في أمرها، فأقول: «إن جميع هذه الزخارف تُزيِّنها كثيرًا، فيا للْخَسارة! أَوَتظنون إمكانَ اصطبارها على ما هو أبسط؟ وهل هي من الجمال ما يُمكِنها أن تستغنيَ معه عن هذا أو ذاك؟» ومن المحتمل أن تكون إذ ذاك أوَّل مَن يرجو نزع هذه الزينة عنها، فيُحكَمُ في أمرها وهي في هذه الحال، ويُرى هل يُوجَدُ محلٌّ للإعجاب بها، ولن أُثني عليها مُطلَقًا ما لم تكن بسيطةَ الملبس إلى أبعدِ حد، وهي إذا لم تَعُدَّ الحِلْيةَ غيرَ مُتِمَّةٍ لألطافِ الشخص وغيرَ اعترافٍ ضمنيٍّ باحتياجها إلى مساعدةٍ لتروقَ لم تَزْهُ بزَيْنها قَطُّ واعتراها صَغَارٌ منه، وهي إذا ما ازَّيَّنت بأكثرَ من المألوف وسمعتْ مَن يقول: «يا لها من جميلة!» احمرَّ وجهُها غيظًا.
وبما أن الحَسَنَ حَسَنٌ دائمًا، وبما أنه يجب أن يكونَ أحسنَ ما يُمكِن دائمًا، فإن النساءَ اللائي يَعرِفْن مَن هنَّ بالأزْيان يَخترْن ما حَسُنَ ويتمسَّكْنَ به، ولا يُغيِّرْن شيئًا منه في كلِّ يوم، وهنَّ يَكُنَّ أقلَّ اشتغالًا به مِن اللاتي لا يَعرفْن أين يَثْبُتْن، وتَقتضي الرغبةُ الحقيقية في الحُلِي قليلَ تَبرُّجٍ. ومن النادر أن يتبرَّج الأوانسُ تبرُّجًا بهيًّا؛ فهن يقتُلن نهارَهن بالشُّغْل والدروس، ومع ذلك فإنك إذا عدوتَ الحُمرةَ وجدتهن كالسيدات عنايةً باللباس وأحسنَ منهن ذوقًا فيه غالبًا. وليس سوءُ استعمال الزينة كما يُفكَّر فيه؛ فهو ينشأ عن السَّأم أكثرَ مما عن الزهو، ولا تجهلُ المرأة التي تقضي ستَّ ساعاتٍ في زينتها أنها تَفرُغُ منها بحالٍ أحسنَ من حال التي تقضي فيها نصفَ ساعة فقط، ولكنْ هذا ينطوي على تَخلُّصٍ من الوقت الطويل القاتل؛ فالأَوْلَى للإنسان أن يتلهَّى من أن يَتبرَّم بكلِّ شيء. وما يُصنَعُ بالحياة فيما بين الظهر والساعة التاسعة لولا الزينة؟ وإذا ما جمعتْ نساءً حوْلها تلهَّتْ بإفراغ صبرهن، وهذا شيءٌ يُذكر، وهي بهذا تجتنب مواجهةَ زوجها الذي لا تراه في غير ذلك الوقت، وهذا أكبر من ذلك كثيرًا. ثُمَّ يأتي التجار وباعة التُّحف وصِغار السادة وصِغار المؤلفين، والأشعارُ والأغاني والرسائل، ولولا التبرُّج ما جُمِعَ جميعُ هؤلاء مطلَقًا. وتقوم فائدةُ هذا الوحيدةُ الحقيقيةُ على كوْنه ذريعةً للمباهاةِ بأكثرَ مما بالادِّثار، ومن المحتمل ألَّا تكون هذه الفائدةُ كبيرةً كما يُظن، ولا يَكسِبُ النساءُ من ذلك بمقدار ما يَقُلْنَ، وأنعِموا بتربية المرأة على النساء بلا وَسْواس، واجعلوا منهن مُحِبَّاتٍ لجنسهن ذواتِ حياءٍ عارفاتٍ بالسهر على تدبير منازلهن والعناية ببيوتهن؛ فبهذا يتوارى التبرُّجُ الأكبر من تلقاء نفسه، ولا يَلبسْن عن غيرِ أفضلِ ذوق.
وأوَّلُ شيءٍ يراه الفتياتُ إذا ما كَبِرْن هو أن جميعَ هذه المَلَاحات الخارجية لا تكون كافيةً لهن ما لم يكُنَّ حائزاتٍ لطائفَ ذاتية. أجلْ، لا يُمكن انتحالُ الجمال مطلقًا، ولا يستطِعن نَيلَ الدَّلَال عاجلًا، غيرَ أنهنَّ قادراتٌ أن يُحاوِلنَ منذ البُداءة منْحَ حركاتهن حالًا مقبولًا، ومنْحَ أصواتهن نَبرَةً مُداريَةً، وإنشاءهن طَوْرًا لأنفسهن، وسيرَهن مع خفَّة، واتخاذَهن أوضاعًا لطيفة، واختيارَهن نافعًا لهن في كلِّ مكان، ويمتدُّ الصوتُ ويتقوَّى ويكون ذا رنين، وتنمو الذُّرْعان، ويَثْبُت الخَطو، ويُبصَرُ وجودُ فنٍّ يوجِّه الأنظارَ إلى الشخص مهما كان زِيُّ الرِّداء الذي يُرْتدى، وهنالك يعود الأمرُ غيرَ متوقِّفٍ على الإبرة والصناعة؛ فقد أخذت تبدو مواهبُ جديدةٌ كان قد شُعِرَ بفائدتها.
وأعرِف أن المُعلِّمين الأشداء يريدون ألَّا يُعلَّمَ الفتياتُ غِناءً ولا رقصًا، ولا فنًّا من الفنون اللطيفة، ويلوح لي هذا مُضْحِكًا، ومَن يَوَدُّون أن يتعلَّمها إذن؟ أيتعلمها البنون؟ ومَن مِن الرجال أو النساء ينالُ هذه المواهبَ تفضيلًا؟ يُجيبون عن هذا بقولهم: لا أحدَ من هؤلاء ولا من أولئك؛ فالأغاني الدنيوية من الجرائم، والرقص من صُنْع الشيطان، ولا يجوز أن تتلهَّى البنت بغيرِ عملها وصَلَاتها، وهذه هي الأُلْهُوَّات الغريبة لولدٍ في العاشرة من سِنِيه! وأمَّا أنا فأخشى كثيرًا ألَّا يقضيَ هؤلاء القديساتُ الصغيرات، اللاتي حُمِلنَ على قضاء صِباهن في الصلاة إلى الرَّب، شبابَهن في أمرٍ آخرَ، وألَّا يُعوِّضن أنفسَهن أزواجًا من الوقت الذي أضعْنَه بناتٍ، وأرى من الواجب أن يُراعى ما يناسب السِّنَّ كما يُراعى ما يناسب الجنس، وأنه لا ينبغي أن تقضي البنتُ حياةً كحياة جَدَّتِها، وأنه يجب أن تكون نشيطةً مازحةً لعوبًا، فتُغنِّي وتَرقُص ما راقها الغناء والرقص، وتذوق جميعَ ملاذِّ جنسِها الطاهرة، فلَسرعان ما يحينُ زمنُ الرزانة واتخاذ وضعٍ يكون أكثر رصانة.
ولكنْ هل ضرورةُ هذا التحوُّلِ حقيقيةٌ بذاتها؟ أليس من الممكن ألَّا تكون ثمرةَ مُبْتَسَراتِنا؟ لقد أُقصيَ عن الزواج كلُّ ما يجعله مستحبًّا لدى الرجال نظرًا إلى تعبيد النساء الصالحات لكئيب الواجبات، وهل يَجب أن يُعجَبَ مِن كونِ الصمت القاتم الذي يَسود منازلَهم يَطرُدُهم منها، أو مِن كونهم يُفتَنون قليلًا بانتحال حالٍ مستكرَهةٍ كثيرًا؟ إن النصرانية بمجاوزتها الحَدَّ في جميع الواجبات تجعلُ هذه الواجبات فارغةً غيرَ عملية، وإن النصرانية بحظرِها الغناءَ والرقْص وجميعَ أُلْهُوَّات العالَم على النساء تجعل النساء عابساتٍ معزِّراتٍ لا يُطَقْن في بيوتهن. ولا تجدُ دِينًا يُجعَلُ الزواجُ فيه خاضعًا لواجباتٍ شديدةٍ جِدًّا كهذا الدِّين، ولا تجدُ دينًا يُستخَفُّ فيه بمثل هذا العَقد المقدَّس كما يُستَخَفُّ به في هذا الدين. وقد صُنِع ما يمنع النساءَ من أن يكُنَّ أنيساتٍ بمقدار ما صُنِع لجعْلِ الأزواجِ أخلياءَ غيرَ مكترثين، ولا ينبغي أن يقع هذا، وهذا ما أُدْرِكه جيِّدًا، ولكنني أقول إنه لا بُدَّ من وقوعِ هذا ما دام النصارى من النَّاس نتيجةً، وإنما أريدُ أن تتعهَّدَ الإنكليزيةُ بعنايةٍ فائقةٍ ما يَطيبُ من المواهب لتروقَ الزوجَ الذي سيكونُ لها كما تتعهدُها الألبانيةُ من أجْلِ دائرة الحريم في أصْبَهان. ويُقال إن الأزواج لا يُبالون بجميعِ هذه المواهب، وهذا ما أذهبُ إليه حقًّا، وذلك أن هذه المواهبَ بعيدةٌ من الوقوع عندهم موقعَ الرِّضا، فلا تنفعُ أن تكون غيرَ طُعْمٍ لاجتذابِ شُبَّانٍ خالِعي العِذار إلى منازلهم التي يَشينُونها. ولكن أترون أن المرأةَ اللطيفةَ الحكيمةَ المُزَّيِّنةَ بمثلِ هذه المواهب، والواقفةَ لهذه المواهب على تسلية زوجها، لا تَزيد في سعادة حياته، وأنها لا تمنَعه إذا ما خَرج من مكتبه مَنهوكَ الرأس من البحث عن التسلية خارج منزله؟ ألم يَرَ أحدٌ أُسَرًا سعيدةً مجتمعةً على هذا الوجه، فيَعْرِف كلُّ واحدٍ أن يساعدَ مِن قِبَله على الأُلْهُوَّات المشتركة؟ وليُقل هل الثقةُ والدَّالَّة الملازمتان لذلك، وهل نقاوةُ الملاذِّ وعذوبتُها اللتان تُذاقان هنالك أمورٌ لا تُغني عما يُلازم الملاذَّ العامةَ من صَخَبٍ بالغ؟
ويُسْأل: هل يجب أن يكون للبنات مُعلِّمون أو مُعلِّمات؟ لا أدري، وإنما أريد ألَّا يحتجن إلى هؤلاء أو أولئك، وإنما أريد أن يتعلَّمن بحريةٍ ما يَمِلْنَ كثيرًا إلى تعلُّمه، وإنما أريد ألَّا يُرى طوافُ كثيرٍ من المهرِّجين المتبرِّجين في مُدننا طَوافًا غيرَ منقطع، ويَصْعُب عليَّ أن أعتقد أن ضَرَّ معاشرةِ هؤلاء النَّاس على الفتيات لا يكون أعظمَ من نَفْع دروسهم لهنَّ، وأن رَطانتَهم ولهجتَهم ومظاهرهم لا تَمنَحُ طالباتهم أوَّلَ ذوقٍ للتُّرَّهات المهمة لديهم كثيرًا، فلا يلبثن أن يَسِرْنَ على مثالهم جاعلاتٍ منها شُغلَهنَّ الوحيد.
ويتكوَّن الذوقُ بالحِذْق والمَناقب، وبالذوق يَتفتَّق الذهنُ تفتُّقًا غيرَ محسوس لمبادئ الجمال من كلِّ نوع، ثُمَّ لمبادئ الأخلاق التي ترجِعُ إليها، وقد يكون هذا من الأسباب في كون حِسِّ اللُّطف والحياء يَنسَابُ إلى البنات بأبكَرَ مما إلى البنين؛ وذلك لأن الذهاب إلى أن هذا الحِسَّ الباكرَ من عملِ المربيات ينطوي على جهلٍ بأسلوب دروسهن وبسَيْرِ الذهن البشري. وتحتلُّ موهبةُ الكلام مكانَ الصدارة في فن الرَّوقان، وبهذه الموهبة وحدَها يُمكن أن يُضافَ فُتونٌ جديدٌ إلى مَن تُكِلُّ العادةُ حواسَّهم. ولا يُنْعِش الذهنُ البدنَ فقط، بل يُجدِّده من بعض الوجوه، وهو يُحيي المُحيَّا ويُحوِّلُه، وهو بالكلام الذي يوحي به يجعَل الانتباهَ المستكَدَّ سَنَدًا لعينِ المصلحةِ حولَ عينِ الغاية لزمنٍ طويل. ولجميع هذه الأسباب، على ما أعتقد، ينال البناتُ بسرعةٍ شيئًا من الهَذَر المستعذَب ويضعنَ نبراتٍ في أحاديثهن، حتى قبْلَ أن يشعُرْن بها وقبلَ أن يلهوَ النَّاس بالاستماع لها بعد قليل، حتى قبْل أن يستطِعن إدراكَها، والنَّاس يرقُبْنَ الساعةَ الأُولى لهذا الإدراك نُفوذًا إلى أوَّل شعورٍ على هذا الوجه.
ولسانُ النساء لَيِّن؛ فهن أبكرُ نُطْقًا من الرجال وأسهلُ كلامًا وألطفُ قولًا، وهنَّ يُتَّهَمْنَ أيضًا بأنهنَّ أكثرُ منهم حديثًا، وهذا ما يجب أن يكون، وسأحوِّل هذا اللومَ إلى ثناءٍ أيضًا، وذلك أن للفم والعينَين عندهنَّ نَفْسَ الفعل وذاتَ السبب. والرجل يقول ما يَعْلَم، والمرأة تقول ما يَروق، والرجل يحتاج إلى معرفةٍ ليتكلم، والمرأة تحتاج إلى ذوقٍ لتتكلم، والرجل يجب أن تكون لديه أمورٌ مفيدةٌ كغرضٍ رئيس، والمرأة يجب أن تكون لديها أمورٌ لطيفةٌ كغرضٍ رئيس، ولا يجب أن يكون بين كلامهما من أوجه الشَّبه غيرُ الصدق.
ولذا لا يجِبُ أن يُلجَمَ هَذَرُ البنات، كما يُلجَم هَذرُ البنين، بهذا السؤال الشديد، وهو: «ما فائدةُ هذا؟» بهذا السؤال الآخر الذي لا يَسهُل الجواب عنه، وهو: «ما الأثرُ الذي سيؤدي إليه هذا؟» وفي ذاك الدَّور الأوَّل من العُمُر، حين يعجزن عن تمييز الخير من الشر، لا يَكُن قاضياتِ أحد؛ فيجب أن يُلزِمْنَ أنفسَهنَّ بدستورٍ قاضٍ بألَّا يَقُلْنَ غيرَ ما يكون مُستحَبًّا عند مَن يخاطِبْنَ، والذي يجعلُ استعمالَ هذه القاعدةِ أكثرَ صعوبةً هو بقاؤها تابعةً للأُولى دائمًا؛ أيْ عدمُ الكَذِب مطلقًا.
وهنالك أجِدُ مصاعبَ كثيرةً أخرى أيضًا، غير أنها خاصَّةٌ بدَورٍ من العُمُر أكثرَ تقدُّمًا، وأمَّا الآن فلا يقتضي كوْن الفتيات صادقاتٍ غيرَ كونهن هكذا بلا غِلْظَةٍ. وبما أن هذه الغلظة غير ملائمةٍ لهن عن طبيعة، فإن من السهل أن تُعلِّمَهنَّ التَّربيةُ اجتنابَها. وألاحظ في معاشرة النَّاس على العموم أن أدبَ الرجال يكون مُسعِفًا وأدبَ النساء يكون مُلاطفًا، وليس هذا الفرْقُ وضعيًّا، بل طبيعي؛ فالرجل يَلوحُ أنه أكثرُ محاولةً ليخدمكم، والمرأة تَلوح أنها أكثرُ محاولةً لتروقكم؛ ومِنْ ثَمَّ يكون أدبُ النساء أقلَّ زُيوفًا من أدبنا مهما قيل عن أخلاقهن، وذلك أن ذاك الأدبَ لا يوجِبُ غيرَ توسيع غريزتهن الأُولى. ولكن متى تَظاهر الرجلُ بأنه يُفضِّل مصلحتي على مصلحته الخاصة لم يخامرني شكٌّ في أنه أتى أكذوبةً مهما حاول تمويهها؛ ولذا فإن كونَ النساءِ ذواتِ أدبٍ لا يُكلِّفُهن شيئًا، كما أنه لا يكلِّف البناتِ شيئًا من حيث النتيجة، تَعَلُّمُهن أن يَصِرنَ ذواتِ أدب. ويأتي الدرس الأوَّل من الطبيعة، ولا يصنعُ الفنُّ غيرَ اتِّباعها وغيرَ تعيين الشكل الذي يبدو به الأدَبُ وَفْقَ عاداتنا. وأمَّا أدبُ النساء فيما بينهن فأمرٌ آخرُ تمامًا؛ فهنَّ يبلُغْنَ مِن جعْلِهنَّ له ظاهرًا من القَهْرِ وفاترًا من الالتفات ما لا يُعنَين معه بإخفاء ضيقِهن إذا تضايقن مبادلة، وهن يَلُحن من الإخلاص حتى في كَذِبهن ما لا يحاولن معه تنكيرَه، ومع ذلك فإن الفتياتِ يأتين من الصداقات أحيانًا ما ينطوي على أبلغِ صدق، ويقوم المَرَحُ في سِنِّهن مقامَ حُسنِ الوضع، وهن إذ كنَّ راضياتٍ عن أنفسهن فإنهن يكن راضياتٍ عن جميع النَّاس. ومن الثابت أيضًا أنهن يتلاثَمْنَ عن طيبةٍ ويتعانقن بأعظمِ لطفٍ أمامَ الرجال مختالاتٍ بشحذهن الحرصَ بلا عِقاب، وذلك بصورة الألطاف التي يَعْرِفن إثارةَ غَيْرتهم نحوَها.
وإذا كان من غير الجائز أن يُسمَح للبنين بأن يُورِدوا أسئلةً مخالفةً للرصانة، فإن من الأجدرِ أن تُحظَر على الفتيات اللاتي يكون لفضولهن عند قضائه وسوءِ إقصائه نتيجةٌ أخرى، وذلك نظرًا إلى بَصَرِهن الثاقب في تبيُّن ما يُكتَم عنهن من أسرار، وحِذْقهن في كشْف هذه الأسرار. ولكنني من غيرِ إباحةٍ لأسئلتهن أريد أن يُكْثر من وضعِ أسئلةٍ لهن، فيُعنَى بحَمْلهن على الكلام، ويُثَرْن تدريبًا لهن على الكلام بسهولة، وجعْلًا لهن سريعات في الجواب وحَلًّا لعقدة ذهنهن ولسانهن، ولكنْ بشرط السلامة. وتُسفِرُ هذه الأحاديث المحوَّلةُ إلى مَرَحٍ دائمًا، ولكن مع مداراةٍ بمهارةٍ وحُسْنِ توجيهٍ عن لهوٍ فاتنٍ في تلك السِّن، فيُمكِنُ أن تَحمِلَ في أفئدةِ هؤلاء الفتيات البريئة أوَّلَ ما يتلقَّيْنَ في حياتهن من دروسٍ في الأخلاق وأنفعَ ما يُمكِن من هذه الدروس، وذلك بتعليمهن، عن جَذْبٍ من اللذة والزهو، أيُّ الصفاتِ يَمنَحُ الرجالُ تقديرَهم بالحقيقة، وأيُّ الأمور يقوم عليها مَجْدُ المرأة الصالحة وسعادتُها.
ومما يُدْرَك جيِّدًا أن الذكورَ من الأولاد إذا كانوا عاجزين عن تكوينِ فكرةٍ حقيقيةٍ حوْل الدِّين؛ فمن الأحرى أن تكون عينُ الفكرة فوق متناوَل البنات، ولذاتِ العلة أريد أن أُسرع في مخاطبة هؤلاء عن الدِّين؛ وذلك لأنه إذا ما رُئيَ انتظارُ بلوغهن الحالَ التي يناقِشنَ فيها نقاشًا أُصوليًّا حول هذه المسائل العميقة وَقَعَ خَطَرُ عدمِ مكالمتهنَّ بعد ذلك في أمرِ الدين مُطلَقًا. ويُعَدُّ عَقْلُ النساء عقلًا عمليًّا، يَجِدْن به مع المهارة وسائلَ الوصولِ إلى الغرض المطلوب، ولكن مع عدمِ انتهائهن به إلى كشْفِ هذا الغرض. وتُعَدُّ صِلةُ الجنسين الاجتماعية أمرًا عجيبًا، وينشأ عن هذه الشركة شخصٌ معنويٌّ تكون المرأة عينَه ويكون الرجل ذراعَه، ولكن المرأة، باتِّباع كلٍّ من الجنسين للآخر، تتعلَّمُ من الرجل ما يَجِبُ أن تَرَى، كما يتعلَّم الرجلُ من المرأة ما يَجِبُ أن يَعْمَل. وإذا كانت المرأة تستطيع — كما يستطيع الرجل — أن تطَّلع على المبادئ، وإذا كان الرجل يستطيع — كما تستطيع — أن يَنفُذَ في الجزئيات، فإنهما يعيشان في شقاقٍ دائم، ولا تستطيع شركتُهما أن تبقى، ولكنَّ كُلًّا منهما يَهْدِف إلى الغرض المشترَك بفعلِ ما يكون بينهما من انسجام، ولا يُعرَفُ أيٌّ منهما يكون أكثرَ تقديمًا من الآخر؛ فكلٌّ منهما يَتَّبعُ دافعَ الآخر، وكلٌّ منهما يُطيع، وكلاهما سيِّد.
وبما أن المرأةَ خاضعةٌ في سلوكها للرأي العامِّ فإنها خاضعةٌ في معتقَدِها للسلطان، ويجب أن تكون كلُّ بنتٍ على دينِ أمِّها، ويجب أن تكون كلُّ امرأةٍ على دينِ زوجها، وإذا كان هذا الدِّين على خطأ فإن الطاعة التي تَخْضع بها الأمُّ والأسرةُ لأمرِ الطبيعة تمحو ذَنْب الخطأ لدى الرب، وإذ يَعجِزُ البناتُ عن القضاء في أمر أنفسهن، فإنه يجب عليهن أن يتلقَّين حُكْمَ الآباء والأزواج كما يتلقَّيْن حكمَ الكنيسة.
وبما أن النساء لا يستطِعْنَ أن يستنبِطْنَ بأنفسهن قاعدةَ إيمانهن، فإنهن لا يستطِعْنَ أن يمنَحنَه حدودَ اليقين والعقل، ولكن بما أنهن يَدَعْنَ أنفسهن تُساق بألفِ دافعٍ أجنبي، فإنهن يَكُنَّ من ناحيةِ الحقِّ هذه أو تلك على الدوام. وبما أنهن متطرِّفاتٌ دائمًا، فإنهن يكن فاسقاتٍ أو تقيَّات، ولا يُرَينَ جامعاتٍ بين الحكمة والوَرَع مطلقًا، ولا يكون مَنْبع السوء في طبْع جنسهن المفرِط فقط، بل أيضًا في سلطان طبعِنا السيئ التنظيم أيضًا، ومن شأن فِسْق الطبائع أن يُزْدَرى الدِّين، ومن شأن رُعْب التوبة أن يكون الدين طاغيًا، وهكذا ترى كيف يكون الإفراط والتفريط فيه.
وبما أنَّ على السلطان أن يُعيِّنَ دِينَ النساء، فإن المهم هو في عَرْض ما يُعتَقَدُ عليهن بجلاءٍ أكثرَ مما في شرحِ ما يعتَقِدْن؛ وذلك لأن ما تُحْبَى به الأفكار الغامضة من إيمانٍ هو أوَّلُ مصدرٍ للتعصب، ولأن الإيمان الذي يُطْلَب من أجلِ أمورٍ مستحيلةٍ يؤدي إلى الجنون أو الكفر، ولا أدري أيُّ الأمرين أكثرُ ما تؤدي إليه كتب أصول الدين عندنا: الإلحاد أو التعصب، وإنما أعْرِفُ أنها تُسفِرُ عن هذا أو ذاك بحكم الضرورة.
وأوَّلُ ما يجب عليكم في تعليم الفتيات الدِّينَ ألَّا تجعلوا منه موضِعَ غمٍّ وضيقٍ مطلقًا، وألَّا تجعلوا منه شُغلًا ولا واجبًا مطلقًا؛ ومِنْ ثَمَّ لا تُعلِّموهن على ظهر القلب شيئًا خاصًّا به، حتى الصلوات، واكتفُوا بالقيام بصلواتكم أمامهن قيامًا منتظمًا، وذلك من غير إكراههن على حضورها، واجعَلُوا صلواتكم قصيرةً كما علَّم يسوعُ المسيحُ، وقوموا بها مع ما يناسبها من جمْع الحواسِّ والإجلال، واذكُرُوا أننا عندما نَسأل الكائنَ الأعلى أن يلتفت إلى ما نقول يجدُر أن نُنْعِمَ النظرَ فيما نقصد أن نقول.
ومعرفةُ الفتيات لدينهن من فوْرهن أقلُّ أهميةً من معرفته جيِّدًا، ومن محبته على الخصوص، وإذا ما جعلتم الدِّين عبئًا عليهن، وإذا ما وصفتم الربَّ بأنه ساخِطٌ عليهن، وإذا ما فرضتم ألفَ واجبٍ شاقٍّ باسمه عليهن من غيرِ أن يَرَيْنَ قيامَكم بهذه الواجبات على الإطلاق، فما يُمكن أن يكون تفكيرُهنَّ غيرَ معرفتِهن أن كتابَ أصولِه والصلاةَ للربِّ من واجبات صغريات البنات مع رجائهن أن يكبَرن حتى يُعفَيْن مثلَكم من جميع هذا العناء؟ فالقدوة! القدوة! وبغير القدوة لا يُكتَبُ نجاحٌ لشيءٍ لدى الأولاد.
ومتى شرحتم لهنَّ قواعدَ الدين فاجعَلوا هذا في شكلِ تعليمٍ مباشر، لا على شكلِ أسئلةٍ وأجوبةٍ. وليس من الواجب عليهن مطلقًا أن يقومَ جوابُهن على غيرِ ما يُفكِّرن فيه، لا على ما أُمْليَ عليهن. وجميعُ أجوبة كتاب قواعد الدين على طريقٍ معاكس؛ فالطالب فيها هو الذي يُعلِّم المُعلِّم، حتى إن هذه الأجوبة أكاذيبُ في فم الأولاد ما دام يوضِحون ما لا يَعْقِلون مطلقًا، وما داموا يُوَكِّدون ما يَعجِزون عن اعتقاد، وبين أذكى الرجال دُلُّوني على مَن لا يَكذِبون حين تلاوةِ كتابِ دينهم.
وأوَّلُ سؤالٍ أرَى في كتابِ ديننا هو: «مَن خَلَقكم وجَعَلكم في العالَم؟» فعن هذا السؤالِ تُجيب البنتُ بلا تردُّدٍ بقولها: «إنه الرب»، مع اعتقادها أنه أمُّها، والشيء الوحيد الذي تَرى هنالك هو أنها أتتْ عن سؤالٍ لا تُدرِكه مطلَقًا بجوابٍ لا تُدرِكه مطلقًا.
وأودُّ لو يَعْرِفُ رجلٌ سَيْرَ ذهنِ الأولاد، فيَضَع لهم كتابًا عن أصول الدين؛ فقد يكون هذا الكتاب أنفعَ ما كُتِبَ على الإطلاق، وعندي أنه لا يَقِلُّ عن هذا ما يحبو هذا الكتابُ مؤلفَه من فَخْر، ومما لا مِراء فيه أن هذا الكتاب إذا ما ظَهَرَ صالحًا لم يشابه كُتُبَنا الدينية مطلقًا.
وكتابٌ في الدِّين كهذا لن يكون صالحًا إلا إذا أسفرَ عن إتيانِ الولد عندما يُسأل أجوبةً من تلقاء نفسه، ومن غيرِ سابقِ تَعَلُّم، وهذا مع العِلم بأن الولدَ يكون أحيانًا في وضعٍ يسألُ معه عن أشياءَ بدوره، وإني لكي أَحمِلَ على إدراك ما أريد أن أقول أضطرُّ إلى ضَرْبٍ من النماذجِ وأشعُر بما يُعوِزُني لرسم هذا النموذج، ومع ذلك فإنني سأحاول إعطاءَ فكرةٍ طفيفةٍ عن ذلك.
ولذا فإنني أتمثَّل، لتناول السؤال الأوَّل من كتابنا الديني، بدْءَ ذلك كما يأتي تقريبًا:
وليس بغيرِ سلسلةٍ طويلةٍ من مثلِ هذه الأسئلة ما يُهيَّأُ معه السؤال الأوَّل من كتاب الدِّين بما فيه الكفاية، ولكن ما أوسع الوثوبَ من هنالك حتى الجوابِ الثاني الذي يُعرَّف به الكُنْهُ الإلهيُّ كما أقصِدُ أن أقول! ومتى تُملأ هذه الفاصلة؟ والرَّبُّ روحٌ! وما الروح؟ وهل أُرَكِّبُ الولدَ هذا المركبَ من إبهامِ ما بعد الطبيعة الذي يلاقي الرجالُ كثيرًا من المشقة للخروج منه؟ ولا تطالَبُ البنتُ الصغيرة بحلِّ هذه المسائل، ومن الكثير أن تَضَعَها، وهي إذا ما وضعتها أجبتُ عنها ببساطة: «أنت تسألين عن الرب، فليس من السهل قولُ هذا؛ فلا يمكن أن يُسمَع الربُّ ولا أن يُرى ولا أن يُلمَس، وهو لا يُعرَف بغيرِ أعماله، وانتظري معرفةَ ما صَنَعَ حتى تَعرفي مَن هو.»
وإذا كانت جميع عقائدنا من ذات الحقيقة، فإن جميعها ليس من ذاتِ الأهمية، وليس مما يُبالي به جلالُ الربِّ أن نعرفه في كلِّ أمر، ولكن مما يُهِمُّ المجتمعَ البشريَّ وكلَّ عُضوٍ من أعضائه أن يَعْرف كلُّ إنسان ما تفرِضُه عليه سُنَّةُ الربِّ من الواجبات نحوَ نفسه وجاره، وأن يقوم بهذه الواجبات. وهذا ما يجب أن يُعلِّمه كلٌّ مِنَّا للآخر دائمًا، وهذا ما يُلْزَم الآباءُ والأمهاتُ بتعليمه لأولادهم. وسواء أكان كُنه الأب والابن واحدًا أم متشابهًا، وسواءٌ أصدرت الروح عن أحد الاثنَين اللذين هما هما أمْ عن الاثنَين معًا، لا أرى أن تقرير هذه المسائل الجوهرية ظاهرًا أهمُّ للنوع البشريِّ من معرفة أيٍّ من أيام القمر يجب أن يُحتَفَل فيه بعيد الفِصْح، ومن وجوب أو عدم وجوب التسبيح والصوم والانقطاع عن أكل اللحم والدُّهن، واستعمال اللاتينية أو الفرنسية في الكنيسة، وتزيين الجُدران بالصور، وإقامة القُدَّاس وسماعه وعدم الاختصاص بامرأةٍ مُطلَقًا. وليُفكِّر كلُّ واحدٍ في ذلك كما يروقه، وأجهلُ ما يمكن أن يكون للآخرين من مصلحةٍ في ذلك. وأمَّا أنا، فلا أُبالي بذلك مطلقًا، وإنما الذي أُبالي به أنا وجميع أمثالي هو أن يَعْرِف كلُّ واحدٍ وجودَ حاكمٍ في مصير النَّاس، فنُعَدُّ كلُّنا أولادًا له، فيأمُرنا بأن نكون أبرارًا وبأن نتحابَّ، وبأن نكون رحماء محسنين، وبأن نوفي بعهودنا نحوَ جميعِ العالم، حتى نحو أعدائنا وأعدائه، وأن نعرف أن سعادة هذه الحياة الظاهرة ليست شيئًا يُذْكَر، وأنه يوجد بعدها حياةٌ أخرى يكافئ هذا الكائنُ الأعلى فيها الأبرارَ ويَدينُ الأشرار. فهذه العقائد وما ماثلها هي التي يُهِمُّ تعليمُها للشبيبة وإقناعُ جميع المواطنين بها، ولا ريبَ في استحقاق مَن يناهضها للعِقاب، لِمَا يكون بهذا مُخِلًّا بالنظام عدوًّا للمجتمع. ومَن يُجاوِز هذه العقائد ويُرِدْ إخضاعنا لآرائه الخاصة يَصِلْ إلى ذات النقطة عن طريقٍ معاكسة، وهو يُعكِّرُ السلام من حيث إقامتُه النظامَ على نَمَطه، وهو ينتصِبُ تُرْجمانًا للألوهية عن زهوٍ مُغامِر، وهو باسمها يُطالِب النَّاسَ بضُرُوبِ الطاعة والإجلال، وهو يجعلُ من نفسه إلهًا ما استطاع إلى هذا سبيلًا. وهذا الآدميُّ هو مَن يجبُ أن يُجازَى كمُدنِّسٍ للقُدْسيات إذا لم يُعاقَب كمتعصِّب.
ولذا فانْبِذوا جميعَ تلك العقائدِ الحافلةِ بالأسرار، والتي نَعُدُّها ألفاظًا بلا أفكار، انبِذوا جميعَ هذه المذاهبِ الغريبةِ التي تقوم دراستُها الباطلةُ مقامَ الفضائل لدى مَن يزاولونها والتي تنفَع لجعْلهم مجانينَ أكثرَ من جعْلهم صالحين. وأمسِكوا أولادَكم دائمًا ضِمنَ دائرةٍ وثيقةٍ من العقائدِ التي تتصل بالأخلاق، وأقنِعُوهم بأنه لا شيءَ تنفَعُ معرفتُه أكثرَ مما يُعلِّمُنا صُنعَ الخير. ولا تَجعلوا مِن بناتكم، مُطلَقًا، لاهوتياتٍ ولا مُبَرْهِنات، ولا تعلِّموهنَّ من أمور السماء شيئًا غيرَ ما ينفع للحكمة الإنسانية، وعوِّدوهنَّ الشعورَ بأنهنَّ تحت عينَي الربِّ دائمًا، وجَعْلَ اللهِ شاهدًا على أفعالهن وأفكارهن وفضائلهن وملاذِّهن، وعملَ الخيرِ بلا فَخْرٍ لأن الله يحبُّ هذا، واحتمالَ الأذى بلا تذمُّرٍ لأن الله سيُعوِّضُهنَّ من هذا. ثُمَّ أن يَكُنَّ في جميع أيام حياتهن ما تَقَرُّ به أعينُهن حين المُثول بين يديه؛ فهذا هو الدِّين الصحيح، وهذا هو الدِّين الوحيد الذي لا مكانَ فيه لسوء الاستعمال والإلحاد والتعصُّب، ودَعُوا بعضَهم يُبشِّرون بدينٍ أسمى منه ما شاءوا، وأمَّا أنا فلا أعترف بدِينٍ غيرِ هذا مُطلَقًا.
ومع ذلك يَحْسُنُ أن يلاحَظَ أنه، حتى العُمُر الذي يستنير فيه العقل، والذي يحمل الشعورُ الناشئُ فيه ضميرَ الإنسان على الكلام، يكون ما هو خيرٌ أو شَرٌّ لدى الفتياتِ هو ما يُقرِّرُ مَن يحيط بهن من النَّاس أنه هكذا، فما يُؤمرْن به هو خير، وما يُنهَينَ عنه هو شَر، ولا يُطالَبن بمعرفةِ ما هو أكثرُ من هذا؛ ومِنْ ثَمَّ يُرى ما يكون من أهميةٍ تكون عندهن أعظمَ مما عند الصِّبيان في اختيار الأشخاص الذين يجوز أن يعاشروهن وأن يمارسوا سلطانًا عليهن، ثُمَّ يأتي الوقتُ الذي يبدأن فيه بالحُكم في الأمور بأنفسهن، وهنالك يَحِلُّ الزَّمنُ الذي يُغَيَّرُ فيه مِنهاجُ تربيتهن.
ومن المحتمل أن أَفضْتُ في الكلام عن ذلك حتى الآن، وإلَامَ نَرُدُّ النساء إذا لم نجعل لهنَّ دستورًا غيرَ المُبْتَسَراتِ العامة؟ ولا نَخْفِضْ إلى هذه النقطة ذلك الجنسَ الذي يحكم فينا، والذي يُشرِّفنا إذا لم نُذِلَّه. ويُوجَد لجميع النوع البشري قاعدةٌ أقدمُ من الرأي العام، ويجب أن تُردَّ جميعُ المناحي الأخرى إلى هذا المُوجِّه الذي لا يَنثني، ويُعَدُّ هذا الموجِّهُ حَكَمًا حتى في المُبْتَسَر، ولا يكون لتقديرِ النَّاس سلطانٌ علينا إلا بمقدارِ ما يوافِق هذا التقديرُ ذاك المُوجِّه.
والشعورُ الباطنيُّ هو تلك القاعدة، ولا أُكرِّرُ مطلقًا ما قيلَ عنه فيما تقدَّم، ويكفيني أن أُلاحظ أن هاتَين القاعدتَين إذا لم تساعدا على تربية النساء كانت هذه التَّربية ناقصة؛ فما كان الشعور بغيرِ الرأي العامِّ ليُنْعِم عليهن مُطلقًا بلطافةِ الروح التي تُجَمِّل جَميلَ الطِّباع بإجلال النَّاس، وما كان الرأي العام بغيرِ الشعور ليُسفر عن غيرِ نساءٍ فاسداتٍ خبيثاتٍ يضعن الظاهرَ موضعَ الفضيلة.
ولذا فإن من المهمِّ عندهن تعهُّد موهبةٍ تصلُح حَكَمًا بين الدليلين، فلا تَدَعُ الشعورَ يَضِلُّ مطلقًا مُقوِّمة أضاليلَ المُبْتَسَرات، وهذه الموهبة هي العقل، ولكن ما أكثرَ المسائلَ التي تُثيرها هذه الكلمة! وهل يستطيع النساء أن يأتين ببُرهانٍ متين؟ وهل من المهمِّ أن يتعهَّدْنه؟ وهل يتعهَّدْنه بتوفيق؟ وهل هذا التعهُّد نافعٌ للوظائف المفروضة عليهن؟ وهل هو موافقٌ للبساطة التي تلائمهن؟
ومن شأن مختلفِ الأساليب التي تواجَه بها هذه المسائلُ وتُحَلُّ أن يُذهَب إلى الحدَّين المتناهيين المتناقضين، فيَقصُرَ بعضُهم المرأةَ على الخيطِ والغَزْل في منزلها مع خادماتها؛ فلا يجعلوا منها بهذا غيرَ خادمةِ السيدِ الأُولى، ولا يَرضى الآخرون بضمان حقوقها فيجعلونها تغتصب حقوقنا، وإلا فما يكون تركُها فوقنا في الصفات الخاصة بجنسها، وجعلُها مساويةً لنا في جميعِ الصفاتِ الأخرى، غيرَ نقلِ الصدارة التي تُنعِم الطبيعة بها على الزوج إلى المرأة؟
وليس العقلُ الذي يَسُوق الرجلَ إلى معرفةِ واجباته كثيرَ التعقيد، ويكون العقلُ الذي يسوقُ المرأة إلى معرفة واجباتها أكثرَ بساطةً أيضًا، ويكون الانقيادُ والإخلاصُ المُلزَمةُ بهما نحوَ زوجها، ويكون اللطفُ والرعايةُ المُلزَمةُ بهما نحوَ أولادها، نتائجَ تبلغ من ملاءمة الطبيعة ومن التأثُّر بحالها ما لا تستطيع معه بلا سوءِ نِيَّةٍ أن تَرفِض موافقتَها على الشعور الباطنيِّ الذي يُوَجِّهُها، ولا أن تُنكِرَ الواجبَ ضِمنَ مَيلِها الذي لم يَفْسُد بَعد.
ولا أعْذِلُ مِن غير تمييز اقتصارَ المرأة على أشغال جنسها فقط، وأن تُتركَ ضِمن جهلٍ عميقٍ بغير هذه الأشغال، ولكن هذا يتطلب طِباعًا عامةً كثيرةَ البساطةِ كثيرةَ السلامة أو طرازَ حياةٍ كثيرَ الاعتزال، وتكون هذه المرأة في المدن الكبيرة وبين الرجال الفاسدين سهلةَ الإغواء، ويكون طُهْرُها تابعًا للأحوال في الغالب، ولا بُدَّ لها من ابتلاءٍ في عصر الفلسفة الحاضر، فيجب أن تَعرف مُقدَّمًا ما يُمكِن أن يُقال لها وما يُمكِن أن يدور في خَلَدها حوْل ما يُقال لها.
وهي إذ كانت خاضعةً لحُكم الرجال فضلًا عن ذلك، وجبَ أن تستحقَّ تقديرهم، ولا سيَّما تقديرُ زوجها، ومن الواجب ألَّا تقتصرَ على تحبيب نفسها إلى زوجها، بل يجب أن تجعله يستحسن سلوكها، ويجب أن تُسوِّغ أمامَ النَّاس ما أتتْ من اختيار، وأن تَحمِل على إكرام الزوج بالإكرام الذي تُحْبَى به المرأة. ولكن كيف تَقوم بجميع هذا إذا كانت تَجهل نُظُمَنا، وإذا كانت لا تَعرف شيئًا عن عاداتنا وآدابنا، وإذا كانت لا تَعرف مصدر أحكامنا البشرية ولا تَعرف الأهواء التي تقضي بها؟ وبما أنها تابعةٌ لضميرها وآراء الآخرين معًا، فإن من الواجب أن تتعلَّم كيف تقارنُ بين هاتَين القاعدتَين وأن تُوَفِّق بينهما، وألَّا تُرجِّحَ الأُولى إلا عند اختلافهما. وهي تَصيرُ قاضيةَ قضاتها، فتُقرِّرُ متى يجب أن تُذْعن لهم ومتى يجب رَفْضهم، وهي تَزِنُهم قبْل رفضِهم أو قبولهم، وهي تتعلَّم بلوغَ منبعهم وتحذيرَهم وجعلَهم ملائمين، وهي تُعنى بألَّا تَجلِب اللومَ إلى نفسها إذا ما سَمَح لها واجبُها باجتنابه، ولا شيءَ من جميع هذا يُمكِن أن يتمَّ جيِّدًا من غير تثقيف ذهنها وعقلها.
وأعودُ إلى المبدأ دائمًا؛ فهو يُزوِّدُني بحلِّ جميع مشاكلي، وأدرُس ما هو كائن وأبحث عن عِلَّته، ثُمَّ أجِدُ أن ما هو كائنٌ هو حَسَن، وأدخُل البيوتَ المفتوحة التي يقوم ربُّها وربَّتُها معًا بحُسنِ استقبال النَّاس، وقد نال كلٌّ منهما عينَ التَّربية، ويتصف كلٌّ منهما بأدبٍ متساوٍ، وكلٌّ منهما مُجهَّزٌ بذوْقٍ وذهنٍ على السواء، ويساور كلًّا منهما عينُ الرغبة في حُسن استقبال النَّاس وفي تشييع كلٍّ منهم راضيًا عنهما. ولا يألُ الزوج جُهدًا في التفاته إلى كلِّ واحدٍ ذاهبًا آيبًا طائفًا، محتملًا ألفَ عَناء، قاصدًا أن يَكونَ انتباهًا خالصًا. وتَظل الزوجة في مكانها، وتلتفُّ حولَها حلْقةٌ صغيرة، فيلوح أنها تحجُب عنها بقية المجلس، ومع ذلك فإنه لا يغيب عنها شيء، ولا يخرج أحدٌ لم تكن قد حادثته، وهي لم تُهمِل شيئًا يمكن أن يُمتِع كلَّ واحد، وهي لم تَقُل لأحدٍ شيئًا غيرَ مُستحَبٍّ لديه. ولم يُغْفَل أصغرُ مَن في المجلس أكثرَ من إغفال الأوَّل فيه، وقد أُعِدَّت المائدة، وقد جلس كلُّ واحدٍ في مكانه، وذلك أن الزوج المطَّلع على المتوافقين من الحضور وَضَعَهم وَفْقَ ما يَعْرِف، وأن المرأة التي لم تَعرف شيئًا من ذلك لم تُخادَعْ بذلك؛ فهي كانت قد قرأت في العيون والأطوار جميعَ الموافقات، فوجدت كلَّ واحدٍ جالسًا كما كان يَود. ولا أقول مطلَقًا إنه لم يُنْسَ أحدٌ من قِبَل الخَدَم، وكان يُمكِن ربَّ المنزلِ ألَّا يَنسى أحدًا حين طوافه حوْل الجميع، ولكن المرأة تُبصِر ما يُنظَر إليه برغبةٍ فتقدِّم إليكم منه، وبينما تُحدِّث المرأةُ جارَها تلاحِظ آخرَ المائدة، فتميزُ مَن لا يأكل مطلقًا لأنه غيرَ جائعٍ مِن الذي لا يجرؤ على تناول شيءٍ أو طلبِ شيءٍ عن خَرَقٍ أو حياء، وإذا ما تُرِكَت المائدةُ اعتقدَ كلُّ واحدٍ أنها لم تفكِّر في غيره، ورأى الجميع أنه لم يكن عندها من الوقت ما طَعِمَت فيه قطعةً واحدةً مع أنها أكلت أكثرَ مِن كلِّ واحدٍ في الحقيقة.
ومتى انصرف الضيوفُ حُدِّث عما وقع، ويروي الزوج ما قيلَ له وما قالوا وما تمَّ بينه وبين مَن حادثهم، وإذا لم تكن المرأةُ أصدقَ حديثًا في ذلك دائمًا فإنها بالمقابلة قد أبصرتْ ما قيل هَمسًا في الطَّرَف من البهو، فتعرف ما فكَّرَ فيه هذا أو ذاك كما تعرف معنى هذا القول أو مغزى تلك الإشارة، ولم تَكَدْ تقع حركةٌ ذاتُ دَلالةٍ لم تكُن مستعدةً لتفسيرها وفْق الحقيقة تقريبًا.
ومن شأن مرونة الذهن التي تجعل المرأةَ العصريةَ بارعةً في فنِّ القِرَى أن تجعل المِغْناج بارعةً في فنِّ إلهاء كثيرٍ من العشاق، حتى إن الغُنَاج يقتضي بصيرةً أدقَّ مما يقتضيه الأدب؛ وذلك لأن المرأة المهذَّبة تكون على شيءٍ من حُسْن الصُّنْع دائمًا إذا ما كانت ذاتَ أدبٍ واحدٍ نحوَ جميع النَّاس، وأمَّا المِغْناج فإنها لا تَلبث أن تَخسر سلطانَها بمثل هذه النمطية الخرقاء، فينفضَّ جميعُ عُشَّاقِها من حوْلها عن قصدِها إرضاءهم على السواء، وفي المجتمع لا تَترُك الأوضاعُ التي تُتَّخَذُ نحوَ جميع النَّاسِ قولًا لقائل، وفي المجتمع لا يُنظَرُ إلى التفضيلات عن كَثَبٍ بشرط حُسْنِ المعاملة، ولكنَّ المحاباة في الحُبِّ تُعَدُّ إهانةً إذا لم تكن حَصْرًا، ويُفضِّل الرجلُ الحسَّاسُ مائةَ مرةٍ أن يُؤذَى وحدَه على أن يُلاطَف مع الآخرين جميعًا، ويكون شَرُّ ما يُصابُ به هو ألَّا يُمازَ مطلقًا؛ ولذا فإنَّ من الواجب على المرأة الراغبة في الاحتفاظ بكثيرٍ من العشاق أن تُقنِعَ كلَّ واحدٍ منهم بأنها تُفضِّلُه، وأن يقعَ إقناعُها هذا على أعين الآخرين، فيقنَعَ كلُّ واحدٍ من هؤلاء بأنه المُفضَّل.
وإذا أردتم أن تَرَوا رجلًا حائرًا فضعوه بين امرأتَين تكون بينه وبين كلٍّ منهما علاقاتٌ سِرِّية، ثُمَّ لاحظوا أيُّ وجهٍ بليدٍ يكون له هنالك، وضَعوا في مثل ذات الحال امرأةً بين رجلين لترَوا أن العِبْرةَ لا تكون أكثرَ نُدرَةً لا ريب، وذلك أنكم تَقضون العجبَ من البراعة التي تخادِع بها الاثنَين وتجعلُ كلًّا منهما يضحك من الآخَر، والواقع أن هذه المرأة إذا كانت تُظهِر لهما ذاتَ الثقة، وتَحبوهما بذاتِ الزُّلْفى، فكيف يُخدعان بها طَرْفةَ عين؟ وإذا كانت تعاملهما معاملةً متساوية، أفلا تدُلُّ على وجودِ نفسِ الحقوق لهما عليها؟ ويْ! إنها أكثرُ حذَرًا من هذا! إنها بعيدةٌ من معاملتهما على وجهٍ واحد، إنها تتظاهر بجعْل تفاوتٍ بينهما، إنها تبلُغُ من الحِذْق ما يَعْتقد معه الذي تُداريه أن مداراتَه ناشئةٌ عن حُنوٍّ منها، وما يعتقد معه الذي تُسيء إليه أن إساءتها هذه واقعةٌ على الرغم منها، وهكذا فإن كلَّ واحدٍ راضٍ بنصيبه معتقِدًا أنها تَشغَل بالَها به مع أنها لا تُفكِّرُ في غيرِ نفسها بالحقيقة.
والدَّلال، من حيثُ الرغبةُ العامةُ في الرَّوَقان، يُوحي بوسائلَ مماثلة، والأهواءُ لا تُوجِبُ غيرَ الاستنكاف إذا لم تُدَارَ بحكمة، وهي إذا ما وُزِّعَت ببراعةٍ أسْفرت عن سلاسلَ وثيقةٍ من العبيد.
«فالمرأةُ تتخذُ جميعَ الحِيَل حتى تنالَ بأشراكِها عاشقًا جديدًا، وهي لا تحافظُ على ذاتِ الوجهِ نحو الجميعِ ولا في كلِّ حين، ولكنها تُغَيِّرُ وضْعَها ومنْظرَها على حَسَبِ الأوقات.»
وما سَنَدُ هذا الفنِّ إذا لم يَقُم على ملاحظاتٍ دقيقةٍ دائمةٍ تُبصِرُ بها في كل ثانية ما يدور في خَلَد الرجال وتُعِدُّها عند كلِّ حركةٍ خفيةٍ تُدركها لحمْل ما يجب من قوةٍ لِعَوْق هذه الحركة أو تعجيلها؟ وهل يُتعَلَّمُ هذا الفن إذن؟ كلَّا، وإنما يُولد مع النساء، وجميعُ النساء حائزاتٌ له، ولم يَحُزه الرجالُ بهذا المقدار قَط، وهذا من خصائص الجنس النسوي البارزة؛ فحُضور الذهنِ والبصرُ النافذُ والملاحظاتُ الدقيقةُ أمورٌ تُعَدُّ عِلْمَ النساء، ويقوم نُبوغُ النساء على البراعة في الانتفاع بهذا العلم.
وهذا ما هو كائن، وقد رأينا السببَ في كينونةِ هذا، ويُقال لنا إن النساء زائفات، وهن يصرن زائفات، والشطارةُ لا الزيوفُ هي موهبتُهن الخاصة، وليس النساءُ زائفاتٍ في مُيُول جنسهنَّ الحقيقية، ولو كَذَبْن، ولِمَ تستشيرون فَمَ النساء، وهو الذي ليس له أن يتكلم؟ وإنما استشيروا عيونهن وسَحْنَتَهن وتنفُّسَهن وهَلَعَهن ومقاومتَهن الناعمة، وهذا هو اللسان الذي أنعمتْ به الطبيعة عليهن ليُجِيبَكم. أجلْ، إن الفمَ يقول: «كلَّا»، وهذا هو الذي يجب أن يقول، ولكنَّ النبرةَ التي تُضيفُها إلى هذه الكلمة ليست على وتيرةٍ واحدةٍ دائمًا، وهذه النبرة هي التي لا تَعْرِف الكَذِب مطلَقًا. أَوَليس لدى المرأة عينُ احتياجاتِ الرجل، وذلك من غيرِ أن يكون لها عينُ الحقِّ في إبدائها؟ يكون نصيبُها جائرًا جِدًّا لو كانت عاطلة، حتى في الرغائب المُحلَّلَة، من لسانٍ يَعْدِلُ الذي لا تَجْرؤ على استعماله، وهل يجب أن يجْعَلها حياؤها شَقِيَّة؟ أَوَلَا تحتاج إلى فنٍّ تُطْلِعُ به على مُيُولها من غيرِ أن تَكشِفَها؟ ويا لاحتياجها إلى براعةٍ تُخفي بها ما تتلظَّى شوْقًا إلى الموافقة عليه! وما أكثرَ ما يُهِمُّها أن تَعْرف مسَّ فؤادِ الرَّجل من غيرِ أن تَظْهَرَ أنها تُفكِّر فيه! ويا لَلْكلام الذي تنطوي عليه تُفَّاحةُ غَلَاتِه وفِرارِها الأخرق! وما كان عليها أن تُضيف إلى ذلك؟ وهل تَذهبُ لتقول للراعي الذي يَتعقَّبها بين الصَّفْصاف إنها لم تهْرُب إلا لاجتذابه؟ ولو قالت هذا لَكَذِبَت؛ وذلك لأنها تعود هنالك غيرَ مجتذِبةٍ له. وكلَّما كانت المرأة محتشمةً وجبَ أن تكون حاذقةً حتى مع زوجها، نعَمْ إنني أذهب إلى أنها إذا وضعت الدَّلال ضِمْنَ حدوده كانت صادقةً خجْلَى، فجُعِلَ من هذا ناموسٌ في الحياء.
ولا أَعرِف غيرَ الآنسة دُولَنْكلُو مَن أَمكن إيرادُها استثناءً معروفًا لهذه الملاحظات، ومع ذلك فقد عُدَّت الآنسةُ دُولَنْكلو نادرةَ زمانها، ويُروَى أنها حافظت على فضائل جنسنا عن ازدراءٍ لفضائلِ جنسها، فيُثنى على إخلاصها واستقامتها وضمان عِشْرَتها ووفائها في الصداقة، ثُمَّ أُتِمَّت صورةُ مجْدِها بأن تحوَّلت إلى رجل، حبَّذا، ولكنني ما كنت لأريد أن يكون هذا الرجلُ صديقًا لي أكثرَ من أن يكون خليلةً لي على ما يتمتع به من شهرة واسعة.
وليس جميعُ هذا خارجًا عن الموضوع كما يَلوح، وأُبصِرُ أين تميلُ مبادئ الفلسفة الحديثة بتحويلها حياءَ الجنسِ النسوي وزُيوفَه المزعومَ إلى سُخْرية، وأُبصِرُ أن أثبَتَ أثرٍ لهذه الفلسفة هو أن يُنزَع من نساء عصرنا ما بقيَ لهن من شرفٍ قليلٍ.
وأعتقد، بعد النظر إلى هذه الاعتبارات، إمكانَ تعيين نوع الثقافة الملائم لذهن النساء، وما يُمكِنُ أن تُوجَّه إليه تأملاتُهن من موضوعاتٍ منذ فَتَائهن.
ومعرفةُ واجباتِ جنسهنَّ أسهلُ من إنجازها كما قُلتُ فيما تقدَّم، وأوَّلُ شيءٍ يجب أن يتعلمْنَه هو حُبُّهن لهذه الواجبات نظرًا إلى فوائدها، وهذه هي الوسيلة الوحيدة لجعْلها سهلة. ولكلِّ حالٍ ولكلِّ سنٍّ واجباتُها، ونحن لا نلبث أن نعرف واجباتِنا إذا ما أحببناها، فأكرِموا حالَكن كامرأة، ومهما يَكُنِ المكانُ الذي يَضَعُكُن فيه الربُّ فإنكن تكنَّ نساءَ خيرٍ دائمًا، والمهمُّ أن تكنَّ كما صَنَعتكن الطبيعة، وليس النساء غيرَ كثيراتِ الاستعداد ليكُنَّ كما يريد الرجال.
وليس مِن نابضِ النساءِ بحثُهن عن الحقائقِ المجرَّدةِ والنظرية، وعن المبادئ والأوَّليات في العلوم، وعن كلِّ ما يميلُ إلى تعميم الأفكار، وإنما يجب أن تُرَدَّ دراساتهن إلى العمل؛ فعليهنَّ أن يَقُمْنَ بتطبيقِ ما وجَدَه الرَّجلُ من مبادئ، وهنَّ يأتين بالملاحظات التي تَسُوقُ الرجلَ إلى إقامة المبادئ. ويجب أن تهدف جميعُ تأمُّلات النساء في كلِّ ما لا يتعلَّق بواجباتهن المباشرة إلى دراسة الرجال والمعارف اللطيفة التي ليس لها موضوعٌ غير الذوق؛ وذلك لأن آثارَ العبقريةِ تُجاوِز متناولهن، ولأنه ليس لديهن من الإصابة والانتباه ما يُوَفَّقْن معه في العلوم الصحيحة. وأمَّا من حيث المعارفُ الفِزْيوية، فالجنسُ هو أكثرُ فَعَّاليةً وإقدامًا وبَصَرًا بالأمور، والذي هو أكثرُ قوةً وممارسةً لهذه القوة، هو الذي يَحكم في العلاقات بين الموجودات الحساسة وسُنن الطبيعة. والمرأة، وهي الضعيفة التي لا تَرى شيئًا في الخارج، تُقدِّرُ الدوافعَ التي تستطيع أن تتصرفَ فيها تَلافيًا لضَعفها، وهذه العوامل هي أهواءُ الرجل، ويُعَدُّ جهازُها أقوى من جهازنا، ويَهُزُّ الفؤادَ البشريَّ ما يشتمل عليه من عَتَلٍ جهازُها الذي هو أقوى من جهازنا، ويجب أن يكون لديها من الفن ما يجعلنا نريد معه كلَّ ما لا يستطيع جنسُها أن يَصنع بنفسه مع كونه ضروريًّا له مستحبًّا عنده؛ ولذا يجب أن تَدْرُس ذهنَ الرجل درسًا أساسيًّا لا ذهنَ الرجل على العموم مُجرَّدًا؛ أي أن تدْرُس ذهنَ الرجال الذين يحيطون بها؛ أي ذهنَ الرجال الذين أُخضِعَت لهم سواءٌ أبالقانون أم بالرأي العام، ومما يجب أن تَعرِف كيف تَنْفُذ مشاعرَهم من خلال أقوالهم وأفعالهم ونظراتهم وحركاتهم، ومما يجبُ أن تَحبُوَهم بأقوالها وأفعالها ونظراتها وحركاتها ما يَرُوقها من المشاعرِ من غيرِ أن تَظهَرَ قاصدةً ذلك. أجلْ، إن الرجال يتفلسفون حوْل القلب البشري خيرًا مما تَصْنع، ولكنها خيرٌ منهم قراءةً في القلب البشريِّ. ومِنْ ثَمَّ يَلزَمُ النساءَ أن يَجِدن الأدبَ التَّجْرِبيَّ، ويَلزمُنا أن نَرُدَّه إلى نظام؛ فالنساء أكثرُ أرَبًا، والرجلُ أكثرُ عبقرية، والمرأةُ تلاحظ والرجل يَتعقَّل، وينشأ عن هذا التعاونِ أسْطَعُ ما يكون من نورٍ وأكملُ ما يكون من عِلمٍ يُمكِن الذهنَ البشريَّ أن يكتسب بنفسه؛ أي أثبتُ معرفةٍ ينالُها الإنسان عن نفسه وعن غيره، وتكون في متناوَل نوعنا؛ ومِنْ ثَمَّ تَرى كيف يستطيع الفنُّ أن يَميل بلا انقطاعٍ إلى إكمال الآلة التي مَنَحتْها الطبيعة.
والعالَمُ كتابُ النساء، ويَقع الذَّنب عليهن إذا ما أسأن قراءته، أو إذا أعماهن بعضُ الأهواء، ومع ذلك فإن أُمَّ الأُسْرةِ الحقيقيةَ بعيدةٌ من أن تكون امرأةَ دُنْيا، فلا تكون في منزلها أقلَّ اعتزالًا من الراهبة في دَيْرِها؛ ولِذا يجب أن يُصنَع للفتيات اللاتي يَصلُحن للزواج كما يُصنَع، أو كما يجبُ أن يُصنَع، لِلَّائي يُوضَعن في الأديار؛ أي أن يُطلَعنَ على الملاذِّ التي يَهْجُرن قبْل تَرْكهن هنالك يَعْدِلْن عنها، وذلك خشيةَ أن تؤدي صورةُ هذه الملاذِّ الزائفة التي يجهلنها إلى إغواء قلوبهن وتكدير صفوِ عُزلتِهن ذاتَ يوم. وفي فرنسة يعيش البناتُ في الأديار ويتمتَّع النساءُ بالدنيا، والعكسُ هو ما كان عند القدماء؛ فقد كان لدى البنات، كما قلت، ألعابٌ كثيرةٌ وأعيادٌ عامَّة. وقد كان النساء يَعِشْنَ معتزلات، وقد كانت هذه العادةُ أقربَ إلى الصواب وأكثرَ حفظًا للأخلاق، ويُباح للبنات الصالحات للزواج ضَربٌ من الدَّلَال، ويُعَدُّ لهوُهنَّ شغْلَهنَّ الأكبرَ، وللنساء أشاغيلُ أخرى في بيوتهن؛ فقد عُدنَ لا يبحثن عن أزواج، ولكنهن لا ينتفعن بهذا الإصلاح، ومن المؤسف أنهن لا يُعَيِّنَّ ضرْبَ الغِناء. ويا أيتها الأمهات، اجعلْن من بناتكن رفيقاتٍ لَكُنَّ على الأقل، وامنحوهن حسًّا صادقًا وروحًا صالحًا، ثُمَّ لا تكتموا عنهن شيئًا يُمكِنُ أن تقعَ عليه عينٌ طاهرة، ويُمكِن أن يُعرَض على العيون السليمة بلا خَطَرٍ كلُّ ما يَفْتِنُ الشبيبةَ الغافلةَ عند النظر السيِّئ إليه من مراقصَ وولائمَ وألعاب، ومسارحَ أيضًا؛ فهنَّ كلَّما شاهدن هذه اللطائفَ الصاخبةَ زَهِدْنَ فيها.
وأسمعُ الضجيجَ الذي يرتفع ضدي، وأيةُ بنتٍ تقاوم هذا المثالَ الخَطِر؟ لم يَكَدْن يَرَيْن العالَم حتى تدورَ رءوسُهن جميعًا، فلا تريد أيةُ واحدةٍ منهن تَرْكَه. أجلْ، يمكن هذا، ولكن هل أعددتموهن لمشاهدته من غيرِ اهتزازٍ قبْل عرْض هذه الصورة الخادعة عليهن؟ وهل أنبأتموهنَّ جيِّدًا بما يَعْرِض من موضوعات؟ وهل أحسنتم تصويرها لهنَّ كما هي؟ وهل سلحتموهنَّ ضِدَّ أوهام الغُرور؟ وهل حملتُم إلى قلوبهنَّ الفتِيَّة مِن ذوْق الملاذِّ الحقيقية ما لا يُوجَد في هذا الهَرْج والمَرْج مطلَقًا؟ وماذا اتخذتم من الاحتياطات والتدابير لوقايتهنَّ من الذوق الفاسدِ الذي يُضِلُّهن؟ لقد غذَّيتم أذهانَهن بالمُبْتَسَرات العامة بدلًا من إقامة العوائق دونها، وقد حَمَلْتُموهن مقدَّمًا على حُبِّ جميعِ ما يَجِدن من لهوٍ طائش، وأنتم تجعلونهن يُحْبِبن هذا اللهوَ أيضًا بملازمتِكم إياه، ومِن الفتيات مَن إذا دخلن العالَم لم يجدن مُرَبِّيَاتٍ لهن غيرَ أمهاتهن اللاتي يَكُنَّ أكثرَ حماقةً منهن في الغالب، واللائي لا يستطعن إراءَتهن الأمورَ على غيرِ ما يَرَيْن. وبما أن مثالَ الأمِّ أقوى من العقل نفسه، فإنه يُسوِّغ هذه الأمورَ في عيون بناتها، ولا غَرو؛ فسلطانُ الأمِّ في نظر البنت مَعْذِرَةٌ لا تُرَد، وعندما أردتُ إدخالَ الأمِّ بِنتَها إلى العالَم افترضتُ إراءَتَه لها كما هو.
ويبدأ الشرُّ قبْلَ الأوان أيضًا؛ فالأديارُ مدارسُ حقيقيةٌ للغُنَاج، لا ذاك الغُنَاج الحلال الذي تكلمتُ عنه، بل الغُنَاج الذي يُسفِرُ عن جميع انحرافات النساء، ويؤدي إلى أكثر الشابات هوسًا. ومتى خرج فتياتُ النساء من هنالك للدخول في المجتمعات الصاخبة كان أوَّلَ ما يَشعُرن به كونُهن في منزلهن، وذلك أنهن نُشِّئن ليعِشن به. وهل يُعجَب من ملائمته لهن؟ ولا أتقدَّم، مطلقًا، بما كنت قد قلت، وذلك خشيةَ انتحال مُبْتَسَر على أنه مشاهدة، ولكن الذي يلوح لي أنه يوجَد في البلدان البروتستانتية على العموم أُسَرٌ أكثرُ عطفًا وزوجاتٌ أكثرُ جدارةً وأمهاتٌ أكثرُ حَنانًا مما في البلدان الكاثوليكية، وإذا كان الأمر هكذا لم يُشكَّ في كون هذا صادرًا قِسْمًا عن تربية الأديار.
وتقضي محبةُ الحياة المنزلية الهادئة بأن تكون معروفةً وبأن تُذاقَ حلاوتُها منذ الطفولة، وليس في غيرِ المنزل الأبويِّ ما نتذوَّق منزلنا الخاص، وما كانت المرأة التي لم تُنشِّئها أمُّها قَطُّ لتُحِبَّ تنشئةَ أولادِها مطلقًا. ومن دواعي الأسفِ أنه عاد لا يُوجَد في المدن الكبيرة تربيةٌ خاصَّة، وذلك أن المجتمع فيها بالغٌ من الشُّمُول والاختلاط ما لا يبقى معه مكانٌ للعزلة، حتى إن الإنسان فيها يَشعُر في منزله بأنه بين النَّاس، وعاد لا يوجد ما يُعَدُّ أُسْرةً بفعل العيش مع جميع النَّاس. ولا يكاد الإنسان يَعْرِف والديه، أي إنه ينظرُ إليهما كما يُنظَر إلى الغرباء، وتزول بساطةُ الطباع المنزلية مع الدَّالَّة الحُلوة التي تُوجِبُ فُتونَها، وهكذا يُرضَع مع اللبن ذوْقُ ملاذِّ العصر، وما يُرَى أنه يَسُود العصرَ من مبادئ.
وتُسْلِمُ جميعُ هذه التربياتُ المُنوَّعة، على السواء، فَتياتِ البنات إلى تذوُّق ملاذِّ المجتمع وإلى الأهواء التي لا تَلْبث أن تنشأ عن هذا الذوق. ويبدأ الفساد مع الحياة في المدن الكبيرة، ويبدأ مع العقل في المدن الصغيرة، ومن فَتيات الأقاليم مَن يتعلَّمنَ ازدراءَ ما تنطوي عليه طِباعُهن من بساطةٍ مباركة، فيُبادرن إلى قصدِ باريسَ ليقاسمن فتياتِنا فسادَهن. وبما أن المعايب المُزوَّقة باسم المَناقب الرائعة هدفُ رِحلتهنَّ الوحيد، وبما أنه يعتريهن عند وصولهن خَجلٌ من ابتعادهن عن تَحلُّل نساء العاصمة النبيل، فإنهن لا يَلبثن أن يصِرْن جديراتٍ بهذه العاصمة أيضًا. وأين يبدأ السوء على رأيكم؟ أيُبدأ في الأمكنة التي يُرْسَم فيها أم في الأماكن التي يُنجَز فيها؟
ولا أُريد أن تأتي الأمُّ الرصينة بابنتها من الإقليم إلى باريس لتُطلِعَها على تلك المناظر البالغة الفساد لغيرها، وإنما أقول إن هذا إذا وَقَعَ فإن هذه البنتَ إمَّا أن تكون سيئةَ التنشئة، وإمَّا أن تكون تلك المناظرُ قليلةَ الخطر عليها، وإذا ما وُجِدَ ذوقٌ للأمور الصالحة وشعورٌ بها وحُبٌّ لها، لم تكن تلك المناظر من القدرة على الجذب بمقدار ما تؤثِّرُ فيمن يَدَعون أنفسَهم يُفتَنون بها. ومما يُلاحَظُ في باريس أن أولئك الفتياتِ الرُّعْنَ اللاتي يُبادِرن إلى انتحال طابع هذه المدينة، ويَسِرْن مع مُوضَتها لستة أشهر، يَشْخِرن بقيَّةَ حياتِهن، ولكن مَن ذا الذي يُلاحِظُ أن أولئك اللائي ينفِرن من ذلك الضجيج فيتحوَّلن عنه إلى إقليمهن راضياتٌ عن نصيبهن بعد مقابلته بالذي يَغارُ منه الأخْرَيات؟ وما أكثرَ مَن رأيتُ من فَتَياتِ النساء اللائي أتى بهنَّ إلى العاصمة أزواجٌ قاصدون الاستقرار بها مع عزْم، فيُحوِّلنَهم عن ذلك بأنفسهن وتُغادَرُ بعزمٍ أكثرَ من الذي قُصِدَت به مع القول العاطفي عَشيَّةَ الرحيل: «وَيْ! لنَعُدْ إلى كوخنا حيث نقضي حياةً أسعدَ من التي تُقضى في القصور هنا!» ولا أعلمُ عددَ مَن بقيَ من الصالحات اللاتي لم يركعن أمام الصنم قَط، فيَزدرين عبادتَه المخالفةَ للصواب. ولا يوجد صاخباتٌ غيرُ الحُمْق، وأمَّا النساء العاقلات فلا تَسمع لهن صوتًا مُطلَقًا.
وإذا ما حافظ كثيرٌ على حُكمٍ في الأمورِ راسخٍ على الرغم من الفساد العام والمُبْتَسَرات الشاملة وتربية البنات السيئة، فما يحدُث إذا ما غُذِّيَ ذاك الحُكْم بمعارفَ مناسبة، وإن شئتَ فقُل إذا لم يُفسَد بمعارفَ داعرة؟ وذلك لأن كلَّ شيءٍ يقوم على حفْظ المشاعر الطبيعية أو تجديدها. ولا يقضي هذا بأن يُسأمَ الفتياتُ مطلقًا بمواعظكم الطويلة، ولا أن تَبيعوا منهن أخلاقياتِكم الجافية؛ فالأخلاقيات تنطوي على موتٍ لكلِّ تربيةٍ صالحةٍ لدى الجنسين، ولا تكون الدروس الكئيبة صالحةً لغير إثارة الحقد على مَن يُلْقونها وعلى كلِّ ما يقولونه. ولا يُقصَد عند مخاطبة الفتيات تخويفهن من واجباتهن، وتثقيلُ النِّير الذي فرضته الطبيعةُ عليهن، وكونوا عند عرضِ هذه الواجبات عليهن مدقِّقين هيِّنين، ولا تَدَعوهن يرين أنفسهن محزوناتٍ عند قيامهن بها، فلا كَدَرَ ولا عُبُوسَ مطلَقًا، وكلُّ ما يجب أن يدخُل في القلب يجب أن يخرُج منه. ويجب أن يكون كتابُهن الخُلُقيُّ مختصرًا واضحًا مثل كتابهن الديني، ولكن لا ينبغي أن يكون وَزِينًا، وأطلِعوهن في الواجبات عَينِها على مصدرِ لهوهن وأساسِ حقوقهن، وهل من الشاقِّ أن يُحِبَّ الإنسان حتى يُحَبَّ، وأن يَظهر أنيسًا ليكون سعيدًا، وأن يَصير جليلًا ليُطاع، وأن يُكرِم نفسَه ليُكرَم. ويا لروعةِ هذه الحقوق! ويا لكونها أهلًا للاحترام! ويا لكونها عزيزةً على قلب الرجل إذا ما عَرَفت المرأة أن تنتفع بها! ويجب ألَّا تُنتَظَرَ السِّنون ولا المشيبُ للتمتُّع بها؛ فسلطانُ المرأةِ يبدأ مع فضائلها، ولا تكاد جواذبُها تنمو حتى تَسُود بدَماثتها جاعلةً تواضعَها باهرًا. وأيُّ رجلٍ فظٍّ غليظٍ لا يُلينُ خُيَلاءَه، ولا يَتَّخذ من الأوضاع أدعاها إلى الانتباه بجانب فتاةٍ في السادسة عشرة من سِنِيها محبوبةٍ حكيمةٍ صَمُوتٍ قليلةِ الكلام ذاتِ احتشامٍ في أوضاعها وصلاحٍ في أحاديثها، فلا يُنسيها حُسنُها جنسَها وفتاءَها، فتَقِفُ بحيائها النظرَ وتَجلب إلى نفسِها ما تَحمِلُ إلى جميع النَّاس من إكرام.
ومع أن تلك الدلائلَ خارجية، فإنها ليست خاليةً من المعنى مُطلَقًا، وهي ليست قائمةً على جذب الحواسِّ وحدَها مطلَقًا، وهي تنشأ عن هذا الشعور الباطنيِّ الذي يساوِرُنا جميعًا، والقائلِ إن النساء قاضياتٌ طبيعياتٌ في مقدرة الرجال. ومن ذا الذي يريد أن يكون مُزْدَرًى من قِبَل النساء؟ لا أحدَ في العالَم، حتى الذي عاد راغبًا عن حُبِّه لهن. وهل تَعتقدون أنني لا أكترث لأحكامهن مع أنني أخاطبهن بحقائقَ قاسيةٍ جِدًّا؟ كلَّا؛ فأصواتهن أعزُّ عليَّ من أصواتكم أيها القراء الذين هم أكثرُ منهن نِسْوِيَّةً، فإذا كنتُ أزدري أخلاقَهن فإنني لا أزال أريد إكرامَ عدْلِهن، وإذا كُنتُ مُلزِمًا لهن بإكرامي فلا أبالي بكُرههن لي إلا قليلًا.
وما أعظمَ الأمورَ التي تُصنَع بهذا النابض إذا ما عُرِف استعماله! وويلٌ للعصر الذي يَفقد النساءُ فيه نفوذَهن، فلا يكون لأحكامهن عملٌ في الرجال! وهذه هي آخرُ درجةٍ من الانحطاط، وقد أكرمَتِ النساءَ جميعُ الشعوبِ التي كانت على شيءٍ من الأخلاق، وانظُروا إلى إسبارطة، وانظروا إلى الجِرمان، وانظروا إلى رومة، إلى رومة التي كانت مقرَّ المجد والفضيلة، لترَوْا ما كان لهن عند هذه الأمم من مقام. وفي رومة كان النساءُ يُشِدْن بمفاخرِ أكابرِ القُوَّاد، وكن يبكين آباءَ الوطن جهْرًا، وكانت نذورهن أو حِداداتُهن الموقوفة عليهم أعظمَ ما في الجمهورية من حُكْمٍ احتفالي، وكانت جميعُ الثَّورات الكبيرة تَصدُر عن النساء، ومن ذلك أن نالت رومةُ الحريَّةَ بفضل امرأة، وأن نال العوامُّ القنصليةَ بفضل امرأة، وأن انتهى استبداد الحكام العشرة بفضل امرأة، وأن أَنْقَذَ النساءُ رومةَ المحاصَرَة من يدِ طليلٍ. ويا أيها الفرنسيون من ذوي الشهامة، ماذا كنتم تقولون عندما ترَوْن مرورَ هذا المَوْكِبِ المثيرِ للضحك كثيرًا في أعْينِكم الساخرة؟ كنتم تقابلونه بصرخات الهزوء. ويا لاختلافنا في النظر إلى عينِ الأشياء! ومن المحتمل أن يكون الحقُّ بجانبي وجانبكم، وألِّفوا هذا الموكِب من حِسَانِ الفرنسيات تجدوني لا أعْرِف ما هو أكثرُ حشمةً منه، ولكنكم إذا ما ألَّفْتموه من رومانياتٍ كانت لكم كلكم عيونُ الفُولْسك وقلبُ كُورْيولان.
وأقول أكثرَ من ذاك، وأذهب إلى أن الفضيلة ليست أقلَّ ملاءمةً للحبِّ من حقوق الطبيعة الأخرى، وأن سلطان الخليلات ليس أقلَّ رِبْحًا بها مِن رِبْح سلطان الزوجات والأمهات، ولا يُوجَدُ حُبٌّ حقيقيٌّ بلا هِيام، ولا يوجد هِيامٌ بلا موضوعِ كمال، حقيقيًّا كان هذا الموضوع أو وهميًّا، ولكن مع وجوده في الخيال دائمًا. ولِمَ يَلْتهبن حوْل عُشَّاقٍ لا يُبالون بهذا الكمال ولا يرون فيمن يُحبُّون غيرَ موضوعِ لذةٍ للحواس؟ كلَّا، لا تَضْطَرِم النفسُ ولا تستسلم على هذا الوجه إلى هِياجٍ سَنيٍّ يوجِبُ هذيانَ العاشقين وفُتون هواهم، ولا شيءَ غيرُ وهمٍ في الغرام كما أعترف، ولكنَّ الحقيقيَّ هو ما يُنْعِشُنا بمشاعرَ حوْل الجمال الصحيح فيحمِلُنا على حُبِّه. وليس هذا الجمال في الشيء الذي يُحَبُّ مطلَقًا، وإنما هو من عَمَل تصورنا. وَيْ! وما الأمر؟ وهل نحن أقلُّ تضحيةً بجميع هذه المشاعر المنحطة في سبيل ذاك النموذج الخيالي؟ وهل قلْبُنا أقلُّ تقبُّلًا للفضائل التي تُعزَى إلى مَن يُحِب؟ وهل نحن بذلك أقلُّ انفصالًا عن الذاتية البشرية؟ وأين هو العاشقُ الحقيقيُّ الذي لا يستعدُّ للتضحية بنفسه في سبيل خليلته؟ وأين هو الهوى الشهوانيُّ الغليظُ في الرجل الذي يَطْلبُ الموت؟ وإذا كُنَّا نستهزئ بأمراء البلاط القدماء؛ فلأنهم يَعْرِفون الحُب، ولأننا لا نَعْرِف غيرَ الفجور، وعندما أخذت هذه المبادئ الروائية تصير مهازئ كان هذا التحوُّل وليدَ سيئ الأخلاقِ أكثرَ من أن يكون من عمل العقل.
ومهما يَكُن العصر، فإن العلاقات الطبيعية لا تتغير مُطلَقًا، ويبقى ما ينشأ عنها من خيرٍ أو شرٍّ كما هو، ولا تُغيِّرُ المُبْتَسَرات منها غيرَ الظاهرِ مستترةً تحت اسمٍ فارغٍ للعقل. ومن أعظم الأمور وأجملها دائمًا أن يسيطر الإنسان على نفسه ولو خُضوعًا لآراءٍ وهمية، وستُخاطِب بواعثُ الشرف دائمًا قلبَ كلِّ امرأةٍ حول ما تطلُبُ من حُكمٍ في سعادة الحياة ضِمْن حالها، ويجب أن يكون الطُّهْرُ على الخصوص فضيلةً لذيذةً تتجمَّل بها المرأة الحسناء التي تكون على شيءٍ من سمو النفس، وبينما ترى جميع الأرض عند قدميها تفوز بنفسها وبكلِّ شيء، وهي تقيم في قلبها الخاص عرشًا يأتي الجميع لتكريمه، وما يكون من مشاعرَ ناعمةٍ أو غَيْرَى، ولكنْ مع توقيرٍ للجنسين، وما يكون من تقديرٍ عامٍّ وخاص، يُسلِفُها معاركَ لأُوَيقاتٍ ضريبةً. أجلْ، إن الحرمانَ أمرٌ عابر، غيرَ أن ثَمنه دائم، وأيةُ مُتعَةٍ تتَّفق للنفس الكريمة التي يُضاف زهو الفضيلة إلى جمالها! واجعلوا منها بطلةَ روايةٍ لتذوق من اللذات ما هو أطيبُ مما نالت لآييسُ وكليوباترة، وعندما يعود جمالُها غيرَ موجود يبقى لها مجدُها ونُعْماها، وهي تَعرِف أن تتمتَّع بالماضي وحدَها.
وكلَّما كانت الواجبات شاقةً عظيمةً وَجَبَ أن تكون الأسباب التي تقوم عليها واضحةً قوية، ويوجد من الكلام الوَرِع ما يَدُور حوْل أكثرَ الموضوعات جِدِّية، فيقرعُ آذان الشبيبة من غير أن يؤدِّي إلى إقناع، ومن هذا الكلام غيرِ المتناسب مع أفكارها، والذي لا تُقيم له في السرِّ وزنًا، تُولَدُ سهولةُ انقيادها لميولها، وذلك عن عدمِ وجودِ أسبابٍ لمقاومتها ناشئةٍ عن الأمورِ نفسِها. أجلْ، إن البنت التي نُشِّئَت تنشئةً حكيمةً تقيةً تكون مُجَهَّزةً بأسلحةٍ لمقاومة الشهوات، بَيْدَ أن البنت التي يُغذَّى قلبُها حَصْرًا — وإن شئت فقُل أُذُنها — برطانةِ التقوى، تذهب لا محالةَ فريسةَ أوَّلِ غاوٍ ماهرٍ يتصدَّى لها. ولا تزدري الفتاةُ الحسناءُ بَدَنها، ولا تأسف صادقةً على الذنوب الكبيرة التي حَمَلها جمالُها على اقترافها، ولا تبكي أمام الربِّ مُخلِصَةً عن كونها موضعَ اشتهاء، ولا تستطيع أن تقنع في نفسها بأن أحلى حِسٍّ قلبيٍّ هو من صُنْع الشيطان، وأَعْطُوها أسبابًا أخرى في الداخل ومن أجْلِ نفسِها، وذلك لعدم تأثير تلك. وأسوأ من ذلك أيضًا أن يُوضَع تناقضٌ في أفكارها كما يُصنَع غالبًا، وأن يُجعَل محلَّ إجلالٍ مِثْلَ هيكلِ يسوعَ المسيح، بَدنُها الذي ازدُريَ كثيرًا بعد أن أُذِلَّ بإرذاله. وتكون الأفكارُ البالغةُ السُّموِّ والوضيعةُ جِدًّا ناقصةً على السواء، ولا يُمكنها أن تتشارك، ولا بدَّ من عقلٍ يكون في متناوَل الجنس النِّسْوِيِّ وسِنِّه. ولا يكون لاعتبارات الواجب قوةٌ ما لم تُضَف إليها بواعثُ تَحْملُنا على القيام به.
«فالتي لا تَقترِف ذنْبًا إلا لأنها مُنِعَت منه تُعَدُّ ساقطةً في الذَّنب.»
ولا يُظَنُّ أن أُوفِيدَ هو الذي يُصدِر حُكمًا بالغًا هذه الشدة.
وهذه هي الروحُ التي نُشِّئَت عليها صوفية، وذلك بعنايةٍ أكثرَ مما بمشقَّة، وباتِّباع ذوقها أكثرَ مما بحَصرِه، والآن لنَقُل كلمةً حوْل شخصها وَفْقَ ما وصفْتُها به لإميلَ ووَفْق ما يتمثَّل إميلُ بنفسه الزوجةَ التي يُمكن أن تجعله سعيدًا.
ولا أكرِّر كثيرًا ترْكي النادرين جانبًا؛ فليس إميلُ منهم، وكذلك صُوفيةُ ليست منهم، وإميلُ رجلٌ، وصوفيةُ امرأة، وعلى هذا يقوم فخرُهما، وفي زماننا الذي يختلط فيه الجنسان يُعَدُّ من المعجزات تقريبًا أن يَلْزَمَ الواحدُ جنسَه.
وصوفيةُ حسنةُ المولدِ ذاتُ موهبةٍ طبيعية، ولها قلبٌ حَسَّاسٌ جِدًّا، وهذه الحساسية المتناهية تُنعِم عليها أحيانًا بنشاطٍ في الخيال يَصْعُب تعديله، ولها ذهنٌ ثاقبٌ أكثرُ منه صائبًا، ولها مِزاجٌ ليِّنٌ مع تَقَلُّب، ولها وجهٌ معتادٌ ولكنه مُستحَب، ولها سِيما تَنِمُّ على رُوح ولا تَكْذِب، وهي يُمكن أن تُقابَل بلا اكتراث، ولكنها لا تُترَك بلا اهتزاز. ويُوجَد مَن هُنَّ ذواتُ صفاتٍ تُعْوِزُها، ويُوجَد مَن هُنَّ ذواتُ صفاتٍ كصفاتها على أوسعِ مقياس، ولكنك لا تجدُ واحدةً منهن ذاتَ صفاتٍ أحسنَ توافقًا مع صفاتها في تأليفِ طبعٍ سعيد، حتى إنها تستطيع الانتفاع من عيوبها، فلو كانت أكثرَ كمالًا لظهرتْ أقلَّ وقوعًا موقعَ الرِّضا.
وليست صُوفيةُ جميلة، ولكنَّ الرجال يَنسون الحِسانَ بجانبها، ولا يَرضى الحِسان عن أنفسهن إذا ما كُنَّ بالقرب منها، وهي لا تكاد تكون مليحةً عند أوَّل نظرة، ولكنها تزدان كلَّما نُظِرَ إليها، وهي تربح حيث يخسر غيرُها، وهي لا تخسر ما تربح. أجلْ، يمكن أن تكون إحدى النساءُ أجملَ منها عَينًا، وأحسنَ منها فَمًا، وأروعَ منها وجْهًا، ولكنك لا ترى مَن هي أفضل منها قامة، وألطفُ منها لونًا، وأبيضُ منها يدًا، وأصغرُ منها رِجلًا، وأعذبُ منها نظرة، وأفعلُ منها مُحيَّا، وهي تَقِفُ النظرَ من غير أن تَبْهَر، وهي تَفتِن من غير أن يُعرَف السبب.
وتُحِبُّ صُوفيةُ الزينة، وهي تَعرِف أنْ تَزَّيَّنَ، ولا تَعرِف أمُّها لنفسها ماشطةً غيرَها، ولديها ذوقٌ كبيرٌ في حُسن اللباس، ولكنها تَكْره الثياب الفاخرة، وأنت تُبصِر في ثوبها بساطةً مع الأناقة دائمًا، وهي لا ترغب في الساطع، بل ترغب في اللائق، وهي تجهلُ أيُّ الألوان يكون على المُوضة، ولكنها تَعرف الألوان التي تلائمها بما يُثير العجب. ولا تجد فتاةً تَلوح لابسةً مع قليلِ تصنُّعٍ ومُزيَّنَةً مع كثير تكلُّف، ولا تستعمل قطعةً مصادفة، ومع ذلك لا تُبْصِرُ في أيٍّ من ذلك تَعمُّلًا، وتكون زينتُها كثيرةَ البساطة ظاهرًا كثيرةَ الظرافةِ حقيقة، وهي لا تَعْرِض محاسنَها مطلَقًا، وهي تُخفيها، ولكنها إذ تُخفيها تَعرِفُ أن تَحمِلَ على تصوُّرِها، ويُقال عندما تُرى: «هذه فتاةٌ متواضعةٌ عاقلةٌ.» ولكنكم إذا ما بقيتم بجانبها جالت عيونكم وأفئدتكم في جميع شخصها من غير أن تستطيعوا فصلهما عنها، فيُقال إن هذه الزينةَ البسيطةَ بهذا المقدار لم تُوضَع في محلِّها إلا لُتنزَع منه قطعةٌ بعد الأخرى بالخيال.
ولصُوفْيةَ مواهبُ طبيعية، وهي تَشعُر بها، ولم تُهمِلها، ولكن بما أنه لم يُتَح لها بذلُ كثيرِ حِذْقٍ في تثقيف هذه المواهب فقد اكتفت بتمرينِ صوتِها الجميلِ على الغناء مع الإحكام والذوق، وتمرينِ رجْليها الخفيفتَين على المشي برشاقةٍ وسهولةٍ ولطافة، كما مرَّنت نفسها على المجاملة في جميع الأوضاع بلا عُسْرٍ ولا جفاء. ثُمَّ إنه لم يَكُن لها مُعلِّمٌ للغناء غيرُ أبيها، ولم تكن لها مُعلِّمةٌ للرقص غير أمها، وقد تلقَّت من أُرْغُنِيٍّ جارٍ لها دروسَ مسايرةٍ في العزف على البِيَان، فأكَبَّتْ عليها وحدَها زمنًا طويلًا، وكان أوَّلُ ما فكَّرت فيه إظهارُ يدِها بتفوقٍ على تلك المفاتِح السُّود، ثُمَّ وجدت أن صوتَ البِيَان الحادَّ الجافَّ يجْعل رَنِينَ الصوتِ أكثرَ حلاوة، ثُمَّ صارت بالتدريج عارفةً بالإيقاع، وأخيرًا أخذتْ بعد أن كَبِرَت تشعُر بفُتون الأداء وتُحِبُّ الموسيقا لنفسها، ولكن هذا ذوقٌ أكثرُ من أن يكون نبوغًا، وهي لا تَعْرِف أن تقرأَ لحْنًا على النوتة مطلَقًا.
وأحسنُ ما تَعرِف صُوفيةُ وما عُلِّمَتْه بأعظمِ عنايةٍ هو أشغالُ جنسِها، حتى التي لا تَخطُر ببالكم مطلقًا، كتفْصيل ثيابها وخَيْطها، ولا يُوجَد شُغلٌ بالإبرة لا تَعْرفه ولا تأتيه بلذَّة، غيرَ أن التخريم هو الشُّغل الذي تُفضِّله على سواه؛ وذلك لأنه لا يوجدُ كالتخريم شُغْلٌ يَمْنحُ وضْعًا أعظمَ لطافةً وتُزَاوله الأصابعُ بظَرَافة وخِفَّة. وكذلك تعاطت جميعَ أمورِ المنزل مُفَصَّلًا، وهي تَعْرف الطَّهْو وخِدْمة السُّفرة، وهي تَعْرف أثمانَ الموادِّ الغذائية وخواصَّها، وهي تَعْلم قيدَ الحسابات جيِّدًا، وهي تَصْلُح أن تكون رئيسةَ خَدَمٍ لأُمِّها، وهي إذْ كُوِّنت لتكون أمَّ أُسْرَةٍ ذات يوم، وهي إذ تتعلَّم إدارةَ منزلِ أبيها، تتعلَّمُ إدارةَ منزلها، وهي تستطيع أن تقومَ بوظائفِ الخَدَم فتفعَلُ هذا طَوْعًا، وما كنتم لتعرفوا أن تُحسِنوا الأمرَ بشيءٍ لا يُمكنكم أن تُنفِّذوه بأنفسكم، وهذا هو السببُ في شَغْلِ أمِّها إياها على هذا الوجه. وما كانت صُوفيةُ لتُبعِدَ في الموضوع بهذا المقدار؛ فواجبها الأوَّل هو واجب البنت، وهذا الواجب وحدَه هو الذي تَرى أن تقوم به في الوقت الحاضر، وكلُّ ما تنظُر إليه هو أن تخدُمَ أمَّها، وأن تُخفِّفَ عنها بعض أعمالها. ومع ذلك، فإن من الواقع أنها لا تقوم بجميع هذه الأعمال بلذَّةٍ متساوية، ومن ذلك مثلًا أنها لا تحبُّ الطهو مع أنها نَهِمَة، وذلك لما تنطوي عليه جزئياته من عواملِ نفورها؛ فما كانت لِتَجدَ فيه نظافةً كافية. وهي فوق ذلك ذاتُ لطافةٍ متناهية، فلما أفرطت في هذه اللطافة تحوَّلت إلى إحدى نقائصها، وهي تُفضِّل أن تأكل النارُ جميعَ الغداء على تلويث كُمِّها، وهي لم ترغب قَطُّ في تفقُّد الحديقة لذات السبب؛ فالترابُ يَلُوح لها أنه قَذِر، وهي إذا ما رأت الزِّبْل خُيِّلَ إليها أنها تَشَمُّ رائحته.
وهذه النقيصةُ نتيجةُ دروسِ أمِّها، وعندها أن النظافة من أوَّلِ واجبات المرأة، هذا الواجب الخاص اللازم المفروض من قِبَل الطبيعة، ولا يوجد في العالم شيءٌ أدعى إلى الاشمئزاز من امرأةٍ قَذِرة، ولا يكون الزوج الذي يشمئزُّ منها مخطئًا مطلَقًا. والأم قد أكثرت من وعظِ ابنتها بهذا الواجب منذ طفولتها، وهي قد استلزمت كثيرَ نظافةٍ لنفسها وثيابها وغرفتها وشغلها وزينتها، فتحوَّلت هذه العناية إلى عادةٍ وصارت تستوعب قِسمًا كبيرًا من وقتها مع السيطرة على القسم الآخر؛ فلا يأتي إتقانُ ما هي مُكلَّفةٌ بصنعه في غير المرتبة الثانية من جهودها، وأمَّا المرتبة الأُولى فهي وقفٌ على صُنْعه نظيفًا.
وقلتُ إن صُوفيةَ نَهِمة، ومن الطبيعي أن كانت نَهِمة، بَيْدَ أنها صارت قَنُوعًا عن عادة، والآن هي قَنُوعٌ عن فضيلة، ولا يُوجَد من البنات، كما يوجد من البنين، مَن يمكن أن يُسَيْطَر عليهن بالنَّهَم إلى حدٍّ ما، وليس هذا الميلُ بلا عواقبَ في الجنس النِّسْوي مطلَقًا؛ فمن الخطر الكبير أن يُترَك وشأنَه. وكانت صُوفيةُ الصغيرةُ في طفولتها إذا ما دخلت غرفةَ أمِّها وحدَها لا ترجِعُ منها فارغةً دائمًا؛ فهي لم تكن أمينةً عند كل امتحانٍ حول أقراص السُّكر والمُلَبَّسات، وقد فاجأتها أمُّها وعزَّرتها وعاقبتها وصوَّمتها، وأخيرًا وُفِّقَت أمُّها لإقناعها بأن المُلَبَّس يُفْسِد الأسنان، وبأن النَّهَم يُضخِّم القوام. وهكذا أصلحت صُوفيةُ نفسها، فلما كبُرَت انتحلتْ من الأذواق ما حوَّلها عن تلك الحِسِّيَّة الوضيعة. والقلبُ إذا ما انتعش عند النساء كما عند الرجال عادَ النَّهَم لا يكون نقيصةً مسيطرة. وقد حافظت صُوفيةُ على الذوق الخاصِّ بجنسها؛ فهي تُحِبُّ الألبان والحلاوَى، وهي تُحِبُّ المَعْجونات والمأْدُومات، ولكن مع مَيلٍ قليلٍ إلى اللحم. وهي لم تَذُقْ قَطُّ خمرًا ولا مُسْكِرًا مُقَطَّرًا، وهي، فضلًا عن ذلك، معتدلةٌ كلَّ الاعتدال في طعامها. ولا غَرْو؛ فجنسُها أقلُّ كَدْحًا من جنسنا؛ ولذا فهو أقلُّ من هذا احتياجًا إلى تجديد النشاط، وهي في كلِّ شيءٍ تُحِبُّ ما هو طيِّبٌ وتَعرِف أن تذوقه، وهي تَعرِف أيضًا أن تكتفي بما هو غيرُ جيد، وذلك من غير أن يصعُب عليها هذا الحرمان.
وصوفيةُ مقبولةُ الذِّهنِ من غير تألُّق، وصوفيةُ قويةُ الذِّهنِ من غيرِ عُمْق، وصوفيةُ ذاتُ ذهنٍ لا يُحَدَّث عنه مُطلَقًا لِمَا لا تَبدو أكبرَ مما هي عليه أو أصغر، ولها من الذهن ما تَرُوقُ به مَن يُكلِّمونها دائمًا وإن لم يكن من التجميل ما يطابِق الفكرَ الذي يساورنا حوْل تهذيب ذهن النساء؛ وذلك لأن ذهنَها لم يُكوَّن بالقراءة قَط، بل كُوِّن بأحاديثِ أبيها وأمِّها وبتأمُّلاتها الخاصة، وما تم لها من ملاحظاتٍ فيمن رأت من أناسٍ قليلين. ومن الطبيعي أن ظهرت صُوفيةُ ذاتَ مَرَح، حتى إنها كانت لَعوبًا في طفولتها، غير أن أمَّها عُنِيَت بزَجرِ مناحيها الطائشة بالتدريج، وذلك خشيةَ أن يقع سريعًا من التغيير المفاجئ ما تَطَّلِعُ به على الوقت الذي تكون فيه مُبْتغاة؛ ولذا فقد صارت متواضعةً متحفِّظةً حتى قبل أن تبلغ ذلك، والآن حَلَّ ذلك الوقتُ فصار أسهلَ عليها أن تحافظ على الوضع الذي اتخذته من انتحاله مع عدم بيان السبب في هذا التحوُّل. ومن الأمور المستحبَّة أن تُرى في بعض الأحيان عاكفة، ببقيةٍ من العادة، على نشاط الطفولة، ثُمَّ أن تَعود إلى نفسها بغتةً فتبدو صامتةً مُطرِقَةً مُحمَرَّة، ولا عجب؛ فلا بُدَّ في الدَّور الفاصل بين العُمُرَين من تَسَرُّب شيءٍ منهما فيه.
وصوفيةُ مِن فَرْط الإحساسِ ما لا تُحافِظ معه على اعتدالٍ كاملٍ في المِزاج، ولكنها من فرْط اللطف ما لا يكون هذا الإحساسُ معه كثيرَ الإزعاجِ للآخرين. وهي لا تُؤلِم غيرَ نفسِها بذلك، وإذا ما وُجِّهَت إليها كلمةٌ لاذعةٌ لم تُظْهِر استياءها، ولكنَّ قَلْبها ينتفخ، فتحاول أن تُفلِت لتذهبَ وتبكي. وإذا ما ناداها أبوها أو أمُّها بكلمةٍ واحدةٍ وهي تبكي أتت من فوْرها لاعبةً ضاحكةً مُكفكِفةً دموعَها بلباقةٍ محاولةً كَتْمَ زَفَراتها.
ثُمَّ إنها غيرُ خاليةٍ من النَّزوة، فإذا ما نُخِزَتْ مِزَاجًا تمرَّدت ونَسِيَت نفسَها، ولكن إذا ما تَرَكتُم لها وقتًا تَعُودُ فيه إلى نفسها عُدَّت لها فضيلةٌ تقريبًا بالوجه الذي تمحو فيه خطأها، وإذا ما عُوقِبَت بَدَت طائعةً خاضعة، وظَهَرَ أن حياءها يَصْدُرُ عن ذنْبِها أكثرَ مما عن عِقابها، وإذا لم تُقَل لها كلمةٌ لم يُعوِزْها أن تمحوَه بنفسها، ولكن بإخلاصٍ كبيرٍ ولطفٍ كثيرٍ يتعذَّر معهما أن يَتْرُك ذلك أثرًا للضغينة، وهي تُقبِّلُ الأرضَ أمام أحقرِ خادم، وذلك من غيرِ أن يُوجِب هذا الاتِّضاعُ أقلَّ ألَمٍ فيها، وهي إذا ما عُفي عنها نَمَّ فرَحُها واغتباطُها على مقدارِ الحِمْل الذي أُزيح عن فؤادها. والخلاصةُ أنها تحتمل خطأ الآخرين صابرة، وأنها تُصلِحُ خطأها مسرورة، وهذا هو طَبْعُ جنسِها الجميلُ قبْل أن نُفسِده، وقد صُنِعَت المرأة لتُذعِن للرجل، ولتحتمل حتى جَوْره، ولن تُحوِّلوا فتياتِكم إلى النقطة عينِها؛ فالشعور الباطنيُّ يرتفع ويثور ضدَّ الجَوْر، ولم تصنعهن الطبيعةُ للتسامح فيه.
«فذاك هو الغضبُ المشئومُ الناشئُ عن ابنِ بِيلِه الشَّرِس.»
ولِصُوفيةَ دِين، ولكنه دِينٌ معقولٌ بسيطٌ مع عقائدَ قليلةٍ وعباداتٍ أقلَّ منها، أو إنها لا تعرفُ من الشَّعائرِ الجوهريةِ غيرَ الأدبي؛ فهي تَقِفُ جميعَ حياتِها على عبادةِ الربِّ بصُنْعِ الخير. وقد عَوَّدها أبواها أن تُبديَ خضوعَ احترامٍ في جميعِ المعارفِ التي حَبَوَاها بها حَوْل هذا الموضوع؛ إذ يقولان لها: «يا بُنيَّة، إن هذه المعارفَ لا تناسِبُ سِنَّك، وسيُعلِّمُك زوجُك إياها في الوقتِ المناسب.» ثُمَّ إنهما بدلًا من الإسهابِ في الكلامِ عن التَّقوى يكتفيان بوعظِها على مثالهما، وهذا المِثالُ منقوشٌ على فؤادِها.
وتُحِبُّ صُوفيةُ الفضيلةَ، وصارَ هذا الحبُّ هواها المُهيمِنَ، وهي تُحِبُّ الفضيلةَ لأنه لا يوجدُ ما هو جميلٌ كالفضيلة، وهي تحب الفضيلةَ لأنها تؤدي إلى مجدِ المرأة، ولأن المرأةَ الفاضلةَ تبدو لها كالملائكةِ تقريبًا، وهي تحب الفضيلة لأنها الطريقُ الوحيد للسعادة الحقيقية، وهي تحب الفضيلة لأنها لا ترى غيرَ البؤس والإهمال والشقاء والعار والخزي في حياة المرأة غيرِ المستقيمة. ثُمَّ إنها تحب الفضيلةَ لأن الفضيلةَ عزيزةٌ على أبيها الجليل وأمها الحنون الوقور، ولا يكتفي هذان الوالدان بأن يكونا سعيدين بفضيلتهما الخاصة، بل يريدان أن يَسْعدا بفضيلتها أيضًا، وهي تُبْصِر سعادتَها الأُولى في رجائها أن تجعلهما سعيدَين، وتوحي جميعُ هذه المشاعر إليها بحماسةٍ ترتفع بها روحًا وتُعَبِّدُ بها جميعَ ميولها الصغيرة لهوًى نبيلٍ جِدًّا. وستكون صُوفيةُ طاهرةً صالحةً حتى النفَسِ الأخيرِ من حياتها، وقد أقسمتْ على هذا في صميمِ فؤادها، وهي قد أقسمتْ على ذلك في وقتٍ كانت تُدرك فيه كلَّ ما ينطوي عليه البِرُّ من قيمة، وهي قد أقسمتْ على ذلك في وقتٍ كانت تَحْنَثُ فيه لو كانت حواسُّها قد كُوِّنت لتسيطر عليها.
ولم تَسْعَد صُوفيةُ بأن تكون فاتنةً فرنسية، فاترةً عن مِزاج، مِغْناجًا عن زهو، راغبةً أن تُشْرِق أكثرَ من أن تَرُوق، باحثةً عن اللهو لا عن السرور، وتُضنيها ضرورةُ الحبِّ الوحيدة، وتَشغلُها وتُقْلِق بالَها في الأعياد، وقد فَقَدَت مَرَحها السابق، وعادت الألعابُ المَرِحة لا تلائمها. وهي تبحث عن العُزلة بدلًا من أن تخشاها، وفي العُزلة تفكِّر فيمن يجب أن يجعلها حُلوة، ويُزعِجها جميعُ الأخلياء، وتحتاج إلى عاشقٍ لا إلى بِطانة، وتُفضِّل أن تروقَ رجلًا كريمًا واحدًا، وأن تقع موقعَ الرِّضا عنده دائمًا، على أن تنال استحسان مجتمعٍ يدوم يومًا ثُمَّ يتحوَّل إلى سخريةٍ في الغد.
ويتكوَّن الحُكم في النساء بأسرعَ مما في الرجال، وبما أن النساء يَكُنَّ في وضْع المُدافع منذ طفولتهن تقريبًا، وبما أنهن يَكُنَّ مُثْقَلاتٍ بوديعةٍ يَصعُب حفظُها، فإن الخير والشر يكونان معروفَيْن عندهن بأسرعَ مما عند الرجال بحُكم الضرورة، وكذلك صوفيةُ، الناضجةُ باكرًا في كل شيءٍ نتيجةً لمِزاجها، ذاتُ حُكمٍ أسرعَ تَكَوُّنًا مما عند البنات اللاتي هُنَّ في مثلِ عُمُرها، ولا شيءَ خارقٌ للعادة في هذا؛ فالبلوغ في الوقت نفسِه لا يكون على وتيرةٍ واحدةٍ في كل مكان.
وتَعْرف صُوفيةُ واجباتِ الجنسين وحقوقَهما، وتَعْرف نقائصَ الرجال ومعايبَ النساء، وتَعْرف أيضًا ما تباينَ من الفضائل والصفات، وقد طبعتهما جميعًا في صميم قلبِها، ولا يمكن تكوينُ فكرٍ عن المرأة الصالحة أرفعَ من الذي تمثَّلتْه عنها، وما كانت هذه الفكرة لتُرعبها مطلَقًا، ولكنها تُفكِّرُ بارتياحٍ أكثرَ من ذاك في الرجل الصالح، في الرجل الفاضل، فتُحِسُّ أنها كُوِّنت لهذا الرجل الذي تليقُ به، فتستطيع أن تُعيدَ إليه السعادةَ التي تنالُها منه، وهي تشعُر بأنها ستعرفه جيِّدًا؛ فالأمر يتوقَّف على لُقيانها إياه.
ومن الطبيعي أن يكون النساءُ قاضياتٍ في مَزِيَّة الرجال كما يكون الرجالُ قُضاةً في مَزِيَّة النساء، وتُعَدُّ هذه من حقوقهما المتبادَلة، ولا يجهَلُ هذا أيٌّ من الفريقين، وتَعرف صُوفيةُ هذه الحقوق وتُمارِسها، ولكن مع ما يلائم فتاءها وتجرِبتها ووضعها من التواضع، وهي لا تحكُم في غيرِ الأمور التي تكون في متناوَلها، وهي لا تحكُم فيها إلا عندما يَنْفَع هذا في تنوير بعض المبادئ المفيدة، وهي لا تتكلَّم عن الغائبين إلا بحَذَرٍ كبير، ولا سيَّما النساءُ إذا ما كنَّ غائبات، وهي ترى أن الذي يجعلهن مغتاباتٍ هاجياتٍ هو الحديثُ عن جنسهن، فإذا ما اقتصرن على الكلام عن جنسنا لم يَكُنَّ غيرَ منصفات؛ ولذا فإن صوفية تقتصر على هذا، وأمَّا النساءُ فإنها لا تتكلم عنهن مُطلَقًا إلا لتقول عنهن ما تعرف من خير، وهذا إكرامٌ يجب عليها أن تقوم به نحو جنسها على ما تعتقد، وأمَّا اللائي لا تَعْرِف خيرًا تقوله عنهن فلا تُحدِّثُ عنهن بشيء، وهذا يكفي.
وصوفيةُ قليلةُ المعرفة بالنَّاس، ولكنها ذاتُ مُرُوءة وانتباه، وتُظهِرُ لُطفًا في كلِّ ما تصنع، وما فُطِرَت عليه من طبْعٍ مبَاركٍ أنفعُ لها من كثيرِ شطارة، وهي ذاتُ أدبٍ خاصٍّ بها غيرِ تابعٍ للصِّيَغ، وغيرِ مُسخَّرٍ للمُوضات؛ فلا يتغيَّر بتغيُّرها، وغيرِ صانعٍ شيئًا عن عادة، بل صادرٌ عن رغبةٍ صادقةٍ في الوقوع موقعَ الرِّضا، فيروق فعلًا، وهي لا تَعْرف المجاملات المبتذَلة مُطلَقًا، ولا تبتكِر من المجاملات ما ينطوي على كبيرِ تكلُّف، وهي لا تقول إنها مَدينةٌ لفضلٍ، أو ذاك يُشرِّفها كثيرًا، أو لا يُتعِبُ ذلك نفسَه … إلخ. وأقلُّ من هذا أيضًا أن يَخْطُر ببالها انتحالُ جُمَلٍ لنفسها، وهي تُجيبُ عن انتباهٍ أو أدبٍ معتادٍ بحنْوِ الرأس أو بكلمة «شكرًا» البسيطة، وذلك مع العلم بأن نُطقَها بهذه الكلمة يُجزئ عن غيرها. وإذا ما أُسدِيَ إليها بخدمةٍ دَعتْ قلبَها يتكلَّم، وليس كلامُ الفؤاد ضرْبًا من المجاملات، وهي لم تُطِق مطلَقًا أن تُعبِّدَها العاداتُ الفرنسية لنِيرِ المظهر، كأن تَمُدَّ يدَها عند مرورها بين غرفةٍ وأخرى إلى ذراعِ شيخٍ في الستين من عُمُره مساعدةً له، وإذا ما عَرض مِغْنَاجٌ مُعطَّرٌ عليها القيامَ بهذه الخدمةِ النابية تركت الذراعَ المتكرِّمة على السُّلَّم وطارت إلى الغرفة بوثبتَين قائلةً إنها ليست عَرْجاء. والواقع أنها، وإن لم تكن طويلة، لم تَرغبْ في الأعقاب العالية قَط؛ فهي مِن صِغَرِ الرِّجْلَيْن ما تستغني معه عنها.
ولا تلتزمُ جانبَ الصمت، وتقوم بالاحترام نحو السيدات فقط، بل تفعل ذلك نحو الرجال المتزوجين أيضًا، أو نحوَ مَن يكبُرونها في السِّن كثيرًا، وهي لا تَقْبل مُطلَقًا مكانًا فوقَهم إلا عن طاعة، ثُمَّ لا تَلْبث أن تتخذَ مقعدًا لها تحتهم عندما يُمكنها ذلك؛ فهي تعلَم أن حقوق السِّن فوق حقوق الجنس، وذلك لما يُفتَرَض من ملازمة الحكمة للمشيب، والحكمةُ هي ما يجب أن يُكرَم قبْل كلِّ شيء.
والأمر غيرُ ذلك تجاه الشباب؛ فهي تستلزم وضعًا مختلفًا عن ذاك نَيْلًا لاحترامهم، وهي تناله من غير أن تُغيِّر ما يناسبها من تواضع، وإذا ما كانوا متواضعين متحفِّظين، أمكنها أن تتخذَ نحوَهم ما يقتضيه الفَتَاءُ من دالَّةٍ مستحَبة، وقامت أحاديثُهم البريئة على المُزاح، ولكن مع الاحتشام، وإذا ما التزموا جانبَ الجِدِّ وَدَّتْ أن يكونوا نافعين، وإذا ما أسَفُّوا لم تَلبَث أن تُسكِتَهم؛ وذلك لأن أخصَّ ما تزدريه هو رَطانةُ المغازلة المُهينةُ كثيرًا لجنسها، وهي تَعْلَمُ جيِّدًا أن الرجل الذي تبحث عنه خالٍ من هذه الرَّطانة، فلا تحتمل عن اختيارٍ أن يَصدُر عن آخرَ ما لا يناسبُ الرجلَ المطبوعةَ أخلاقُه في صميمِ فؤادها، وما عندها من رأيٍ عالٍ عن حقوق جنسِها، وما يُسفِر عن صفاء مشاعرها من زهوٍ في النفس وما تُحِسُّه من فضيلةٍ في نفسها فيجعلها محترمةً في نظرها الخاص؛ أمورٌ تَحمِلُها على الإصغاء مع الغيظ إلى الأحاديثِ التافهةِ الحلاوة التي يُزعَم أنها تُسلِّيها، أجلْ، إنها لا تتلقَّاها بغيظٍ ظاهر، ولكن بهُتافٍ ساخرٍ يُفحِم، أو بفتورٍ غيرِ منتظَر. ولو بَرَزَ لها رجلٌ جميلٌ مِثلُ فِيبُوسَ فأظهَرَ لها ظرَافته، وأبدى لها من المَلاحة ما مَدَحَ معه جمالَها وألطافَها نَيْلًا لشرف الوقوع عندها موقعَ الرِّضا، لوَجَد فيها فتاةً تُسكِتُه بقولها المؤدَّبِ له: «أخشى كثيرًا يا سيِّدي أن أكون عارفةً بهذه الأمورِ أكثرَ مما تَعرِف، فإذا لم يَكُن لدينا ما هو أمتَعُ من هذا للكلام، فإنني أظنُّ أننا نستطيع أن نَضَع حدًّا لهذا الحديث.» وليس إرفاقُ هذه الكلمات باحترامٍ كبيرٍ ثُمَّ الابتعادُ عنه عشرين خُطوةً غيرَ عملِ ثانية، واسألوا فاتِني النساءِ لديكم هل من السهل أن يُداوَم على الهَذْر مع نَفْسٍ غيرِ هَيِّنةٍ كتلك.
ومع ذلك، فإن ذلك لا يَعني أنها لا تُحِبُّ أن تُمْدَح مُطلَقًا، وإنما تريد الإخلاص في المدح، فيُمكنها أن تعتقد أن المادح مؤمنٌ بما يقول لها من خيرٍ في الحقيقة، وقد يلاطِفُ الولاءُ القائمُ على التقدير فؤادَها الأبيَّ، ولكنَّ كلَّ غَزَلٍ خادعٍ يُقابَل بالرفض دائمًا؛ فلمْ تُكوَّنْ صُوفيةُ لِتُمارِسَ مواهبَ حقيرةً كمواهب البَهْلَوَان.
وما كانت صُوفيةُ لِتُعامَل مِن قِبَل والديها كما يُعامَل الأولاد بعد ذاك النُّضج في الحُكم وذاك التكوين الخليق من كلِّ ناحيةٍ بفتاةٍ في العشرين من عُمُرها مع أنها في الخامسة عشرة من سِنيها، وهما لا يكادان يُبصِران فيها أوَّلَ هموم الشباب حتى يُبادرا إلى تلافيها فيخاطباها بكلامٍ ليِّنٍ رَصين، والكلامُ الليِّنُ الرصينُ مما يلائم سِنَّها وطبْعَها، وإذا كان طبعُها كما أتصوَّرُ فلِمَ لا يخاطِبُها أبوها كما يأتي تقريبًا:
«أيْ صوفية، لقد كَبِرْتِ كما نرى، وستصبحين امرأةً عما قليل، ونريد أن تكوني سعيدة، ونُريدُ هذا من أجْل أنفسنا؛ وذلك لأن سعادتنا تتوقَّف على سعادتك، وتقوم سعادة البنت الصالحة على صنْع سعادة الرجل الصالح؛ ولذا فلا بُدَّ من التفكير في تزويجك، ويجب أن يُفكَّر في ذلك باكرًا؛ فعلى الزواج يتوقَّف مصيرُ الحياة، وليس لدينا وقتٌ كبيرٌ للتفكير في أمره.
ولا شيءَ أصعبُ من اختيار الزوج الصالح، إن لم تكن الصعوبة في اختيار الزوجة الصالحة على ما يُحْتَمل. أيْ صوفية، ستكونين هذه المرأة النادرة، وستكونين تاجَ حياتنا وسعادةَ أيامنا الآفلة، ولكن مهما تَكن المَزِيَّةُ التي تتصفين بها فإنه لا يُعْوِزُ الأرضَ رجالٌ يكونون أعظمَ مَزِيَّةً منك، ولا يُوجَدُ في الأرض رجلٌ لا يُشَرِّفه أن يفوزَ بك، وفي الأرض رجالٌ تفوزين بشرفٍ منهم أكثرَ مما يفوزون، ويَدورُ الأمرُ حولَ لُقيانِ رجلٍ يلائمكِ، وأن يُعرَفَ، وأن يُعرَّف بك.
ويتوقَّف أعظمُ سعادةٍ في الزواج على كثيرٍ من الموافَقات التي يُعَدُّ من الحماقة أن يُرادَ جمعُها كلُّها، وأوَّل ما يَجِبُ هو أن يُضمَن أهمُّها، فإذا ما وُجِدَت الأخرى بينها كان هذا خيرًا، وإذا لم تُوجَد استُغنيَ عنها. أجلْ، إن السعادة الكاملة غيرُ موجودة في العالَم، ولكن أعظم المصائب، وهي التي يُمكِنُ اجتنابُها دائمًا، أن يكون الإنسان شقيًّا بخطأ منه.
ومن الموافقات ما هو طبيعي، ومنها ما هو وضعي، ومنها ما هو تابعٌ للرأي العامِّ وحدَه، فأمَّا النوعان الأخيران فالأبَوَان قاضيان فيهما، وأمَّا النوع الأوَّل فالأولادُ قضاةٌ فيه، ويُستَنَدُ إلى الموافقات الوضعية وإلى الموافقات التابعة للرأي العام حَصْرًا في الزواجات التي تَتمُّ بسلطان الآباء. والأحوالُ والأموالُ لا الأشخاص هي التي تُزوَّج هنا، غير أن جميعَ هذا يُمكن أن يتغيَّر، والأشخاصُ وحدَهم هم الذين يبقَون دائمًا، والأشخاص يكونون حيث هم في كلِّ مكان، وليس بغير الصِّلات الشخصية ما يُمكِنُ أن يكون الزواجُ سعيدًا أو سيِّئًا، وذلك على الرغم من الثراء.
وكانت أمُّك حسيبة، وكنتُ غنيًّا، وهذان العاملان وحدَهما هما اللذان حَمَلا وَالِدَيْ كُلٍّ مِنَّا على جمْع ما بيننا، وقد أضعتُ أموالي، وقد أضاعت اسمَها، وما فائدتها اليوم من كَوْنها قد وُلِدَت آنسةً بعد أن نُسيَت من قِبَل أُسْرتها؟ لقد أسْلانا اتحادُنا عن كلِّ شيءٍ في جميع مصائبنا، وكان من تَوافُق أذواقنا أن اخترنا هذه العزلة، فنعيش فيها سعداء مع الفقر، وكلٌّ مِنَّا كلُّ شيءٍ في نظر الآخَر، وصوفيةُ هي كنزُنا المشترَك بيننا، ونشكُر لله إنعامَه علينا بها ونَزْعَه مِنَّا كلَّ شيءٍ غيرَها. وانظري يا بنيتي إلى أين ساقتنا العنايةُ الربَّانية؛ فقد زالت الموافقات التي جعلتنا نتزوج، ولسنا سعيدَين بغير الموافقات التي لم يُؤبَه لها.
ويجب على الزوجين أن يختار كلٌّ منهما الآخر، ويجب أن يكون مَيلُهما المتبادَلُ أوَّلَ رابطةٍ بينهما، ويجب أن تكون عيونُهما وقلوبُهما أدلَّاءهما الأُولى، وذلك بما أن واجبهما الأوَّل بعد أن يتزوَّجا هو أن يتحابَّا، وبما أن الحُبَّ أو عدم الحُبِّ أمرٌ لا يتوقَّف علينا مُطلَقًا، فإن هذا يستلزم واجبًا آخَر بحكم الضرورة، وهو أن يُبدأ بالتحابِّ قبْل الاقتران، وهذا هو حَقُّ الطبيعة الذي لا يستطيع شيء أن يَنْقُضه، وقد عُنيَ الذين ضايقوا هذا الحقَّ — بكثيرٍ من القوانين المدنية — بالنظام الظاهر أكثرَ مما بسعادة الزواج وطِباع المواطنين؛ ومِنْ ثَمَّ تَرين يا صوفية أننا لا نَعِظُكِ بأدبٍ صَعْب، وهذا الأدب لا يهدِفُ إلى غيرِ جعْلِ أمْرِك بيدك، تاركين لكِ أمرَ اختيار زوجك بنفسك.
وإنَّا بعد أن حدَّثناكِ عن الأسباب في تركنا لكِ كلَّ الحرية، يُعَدُّ من الصواب أن نُحدِّثك أيضًا عما لديك من أسبابٍ في استعمال هذه الحرية بحكمة. فيا بُنيَّتي، أنت صالحةٌ رشيدة، وعندك إنصافٌ وتقْوَى، ولديكِ من المواهب ما يناسب النساء الصالحات، ولستِ خاليةً من الألطاف، ولكنك فقيرة، وأنت حائزةٌ لأكثرِ المحاسن أهلًا للتقدير، ويُعْوِزُك أكثرُ ما يُقدَّر منها، ولا تبتغي إذن غيرَ ما تقدِرين على نَيله، ونَظِّمي طموحك وَفْقَ رأي الرجال، لا على حَسَبِ أحكامِك وأحكامِنا، وإذا ما دار الأمر حوْل تساوي المزايا فإنني لا أدري عَلَامَ يجِبُ أن أجعل آمالَك قاصرة، ولكن حَذَارِ أن تَرفعيها إلى ما فوق نصيبك مطلقًا، ولا تنسي أنه من المرتبة الدنيا، ومع أن الرجلَ الخليقَ بكِ لا يَعُدُّ هذا التفاوتَ عائقًا، فإنه لا يجوز لك أن تصنعي إذ ذاك ما لا يَصنع، فعلى صوفية أن تسير على غِرار أمِّها، وأن تدخُلَ أُسْرَةً تُفاخِر بها، وأنتِ لم تَرَيْ يُسرَنا قَط، وأنتِ قد وُلِدْتِ في دَوْر عُسْرِنا فقط، وأنتِ قد جعلتِ فقرنا حُلوًا لدينا، وأنت تقاسميننا إياه بلا عناء، وثِقي بي يا صوفية، ولا تطلبي أموالًا نحْمدُ الله على أنه أنقذنا منها؛ فنحن لم نَذُقْ طعمَ السعادة إلا بعد أن خسرنا الثراء.
أنتِ من كثرةِ اللُّطف ما تَروقين معه كلَّ إنسان، وليس بؤسُك من الحال ما ينقبِضُ معه صدرُ الرجل الصالح منك. وستُخْطَبين، وقد تقعُ خِطْبَتُك من قِبَل أناسٍ لا نرغب فيهم، وهم إذا ما أظهروا أنفسَهم على حقيقتهم أمكنك أن تقدِّريهم بقيمتهم، فما كان مظهرُهم ليَخدَعَك زمنًا طويلًا، ولكن مهما يَكُنْ من صلاحِ حُكْمِك ومن حُسْن معرفتِك بالمَزِيَّة، فإن التجرِبة تُعْوِزُك ولا تعرفين مدى قدرة الرجال على التَّنكُّر، ومن ذلك أن الماكر الماهر يستطيع أن يَدرُس أذواقك لإغوائك وأن يُظْهِر أمامَك ما ليس فيه من الفضائل مُطلَقًا، فيكون سببَ ضياعكِ يا صوفية قبْل أن تعرفي، ولا تعرفين خطأك إلا للبكاء. وأشدُّ الأشراك خَطَرًا، وهو الذي لا يستطيع العقل اتِّقاءَه، هو شَرَكُ الحواس، وإذا كنتِ من الشقاء ما تَقَعين فيه لم تُبْصِري غيرَ الأحلام والأوهام، فستُسْحَرُ عيناك، وسيختلُّ حُكمُك، وسيفسُد عزْمُك، حتى إن خطأك سيكون عزيزًا عليك. وعندما يُتاح لك بعد ذلك أن تَريه لا يُروقُك أن تترُكيه. فيا بُنيتي، أسلِّمُكِ إلى عقلِ صوفية، ولا أُسلِّمُك إلى مَيْلِ قلبِها مطلقًا، وابقَي قاضيةَ نفسِك ما دُمتِ رابطة الجأش، فإذا ما أحببتِ فأعيدي إلى أمِّك أمرَ العناية بك.
وأقترحُ عليكِ وَضْعَ اتفاقٍ يُبيِّنُ لك تقديرَنا ويُعيدُ النظامَ الطبيعيَّ بيننا، ومن مُقتضى العادةِ أن يختار الأبوان زوجَ البنتِ وألَّا يستشيراها إلا شكْلًا، وسنصنع غيرَ هذا بيننا؛ فستختارين وسنُسْتَشَار، فمارسي حقَّكِ في ذلك يا صوفية بحريَّةٍ وحكمة، فيجب أن يكون اختيارُ الزوج الذي يلائمكِ من حقِّك لا من حقِّنا، ولكن من حقِّنا أن نحكُم في كونكِ قد خُدِعْتِ في الموافَقات، وفي كونكِ تأتين أمرًا غيرَ ما تريدين من غيرِ أن تعرفي ذلك، ولا يدخل الأصلُ والمال والمقام والرأي العام في بواعثنا مطلَقًا، واتخذي لك رجلًا صالحًا يروقُكِ شخْصُه وتلائمك أخلاقُه، وليكُن بعد ذلك مَن شاء، فسنَرضى به صهرًا لنا، وسيكون ذا رزقٍ كافٍ دائمًا إذا ما كان ذا ذراعين وأخلاق، وكان مُحِبًّا لأسرته، وسيكون ذا مقامٍ مرموقٍ دائمًا إذا ما شرَّفه بالفضيلة، وما يُهِمُّنا إذا ما لامنا جميعُ العالَم؟ فنحن لا ننشُد موافقةَ النَّاس، ونحن نكتفي بسعادتك.»
ويا أيها القراء، إنني أجهل أيُّ أثرٍ يكون لمثل هذا الكلام في البنات اللائي يُنشَّأن على طريقتكم، وأمَّا صوفية فيُمكِنُها ألَّا تُجيب عنه بالأقوال، فما تتصل به من حياءٍ ورِقَّةٍ يمنعُها من التعبير عما في نفسها بسهولة، ولكنني مطمئنٌّ إلى أنه سيبقى منقوشًا في قلبِها ما دامت حيَّة. وإذا كان من الممكن أن يُعتمَد على حُكمٍ بشريٍّ فهو الحُكْمُ الذي تكون به أهلًا لتقدير أبويها.
ولْنأتِ بأسوأ احتمالٍ فنفترض لها مِزاجًا أجُوجًا يجعل الانتظار الطويل شاقًّا عليها، فأقول إن حُكمها ومعارفها وذوقها ولطفها، ولا سيَّما مشاعرُها التي غُذِّيَ بها فؤادُها في صِباها، أمورٌ تُعارضُ فَوَران حواسِّها بثِقَلٍ يكفيها لقهْرِ هذه الحواس أو مقاومتها زمنًا طويلًا على الأقل، وهي تُفضِّل أن تموت شهيدةَ حالها على أن تُحْزِن أبويها بتزوُّجِ رجلٍ خالٍ من الفضل وتعريضِ نفسِها لشقاءِ زواجٍ غيرِ مُوفَّق، حتى إن الحرية التي فازت بها لم تُوجِبْ غيرَ عُلُوٍّ جديدٍ في النفس وغيرَ جعْلها أصعبَ مِراسًا في اختيار مولاها، وهي على ما فيها من مِزاجِ الإيطالية وحساسية الإنكليزية، حائزةٌ لزهو الإسبانية التي إذا ما بحثتْ حتى عن عاشقٍ لم يَسْهُل عليها أن تجدَ مَن تُقدِّر أنه كُفءٌ لها.
وليس كلُّ واحدٍ قادرًا أن يُدرِك أيُّ نابضٍ يُمكِن حُبَّ الأمورِ الصالحة أن يُورثَ النفسَ إياه، وأيُّ قوةٍ يمكن الواحدَ أن يَجِدها في نفسه إذا ما أراد أن يكون فاضلًا بإخلاص. ومن النَّاس مَن تبدو لهم كلُّ عَظَمةٍ وَهْمًا، ومَن لا يَعْرِفون بعقْلهم السافل المنحط ما يُمكِن أن يكون حتى لجنون الفضيلة من تأثيرٍ في أهواء البشر، ولا يَجوز أن يُخاطَب هؤلاء النَّاس بغير الأمثلة، ويقعُ اللومُ عليهم إذا ما أصَرُّوا على إنكارِها. وإذا قلتُ لهم إن صُوفيةَ ليست إنسانًا خياليًّا، وإن اسمها وحدَه هو مِن اختراعي، وإن تربيتَها وطِباعها وأخلاقها وهيئتها أيضًا قد وُجِدَت حقًّا، وإن ذكْراها لا تزال تُسيل عَبَراتِ كلِّ أُسْرةٍ صالحة، لم يُصدِّقوا شيئًا من هذا لا ريب، لكن لِمَ لا أجازفُ فأُتِمَّ بلا التواء قصةَ فتاةٍ كثيرةِ الشَّبه بصوفيةَ، فيُمكن أن تكون هذه القصةُ قصَّتَها من غيرِ أن يَحَارَ منها أحد؟ وليس من المهمِّ أن يُعتَقد أن القصةَ واقعيةٌ أو لا، ولْيُقَلْ — إذا أُريد — إنِّي أقُصُّ أوهامًا، فلا يُهِمُّ هذا، وإنما الذي يُهِمُّ هو أن أشرح منهاجي فأبْلُغَ غاياتي دائمًا.
إن الفتاة التي حَمَّلْتُ صوفيةَ مِزاجَها حائزةٌ لجميع الموافقات التي يُمكن أن تجعلها أهلًا لهذا الاسم فأتركه لها، وإن أباها وأمَّها رأيا، بعد الحديث الذي رويته آنفًا، أنَّ طالبي الزواج لا يأتون لعَرْض أنفسِهم في الكُوخ الذي يقيمان به، فأرسلاها إلى المِصْرِ لتقضي فيه شتاءً عند خالةٍ لها أطلعاها سِرًّا على سبب الرحلة؛ وذلك لأن صوفيةَ المختالةَ كانت تحمل في قرارة قلبِها من الزهو الكريم ما تَعْرف معه أن تضبط نفسها، ولأنها مهما يكن من احتياجها إلى زوجٍ تُفضِّل الموتَ على الذهاب للبحث عنه.
وقد عَمِلَتْ خالتُها بوجهاتِ نظرِ أبويها؛ فقدَّمتها في البيوت، وأتت بها إلى المجتمعات، وأحضرتها إلى الولائم والأعياد، وعرَّفتها بالنَّاس، وإن شئتَ فقُل عَرَّفت بها النَّاس، وذلك مع كونِ صوفيةَ قليلةَ المبالات بهذه القَرْقَعات، ومع ذلك فقد لُوحظ أن صوفيةَ لم تجتنب مَن يَبْدون متواضعين ذوي احتشامٍ من وُسَماء الشُّبَّان، حتى إن احترازها ينطوي على فنٍّ في اجتذابهم مشابهٍ للدَّلال، ولكنها ارتدَّتْ عنهم بعد أن حادثتهم مرتَين أو ثلاث مرات، وذلك أنها لم تلبث أن اتخذت وضعًا أكثرَ تواضعًا، وأدبًا أكثرَ دفعًا بدلًا من ظاهرِ السلطان الذي يتقبَّل المجاملات كما يلوح، وذلك أنها كانت دائمةَ الانتباه إلى نفسها، فعادت لا تَدَعُ لهم فرصةَ تقديمِ أيةِ خدمةٍ لها، وهذا يعني أنها لم تُرِدْ أن تكون خليلةً لهم.
وما كانت القلوب الحساسة لتُحبَّ الملاهي الصاخبة ولا السعادة الباطلة الماحلة عند أناسٍ لا يُحِسُّون شيئًا، معتقدين أن تمتُّع الإنسان بحياته قائمٌ على خُمارِها. وبما أن صوفيةَ لم تَجِد ضالتَها مطلقًا، وبما أنها يئست مِن لُقيانها؛ فقد سئمتْ من المِصْر، وقد كانت تُحِبُّ أبويها حُبَّ حَنان، فلم تَجد ما يُعوِّضها منهما، ولم يظهر لها شيءٌ تنساهما به، فعادت لِتلحَق بهما قبل الوقت المعيَّن لرجوعها بزمنٍ طويلٍ.
وهي لم تَكَدْ تَعُودُ إلى واجباتها في منزل والديها حتى رُئيَ أنها غيَّرت مِزاجها مع المحافظة على سلوكها، وذلك أنها بَدَت ذاتَ ذهولٍ ومَلَلٍ وغَمٍّ ووهْم، فتتوارى لتبكي. وقد ظُنَّ في البُداءة أنها تحبُّ وأنها خَجْلى من ذلك، فكلَّمَاها في ذلك فردَّته عنها محتجةً بأنها لم تَرَ رجلًا أمكنه أن يَمَسَّ فؤادَها، وصوفيةُ لا تَكذِبُ مطلقًا.
ومع ذلك، فإن الذُّبول كان يزيد بلا انقطاع، وأخذت صحتُها تَفسُد، فعزمتْ أمُّها التي ساورها الهمُّ من هذا التحوُّل على معرفةِ العلة، فخلَت إليها، واتخذت نحوها لهجةً مؤثِّرة، وأظهرتْ لها من الألطاف التي لا تُرَدُّ ما لا يَصْدُر عن غيرِ عاطفة الأم، قالت لها أمُّها: «بُنيتي، لقد حملتُك في بطني، ولا أفتأ أحمِلُك في فؤادي، فأَفْضِي بأسرارِ قلبِك إلى ضميرِ أمِّك، وما هذه الأسرار التي لا تَقدِر الأمُّ أن تعرفها، ومَن ذا الذي يتوجَّع لكروبك، ومَن ذا الذي يُقاسِمك إياها، ومَن ذا الذي يريد أن يكشِفَها عنك، إن لم يكن والدكِ ووالدتكِ؟ آه! يا بنيَّتي، أتَوَدِّين أن أموتَ بسببِ ألمكِ من غير أن أعْرِفه؟»
لم تكتُم البنتُ همومَها عن أمِّها، ولم تطلُبْ ما هو أحسنُ من أن تكونَ أُمُّها مُفرِّجةً لِغُمَّتها محلًّا لأسرارها، غيرَ أن الحياء كان يَمنعها من الكلام، وما هي عليه من حِشمةٍ كان لا يجدُ لسانًا لوصفِ حالٍ غيرِ خليقٍ بها كالهَيَجان الذي يُبلبلُ حواسَّها على الرغم من جميع جهودها، وأخيرًا اتخذت أمُّها من حيائها نفسِه دليلًا، فانتزعت منها هذه الاعترافات الفاضحة، ولم تُحزِنْها أمُّها بتعزيرٍ جائر، بل أسْلَتها وتوجَّعتْ لها، وبكتْ عليها، وهي من الحكمة البالغة ما لا تجعَلُ لها معه جريمةً من سوءٍ قَسَا عليها بسبب عفافها وحدَه. ولكن لِمَ احتمالُها، بلا ضرورةٍ، سوءًا سهلًا دواؤه شرعيًّا علاجُه؟ ولِمَ لا تستعينُ بحريةٍ كانت قد مُنِحَتْها؟ ولِمَ لا تَقبَلُ زوجًا؟ ولِمَ لا تختارُ بعْلًا؟ ألَا تعلمُ أن مصيرَها يتوقَّف عليها وحدَها، وأنه مهما يكن من اختيارها يُوافَق عليه ما دام هذا الاختيار لا يقع على غيرِ صالح؟ لقد أُرْسِلت إلى المِصر، ولم تُرِدِ البقاءَ فيه مطلقًا، وقد قُدِّم إليها كثيرٌ من طالبي الزواج فرفضتْهم جميعًا. وما تنتظرْ إذنْ؟ وما تريد؟ يا له من تناقضٍ غامض!
وكان الجوابُ بسيطًا؛ فلم يَدُرِ الأمرُ على غيرِ إغاثةٍ للشباب، ولا يَلْبَث الاختيارُ أن يَقَع، ولكن لا يسهُلُ اختيارُ سَيِّدٍ لِمدَى الحياة. وبما أنه لا يُمكِن فصلُ أحد الاختيارين عن الآخر، فإنه لا بُدَّ من الانتظار، ولا بُدَّ من ضياع الشباب في الغالب قبلَ لُقْيان الرجل الذي يُراد قضاءُ الحياة معه. وكان هذا حالَ صوفيةَ التي كانت محتاجةً إلى عاشقٍ على أن يكون زوجًا لها، ومن الصَّعب أن تجِد قلبًا كما تريد، سواءٌ أكان قلبَ زوج أم قلبَ عاشق، ولم يَقُم ما بينها وبين أولئك الشبان النضراء من موافقةٍ على غيرِ السِّن، وأمَّا الموافقاتُ الأخرى فتُعْوِزُهم دائمًا، وما كانوا عليه من ذهنٍ سطحي، ومن خُيَلاء ورَطانة، ومن طِباعٍ بلا نظام، ومن تقليدٍ طائش، كان يورثُها نفورًا منهم، وكانت تبحث عن رجلٍ فلا تجدُ غيرَ قِرَدَة، وكانت تبحث عن روحٍ فلا تجد منه شيئًا.
قالت لأمِّها: «يا لشقائي! إنني محتاجةٌ إلى الحُب، ولا أرى أحدًا يَرُوقُني، ويَرفِض فؤادي كلَّ مَن يُخاطب حواسِّي، ولا أجِد واحدًا لا يُثيرُ رغائبي، ولا أُبْصرُ واحدًا لا يَرْدعُ مُيولي، ولا يُكتبُ بقاءٌ لذوقٍ بلا احترام. آه! ليس هنالك مَن هو أهلٌ لابنتك صوفية! إن مثالَها الفاتنَ منقوشٌ في صميم فؤادها، وهي لا تستطيع حُبَّ غيرِه، وهي لا تستطيع أن تجعل سعيدًا سواه، وهي لا تستطيع أن تكونَ سعيدةً مع غيره، وهي تُفضِّل أن تضْنَى وتناضل بلا انقطاع، وأن تموت شقيةً حُرَّة، على أن تكون يائسةً بجانبِ رجلٍ لا تُحِبُّه فتجعله شقيًّا أيضًا، وأفضلُ لها أن تَهْلِك من أن تبقى لِتَأْلَم.»
ووَقَفتْ هذه الغراباتُ نَظَرَ الأمِّ فوجدتها من الشذوذ البالغ ما لم يُخامِرها معه شكٌّ في وجود سِرٍّ في الأمر، ولم تكن صُوفيةُ متصنِّعةً ولا مثيرةً للسخرية. وكيف أمكَنَ هذه الرقةَ المتناهيةَ أن توافقها، وهي التي لم تتعلَّم منذ طفولتها غيرَ الاكتفاءِ بأناسٍ كان عليها أن تعيشَ معهم وأن تقومَ نحوهم بمقتضى الفضيلة؟ إن هذا المثالَ للرجل المحبوب الذي فُتِنَت به كثيرًا، والذي تُردِّد اسمه في جميع أحاديثها غالبًا، قد جعل أمَّها تظُنُّ أن لهذا الهوى أساسًا آخرَ لا تزال جاهلةً له، وأن صوفيةَ لم تقُل كلَّ شيء، ولم تحاول هذه الشقية المُثْقلة بكَرْبها الخفي غيرَ الكلامِ بثقةٍ تامة. وتُلِحُّ أمُّها، وتتردَّد، ثُمَّ تُذعن، وتَخرُج من غيرِ أن تقول كلمة، وتعود بعد هُنيهةٍ حاملةً كتابًا بيدها، وتقول: «اشفقي على ابنتكِ الشقية، فلا دواءَ لكَرْبها، ولا يُمكِن أن تَكُفَّ عن البكاء، وأنت تريدين معرفةَ العلة، حسنًا، ها هي ذي.» قالت هذه الكلمة وطَرَحَت الكتابَ على المِنضدة، وتتناول الأمُّ الكتابَ وتفتحه، فإذا هو: «مغامرات تِلِماك»، ولم تُدرِكْ شيئًا من هذا اللغز في البُداءة، وتدور أسئلةُ مبهمةٌ وأجوبةٌ غامضة، فترى الأمُّ في آخرِ الأمر، مع دَهَشٍ يمكن تصوُّره، أن ابنتها منافِسةٌ لأُوكَارِيس.
وكانت صوفيةُ تُحِبُّ تِلِماك، وكانت تحِبُّه بهوًى لم يستطِع شيءٌ أن يشفيَها منه، ولمَّا عَلِم أبوها وأمُّها هُيامَها ضَحِكا منه، ورأيا أن يَرُدَّاها عنه بالعقل، وقد كانا على خطأ في ذلك؛ فلم يكنِ العقلُ كلُّه بجانبهما؛ فقد كان لصوفيةَ عقلُها أيضًا، وكانت تَعرف أن تنتفعَ به، وما أكثرَ ما حملَتْهما على السكوتِ بتوجيهها إليهما براهينَهما الخاصة، وبإثباتها لهما أنهما أساسُ العِلَّة لِمَا كان من عدمِ إعدادِهما إياها لرجلٍ من رجال عصرها، وأن الضرورةَ كانت تقضي بأن تعتنق أوجُهَ تفكيرِ زوجها أو أن تَمْنَحه أوجُهَ تفكيرها، وأنهما جَعَلَا الوسيلةَ الأُولى أمرًا متعذِّرًا عليها بالأسلوبِ الذي نشَّآها عليه، فتبحثُ عن الوسيلة الأخرى تمامًا، وقد قالت: «أعطياني رجلًا مُشْبَعًا من مبادئي، أو رجلًا أستطيعُ تعليمه إياها، حتى أتزوجه. ولكن لِمَ تؤنِّبانني حتى ذلك الحين؟ ارحماني؛ فأنا شقية، لا حمقاء. وهل القلبُ تابعٌ للإرادة؟ ألم يَقُل والدي ذلك بنفسه؟ وهل يقع الذَّنْب عليَّ إذا كنتُ أُحِبُّ مَن هو غيرُ ميْسُور؟ ولستُ تخيُّليَّة؛ فلا أريد أميرًا مطلقًا، ولا أبحث عن تِلِماك مطلقًا، وأعلم أنه ليس إلا وهمًا، وإنما أنشد له شبيهًا. ولِمَ يتعذَّر وجودُ هذا الرجل ما دمتُ موجودة، أنا التي تَشعُر بقلبٍ يشابه كثيرًا؟ كلَّا، لا ينبغي أن نَشِين البشريةَ هكذا، ولا يجوز أن نذهبَ إلى أن الرجل الفاضل المحبوب ليس إلا وهمًا، إنه موجود، إنه حي، وقد يكون باحثًا عني؛ فهو يبحث عن نفْسٍ تَعرف أن تُحِبَّه، ولكن مَن هو؟ وأين هو؟ أجهل ذلك. ولا غَرْو؛ فهو ليس ممن رأيت، وليس واحدًا ممن أرى. أمَّاه! لِمَ جعلتِ الفضيلةَ مُحبَّبة إليَّ كثيرًا؟ إذا كنتُ عاجزةً عن حُبِّ غيرها، فالذَّنْبُ يَقَعُ عليك أكثرَ مما يقع عليَّ.»
وهل أسُوقُ هذه القصة الشجية حتى آخرها؟ وهل أذكرُ المناقشاتِ الطويلةَ التي سبقَتْها؟ وهل أعْرِض أُمًّا هَلوعًا تُغيِّرُ بصرامةٍ ألطافَها الأُولى؟ وهل أَدُلُّ على أبٍ غَضُوبٍ نَسِيَ عهودَه الأُولى معاملًا أفضلَ البناتِ مِثلَ مجنونة؟ ثُمَّ هل أصِفُ الشقيةَ التي صارت أكثرَ ارتباطًا في وهْمها بفعلِ الاضطهاد الذي آلمها ماشيةً إلى الموت مشيًا وئيدًا، ونازلةً إلى القبر حين يُظَنُّ أنها تُجَرُّ إلى الهيكل؟ كلَّا، إنني أبتعد عن هذه الأمور السيئة؛ فلا أحتاج إلى المغالاة حتى أُبيِّنَ بمثالٍ بارزٍ بما فيه الكفاية على ما يلوحُ لي أنَّ حرارةَ الصلاح والجمال عادت لا تكون أكثرَ غرابةً عن النساء مما عن الرجال، وأنه لا يُوجَدُ بتوجيهٍ من الطبيعة ما لا يُستطاعُ نَيلُه مِنَّا ومنهنَّ، وذلك على الرغم من المُبْتَسَرات التي تنشأ عن طبائع العصر.
وأُوقَفُ هنا ليُسأل منِّي عن كوْن الطبيعةِ هي التي تَفْرِض علينا أن نُعانيَ كثيرًا من المتاعبِ لزجرِ الرغائبِ الجامحة، فأُجيب بالنفي، ولكنني أقول إن الطبيعة أيضًا ليست هي التي تُعطينا كثيرًا من الرغائب الجامحة مُطلَقًا، والواقع أن كلَّ شيءٍ ليس من الطبيعة مخالفٌ لها، وقد أثبتُّ هذا ألفَ مرة.
ولْنَرُدَّ صوفيةَ إلى إميل، ولْنَبعَثْ هذه الابنةَ المحبوبة لِنُوحي إليها بخيالٍ أقلَّ شِدَّةً وبنصيبٍ أكثرَ سعادة، وقد أردتُ وصفَ امرأةٍ مألوفة، وقد بَلْبَلْتُ عقلَها من حيث رَفْعُ روحها، فضللْت، فدَعْنا نَعُودُ إلى خُطانا؛ فليس لدى صوفية غيرُ طَبْعٍ صالحٍ في رُوحٍ معروف، وكلُّ ما لديها أكثرَ مما عند النساء الأُخَرِ هو أثرُ تربيتها.
•••
لقد نَوَيْتُ في هذا الكتاب أن أقولَ كلَّ ما يُمكِنُ عملُه، تاركًا لكلِّ واحدٍ اختيارَ ما هو في متناوَله في الأمور التي استطعتُ أن أقول عنها خيرًا. وقد رأيت منذ البُداءة أن أُكَوِّن قرينةَ إميلَ وأن أُنشِّئ كُلًّا منهما للآخر ومع الآخر، ولكنني حين فَكَّرْتُ في ذلك وجدتُ أن جميعَ هذه التدابيرِ التي تُتَّخَذ قبلَ الأوان عادمةُ الفِطْنة، وأن مما يخالف الصوابَ إعدادَ ولدَيْن للاقتران قبل أن يكونَ من الممكن معرفةُ ملاءمةِ هذا الزواجِ لنظام الطبيعة أو لا، وهل يكون بينهما من المصاحبات ما يناسب تكوين هذا الزواج أو لا، ولا يجوز أن يُخلَط بين ما هو ملائمٌ للحال الوحشية وما هو ملائمٌ للحال المدنية؛ ففي الحال الأُولى يلائم جميعُ النساءِ جميعَ الرجال، وذلك لِمَا لا يزال يكون بين هذين الفريقين من طَوْرٍ ابتدائيٍّ مشتركٍ فقط. وفي الحال الثانية حيث ينمو كلُّ طبعٍ بالنُّظم الاجتماعية، وحيث ينال كلُّ ذهنٍ طَوْرَه الخاصَّ المُعيَّنَ بتعاون الطبيعيِّ والتَّربية تعاوُنًا حسنَ الترتيب أو سيئ التنظيم، لا من التَّربية وحدَها، عاد لا يُمكِن جمعُ ما بينهما قبْل تقديمِ كلٍّ منهما إلى الآخر ليُرى هل يتوافقان من كلِّ ناحيةٍ أو أنهما يلتزمان اختيارًا يتضمن مُعظَم هذه الموافقات.
والسوءُ في أن الحياة الاجتماعية، إذ تُنمي الطِّباع، تَمِيزُ بين الطبقات، وأن كلًّا من الفريقين إذ لا يُشابه الآخر مُطْلَقًا يُخْلَط بين الطِّباع كُلَّما فُرِّق بين الطبقات، وهذا هو مصدرُ الزواجاتِ غيرِ المتجانسةِ ومصدرُ جميعِ ما ينشأ عنها من ارتباكات. ومِنْ ثَمَّ يُرى كنتيجةٍ جليةٍ أنه كلَّما ابتُعِدَ عن المساواة فسَدَت المشاعر، وأنه كلَّما زادت المسافةُ بين الكُبراء والصُّغراء فَتَرت العلاقةُ الزوجية، وأنه كلَّما وُجِدَ أغنياءُ وفقراءُ قَلَّ وجودُ الآباء والزوجات، وقد عاد لا يكون للسادةِ والعبيد أُسرَة، فلا يَرى كلٌّ منهما غيرَ طبقته.
وإذا أردتم أن تَحُولوا دون سوء الاستعمال، وأن تَنْتَهوا إلى زواجاتٍ موَفَّقة، فاقضُوا على المُبْتَسَرات وانسَوُا النُّظُمَ البشرية، وشاوروا الطبيعة، ولا تجمَعوا بالزواج بين أناسٍ لا يتوافقون إلا وَفْقَ شرطٍ معلوم، فإذا تغيَّر هذا الشرطُ عادوا لا يتوافَقون، وإنما زاوِجوا بين أناسٍ يتوافقون في أيِّ وضعٍ يكونون فيه وفي أي بلدٍ يقيمون به ومن أية طبقةٍ يُمكِن أن يكونوا. ولا أقول بعدم الاكتراث للمصاحبات التقليدية في الزواج، وإنما أقول إن تأثيرَ المصاحبات الملائمة للطبيعة هو من عِظَمِ الأهميةِ ما يُقرِّرُ وحدَه مصيرَ الحياة، وإنه يُوجَدُ من تَوافُق الأذواق والمشارب والمشاعر والطِّباع ما يجب أن يَحْفِزَ الأبَ العاقل، ولو كان أميرًا أو ملِكًا، إلى تزويج ابنه من غير تردُّد، بابنةٍ تجْمعه بها جميعُ الموافقات، ولو كانت هذه البنت قد وُلِدَت في أُسرةٍ قبيحة، ولو كانت ابنةَ جلَّاد. أجلْ، إنني أذهب إلى أن جميعَ ما لا يُتَصَوَّرُ من المصائب لو صُبَّ على زوجين حسَنَي الاقتران لوجدا ببكائهما معًا من السعادة ما لا يَحُوزانه بجميع أموال الأرض المُسَمَّمة باختلاف القلوب.
ولذا، فإنني انتظرتُ معرفةَ الزوجة التي تلائم إميلَ بدلًا من إعدادها له منذ الطفولة، والطبيعة، لا أنا، هي التي قامت بهذا الإعداد، ويقومُ عملي على لقاء هذا الاختيار الذي أتاه. وأقول عملي لا عملَ الأب؛ وذلك لأنه بتفويضه إليَّ أمرَ ولدِه يكون قد تنزَّل لي عن مكانه، فأقام حقِّي مقامَ حقِّه؛ فأنا أبو إميل الحقيقي، وأنا الذي جعله رجلًا، وقد كُنْت أرْفِض تنشئته لو لم أغْدُ مسيطرًا على أمرِ تزويجه وَفْقَ خياره، أي خياري، ولا أجدُ غيرَ لذَّة صُنعي رجلًا سعيدًا ما يمكن أن يُعَدُّ أجرًا على عملي.
ولكن لا تَظنُّوا كذلك أنني قصدتُ كيما أجِدُ زوجةً لإميلَ أن أُلقي عليه واجبَ البحث عنها، وليس هذا البحثُ المصنوعُ غيرَ ذريعةٍ لجعله عارفًا بالنساء حتى يشعرَ بقيمة التي تلائمه. أجلْ، إن صوفيةَ وُجِدَت منذ زمن طويل، ومن المحتمل أن يكون إميلُ قد رآها، ولكنه لن يَعْرِفها قبل الوقت المناسب.
ومع أن تساويَ الأحوال غيرُ ضروري للزواج، فإن هذه المساواة إذا ما ضُمَّت إلى الموافقات الأخرى منحتها قيمةً جديدة، وهي وإن لم تدخُل في الميزان مع أية موافقةٍ أخرى تُمِيلُه عند تساوي الجميع.
والرجل، ما لم يكُن مَلِكًا، لا يستطيع أن يبحث عن المرأة في جميع الطبقات؛ وذلك لأن ما ليس عنده من مُبْتَسَرات يجده عند الآخرين، ومن المحتمل أن يجد البنت التي تلائمه، فلا ينالها لتلك العلة؛ ولذا يوجد للحَذَر مبادئُ يجب أن تُحَدَّد بها مباحثُ الأب الحصيف. ولا ينبغي لهذا الأب أن يُريدَ منْحَ تلميذه زواجًا فوقَ طبقته مُطلَقًا؛ فهذا أمرٌ لا يدخل ضِمن نطاق قدْرته، وهو إذا ما استطاعه لا ينبغي له أن يريده أيضًا، وإلا فما أهمية الطبقة لدى الشاب، ولا سيَّما شابِّي؟ ومع ذلك، فإنه إذا ما صعد عَرَّض نفسه لألفِ بلاءٍ حقيقيٍّ يشعُر به مدى حياته، حتى إنني أقول إنه لا ينبغي له أن يُريدَ الموازنة بين أمورٍ مختلفةٍ طبيعةً كالشرف والثراء مثلًا؛ وذلك لأن كُلًّا منهما يَنتقص قيمةَ الآخر بما لا يقبَلُ تعديلًا، فضلًا عن أنه لا يُتَّفَقُ على تقديرٍ شامل، والخلاصةُ أن ما يَمْنَحُ كلٌّ منهما رأسَماله من تفضيلٍ يُعِدُّ شقاقًا بين الأسرتَين، وبين الزوجين غالبًا.
ثُمَّ إن هنالك اختلافَ اعتبارٍ في نظام الزواج من حيث اقتران الرجل بمَن فوقه أو بمن تحته؛ فأمَّا الحالُ الأُولى فمخالِفةٌ للعقل تمامًا، وأمَّا الحال الثانية فأكثرُ ملاءمةً له. وبما أن الأسرة لا ترتبط في المجتمع إلا برئيسها، فإن مقام هذا الرئيس هو الناظمُ لمقامها بأسْرِه، فإذا ما اقترن من مرتبةٍ دون مرتبته فإنه لا يَهبِط مطلقًا، وإنما يَرْفَع زوجَه. وعلى العكس، إذا ما تزوَّج امرأةً تعلوه مرتبةً فإنه يَخْفِضها من غير أن يرفعها، وهكذا فإنه يوجد في الحال الأُولى خيرٌ بلا شَر، ويُوجَدُ في الحال الثانية شَرٌّ بلا خير. وفضلًا عن ذلك، فإن من نظام الطبيعة أن تُطيع المرأة الرجل؛ ولذا فإنه إذا ما أخذها من طبقةٍ دون طبقته تَوَافقَ النظام الطبيعيُّ والنظام المدني، وسار كلُّ شيءٍ على ما يُرام، وعكسُ هذا ما يَقَعُ إذا ما اقترن الرجلُ بمَن هي من طبقةٍ تعلوه، وذلك أنه يكون بين أمرين: بين حقٍّ له مُتقَلِّصٍ أو شُكرانٍ منه ناقص، وبين جُحُودٍ منه أو ازدراءٍ له، وهنالك تدَّعي المرأةُ السلطانَ فتغدو طاغيةَ رئيسها، وهنالك يكون سيِّدُها الذي صار عبدًا أدعى النَّاس إلى السخرية وأكثرَهم بؤسًا، وهذا هو حال المُقرَّبين التُّعساء الذين يُكرمهم ملوكُ آسية ويؤذونهم في زواجهم، والذين لا يجرءون عند النوم مع نسائهم أن يدخلوا السرير إلا من رِجْلِه.
وأتوقَّع أن يتهمني كثيرٌ من القراء بأنني أناقض نفسي هنا حين يذكرون أنني أحبو المرأة بموهبةٍ طبيعيةٍ تُسيطر بها على الرجل، ومع ذلك فهم مخطئون؛ فيوجد فرقٌ كبيرٌ بين الادِّعاء بحقِّ الأمر والسيطرة على مَن يأمر، وذلك أن سلطانَ المرأة سلطانُ رِفْقٍ وحِذْقٍ وملاطفة، وأن أوامر المرأةِ مُلامَساتٌ وأن تهديداتها عَبَرَات، وعلى المرأة أن تحْكم في المنزل كما يَحْكُم الوزيرُ في الدولة، وذلك أن تُحْمَل على صُنْع ما تريد، ومن الثابت في هذه الناحية أن أحسنَ تدبيرٍ منزليٍّ هو ما يكون للمرأة فيه أعظمُ سلطان، ولكنها إذا ما أنكرتْ صوتَ الرئيس وأرادت غصْب حقوقه وانتحالَ القيادة لنفسها لم ينشأ عن هذا الاختلال غيرُ الشقاء والعار والشَّنار.
وقد بقيَ أمرُ اختياره ممن هن مساوياتٌ له أو ممن هن دُونَه، وأظنُّ أنه لا يزال يُوجَد من القيود ما يَجِبُ أن يُؤتى حوْل هؤلاء الأخيرات؛ وذلك لأن من الصعب أن تُوجَد في الطبقة الدنيا زوجةٌ قادرةٌ على جعْل الرجل الصالح سعيدًا، وليس سببُ هذا كونَ العيبِ في الطبقات الدنيا أكثرَ مما في الطبقات العليا، بل لأنه يُساور هذه الطبقةَ قليلُ فكرٍ حوْل ما هو صالحٌ جميل، ولأن جوْرَ الطبقاتِ الأخرى أدَّى إلى عَدِّ الطبقة الدنيا ما هي عليه من عيوب عَدْلًا.
ومن الطبيعيِّ ألَّا يفكِّر الرجل مطلقًا؛ فالتفكير فنٌّ يتعلَّمه كجميع الفنون الأخرى، وهو فنٌّ يتعلمه بأصعب مما يتعلَّم الفنون الأخرى، ولا أعْرِف للجنسين غيرَ طبقتَين مختلفتَين: فأمَّا إحداهما فمؤلَّفةٌ من أناسٍ مفكِّرين، وأمَّا الأخرى فمؤلَّفةٌ من أناسٍ لا يفكِّرون مُطلقًا، وينشأ هذا الاختلاف عن التَّربية حصْرًا تقريبًا. ولا ينبغي للرجلِ من أُولَى هاتَين الطبقتَين أن يُصاهِرَ في الأخرى مُطلَقًا؛ وذلك لأن أكبرَ فُتُونٍ في المجتمع يُعْوِز مجتمعَه إذا ما قُصِرَ بزواجه على التفكير وحدَه، ولا يكون عند مَن يَقْضون الحياةَ بأكملها قضاءً تامًّا في العمل من أجلِ المعيشة فكرةٌ أخرى غيرُ فكرةِ عملهم أو مصلحتهم، فيَلوح أن ذهنَهم مستقرٌّ بطَرَف ذُرْعانهم. وليس هذا الجهلُ بضائرِ صلاحِهم وأخلاقهم، حتى إنه يكون نافعًا لهما غالبًا. ومما يقع في الغالب أن نكتفي بواجباتنا عند تأمُّلنا فيها، فنضَع موضعَ الأشياءِ رطانةً في نهاية الأمر. والشعورُ أكثرُ ما ألقَى الفلاسفةُ عليه نورًا، ولا نحتاج إلى الاطلاع على «واجبات» شيشرون حتى نكون أهلَ خيرٍ. وقد تكون أصلحُ نساء العالم أقلَّ النَّاس علمًا بمعنى الصلاح، ولكن ليس أقلَّ من هذا حقيقةً كونُ الذهنِ المُثقَّفِ وحدَه يجعل المعاشرةَ أمرًا مُستحَبًّا. ومن الأمور المؤسفة أن يُضطرَّ رَبُّ الأسرة الذي يُسَرُّ في منزله أن ينطوي على نفسه، فلا يستطيع أن يَجْعَلَ نفسه مُدرَكًا من قِبَل أحدٍ فيه.
ثُمَّ كيف تُربِّي المرأةُ التي لم تَتَعوَّدِ التفكيرَ قَطُّ أولادَها؟ وكيف تَميزُ ما يلائمهم؟ وكيف تُعِدُّهم للفضائلِ التي لا تَعْرفُها وللمزايا التي لا يساورها أيُّ فكرٍ عنها؟ لن تَعْرِف غيرَ مداراتِهم أو تهديدِهم، وغيرَ جعْلهم سُفهاء أو جُبناء، وستَجْعل منهم قِردةً متصنِّعين أو فجرةً طائشين، لا أولادًا أذكياء أو محبوبين.
ولذا لا يلائم الرجلَ الذي تَلقَّى تربيةً أن يختار زوجةً لم تَنَلْها مُطلَقًا، ومِنْ ثَمَّ أن يأخذها من طبقةٍ لا يُمكِنُ تَلقِّيها فيها، ولكنني أُفضِّلُ مائةَ مرةٍ فتاةً بسيطةً ذاتَ تنشئةٍ خَشِنةٍ على فتاةٍ عالمةٍ أريبةٍ تأتي لتُقيم في منزلي مَحْكَمةَ آدابٍ تحت رئاستها؛ فالمرأةُ الأريبة تكون آفةَ زوجها وأولادها وأصدقائها وخَدَمِها وجميعِ النَّاس؛ وذلك لأن ما تكون عليه من نبوغٍ رفيعٍ يؤدي إلى استهانتها بواجبات المرأة، فتحاول أن تنتحل دائمًا طوْرَ الرجل على غِرار الآنسة دُولَنْكلُو، وهي في خارجِ منزلها تكون مثيرةً للسُّخْرية دائمًا، عُرضةً للنقد بإنصاف، شأنُ الرجلِ الذي يُلاقي ذلك عندما يهْجُرُ حالَه من غيرِ أن يكون أهلًا للحال التي يريد اتخاذَها، وما كان جميعُ هؤلاء النساء من ذوات النبوغ الكبير لِيُمَوِّهن على غيرِ الأغبياء، ونَعْرف دائمًا مَن هو المتفنن أو الصديق الذي يُمسِك القلمَ أو الريشةَ حينما يشتغلن، ونَعْرف مَن هو رجلُ الأدبِ الكتُومُ الذي يُملي عليهن آياتهن؛ فجميع هذا الخداع غيرُ جديرٍ بالمرأة الصالحة، ومتى كانت المرأة ذات نبوغٍ صادقٍ أدَّى ادِّعاؤها إلى إرْذالها، ويقوم شرفُها على كوْنها مجهولة، ويقوم مجْدُها على تقديرِ زوجها، ويقوم سرورُها على سعادة أُسرتِها. فيا أيها القراء، إنني أحْتكم إليكم، فأجيبوا عن سؤالي الآتي بإخلاص، وهو: أيُّ الأمرين يوحي إليكم بأحسنِ رأيٍ عن المرأة إذا ما دخلْتم غرفتَها، وأيُّ الأمرين يحْمِلُكم على مقابلتها بأكبرِ احترامٍ: أن ترَوْها قائمةً بأعمالِ جنسها وبتدبير أمور منزلها محاطةً بثياب أولادها، أو أن تجدوها تكتب أشعارًا عن زينتها محاطةً بأنواع الكراريس وبرِقاعٍ صغيرةٍ من جميع الألوان؟ إن كلَّ بنتٍ أديبةٍ تبقى بنتًا مدَى حياتها إذا لم يوجد على الأرض غيرُ العقلاء من الرجال.
«تسألين، يا غَلا، عن السبب»
«في عدم زواجي بك؛ فأنت»
«مدقِّقةٌ في اللغة كثيرًا.»
ويأتي باعثُ الوجهِ بعد تلك البواعث، وهو أوَّل ما يَقِفُ النظرَ، وهو آخرُ ما يجب أن يكون، ولكن مع عدم الذهاب إلى عَدِّه شيئًا غيرَ مذكور. ويَلوح لي في الزواج أن اجتنابَ الجمالِ الباهرِ أفضلُ من نِشدانِه؛ فالجمالُ يُبتذَل سريعًا بالحيازة. فإذا ما مرَّت ستةُ أسابيعَ عاد لا يُعَدُّ شيئًا عند الحائز، ولكنَّ أخطاره تدوم بدوامه، ويكون زوج الحسناء أشقى الرجال ما لم تكن هذه الحسناء من الملائكة، وهي إذا ما كانت من الملائكة فكيف تَحول دون إحاطتها بالأعداء بلا انقطاع؟ وإذا لم يُورِثْ أقصى البَشَع نفورًا فإنني أُفضِّلُه على أقصى الجمال؛ وذلك لأن هذا وذاك إذ يكونان في حُكم العَدَم لدى الزوج بعد زمنٍ قليل، فإن الجمال يصير عُسْرًا والبَشَعَ يصير يُسرًا، ولكن البَشَع الذي يؤدِّي إلى النفور هو أعظم المصائب، ومن البعيد أن يزول هذا الحس، وهو يزيد بلا انقطاع، ويتحوَّل إلى بغضاء، ويكون مثل هذا الزواج جحيمًا؛ فالموت خيرٌ من القِران في مثل هذه الحال.
واطلبُوا الاعتدالَ في كلِّ حال، ولا تَستَثنُوا منه حتى الجمالَ، والوجهُ الوضيءُ المقبولُ الذي لا يوحي بالغرام، بل يوحي بحسن الالتفات، هو ما يجب أن يُفضَّل، فلا خطرَ منه على الزوج، ويتحوَّل خيرُه إلى نفعِ الزوجين، ولا تَبْلى الألطافُ كما يَبْلى الجمال، وهي ذاتُ حياة، وهي تتجدَّد بلا انقطاع، وإذا ما مضَى عشرون عامًا على الزواج راقَت المرأةُ الصالحةُ زوجَها بألطافها كما راقته في اليوم الأوَّل من قِرانِهما.
وهذه هي التأمُّلات التي جعلتني أعْزِم على اختيار صوفيةَ، وهي إذْ كانت تلميذةَ الطبيعة كإميلَ فقد كُوِّنَت له أكثرَ من أيةِ واحدةٍ أخرى، وهي ستكون امرأة الرجل، وهي مساويةٌ له مولدًا ومَزِيَّة، وهي أقلُّ منه نصيبًا، وهي لا تَفْتِن أوَّلَ وهلة، وهي تقَع موقعَ الرِّضا كلَّ يوم أكثرَ من قبل، ولا يؤثِّر فُتُونُها الأكبرُ إلا بالتدريج، ولا يَظْهر هذا الفُتون إلا عند الاجتماع القائم على الصداقة، وسيَشعر زوجُها بهذا أكثرَ من جميعِ النَّاس. وليست تربيتُها ساطعةً ولا مُهْمَلة، ولها ذوقٌ بلا دَرْس، ومواهبُ بلا فن، وحُكمٌ بلا معارفَ، وذهنُها خالٍ من العِلم، ولكنه هُذِّبَ ليتعلَّم، وهذه هي أرضٌ أُعِدَّت جيِّدًا، فلا تَنتظرْ غيرَ الحَبِّ لِتُغِلَّ، وهي لم تقرأْ غيرَ كتابِ بَرِّيمَ، وكتاب تِلِماك الذي وقع في يدها مصادفة، ولكن هل يكون لدى البنت التي تُولَع بتِلِماك قلبٌ بلا إحساسٍ وذهنٌ بلا رِقَّة؟ فيا لَلْجهلِ المحبوب! طوبى لمن قُدِّر له أن يُعلِّمَها! لن تكون مُعلِّمةَ زوجها مطلقًا، بل تلميذُه، وهي ستنتحل أذواقه بدلًا من إخضاعه لأذواقها، وهي ستكون عنده أفضلَ مما لو كانت عالمة، وسيطيبُ له أن يُعلِّمَها كلَّ شيء، وأخيرًا حان وقتُ تعارفهما، فلنُقَرِّب بينهما.
ونغادِرُ باريسَ حِزَانًا غارقين في الأوهام؛ فليس مكانُ الهَذْرِ هذا مركزًا لنا، ويُلقي إميلُ نظرةَ ازدراء على هذه المدينة العظيمة، ويقول غاضبًا: «يا للوقت الذي أضعناه في البحث على غير جدْوَى! وَيْ! ليست هنالك زوجةُ فؤادي، أيْ صديقي، أنت كنت تَعرف باريسَ، ولكن لا قيمةَ لوقتي عندك مطلقًا، ولستَ بالذي يألمَ لآلامي.» وأُحدِّقُ إليه، وأقول له بصوتٍ ثابت: «أتَعني ما تقول يا إميل؟» وهنالك يعانقني من فوْرِه خَجِلًا ويَضُمُّني إلى صدره بلا جواب، وهذا هو جوابُه في كلِّ وقتٍ إذا كان مخطئًا.
والآن نجوبُ الحقولَ كالفرسان الحقيقيين التائهين، لا كالذين يَنشُدُون المغامرات، وقد هَرَبْنا منها بمغادرتنا باريسَ، ولكننا في تَجْوَابنا نسيرُ سيرًا غيرَ متساوٍ على غِرار الفرسان التائهين، فنُسْرِعُ تارةً ونُبْطِئ تارةً أخرى. وإنه لِمَا كان من اتِّباع عادتي اكتُسِبَ روحُها أخيرًا، فلا أتصوَّر قارئًا عارفًا بمثلها يَفْترض نومَنا على كرسيٍّ فاخرٍ في عَرَبةِ بريدٍ مُحْكمةِ الإغلاق، فلا نرى شيئًا أو نلاحظ شيئًا، ولا نشْعُر بالفاصلة بين الذهابِ والوصولِ خاسرين في سرعةِ سفرِنا ما نقتصد من الوقت.
ويقول النَّاسُ إن الحياةَ قصيرة، وأراهم لا يألُون جُهدًا في جعْلها قصيرة، وذلك أنهم إذ كانوا لا يَعرِفون كيف يستعملونها فإنهم يتوجَّعون من سرعة الوقت، والوقت ما أرى مروره ببطء كما يريدون، وذلك بما أنهم مُشبَعون دائمًا من الغرض الذي يميلون إليه، فإنهم يُبصِرون قسرًا ما يفصلُهم عنه من فترة، فيَنْظُر أحدُهم إلى الغد، ويَنْظُر آخرُ إلى الشهر القادم، وينظر ثالثٌ إلى ما بعدِ عشرِ سنين، ولا يريد أحدٌ منهم أن يعيش اليوم، ولا يرضى أحدٌ منهم بالساعةِ الحاضرة، وكلٌّ منهم يجِدُها تمضي بطيئةً جِدًّا. وهم يَكذِبون حينما يقولون إن الوقت يَمُرُّ مسرعًا جِدًّا، وإنما هم يفضِّلون ابتياعَ سلطةِ تعجيله مختارين، وإنما هم يستخدمون ثراءهم مختارين إفناءً لحياتهم كلِّها، ومن المحتمل أنك لا تَجِد واحدًا لا يَودُّ أن يُحوِّل سِنِيه إلى ساعاتٍ قليلةٍ جِدًّا لو كان قادرًا أن يتخلص بطَوْعه من الساعات المرهقةِ له، ومن الساعات التي تَفْصِله عن الساعة المنشودة. ومن النَّاس مَن يقضي نصفَ حياته في الذهاب من باريس إلى فِرْساي، ومن فِرساي إلى باريس، ومن المصر إلى الأرياف، ومن الأرياف إلى المصر، ومن حيٍّ إلى آخر، فكان يضيقُ بساعاته ذَرْعًا لو لم يكن عنده سِرُّ إنفاقها على هذا الوجه، وذلك بابتعاده عن أعماله عَمْدًا، حتى يَعود باحثًا عنها، وهو يَظُنُّ أنه يَكسِب الوقتَ الذي يُنفِقُ في ذلك فلا يَعرِف ما يَصنع لولا ذلك، أو إنه على العكس يطوف للطواف، ويأتي بعربةِ البريد لا لسببٍ غيرِ الرجوعِ إلى حيث كان. فيا أيها النَّاس، ألَا تَكُفُّون عن الافتراء على الطبيعة؟ ولِمَ تألمون من كون الحياة قصيرةً لأنها ليست كما تريدون؟ إذا ما عَرَف أحدُكم أن يُلزِم رغائبه بالاعتدال، لكيلا يتمنَّى انقضاءَ الوقت مُطلَقًا، فإنه لا يَعُدُّ الوقتَ قصيرًا مُطلَقًا، فتكونُ الحياة والتمتُّع أمرًا واحدًا عنده، فلو مات شابًّا لم يَمُت إلا بعد شِبَعٍ من الأيام.
ولو لم يكُن لمنهجي غيرُ تلك المنفعة لوجب تفضيلُه على كلِّ منهاجٍ آخَر. ولم أُنَشِّئْ إميلَ للرغبة ولا للانتظار قَط، بل للتمتُّع، وهو إذا ما أجَّلَ رغائبَه إلى ما بعد الساعة الحاضرة لم يكُن هذا قَطُّ مع وجودِ حرارةٍ صائلةٍ فيه كيما يُزعَج ببطء الوقت؛ فهو لن يتمتع بملاذِّ الرغبة فقط، بل يتمتع أيضًا بلذة الذهاب إلى الغَرَض الذي يَرْغَب فيه، وهو من اعتدال الأهواء ما يعيش معه في اليوم الذي يكون فيه أكثرَ من اليومِ الذي سيكون فيه.
ولِذا فإننا لا نَسيحُ مِثْلَ سُعاة، بل مثلَ رُوَّاد، ولا نُفكِّرُ في الحدَّيْن فقط، بل نُفكِّر في الفاصلة بينهما أيضًا، حتى إن الرِّحْلةَ نفسَها لذةٌ عندنا، ونحن لا نقوم بالرحلة جالسين جلوسَ الحزينِ ومثلَ السجين في قَفَصٍ صغيرٍ مُحْكَمِ الإغلاق، ولا نسيحُ في مثلِ تَرَف النساء وراحتهن مُطلَقًا، ونحن لا نَحْرِم أنفسنا الهواءَ الطَّلق، ولا منظرَ الأشياءِ التي تحيط بنا، ولا فرصةَ تأمُّلها كما يطيبُ لنا. وما كان إميلُ ليدخُلَ عربة، ولا أن يسافر بها ولو كان مُستعجِلًا، ولكنْ أيُّ شيءٍ يستعجل إميل؟ إنه يستعجل شيئًا واحدًا، وهو التمتُّع بالحياة، وهل أُضيفُ إلى هذا صُنْعَ الخير ما استطاع إليه سبيلًا؟ كلَّا؛ وذلك لأن هذا تمتُّعٌ بالحياة أيضًا.
ولا أتصوَّر غيرَ نَمَطٍ واحدٍ للسياحة ألطفَ من ركوبِ الخيل، وهو السيرُ على الأقدام، وذلك أننا نسافر متى نريد، وأننا نقِفُ كما نشاء، وأننا نبذُل من العَناء ما هو قليلٌ أو كثيرٌ مثلما نَهْوَى، وأننا نشاهدُ جميعَ البلد، ونلتفتُ يُمْنى ويُسْرَى، وأننا نفْحَص كلَّ شيءٍ يحلو لنا، وأننا نَقِفُ عند جميع وجهات النظر، وإذا ما رأيتُ نهرًا سِرْتُ وإياه، وإذا ما رأيتُ غابةً كثيفةً مَشَيْتُ تحت ظِلِّها، وإذا ما أبصرتُ مغارةً زُرْتُها، وإذا ما أبصرتُ مَقْلَعًا بحثتُ عن الجمادات، وفي كلِّ مكانٍ أبقى حيث يَرُوقُني، ثُمَّ أنصرف حينما يعتريني سأَمٌ، ولا أكون تابعًا لحُصُنٍ ولا لحُوذي، ولا أضطرُّ إلى اختيار الطُّرق المُعبَّدة ولا السُّبل السَّهلة، وأمُرُّ من كلِّ مكانٍ يمكن الإنسانَ أن يَمُرَّ منه. وبما أنني لستُ تابعًا لأحدٍ غيرِ نفسي فإنني أتمتَّع بكلِّ ما يُمكن الإنسانَ أن يتمتَّع به من حرية، وإذا ما وقفتْني رداءةُ الجو وسَئمتُ ركِبتُ خيلًا، وإذا ما تَعِبْت … ولكنَّ إميلَ لا يَتْعبُ مُطلَقًا؛ فهو عُصْلُبي. ولِمَ يَتْعب؟ فهو لا يُضغَطُ مُطلَقًا، وهو إذا ما وقف فكيف يَسأم؟ فهو يحمل في كلِّ مكانٍ ما يتلهَّى به، وهو يقصد مُعلِّمًا ويشتغل، فيُمَرِّن ذراعيه ليُريحَ رجليه.
والسَّفَر سيرًا على الأقدام هو مِثلُ سَفرِ تالِيسَ وأفلاطون وفيثاغُورس، ومن الصعب عليَّ أن أدركَ أن الفيلسوف يُمكن أن يُزمِعَ السفرَ على وجهٍ آخَر، فيسلُب نفسَه درسَ ثَرواتٍ يَدُوسُها تحت قدميه وتَعْرِضها الأرض على عينيه. ومَن ذا الذي لا يحب الزراعةَ بعضَ الحُبِّ فلا يريد الاطِّلاعَ على المنتجات الخاصةِ بإقليمِ الأماكنِ التي يجاوزها وطريقةِ زراعتها؟ ومَن ذا الذي يكون على شيءٍ من الميلِ إلى التَّارِيخ الطبيعي، فيُمكِن أن يَمُرَّ على أرضٍ من غيرِ أن يَدرُسَها، وعلى صخرةٍ من غيرِ أن يَكْسِرَ شيئًا من أطرافها، وعلى جبالٍ من غيرِ أن يفحصَ نباتها، وعلى حصباءَ من غيرِ أن يبحثَ عن مُسْتَحَاثاتٍ بينها؟ ويدرُس فلاسفةُ الأزِقَّةِ عندكم التَّارِيخَ الطبيعيَّ في غُرَفٍ للمطالعة، ولديهم نماذجُ صغيرة، وهم يَعرِفون الأسماء، وليس عندهم أيُّ فكرٍ عن الطبيعة، غيرَ أن غرفة إميلَ للمطالعة أغنى من غُرَف الملوك؛ فهي الأرضُ بأسْرِها، وكلُّ شيءٍ فيها في مكانه، وقد عُنيَ العالِمُ الطبيعيُّ بترتيب جميع ذلك وَفْقَ نظامٍ متينٍ رائع، وما كان دوبنتون ليصنع خيرًا من ذلك.
وما أكثرَ ما يُجمَع من ملاذَّ مُنوَّعةٍ بهذا النَّمط المستحبَّ من السياحة! فالمِزاج يبتهج، دَعِ الصحةَ التي تتقوَّى. وممن شاهدتُ دائمًا أولئك الذين يسافرون في عرباتٍ جميلةٍ مُريحةٍ فيَبْدون حالِمين أو مُكتئبين أو مُهَمهِمِين أو متوجِّعين. وممن شاهدتُ أولئك الذين يسافرون ماشين فيبدُون دائمًا نُشَطاء فرِحين راضين بكلِّ شيء، وما أكثرَ ما يَطْرَب القلبُ عند الاقترابِ من البيت! وما أكثرَ ما تظهَر الوجبةُ الغليظةُ لذيذة! ويا لَلَّذةِ التي تكونُ عند الاستقرارِ حوْل المائدة! ويا للنومِ المستطابِ في سريرٍ رديءٍ! إذا لم يُرغَبْ في غيرِ الوصولِ أمكَنَ العدْوُ بعربةِ بريد، وإذا ما أُريدت الرحلةُ وجب السيرُ مشيًا.
وإذا لم تُنسَ صوفيةُ قبْلَ قَطْعِنا خمسين فرْسخًا على الوجه الذي أتصوَّر وَجَبَ أن أكونَ فاقدَ اللَّباقةِ أو أن يكون إميلُ قليلَ الفُضول؛ وذلك لأن من الصعب مع تلك المعارفِ الابتدائيةِ الكثيرةِ ألَّا يحاول نيْلَ معارفَ أكثرَ مما اكتسب، والإنسانُ لا يكون ذا فُضولٍ إلا بنسبةِ ما تَعلَّم، ولدى إميلَ من العرفان الكافي ما يريد معه أن يتعلَّم.
ومع ذلك، فإن الشيء يسوق إلى شيءٍ آخر، ونحن نتقدَّم دائمًا، وقد جعلتُ لجَوْلتنا الأُولى حَدًّا بعيدًا، والذريعةُ سهلة، فلما غادرنا باريسَ وجبَ البحثُ عن امرأةٍ في مكانٍ قاصٍ.
وقد ضللْنا طريقَنا بعد بضعةِ أيامٍ قضيناها، زيادةً على العادةِ، بين الأودية والجبال؛ حيث لا يُرى أيُّ طريقٍ كان، ولا ضَيْر؛ فكلُّ طريقٍ صالحٌ بشرط الوصول، ولكن لا بُدَّ من بلوغ مكانٍ ما عند وقوع الجوع. ومن حُسْن الحظ أن وجَدْنا فلَّاحًا أتى بنا إلى كُوخِه، فأكلنا بشهوةٍ كبيرةٍ ما قدَّم من غَداءٍ هزيل، وقد قال لنا إذ رآنا كثيري التعب والجوع: «لو ساقكم الرَّب الكريم إلى الناحية الأخرى من التَّل لقُبِلْتُم بأحسنَ مما قُبِلْتُم هنا، ولوجدْتم منزلًا مُريحًا، وأناسًا كثيري الإحسان، كثيري اللطف! أجلْ، إنهم ليسوا أطيبَ منِّي جَنانًا، ولكنهم أكثرُ منِّي غِنًى، وإن قيل إنهم كانوا في الماضي أفضل حالًا، وهم لم يفتقروا والحمد لله، وجميعُ البلد يَعْلَمُ ما بقيَ لهم.»
سمِع إميلُ هذه الكلمةَ التي تَصدُر عن الصالحين فانشرح صدره، وقد قال وهو ينظر إليَّ: «لنذهبْ يا صديقي إلى ذلك المنزلِ الذي يُبَارِك لأصحابه جميعُ الجِوار، فيَسُرُّني كثيرًا أن نراهم، وقد يُسَرُّون بأن يَرَونا، وإني لواثقٌ بأنهم يُحسِنون قبولَنا، وسيُلائموننا كما نلائمهم.»
ونَذهب بعد أن نُدَلَّ على الطريق جيِّدًا، ونَضِلُّ في الغاب؛ فقد فاجأَنا مطرٌ غزيرٌ ونحن سائرَين، ويعوقُنا المطرُ من غير أن يَقِفَنا، وأخيرًا نَجِدُ سبيلَنا، ونَصِلُ مساءً إلى المنزل المُعيَّن لنا؛ ولهذا المنزلِ الوحيدِ مع البساطةِ بعضُ المنظر في الضَّيْعة التي تحيط به، ونُقدِّم أنفسَنا، ونطلُب الضِّيافة، ونُكلَّف بمكالمة صاحب المنزل، ويسألُنا بأدب، ونُخْبره بسبب سلوكنا الطريقَ الأطولَ من غيرِ أن نُبيِّنَ له غَرَضَ رِحلتنا، وكان قد احتفظ من سابقِ يُسْرِه بسهولةِ معرفته لحال النَّاس من خِلال أوضاعهم. ولا عَجَب؛ فإن من النادر أن يُخْدَعَ بها مَن عاش معاشِرًا للناس في مجتمعاتهم، فكان لنا بجواز السفر ذاك ما أسفَر عن قبولنا.
ونُدَلُّ على غُرْفةٍ صغيرةٍ جِدًّا، ولكنها نظيفةٌ مُريحة، وتُوقَد النار، ونجد فيها بَيَاضاتٍ وثيابًا وكلَّ ما نحتاج إليه، ويقول إميلُ دَهِشًا: «ماذا! يَظُنُّ الإنسانُ أنهم كانوا ينتظروننا! حقًّا كان الفلَّاح على حَقٍّ! يا للانتباه! يا للصلاح! يا للحذَر! حتى نحو الغرباء! أراني في زمنِ أُومِيرُس.» وأقول له: «يسرُّني شعورُك بجميع هذا، ولكن لا تعجب منه؛ ففي كلِّ مكانٍ يَندُر فيه الغرباء يُحسَن قبولُهم، ولا شيءَ يجعَل الرجلَ أكثرَ قِرًى من عدم الاحتياج إلى قِراه غالبًا؛ فكثرةُ الضيوف هي التي تقضي على القِرى، فالنَّاس في زمن أُومِيرس كانوا لا يسافرون مُطلَقًا، وهم إذا ما سافروا تُقُبِّلوا قبولًا حسنًا في كل مكان، وقد نكون وحدَنا كلَّ مَن رُئيَ هنا من المسافرين في العام كلِّه.» ويقول إميل: «لا ضَيْرَ، إن من دواعي الثناء أن يُستغنَى عن الضيوف وأن يُحسَن قبولُهم دائمًا.»
ونُجفِّفُ أنفسنا ونُقوِّم ثيابنَا، ونذهب لِلقاء رَبِّ البيت، ويُقدِّمنا إلى زوجته، وتستقبلنا بأدبٍ ودَعَة، وتُوجِّه نظراتِها إلى إميل، ومن النادرِ أن تَرى أمٌّ في مِثل حالها دخولَ شابٍّ بيتَها من غيرِ أن يعتريها هَمٌّ أو فُضُولٌ على الأقل.
ويُعَجَّلُ تقديمُ العَشاء إكرامًا لنا، وندخل غرفة الطعام، ونرى خمسة كراسٍ مُعَدَّة، ونجلس ويبقى أحدُ المقاعد خاليًا، وتدخل فتاة، وتحنو رأسَها احترامًا، وتجلس جلوسَ حَياءٍ من غيرِ أن تتكلم. ويكون إميلُ مُفكِّرًا في جوعه أو في أجوبته، فيُسلِّم عليها ويتكلَّمُ ويأكل، ولا يزال غرضُ رحلته الرئيسُ بعيدًا من ذهنه بُعْدًا يَعتقدُ معه أنه ناءٍ عن المقصود. ويدور الحديثُ حوْل تَيَهان المسافرَيْن، ويقول ربُّ المنزل لإميلَ: «يلوح لي أيها السيد أنك فتًى لطيفٌ عاقل، ويُذكِّرُني وصولُك أنت ومُعلِّمُك إلى هنا تَعِبَيْن مُبلَّلَيْن بتِلِماك والمرشد في جزيرة كَلِبْسُو.» ويُجيب إميلُ بقوله: «حقًّا أننا نَجِدُ هنا قِرَى كَلِبْسُو.» ويضيف مرشدُه إلى هذا القول: «وفُتون أُوكارِيس.» بَيْدَ أن إميلَ يَعْرِف الأُوذيسة، ولم يَقرأ تِلِماك قَط، فلا يَعْلم شيئًا عن أُوكارِيس. وأمَّا الفتاةُ فقد احمَرَّ وجهُها حتى العينَين، وتَغُضُّ طَرْفَها على الطَّبق، ولا تكاد تتنفَّس، وتلاحظُ أمُّها ارتباكَها، وتُوعِزُ إلى الأب بإشارةٍ فيُغيِّرُ الحديث. وهو إذ يتكلم عن عُزلته يأخذ في الحديث من حيث لا يشعُر حول الحوادثِ التي أدَّت إلى التزامه إياها، وحول ما كان من مصائبِ حياته، وما كان من ثباتِ زوجته، وما وَجَد من سُلْوانٍ في قِرانهما، وما يَجِدان من حياةٍ حُلوةٍ هادئةٍ في عُزْلتهما، وذلك من غيرِ أن يقولَ كلمةً عن الفتاة. وتتألَّف من جميع هذا قصةٌ لطيفة مؤثِّرة لا تُسمَع من غيرِ اهتمام، ويهتزُّ إميلُ ويَرِقُّ ويَنْقَطع عن الطعام ليستمع، ثُمَّ لمَّا تكلَّم ذلك الذي هو أصلحُ الرجال مُغْتبطًا عن حُبِّ أفضلِ النساء ساوَرَ الفتى المسافر وَجْدٌ فأمسك بإحدى يدي الزوج وصافحها وتناول بيده الأخرى يدَ الزوجة ومال إليها هائجًا مُبلِّلًا إياها بدموعه، ويؤثِّر الشابُّ في الجميع بهياجِه الساذج، وتكون البنتُ أكثرَ مَن تأثَّر بهذا الدليلِ على قلبه الطيب، فتظنُّ أنها تُشاهدُ تِلِماك حزينًا على مصائبِ فِيلوكْتيت، وتَنظُرُ إليه خُلْسَةً لتفحصَ وجهه جيِّدًا فلا تَجِد شيئًا يُكذِّب المقارنةَ، وتَنِمُّ طلاقةُ وجهه على الحرية بلا عُنْجُهِيَّة، وتَنِمُّ أوضاعُه على النشاط بلا طيش، وتجعل حساسيتُه نظراتِه أكثرَ عذوبةً وتجعلُ سِيماه أكثرَ تأثيرًا، وتَكاد الفتاة تمزُجُ دمعَها بدمعِه حينما رأته باكيًا، ويُمسِكها حياءٌ خفيٌّ مع وجودِ عُذْرٍ رائعٍ لها إذا ما بَكَت، وقد لامت نفسَها على سَكْبِ عَبَراتٍ كادت تُفلِت من عينيها كما لو كان ذَرْفُها شُؤمًا على آلِها.
وتُبصِرُ أمُّها التي ما فتئت تَرْقُبُها منذ البُداءة كرْبَها، فتُنْقِذُها منه بإرسالها للقيام بأمر، وتَمُرُّ دقيقةٌ فتعُود الفتاة، ولكن مع سوءِ شفاءٍ ظهر معه اضطرابُها لجميع الأعين، وتقول لها أمُّها برفقٍ: «أيْ صوفية، اضبطي نفسَك، وكُفِّي عن البكاء على مصائبِ أبوَيْك، ولا تكوني أكثرَ تأثُّرًا منهما حوْل بلاياهما وأنت التي تُسْلِيهما عنها.»
ويا ليتكم رأيتم ارتعاشَ إميلَ عند ذكر اسم صوفية؛ فقد قَرَع سمْعَه هذا الاسمُ العزيزُ كثيرًا، وانتبه مرتجفًا، وألقى نظرةَ وَلَعٍ على تلك التي تجرؤ على حَمْله؛ صوفية! واهًا لصوفية! أأنتِ التي ينشُدُها فؤادي؟ أأنت التي يُحبُّها قلبي؟ وينظر إليها ويتأملها مع شيء من الهلع والحذَر، ولا يَرى الوجْهَ الذي رسَمَه لنفسه تمامًا، ولا يَدْري هل الذي يَرى يشابهه كثيرًا أو قليلًا، وهو يدرُس جميعَ ملامحها ويَرْقُبُ كلَّ حركةٍ وإشارةٍ منها، فيَجِدُ لكلٍّ من هذه الأمور ألفَ تفسيرٍ غامض، ويَوَدُّ أن يَهَبَ نصفَ حياته لو تنطِق بكلمة، وهو يَنظر إليَّ جَزُوعًا مضطربًا، وتُلقي عيناه عليَّ مائةَ سؤال ومائةَ عتابٍ معًا، فكأنه يقول لي عند كلِّ نظرةٍ: «أرْشِدني، فلا يزال يوجد وقت، فإذا ما أذعن فؤادي وزَلَّ فلا شفاء لي منه مُطلَقًا.»
وإميلُ أقلُّ مَن في العالَم قدرةً على التنكُّر، وكيف يتنكَّر وقد اعتراه أعظمُ اضطرابٍ في حياته بين أربعة نُظَّارٍ يفحصونه، فيكون أكثرُهم تشاغُلًا عنه أكثرَهم انتباهًا إليه بالحقيقة؟ وما كان ارتباكُه ليخفَى على عينَيْ صوفيةَ النفَّاذتَين مطلقًا، ومع ذلك فإن عينيه تُخبرانها بأنها هي المقصودة، وهي تبصرُ أن هذا الهلع ليس من الحب، ولكن ما أهمية ذلك؟ فهو يَشْغَل بالَه بها، وهذا يكفي. ومن شقائها الشديد أن يَصرِف همَّه إليها بلا عِقاب.
وللأمهات عيونٌ كبناتهن فضلًا عن التجرِبة، وتبتسم أمُّ صوفيةَ لنجاح خِططنا، وهي تقرأ ما يدور في خَلَد الشابَّيْن، وهي تبصِر أن الوقت حَلَّ لثبات فؤاد تِلِماك الجديد، فتحمل ابنتها على الكلام، وتُجِيب ابنتُها، مع دَعَتِها الفطرية، بصوتٍ ينِمُّ على الحياء فيكون له أبلغُ الأثر. ويستسلم إميلُ عند أوَّل رَنَّةٍ لهذا الصوت؛ فهذه هي صوفية، ولا يشُكُّ في هذا، ولو كان الأمرُ غيرَ هذا لجاء إنكاره متأخِّرًا جِدًّا.
وهنالك يتدفَّق فُتُون هذه البنتِ الساحرةِ إلى فؤاده كالسَّيْل، وهنالك يأخذ في ابتلاع السُّمِّ الذي تُسْكِرُه به على جَرَعاتٍ طويلة، وعاد لا يتكلَّم، وعاد لا يُجيب، وصار لا يرى غيرَ صوفية، وصار لا يسمع غيرَ صوفية، فإذا ما نطقت بكلمةٍ فتح فاه، وإذا ما كَسَرتْ من طَرْفِها غضَّ من طَرْفِه، وإذا ما أبصرها تتأوَّه تأوَّه، فيظهر أن رُوحَ صوفية هو الذي يُحرِّكه. ويا لَتغيُّر رُوحها في أُويقات! والآن أتى دورُ إميلَ في الارتعاش، لا دورها، والآن وداعًا أيتها الحرية والسذاجة وسلامة القلب، وقد عاد لا يَنْظُر إلى مَن حوْله عن اضطرابٍ وارتباكٍ وجَزَع، وخشيةَ أن يَرَى أنه يُنظَر إليه، ويَسْتَحِي أن يُنفَذَ إلى سريرته فيَودُّ لو يَخْفَى على جميع النَّاس حتى يَشبْعَ من تأمُّلِها بإحكامٍ بعيدًا من العيون، وعكسُ هذا حالُ صوفية التي اطمأنَّت إلى وَجَل إميلَ فأبصرتْ نَصْرَها وسُرَّت به.
«هي لا تبديه، وإن كانت تُسَرُّ به في فؤادها.»
أجلْ، إنها لم تُغيِّر سِيماها، بَيْدَ أن فؤادها مع هذا الوَضْعِ المتواضِعِ وخفْضِ طَرْفها، يَخفِقُ فرَحًا فيُخبِرها بأن تِلِماك قد وُجِد.
وإذا ما تناولتُ هنا قصةَ هواهما العُذْري الساذج البسيط إلى الغاية عُدَّت هذه التفصيلات من التُّرَّهات على غيرِ حَق، وذلك أنه لا يُنظَر بما فيه الكفاية إلى ما يجب أن يكون لأوَّلِ اتصالٍ بين الرجل والمرأة من تأثيرٍ في مجرى حياةِ كُلٍّ منهما، ولا يُرى أنه يَكون للانطباع الأوَّل القويِّ، كانطباع الحُبِّ أو المَيلِ الذي يقوم مقامَ الحُب، من التأثير الطويل ما لا يُبصَر معه تسلسلُه بمرور السِّنين مُطلَقًا، ولكنه لا يَنقطع عن العمل حتى الموت. ويُعْرَضُ علينا في كتبِ التَّربية حَشْوٌ كبيرٌ غيرُ مُجْدٍ، وقائمٌ على الحذْلقة، حوْل واجبات الأولاد الوهمية، فلا تُذْكرُ لنا كلمةٌ فيها عن أهمِّ أقسام التَّربية وأصعبها، أيْ عن أزْمة الانتقال من دَوْرِ الوَلُودِية إلى دَوْر الرجولة. وإذا كنتُ قد استطعتُ أن أجعل موضوعاتي مفيدةً فذلك لتوسُّعي في هذا القسم الأساسيِّ الذي أَهمله الآخرون، ولأنني لم أرتدَّ عن عملي بالدقائق الزائفة ولا بمصاعبِ التعبير، وإذا كنتُ قد قلتُ ما يجِبُ أن يُصنَع فإنني قلتُ ما وَجَبَ عليَّ أن أقول، ولا يُهِمُّني أن أكتب روايةً إلا قليلًا، وتُعَدُّ روايةُ الطبيعة البشرية رائعة، وهل يقعُ الذنبُ عليَّ إذا لم تُوجَد في غيرِ هذا الكتاب؟ ويجب أن تَكون هذه قصةَ نَوعي، وأنتم إذ تُفسِدون هذا النوعَ تَجعلون من كتابي رواية.
ويُوجَدُ باعثٌ آخَرُ يؤيِّد الأوَّل، وذلك أن الأمرَ هنا لا يَدورُ حوْل فتًى أُسلِمَ منذ دَوْر الطفولة إلى الخوف والطمع والحسد والزَّهو وجميع الأهواء التي تَصلح أن تكون وسائلَ للتربيات الشائعة، وإنما يَدور حوْل فتًى يساوِرُه هنا أوَّلُ حُبٍّ فضلًا عن أوَّلِ هَوًى من كلِّ نوع، ويتوقَّف آخرُ طَورٍ يكتسبه طبْعُه على هذا الهوى الوحيد الذي سيشعُر به شعورًا قويًّا ما دام حَيًّا على ما يحتمل، وستنال طُرُزُ تفكيرِه ومشاعرُه وأذواقُه، الراسخةُ بهوًى دائم، ثباتًا لا يَدَعُ لها مجالًا تفسُدُ فيه.
ويُدْرَكُ أن الليلة التي تَعقُب مِثلَ تلك السهرة لا تُقْضى كلُّها في النوم من قِبَلي وقِبَل إميل، وهل يُوجِب تَوافُقُ الاسمِ وحدَه مِثلَ ذلك التأثيرِ في رَجُلٍ عاقل؟ ألَا يوجد غيرُ صوفيةٍ واحدةٍ في العالَم؟ وهل يتشابه جميعُهن رُوحًا واسمًا؟ وهل كلُّ صوفيةٍ يَرَاها هي صوفيَتُه؟ وهل بَلغ من الجنون ما يُولَع معه بمجهولةٍ لم يُكلِّمها قَط؟ انتَظِر أيها الرَّجل وافحص، ولاحظ، حتى إنك لا تعرف مَن هو مُضَيِّفُك، ومَن يَسمعْك يَظن أنك في منزلك.
وليس هذا وقتَ الدروس، ولم تُوضَع هذه الدروس لِتُسمَع، وهي لا تَصْنع غيرَ إثارتها لدى الفتى رَغبةً جديدةً في صُوفيةَ تَسويغًا لميله إليها، ولم يؤدِّ هذا التوافق في الأسماء وهذا اللقاء الذي يَعْتقد وقوعَه اتفاقًا، حتى تَحفُّظي، إلى غيرِ تحريك حُمَيَّاه، وقد بدتْ صوفيةُ له من جدارتِها بالتقدير البالغ ما شَعَرَ معه باستطاعته أن يُحَبِّبَها إليَّ.
وفي الصباح ساورني شَكٌّ في محاولةِ إميلَ أن يَجْعلَ نفسَه زاهيًا بثيابِ رِحْلتِه الرديئة، ولم يُعْوِزه الأمر، ولكنني ضَحِكتُ من اكتفائه بثياب المنزل، وأنْفُذُ في أفكاره، وأقرأ فيها مسرورًا محاولتَه القيامَ بمبادلاتٍ حين إعداده وسائلَ للإعادة، وإقامتَه ضَرْبًا من المراسَلة يَجْعل له حقًّا في الردِّ والعَوْدِ إلى هنالك.
وقد انتظرتُ أن أجِدَ صوفيةَ أحسنَ لباسًا من ناحيتها أيضًا، فكنت مخطئًا في ذلك، وذلك أن الدَّلَال المبتذَل صالحٌ لمن يُرِدن الوقوعَ موقعَ الرِّضا، وأمَّا دَلالُ الحبِّ الحقيقي فأكثرُ دِقَّة، وهو ذو مزاعمَ كثيرةٍ أخرى، وبَدَتْ صوفيةُ أبسطَ ثيابًا مما كانت عليه عَشيَّة، حتى إنها ظَهرت أكثرَ تهاونًا مع نظافةٍ بالغةٍ دائمًا، ولا أرى دلالًا في هذا التهاون إلا لأنني أرى فيه تظاهُرًا. أجَلْ، إن صوفيةَ تَعْرِف جَيِّدًا أن الإفراط في الزينة يَنْطوي على تصريح، ولكنها لا تَعْرف أن التهاونَ بالزينة ينطوي على تصريحٍ آخر، وهي تَدلُّ على أنه لا يُكْتَفَى في الرَّوَقان بحُسْن الثياب، بل يُوقَعُ بالشخص موقِعَ الرِّضا، والآن ما أرَبُ العاشقِ بثيابها إذا ما رأى أنها تُفكِّر فيه؟ وتَطمئنُّ صُوفْيَةُ إلى سلطانها على إميلَ فلا تقتصر على وقْف عينيه بفُتونها إذا لم يبحث فؤادُه عن هذا الفُتون، وقد عادت لا تكتفي بأن يلحظَ هذا الفُتون، وإنما تريد أن يَفترِضه، أَوَلَم يُبْصِر منه ما فيه الكفاية حتى يُضطَرَّ إلى التَّنبُّؤ بالبقية؟
ويُظَنُّ أن صُوفيةَ وأمَّها لم تَبْقيا صامتتَين في أثناء حديثنا في تلك الليلة؛ فهنالك اعترافاتٌ قد نُزِعَت وأوامرُ قد صدرتْ، وفي الغد يُحْسَن إعدادُ الاجتماع، ومنذ اثنتي عشرةَ ساعةً لم يجتمع الفَتَيان، ولم يُكلِّم أحدُهما الآخرَ بكلمةٍ حتى الآن، وكان قد رُئي توافقُهما، وليس تقابلُهما مألوفًا؛ فهو مشوبٌ بالحياء والارتباك، ولا يَنطقان مطلقًا، ويظهر أن عينَيْ كلٍّ منهما مُجانِبتَين لعينَي الآخر، حتى إن هذا دليلٌ على التفاهم. أجلْ، ذاك تَجانُبٌ، ولكن مع اتفاق. ويَشعُران بحاجةٍ إلى الكتْمان قبْل قولِهما كلمة، ولمَّا انصرفنا طَلَبْنا أن يُؤذَن لنا في العَوْد بأنفسنا لإعادة ما نأخذ معنا، ويَطلُب إميلُ هذا الإذنَ من الأبِ والأمِّ بفَمِه، على حينِ كانت عيناه الجَزُوعَان مُوجَّهتَين إلى الفتاة طالبتَين منها بإلحاح، ولا تَنْطِق صوفيةُ بكلمة، ولا تأتي بإشارة، ولا تَظْهرُ أنها ترى شيئًا أو تسمع قولًا، ولكنها تحمَرُّ خجلًا، وهذا الحياءُ جوابٌ أوضحُ من جواب الأبوين.
ويُسمَحُ لنا بالرجوعِ من غيرِ أن نُدْعى إلى البقاء، وهذا سلوكٌ ملائم، فإذا أُذِن للمسافرين الذين دَهَمَهم الظلامُ في المَبَاتِ فإن من غيرِ اللائق أن ينام عاشقٌ في بيت خليلته.
ولم نَكدْ نغادرُ هذا المنزلَ العزيزَ حتى رأى إميلُ أن نُقيمَ بالجِوار، ويَلوحُ له أن أقربَ منزلٍ بعيدٌ جِدًّا، فوَدَّ لو يَنامُ في خندقِ القصر، فأقول له عاطفًا: «أيها الفتى الطائش! ماذا! هل أعماك الهوى؟ أراك لا تُراعي اللياقةَ والعقل! يا لك من تَعِس! تعتقد أنك تُحِبُّ ثُمَّ تُريدُ فَضْحَ خليلتك! ما يُقال عنها إذا عُلِم أن فَتًى خَرَج من منزلها ونام في جوارها؟ أنت تقول إنك تحبُّها! فهل تريد القضاءَ على سُمْعتها إذَنْ؟ أهذا ثَمنُ القِرَى الذي حبَانا به والداها؟ أتُلحِقُ عارًا بتلك التي تَنْتظرُ سعادتَك منها؟» ويجيب بحرارةٍ قائلًا: «والآن! ما أهميةُ هَذْرِ النَّاس ورِيَبِهم الجائرة؟ ألم تُعلِّمْني ألَّا أُقيمَ لذلك وَزْنًا؟ ومَن يَعْرِف أكثرَ منِّي مقدارَ ما أُجِلُّ صوفيةَ وما أريدُ لها من إكرام؟ لن يَكونَ وَلعي بها عارًا، بل يوجِب لها افتخارًا، وسيكون جديرًا بها. وإذا ما قام فؤادي وجهودي في كلِّ مكانٍ بما تستحقُّ من تبجيل، فبأي شيءٍ أكون قد أهَنْتُها؟» وأرُدُّ إلى إميلَ معانقًا: «أيْ إميل العزيز، أنت تتعلَّلُ بالأمر من حيث وِجهة نظرك، فتعلَّمْ تقليبَ الأمرِ من أجْلِها، ولا تَقْرِن شرفَ أحد الجنسين بشرف الجنس الآخر مُطلَقًا؛ فلكلٍّ منهما مبادئُ تختلف عن مبادئِ الآخرِ كلَّ الاختلاف، وهذه المبادئ متينةٌ صائبةٌ على السواء لاشتقاقها من الطبيعة على السواء، وما عندك من فضيلةٍ تَحْمِلُك على ازدراء كلام النَّاس يُلزِمُك باحترام هذا الكلام من أجْل خليلتك، فإذا كان شَرَفُك قائمًا فيك وحدَك فإن شرفَها يتعلَّق بالآخرين؛ فإهمالُ هذا الشرف ينطوي على إهانةٍ لشرفِك أيضًا، وليس سوى امتهانٍ منك لِمَا هو واجبٌ عليك ألا تَصنع ما هي أهلٌ له من الاحترام.»
وهنالك فَصَّلتُ له أسبابَ هذه الفروق؛ فأشعَرْتُه بما يكون من بَغيٍ في عدم الاكتراث لها، ومَنْ قال له إنه سيكون زوجًا لصوفيةَ، وهي التي يَجْهل مشاعرَها، وهي التي قد يكون قلبُها وأبواها مرتبطَيْن بعهودٍ سابقة، وهي التي قد لا يكون بينه وبينها من الموافقات ما يُمكن أن يجعل قِرانَهما سعيدًا؟ وهل يجهل أن كلَّ عارٍ يُصيبُ البنت دَنَسٌ لا يُمحَى، وأنه لا يَزول حتى بتزوُّجِها الذي أوجبَ هذا العارَ لها؟ والآن! مَن هو الرجل الحسَّاس الذي يريد أن يَفقد مَن يُحِب؟ وأيُّ رجلٍ صالحٍ يُريد أن يُوجِبَ إلى الأبد بكاءَ شقيَّةٍ تَعَسَ وقوعِها موقعَ الرِّضا لديه؟
ويَخشى الفتى ما أطلعتُه عليه من النتائج، وبما أنه يَلْزم أقصى حدٍّ لأفكاره دائمًا، فإنه يُبصِرُ أنه لا يزال غيرَ بعيدٍ من منزل صوفية بما فيه الكفاية، فيضاعف خَطْوَه إمعانًا في الفِرار، ويَنظُر حوْلنا ليرى هل يَسمعنا أحد. ولا غَرْو؛ فهو يُضحِّي بسعادته ألفَ مرة في سبيلِ شرفِ مَن يُحِب، وهو يُفضِّلُ ألَّا يراها ثانيةً مدَى حياته على أن يُكدِّرَ صفوَها مرةً واحدة، وهذه هي الثمرة الأُولى للعناية التي حَبَوْتُه بها منذ صباه كيما أجعَلُ له قلبًا يَعرِف أن يُحِب.
ولذا فإن الأمرَ يَدُورُ حوْل وجودِ ملجأ بعيدٍ على ألَّا يكون كثيرَ البُعد، ونبحث ونستعلم، ونَعلم وجودَ مدينةٍ بعيدةٍ فرسخَيْن، ونحاول أن نجِدَ لنا مسكنًا فيها، مُفضِّلين إياه على مسكنٍ في القُرى الأكثرِ قُرْبًا حيث تكون إقامتُنا محلَّ شُبْهة، وأخيرًا يصل إلى هناك عاشقٌ جديدٌ مملوءٌ حُبًّا وأملًا وسرورًا، ومشاعرَ طيبةً على الخصوص؛ ومِنْ ثَمَّ ترى كيف وَجَّهتُ بالتدريج هواه الناشئ نحوَ ما هو صالحٌ شريف، وكيف أعددتُ جميعَ مُيولِه لسلوك ذاتِ القصد.
وأدْنو من آخرِ عملي، وأُبصِرُ ذلك من بعيد، وقد ذُلِّلَت جميعُ المصاعب الكبيرة، وقد اقتُحِمَت جميعُ العقبات العظيمة، ولم يبقَ لديَّ من المشاقِّ ما أُسَوِّي غيرُ عدمِ إفسادِ صُنْعي بإسراعي في إنجازه، ولْننظُرْ إلى ما تنطوي عليه حياةُ الإنسان من قلقلة، فنَجْتنِبَ على الخصوص ذاك الحَذَرَ الزائفَ القائلَ بأن يُضحَّى بالحاضر في سبيلِ المستقبل، وذلك لِمَا يَعني هذا غالبًا من التضحية بما هو كائنٌ في سبيلِ ما لا يكون مُطلَقًا، ولنجعلِ الإنسانَ سعيدًا في جميعِ أدوارِ عُمُره، وذلك خشيةَ أن يموت قبْل أن ينالها مع كلِّ ما يُبذَل من جهودٍ. والواقع أنه إذا وُجِدَ وقتٌ يُتمتَّعُ فيه بالحياة، فذاك لا ريب هو دَور الشباب حيث تكون قُوَى الروح والبدن أعظَمَ نشاطٍ فيها، وحيث يُبصِرُ الإنسانُ في وَسَط سباقه من بعيدٍ ما يُشعِرُه بِقِصَرِها من حدَّيْن، وإذا ما خُدِع الشبابُ الغافلُ لم ينشأ هذا عن كونه يُريدُ أن يتمتَّع، بل عن كونه يبحثُ عن التمتُّع حيث لا يكون مطلقًا، وهو إذ يُعِدُّ نفسَه لمستقبلٍ بائسٍ لم يَعْرِفْ حتى الاستمتاعَ بالساعة الحاضرة.
واحسُبُوا إميلَ بعد إتمامِه العشرين من عُمُره، حَسَنَ التنشِئة، حَسَنَ التكوين رُوحًا وبَدَنًا، قويًّا سليمًا نشيطًا رشيقًا عُصْلُبيًّا، مملوءًا إحساسًا وعقلًا وصلاحًا وإنسانية، صاحبَ أخلاقٍ وذوق، مُحِبًّا للجمال، فاعلًا للخير، خاليًا من الأهواء الجامحة، بريئًا من نِيرِ المُبْتَسَر، ولكن مع خُضوعٍ لسلطانِ العقل، مجيبًا لداعي الصداقة، حائزًا لجميع المواهب النافعة، ولكثيرٍ من المواهب المستحبَّة، قليلَ المبالاة بالثروات، معتمدًا في عيشه على ذراعيه، غيرَ خائفٍ أن يُعْوِزَه الخبزُ مهما حَدَثَ، والآن تَراه نَشْوانَ بِهوًى ناشئ، فيتفتَّح فؤادُه لأُولَى نيرانِ الغرام، وتصنَعُ له أوهامه الحُلوة عالمًا جديدًا من النعيم والاستمتاع، ويُحِبُّ بُغْيَةً مُبْتَغاةً، وهي تُبتَغى بأخلاقها أكثرَ مما بشخصها، وهو يأمُل وينتظر ما يُحِسُّ استحقاقَه له من ثواب.
ومِن تواصُلِ القلوب وتسابُقِ المشاعر الصالحة تألَّف ميلُهما الأوَّل، وهذا المَيْلُ هو ما يجب أن يظلَّ باقيًا، ويَسْتسلِم هذا المَيْلُ مطمئنًّا، ومُحِقًّا أيضًا إلى هَذيانٍ بالغ، وذلك بلا وجَلٍ وأسفٍ وندم، وبلا هَلَعٍ آخرَ غيرِ الذي لا يَنفصِلُ حِسُّ السعادة عنه، وما يُمكِن أن يُعْوِزَه هنالك؟ انظروا واستعلِموا وتصوَّروا كلَّ ما يحتاج إليه بعدُ، وكلَّ ما يُمكِنُ أن يُمنَح زيادةً على ما لديه، وهو يَجمَع جميعَ الخيرات التي يُمكن أن تُنال معًا، ولا يُمكِن أن يُضاف إليها شيءٌ إلا على حساب شيءٍ آخر، وهو سعيدٌ بأقصَى ما يستطيع الإنسان، وهل أختَصِرُ الآن نصيبًا بالغَ الحلاوة؟ وهل أُكَدِّرُ صفوَ شهوةٍ بالغةِ النقاء؟ آه! إن كلَّ قيمةٍ للحياةِ قائمةٌ ضِمْنَ ما يَذوق من سعادة، وما أستطيع أن أُعيدَ إليه في مقابلِ ما أكون قد نَزَعْتُ منه؟ حتى إنني لو أطْفَحْتُه سعادةً لعُدِدْتُ بذلك مُقوِّضًا أعظمَ فُتُونٍ عنده، وهذه السعادةُ العليا هي أحْلَى مائة مرةٍ بأن تُؤْمَل مما بأن تُنال، وهي يُتَمتَّع بها عندما تُنتظر بأفضلَ من أن تُذاق. ويا إميلُ الصالح، أَحِبَّ وكُن محبوبًا، وتمتَّع زمنًا طويلًا قبْل أن تَحُوز، وتمتَّعْ بالغرام والطُّهر معًا، واجعلْ جنَّتك في الأرض منتظرًا الجَنَّة الأخرى، ولن أختَصِرَ هذا الدَّورَ السعيد من حياتك مُطلَقًا، وسأغزِلُ لك منه فُتُونًا، وسأُطيل مداه ما أمكنني ذلك. واهًا! يجب أن ينتهي، وأن ينتهي في وقتٍ قصير، ولكنني سأبذل من الجهد ما يبقى معه قائمًا في ذاكرتك على الأقل، فلا تندمُ على ذوقك إياه مُطلَقًا.
ولم يَنسَ إميلُ أن لدينا ما نُعِيد، فإذا ما أُعِدَّ تناوَلْنا خَيْلًا وانطلقنا عَدْوًا، وإميلُ في هذه المرة يُريد الوصولَ، ومتى فُتِحَ الفؤادُ للهوى انفتح لسَأَم الحياة، وإذا لم أُضِعْ وقتي لم يَقْضِ حياتَه هكذا.
ومن المؤسفِ أن يكون الطريقُ مشتبكًا والبلدُ صعبًا، فنَضِلُّ، ويَكون أوَّلَ مَن يُدْرِك ذلك، ولا يَجْزَع ولا يَتوجَّع، وإنما يَصرِف جميعَ انتباهه في لُقيان الطريق، ويَجُول طويلًا قَبْلَ أن يَعْرِف أين هو، وذلك مع ضبْطٍ للنَّفسِ دائمٍ. أجلْ، إن هذا أمرٌ لا يستحقُّ الذِّكر عندكم، ولكنه أمرٌ مهمٌّ عندي، أنا الذي يَعرِف مقدارَ اهتمامه عن طَبْع، وأُبصِرُ ثمرةَ الجهودِ التي بَذَلْتُ منذ صباه لِجعْلِه يَحتمِل ضربات الضرورة.
ولم يلبث هذا المنظرُ الصغير أن نُسيَ أو ظهرَ أنه نُسيَ، ومن حُسْنِ حظِّ صوفيةَ أن إميلَ وحدَه هو الذي لم ينتبه إلى ما وقع. وتَدوم النُّزهة، وقد شَقَّ على الفتَيَيْن، اللذين كانا بجانبنا في البُداءة، أن يُنظِّما نفسَهما وَفْقَ بُطء سيرنا؛ فهما يسبقاننا من حيث لا يشعران، ويتدانيان ويتقاربان في آخرِ الأمر، ونراهما على شيء من البُعدِ أمامنا، وتظهَرُ صوفيةُ منتبهةً رزينة، ويتكلَّم إميلُ مع نشاطٍ في الحركات، ويلُوح أن الحديث لا يُورِثُهما ملالًا. ونَعود بعد ساعة تامة، ونناديهما، ويأتيان، ولكن مع بطءٍ بدورِهما. ويُرى أنهما يقضيان وقتًا ممتعًا. وأخيرًا ينقطع حديثُهما بغتةً قبل أن يكون سماعُه في متناولنا، ويضاعفان الخطوَ ليلحقا بنا، ويدنو إميلُ منَّا طليقَ الوجهِ لطيفَ المحيَّا، وتلمع عيناه سرورًا، ومع ذلك فإنه يديرهما نحوَ أمِّ صوفيةَ مع شيءٍ من الجَزَع ليرى كيف يكون قَبُولُها له. ولا تَظهر صوفيةُ في مِثل تلك الطَّلاقة، وهي إذ تدْنو تَلُوح مرتبكةً بظهورها مُخْتليةً بفتًى، وهي التي حَدَث كثيرًا أن وُجِدَت مع آخرين في مِثلِ هذه الحالِ من غير أن ترتبك، ومن غيرِ أن تُرى في وضْعٍ سيئ مطلقًا. وتَسير عَدْوًا إلى أمِّها، وتقول، وهي تَلْهث قليلًا، بعضَ ألفاظٍ لا تَدلُّ على كبيرِ شيء، وذلك كما لو كانت تَدُلُّ على وجودها هناك منذ وقتٍ غيرِ قصير.
ويَظهرُ من طلاقة مُحيَّا هذين الفَتيَيْن اللطيفَيْن أن هذا الحديثَ ألقى حِمْلًا ثقيلًا عن قَلْبَيْهما الفَتِيَّيْن، وليس أقلَّ من هذا تَحفُّظُ كلٍّ منهما نحوَ الآخر، غيرَ أن تحفُّظَهما أقلُّ ارتباكًا، وقد عاد هذا التحفُّظ لا يصدر عن غيرِ احترامِ إميلَ وحياءِ صوفيةَ وعن صلاح الاثنَين. أجلْ، إن إميلَ يجرؤ أن يوجِّه إليها بعض الكلمات، وإنها تجرؤ على الجواب أحيانًا، بَيْدَ أنها لا تَفتح فمَها للجواب من غيرِ أن تَنظر إلى أمِّها. وأكثرُ ما يُشعَرُ به من تغيُّرٍ فيها، كما يلوح، هو شعورها نحوي، وهي تُظهِرُ لي أعظمَ احترام، وهي تنظر إليَّ باهتمام، وهي تكلِّمني بمودة، وهي تبذل جُهدها للوقوع مني موقعَ الرِّضا، وأرى أنها تُكرِمُني عن تقديرٍ منها، وأنها ليست ممن لا يبالي بنَيْلِ تقديري. وأُدْرِك أن إميلَ حدَّثها عني، فيُمكن أن يُقال إنهما تآمرَا على الفوْز بي، ومع ذلك فليس الأمر كذلك؛ فليست صوفيةُ نفسُها ممن يُنال بسرعة، ومن المحتمل أن يكون إميلُ مُحتاجًا إلى زُلْفاي عندها أكثرَ من زُلْفاها عندي، ويا لهما من اثنَين فاتنَيْن! إنِّي أتمتَّع بجائزة عنائي حينما أُبصِر أنَّ ما لدى صديقي الشابِّ من فؤادٍ حسَّاسٍ قد أدخلني كثيرًا إلى أوَّل حديثٍ بينه وبين خليلته؛ فلي بصداقته كلُّ مكافأة.
وتُكرَّرُ زياراتُنا، ويصير ما يدور بين الفَتيَيْن من أحاديثَ أكثرَ وقوعًا، ويبلُغ إميلُ من ثَمَل الحُبِّ ما يعتقد معه أنه يَلمِس سعادته، ومع ذلك فإنه لا يظفر باعترافٍ صريحٍ من صوفية؛ فهي تُصغي إليه ولا تقول له شيئًا. ويَعْرِف إميلُ جميعَ حيائها؛ ولذلك فإنه لا يُدهَش من صمتها إلا قليلًا، وهو يشعر بأنه ليس سيئ الوضع عندها، وهو يَعْرِف أن الآباء هم الذين يزوِّجون الأولاد، وهو يفترض أن صوفية تنتظر أمرًا من والديها، فيطلُب منها أن تَسمح له بأن يلتمسه، فلا تُعارض في هذا. ويخاطبني إميلُ في الموضوع، وأتكلم باسمه، حتى حين حضوره، ويا لَدَهَشه إذ عَلِم أن أمرَ صوفية بيدِها، وأنه ليس عليها إلا أن تُريدَه حتى تجعله سعيدًا! ويأخذ في عدم إدراك شيءٍ من سلوكها، وتنقُص ثقتُه ويُذعَر، ويُبْصِرُ أنه أقلُّ تقدُّمًا مما كان يَنتظر، وهنالك يَستعمل الغرامُ الأرقُّ لغتَه الأعظمَ تأثيرًا حتى تَلِين صوفية.
ولم يُصْنَع إميلُ ليتنبَّأ بما يَضُرُّه، وهو إذا لم يُخبَرْ به لم يَعْرِفه في جميع أيامه. وصوفيةُ فخورٌ كثيرًا بأن تُنبِئه إياه، وما يَعُوقُها من مصاعبَ تَعُدُّها غيرُها عاملَ استعجال، وهي لم تنسَ دروسَ والديها، وهي تَعْلم أنها فقيرةٌ وأن إميلَ غني، وما أكثر احتياجَه إلى جعْلها تُقدِّرُه! وأيةُ مَزِيَّةٍ لا بُدَّ له منها حتى يمحُوَ هذا التفاوت! ولكن كيف تَخْطُر بباله هذه العوائق؟ وهل يَعْرِف إميلُ أنه غني؟ وهل يتنازل فيسْتعلِمَ عنها؟ حمْدًا لله على أنه غيرُ محتاج إلى الثراء مطلقًا؛ فهو يَعْرِف أن يكون محسنًا بلا غِنًى، وهو يستخرج الخيرَ الذي يصنعُ من قلبه لا من جيبه، وهو يبذل للبائسين وقتَه وجهوده وعواطفه ونفسه، وهو لا يكاد يجرؤ في تقدير حُسْنَيَاته على حساب المال الذي أنفقه على الفقراء.
وبما أنه لا يَعْرِف وجْهًا لِلَّوْم على بَلْواه فإنه يَعْزوها إلى خطأ منه؛ وذلك لأنه مَن يجرؤ على اتهامِ مَوْضعِ عبادتِه بالشذوذ؟ ويَزيدُ خِزْيُ حبِّ الذات حَسراتِ الغرامِ المصروفِ بغلظة، وعاد لا يَدْنو من صوفيةَ بذلك الاعتمادِ المُسْتَحبِّ لقلبٍ يَشْعُر بأنه جديرٌ به، ويكون جَزوعًا مرتجِفًا أمامها، وعاد لا يأمُل أن يَلمِسَها بالرِّقة، وإنما يحاول أن يُلِينها بالاستعطاف. ويَنْفَد صبرُه أحيانًا، فيكاد يُغاضِب. ويلوح أن صوفيةَ تشعُر بما يساوره من أحاسيس، فتنظر إليه، وهذه النظرة وحدَها هي التي تُسكِّن غضبه وتلقي فيه الرعب، فيكون خاضعًا أكثرَ من قبل.
ويُكدَّر صفوُه بهذه المقاومة القائمة على العناد، وبهذا السكوت الذي لا يُقوَى عليه، فيَفتح قلبَه لصديقه، ويُودِع صديقه آلامَ فؤاده المكلومِ كَرْبًا، ويَضرَع إليه أن يُعِينه وأن يَنْصَحه، ويا له من سِرٍّ خَفيٍّ! «هي تكترث لنصيبي، ولا يمكنني الشك في هذا، ومن البعيد أن تبتعد عني، ويَروقُها أن تكون معي، وتُبدي سرورَها عند وصولي، وتُظهِر أسفَها عند انصرافي، وتتلقَّى عنايتي بلطف، ويَلوح أن خِدَمي تقع منها موقعَ القبول، وتتفضَّل فتحْبُوني بآراء، حتى إنها تُصْدِر إليَّ أوامرَ في بعض الأحيان، ومع ذلك فإنها تَرُدُّ التماسي ورجائي، وإذا ما جرؤتُ على الكلام حول القِران ألزمتني بالسكوت قسرًا، وإذا ما أضفتُ كلمةً تركتني فورًا. وبأيِّ حقٍّ عجيبٍ تريد أن أكون لها من غير أن تُريد إسماعي كلمةً عن كونها لي؟ تكلَّم واحمِلها على الكلام، أنت الذي تُجِلُّه وتُحِبُّه ولا تجرؤ على إسكاته، واخدِم صديقك، وأكملْ عملك، ولا تجعلْ جهودك شؤمًا على تلميذك. آه! إنك إذا لم تُتِمَّ سعادتَه كان ما اكتسبَ منك سببَ شقائه.»
وأكلِّم صوفيةَ، وأنزِع منها مع قليلِ جُهدٍ سِرًّا كنتُ أعْرِفُه قبْل أن تقوله لي، وأصعَبُ من هذا نَيلي منها إذنًا في إطلاعِ إميلَ عليه، وأفوز به أخيرًا، وأعمل وَفْقَ مقتضاه، ويُلقيه هذا الإيضاح في دَهَشٍ لا يمكن أن يُشفى منه، وهو لا يُدرك شيئًا من هذه الدِّقة، وهو لا يتصوَّر ما قد يكون للدنانير — قليلةً كانت أو كثيرةً — من عملٍ في الخُلُق والمَزِيَّة. ولمَّا أسمعته بما يكون لها من فعلٍ في مُبْتَسَرات النَّاس أخذ يضحك، وقد تهلل وجهُه سرورًا، فأراد أن يذهبَ من فوْره ليمزِّق كلَّ شيءٍ ويرمي كلَّ شيءٍ ويَعْدِل عن كلِّ شيء نَيْلًا لشرفِ الفقر مثلَ صوفية، وكَيما يعودُ ليكونَ زوجَها.
وأقِفُه، وأقولُ له ضاحكًا بدوري من اندفاعه: «ماذا! ألَا يَنضَجُ هذا الرأسُ الفتيُّ مطلقًا؟ ألَا تتعلَّم التعقُّل مطلقًا بعد أن تفلسفتَ في جميع حياتك؟ وكيف لا تَرى أنك باتِّباعك خِطَّتَك السخيفةَ تكون قد زِدْتَ حالك سوءًا وجعلت صوفيةَ شَمُوسًا؟ ومن المفيد بعضَ الفائدة أن يكون عندك من المال أكثرُ مما عندها، ومن العظيم جِدًّا أن تضحِّيَ بجميعه من أجْلها، وإذا كانت من الزهو ما لا تُطيقُ معه أن تكون مدينةً لك بإحسانٍ قليلٍ فكيف تحتملُ أن تكون مدينةً لك بفضلٍ كبير؟ وإذا كانت لا تطيق إمكانَ تعييرِ الزوج إياها بأنه أغناها، فهل تَحتمل إمكانَ تعييرِه إياها بأنه افتقر في سبيلها؟ ويا أيها التَّعِس! احترِزْ من أن يَلوح لها أنك تفكِّر في هذه الخِطة، وعلى العكس كُن مقتصدًا يَقِظًا حُبًّا لها، وذلك خشيةَ أن تتهمك بأنك تريد نَيْلها بالحيلة، وبأنك تضحِّي طَوعًا بما ستبذِّره إهمالًا.
وهل تعتقد أن الأموال الكبيرة تُخيفها حقيقةً، وأن معارضاتِها تنشأ عن الثروات ضبطًا؟ كلَّا يا إميل العزيز، إن لمعارضتها سببًا أكثرَ قوةً وأعظمَ شِدَّةً بالأثر الذي تُوجِبه هذه الثروات في نفسِ صاحبها، وهي تَعرف أن جميع منافع الثراء مفضَّلةٌ على كلِّ شيء عند مَن هم حائزون لها، وجميعُ الأغنياء يَعُدُّون الذَّهب قبْلَ المَزِيَّة، وإذا ما وُضع المالُ بجانب الخِدَم وجدوا دائمًا أن الخِدَم لا تُوفِي المالَ حقَّه مطلَقًا، وظنُّوا أن مَن قَضَوْا حياتهم في خدمتهم آكلين خبزَهم مدينون لهم بالبقية. ولِذا فما عليك أن تعمل يا إميلُ لتسكين مخاوفها؟ دَعْها تعرِفُك جيِّدًا، وليس هذا عملَ يومٍ واحد، وأثبِتْ لها أنَّ في كنوز رُوحك الكريم ما يوازن ثراءً كان من سوء حظِّك نَيلُك إياه، وتَغلَّبْ على مقاومتها بالثبات ومع الزَّمن، واجعلها تنسى ثراءَك بمشاعرك الجليلة النبيلة، وأحِبَّها، واخْدِمها، وقُم بخدمة وَالدَيْها المحترمَيْن، وأقِم لها الدليلَ على أن هذه العنايات ليست نتيجةَ هَوَى سَعِرٍ عابر، بل هي مبادئُ لا تُطمَسُ منقوشةٌ في صميم فؤادك، وبَجِّلْ ما يُهينه الثراءُ من مَزِيَّةٍ تبجيلًا لائقًا؛ فهذه هي الوسيلة الوحيدة لمسألة المَزِيَّة التي تُعِزُّها.»
ويُدرَك مقدارُ الفرح الذي يوجبه هذا الكلام في الفتى، ومقدارُ ما يورثه إياه من ثقةٍ وأمل، ومقدارُ ما يَستبشر به فؤادُه الشريف فيما يَصنع ليقعَ موقعَ القبول عند صوفية، أو فيما يَصنع من تلقاء نفسِه عند عدم وجود صوفية، أو عندما لا يكون عاشقًا لها، ومهما يكن من قلة إدراكٍ لخُلُقه فمن ذا الذي لا يَتصوَّر سلوكَه في مثل هذه الحال؟
وها أنا ذا، إذنْ، نَجِيُّ فَتَيَيَّ الصالحَيْن وواسطةُ حُبِّهما! ويا له من صُنعٍ رائعٍ يقوم به المُرَبِّي! وقد بلغ هذا العمل من الجمال ما لم أصنعْ معه في حياتي شيئًا رفعني في عينيْ نفسي بهذا المقدار، وجعلني راضيًا عن نفسي بهذا المقدار، ومع ذلك فإن لهذا العمل ملاذَّه، وذلك أنني لم أُقبَل في المنزل قبولًا سيئًا، وأنه أُركِن إليَّ في إمساك العاشقَيْن ضِمن النظام، فلمْ يَظهر إميلُ ذَلولًا ظُهورَه في هذه المرة مرتجِفًا دائمًا من إمكانِ عدم وقوعه موقعَ الرِّضا، وقد غمرتني الفتاةُ بصداقةٍ صادقة لا أتناول غيرَ حصتي منها، وهكذا فإنها تُعوِّض نفسها تعويضًا غيرَ مباشرٍ من شِدَّةٍ تُخيفُ بها إميلَ، وهي تقوم له في شخصي بألفِ وُدٍّ رقيقٍ مُفضِّلَةً الموتَ على إبدائه له بنفسه. وهو يَعْرِف أنني لا أريد الإضرارَ بمصالحه، فيسُرُّه أن أكون على وئامٍ معها، وله سُلْوان عند رفضها ذراعَه في أثناء النزهة بأن يقوم هذا الرفضُ على ترجيحها ذراعي، وهو يبتعد من غير أن يتذمَّر مصافحًا إياي قائلًا لي مخافتًا بالصوت والعين: «تكلَّمْ من أجْلي يا صديقي.» وهو يَتْبعنا بعينيه مع الاهتمام، وهو يحاول أن يقرأ مشاعرنا على وَجْهنا، وأن يُفسِّرَ كلامَنا بحركاتنا، وهو يَعْرِف أنه لا شيءَ فيما يدور بيننا من حديثٍ خارجٌ عن نطاق الاكتراث له. ويا صوفية العزيزة، ما أكثرَ ما يكون فؤادُك المخلصُ مرتاحًا عندما يمكنك أن تحادثي مرشدَ تِلِمَاك من غير أن يسمعك تِلِمَاك! ويا لسلامة الطوية التي تَدَعينه يقرأ بها في هذا القلب الحنون جميعَ ما يدور فيه! ويا للَّذةَ التي تُطلعينه بها على ما تحملين من إعزازٍ جامعٍ لتلميذه! ويا للإخلاص المؤثِّر الذي تَدَعينه يَنفُذُ به أحلى المشاعر؟ ويا لَتَكلُّفِ الغضبِ في صرْف اللَّجُوج عندما يَحمِله عدمُ الصبر على قطْع حديثك! ويا لتكلُّفِ الأسف الفاتن الذي تلومينه به على عدم الرَّصانة عندما يجيء لمنعك من قول الخير عنه وسماعه عنه مستخرجةً من أجوبتي دائمًا سببًا جديدًا لحُبِّه!
وهكذا فإن إميلَ بَلَغ مرحلةً أُذِنَ له فيها أن يَتخذ وضْعَ العاشق المعروف، فصار يتمتَّع بجميع حقوقه، فيتكلم ويُلِحُّ ويلتمس ويُلحِف. وصار لا يبالي أن يُخاطَب بشدَّةٍ وأن يُعامَل بسوءٍ على أن يَسمع، وأخيرًا يحظى، ولكن مع صعوبة، بأن تتفضَّل صوفية من ناحيتها فتنتحل سلطانَ الخطيبة جَهْرًا، فتُمْلِي عليه ما يجب أن يَفعل، وتأمره بدلًا من أن ترجو منه، وتَقبل بدلًا من الشُّكر، وتُنظِّم عددَ الزيارات وأوقاتها، وتمنعه من المجيء حتى اليوم الفلاني، ومن البقاء بعد الساعة الفلانية. ولم يُصنَع جميعُ هذا عن لهو، بل عن جِدٍّ بالغٍ. وهي إذا كانت قد قبلت هذه الحقوق بصعوبة، فإنها تُبدي من التدقيق في استعمالها ما يجعَلُ إميلَ المسكين يأسَفُ في الغالب على منْحها إياها، ولكنها مهما تأمرْ لا يتأخر عن الامتثال. ومما يَحدُث غالبًا أنه إذا ما ذهب عن إطاعةٍ نظرَ إليَّ بعينَين طافحتَين سرورًا قائلتَين لي: «إنها مَلَكتني كما ترى.» ومع ذلك فإن صوفية المُختَالة تنظُر إليه من طَرْفٍ خفي، وتبتسم سرًّا من زهوِ عبدِها.
أعيراني يا ألبانُ ويا رفائيلُ ريشةَ اللذَّة! وعَلِّمْ قلمي الغيظ، يا مِلْتون السَّماوي، ملاذَّ الحبِّ والعفاف! ولكن كلَّا، أخْفُوا فُنونَكم الكاذبةَ أمام حقيقة الطبيعة المقدَّسة، وكونوا ذوي قلوبٍ حسَّاسةٍ ونفوسٍ شريفة، ثُمَّ دَعُوا خيالَكم يجول بلا قَسْرٍ حول هِيام العاشقَيْن الشابَّيْن اللذين يُسلِّمان نفسَهما على أعينِ وَالِدَيْهما ومُرْشديهما، ومن غير كَدَر، إلى الوهم العَذْب الذي يَفْتِنُهما، وهما إذْ يتقدَّمان في نشوة الرغائب إلى الغاية على مَهْلٍ يَشْبِكان بالأزهار والأكاليل تلك الرابطةَ السعيدةَ التي يجب أن تَجْمَع بينهما حتى القبر. وهنالك صُوَرٌ ساحرة تُسْكِرُني، وأجمعها بلا ترتيب ولا نظام، وما تُوجبه من هذيان فيَّ يحول دون ربط بعضهما ببعض. وَيْ! مَن الذي يكون ذا قَلْبٍ ولا يستطيع أن يَصنع في نفسه لوحةً لطيفةً لمختلف الأوضاع التي يتخذها الأبُ والأمُّ والبنت والمُرَبِّي والتلميذ، ولِتعاوُنِ هؤلاء على قِرَانِ أكثرِ الأزواجِ فُتُونًا، فيُمكِن الحُبَّ والفضيلةَ أن يُسفِرا عن سعادتهما؟
والآن، حين صار إميلُ يبادر إلى الوقوعِ موقعَ القبولِ في الحقيقة، أخذَ يشعرُ بقيمةِ المواهبِ اللطيفةِ التي حُبِيَ بها، وتحِبُّ صوفيةُ الغِناء، فيُغنِّي معها، ويَفْعل أكثرَ من هذا، أي يُعلِّمها الموسيقا، وهي نشيطةٌ رشيقةٌ فتحب الوثوب، وهو يرقُص معها، ويُحوِّل وَثَبَاتِها إلى خُطًا، ويسيرُ بها نحوَ الإتقان. وهذه الدروس فاتنة، ويُنعِشها المرح اللعوب الذي يُلطِّف حُرمَةَ الحبِّ القائمة على الحياء، ويُباح للعاشق أن يُعطي هذه الدروسَ مع اللذة، ومن المباح أن يكون العاشقُ أستاذَ خطيبته.
ويوجَدَ بِيَانٌ قديمٌ مختلٌّ تمامًا، ويُصلِحه إميلُ ويُهيِّئه، وإميل صانعٌ ومصحِّحٌ للآلات الموسيقية كما أنه نجَّار، ويقوم مبدؤه الدائمُ على تعلُّم الاستغناء عن عوْن الآخرين في كلِّ ما يستطيع عملَه بنفسه. ويقع المنزل في موضعٍ رائع، فيرسُم له عدة صُوَر، فتضعُ صوفيةُ يدَها عليها أحيانًا وتُزَيِّن بها غرفة أبيها، وليست أُطُرُ هذه الصور مزخرفةً مُطلَقًا، وهي غيرُ محتاجة إلى الزخرفة، وهي تتكامل إذ تَرى إميلَ يرسُم فتقلِّدُه، وهي تُثقِّف جميعَ مواهبها على مثال إميل، ويُزيِّن فُتُونُها جميعَ ما تصنع. ويَذْكر أبوها وأمُّها سابِقَ يُسرهما حينما يشاهدان حولهما ثانيةً إشراقَ الفنون الجميلة التي تُنعِم وحدَها على الثَّراء بقيمة، وقد جَمَّلَ الحُبُّ جميعَ منزلهما. والحبُّ وحدَه هو الذي أوجب بلا نفقةٍ ولا مشقَّة، تَجلِّيَ ذاتِ الملاذِّ التي كانا لا يَجْمعانها فيه سابقًا إلا بالمال والمَلَال.
ويُحِبُّ العاشقُ إحاطةَ الكمالِ بصاحبته، فيريدُ إضافةَ زخارفَ جديدةٍ إليها بلا انقطاع، شأنُ الوثنيِّ الذي يُزَوِّق من الذخائر ما يُقَدِّر أنه موضع عبادته، ويُجمِّلُ فوق المذبحِ الإلهَ الذي يَعبُد. والصاحبة لا تحتاج إلى شيء من ذلك لتروقه، وإنما هو يحتاج إلى تزيينها، وهذا إكرامٌ جديدٌ يَرى أنه يقوم به نحوَها، وهذا اهتمامٌ جديدٌ يَنفَحُ به لذَّة مشاهدتها، ويَلوح أنه لا شيءَ جميلَ يكون في موضعه إذا لم يُزيِّن الجمالَ الأسمَى. ومن المناظر المؤثِّرة المضحِكة معًا أن يُرى إميلُ وهو يبادرُ إلى تعليم صوفيةَ جميعَ ما يَعْلَم، وذلك من غيرِ أن يَنظُر هل يلائم ذوقَها ما يُريد تعليمَها إياه، أو هل هذا الأمرُ يناسبها، وهو يُحدِّثها عن كلِّ شيء، وهو يُوضِحُ لها كلَّ شيء بنشاطٍ صبياني، وهو يَظُنُّ أنَّ عليه أن يتكلَّم، فتَفْقهُ ما يقول من فوْرِها، وهو يَتمثَّل مُقدَّمًا ما يتَّفق له من لذةٍ في البرهنة والتفلسُف معها، وهو يَعُدُّ من الأمور غيرِ المُجْدية كلَّ شيء حصَّلَه، فلا يستطيع عرْضَه على عينيها مطلقًا، ويَحمَرُّ وجهُه خجلًا تقريبًا من معرفتِه شيئًا لا تَعرِفه.
وها هو ذا إذنْ يُلْقي عليها درسًا في الفلسفة والفيزياء والرياضيات والتَّارِيخ وكلِّ شيءٍ آخر، وتراعيه صوفيةُ في غَيرَته طيِّبَةَ الخاطر، وتحاول الاستفادة منه. وما أكثرَ ما يَطيبُ لإميلَ أن تسمح له بأن يُلقيَ دروسَه عليها وهو جاثٍ أمامها! فهو يعتَقِدُ أن السموات قد فُتِّحَتْ أبوابُها، ومع ذلك فإن هذا الوضع الذي هو أكثرُ مضايقةً للتلميذ مما للمُعلِّم ليس أكثرَ ما يناسِب التعليم؛ وذلك لأنه لا يُعْرَف حينئذٍ ما يَصْنَعُ أحدُهما بعينيه اجتنابًا للعينَين الأخريين اللتَين تتعقَّبانهما، فإذا ما تلاقت العيونُ لم يَسِرِ الدرسُ سيرًا حسنًا.
أجلْ، إن فنَّ التفكيرِ ليس غريبًا عن النساء، بَيْدَ أنه لا ينبغي لهن أن يَصْنَعن غيرَ لمْسِ العلوم العقلية لمْسًا خفيفًا. وتَفْهَم صوفيةُ كلَّ شيء، ولا تَحفظُ كبيرَ شيء، وأعظمُ ما يكون تقدُّمها في علوم الأخلاق وأمورِ الذوق، وأمَّا الفيزياء فلا تَحْفظ منها غيرَ قليلٍ من النواميس العامة ونظام الكون. ومما يَحْدُثُ في أثناء نُزَهِهما أحيانًا أن يتأمَّلا عجائبَ الطبيعة، فيجرؤ فؤادُهما البريءُ على الارتقاء إلى صانعها؛ فَهُمَا لا يخشيان حضوره، وهما يَبوحان بأسرار قلبهما أمامه.
ماذا! عاشقان في زهرةِ العُمُر يَبْحثان في الدين على انفراد، ويَقضيان وقتَهما في الكلام حوْل كتابهما في الدين! وما فائدةُ الحطِّ مما هو عالٍ؟ أجلْ، لا ريْب، إنهما يتكلَّمان حوْله حين سبْحِهما في الخيال الذي يَفْتِنُهما، فيَرَيان أنهما كاملان، ويتحابَّان، ويتحادثان بحماسةٍ فيما يَجعَلُ للعفافِ قيمة، وما يَبْذلان في سبيله من تضحياتٍ يجعله عزيزًا عليهما. وهما في أثناء الهِياج الذي يَجِبُ أن يتغلَّبا عليه يَسْكُبان في بعض الأحيان من الدموع ما هو أصفى من نَدَى السماء، فتكون هذه العَبَراتُ الحُلْوة فتنةَ حياتهما؛ وذلك أنهما يكونان في أعظم ما تُبْتَلَى به نفسٌ بشريةٌ من هذيانٍ ساحر، ويَزيد حِرمانُهما نفسُه في سعادتهما ويُشرِّفُ تضحيتَهما في أعينهما. أجلْ، إنهما سيَعْرفان ملاذَّكم ذاتَ يومٍ أيها النَّاس، أيتها الأبدانُ بلا روح، فيأسفان مدَى حياتِهما على الأوقات المباركة التي امتنعا فيها عن التمتُّع بهذه المَلاذِّ!
ومع ما هو واقعٌ بينهما من اتفاقٍ رائع، فإنه يَحْدُث بينهما في الحينِ بعد الحين خلاف، ونزاعٌ أيضًا؛ فليست الصاحبةُ بلا جماح، وليس العاشقُ بلا حِدَّة، غير أن هذه العواصفَ الصغيرةَ تَمُرُّ بسرعة، ولا تؤدي إلى غيرِ تثبيت الاتحاد، حتى إن التجرِبة علَّمت إميلَ ألَّا يخشاها؛ فالإصلاح في كلِّ وقتٍ أنفعُ له من شقاقٍ يَخسرُ به، وما كان للخلاف الأوَّل من نتائجَ جَعَلَه ينتظر نتيجةً مماثلةً من جميع الخلافات. أجلْ، إنه مخطئٌ في هذا، ولكنه حتى عند عدمِ نَيْله فائدةً ظاهرةً كتلك دائمًا، يكون له كَسْبٌ دائمٌ بما يَرَى من توكيدِ صوفيةَ لاهتمامها بحُبِّه، ويُرادُ أن تُعْرَف هذه الفائدة، وهذا ما أقومُ به مُختارًا ما دام هذا المثالُ يُتيحُ لي فرصةَ عرضِ مبدأ مفيد جدًّا وفرصةَ مكافحةِ مبدأ كثيرِ الشؤم.
وإميلُ يُحِب؛ ولذا فهو ليس مغامرًا، وأحسنُ من هذا تمثُّلًا أن يُدرَك أن صوفية الآمرة ليست بالفتاة التي تَمُنُّ عليه بأُلْفَاتٍ، وبما أن للحكمة حَدَّها في كلِّ شيء، فإن صوفية تُنسَبُ إلى الشدةِ أكثرَ مما إلى المساهلة، حتى إن أباها يخشى في بعض الأحيان أن يتحوَّل زهوُها المتناهي إلى كبرياء. وما كان إميلُ في أكثرِ الخَلَوَات خفاءً ليلتمس من الألطاف حتى أخفَّها، ولا ليَظهَر بمَظهر الراغب في ذلك أيضًا، وهي إذا ما تفضَّلَت في أثناء النزهة بأن تجعَل ذراعَها تحت ذراعِه لم يَنِمَّ هذا على تغييرٍ في الحقوق؛ فلا يكاد أحيانًا يضغط بذراعها صدرَه تلهُّفًا، ومع ذلك فإنه يخاطرُ بعد حَصْرٍ طويلٍ فيُقبِّل ثوبَها خِفيَة، وما أكثرَ ما يكون سعيدًا إذا ما منَّت عليه بعدم التفاتها إلى ذلك. وإذا حدث ذات مرةٍ أن أراد انتحالَ ذات الحريَّة بشيء من العلانية عَنَّ لها أن تجدَه سيِّئًا جِدًّا، ويُصِر، وتغضب، ويُملي الغضبُ عليها بعضَ الألفاظ اللاذعة، ولا يحتملُها إميلُ بلا جواب، فتمُرُّ بقيةُ النهار منغَّصة، ثُمَّ يفترقان مستاءَيْن.
وتعتَلُّ صوفيةُ على مَهْلِها، وأمُّها نَجيَّةٌ لها، وكيف تكتم عنها كرْبَها؟ وهذا أوَّلُ شقاقٍ وقع بينهما، وشقاقُ ساعةٍ أمرٌ جَلَلٌ! وتندم على ما صدرَ عنها من خطأ، وتأذنُ أمُّها لها في إصلاحه، ويأمرها أبوها بإصلاح ذات البَيْن.
وفي الغدِ يَعودُ إميلُ هَلُوعًا قبْلَ الساعةِ المعتادة، وتكون صوفيةُ في مَخدَعِ أمِّها، ويكون أبوها في هذه الغرفةِ أيضًا، ويَدخل إميلُ محترِمًا، ولكنْ مكتئبًا. ولم يَكدِ الأبُ والأمُّ يُسلِّمان عليه حتى عادت صوفيةُ وهي تُقدِّم إليه يدَها وتسأله عن صحته. ومن الجلي أن هذه اليدَ الجميلةَ لم تُمَد إلا لِتُقبَّل، ويتناولها ولا يُقَبِّلُها، وتستردُّها صوفية التي كانت على شيءٍ من الخجل بأقصى ما يُمكنها من اللطف، وما كان إميل لينسى بسهولةٍ ولا ليهدأ بسرعة. وإميل هو الذي لم يُنشَّأ وَفْقَ أطوار النساء، وإميلُ هو الذي لا يَعْرِف وجه الحُسن في اتِّباع الإنسان هواه. ويراها أبوها مرتبكةً فيُتِمُّ ارتباكها بسُخريات، لا تعرف الفتاةُ المسكينة المضطربة الخجلى ما تفعل، فتكاد تبكي، وهي كُلَّما ضَبطت نفسَها انتفخ قلبُها، وأخيرًا تُفلِتُ منها دمعةٌ على الرغم منها، ويُبصِرُ إميلُ هذه العَبْرَةَ فيبادر إلى صوفيةَ راكعًا ويتناول يدَها ويُقبِّلُها غيرَ مرةٍ تقبيلًا مؤثِّرًا، ويقول الأب ضاحكًا: «حقًّا أنك رجلٌ طيبٌ جِدًّا، ولو كنتُ في مكانك لكنتُ أقلَّ تسامُحًا تجاه جميع هذه الحماقات، ولعاقبتُ الفمَ الذي أهانني.» ويجترئ إميلُ بهذه الكلمة فيُدير عينًا ضارعةً إلى الأم، ويَظُنُّ أنه يُبصِرُ إشارةَ موافقةٍ منها، فيدنو مرتجفًا من وجه صوفية التي تُدير رأسَها إنقاذًا لفمها، فتَعْرِض خدًّا ورديًّا، ولا يكتفي عادمُ الفطنة بهذا؛ فالمقاومةُ ضعيفة، وأيةُ قُبْلةٍ تكون لو لم تُؤخذ على مرأًى من أمِّها! ويا صوفيةُ الشديدة، احترزي، فسيُطلَبُ ثوبُك ليُقبَّل غالبًا على أن تَرفِضي ذلك أحيانًا.
ويَخرج الأب لبعض الشئون، وتُرسِلُ الأمُّ صُوفيةَ لبعض المعاذير، ثُمَّ تُوجِّه الكلامَ إلى إميلَ وتقول له جادَّةً:
«أظنُّ أن شابًّا حسنَ المولدِ حسنَ المنشأ مثلَك أيها السيد، فيكون صاحبًا لمشاعرَ وأخلاق، لا يُقابِل بِهَتْك السِّتر أسرةً حَبَتْه بصداقتها، ولستُ شرِسةً مُفرِطةً في الاحتراس، وأعرِفُ جميعَ ما يُمكِن أن يَمُرَّ على الشباب اللَّعوب، وما اصطبرْتُ عليه أمامي يُثبِتُ لك ذلك بما فيه الكفاية، وشاوِرْ صديقك في واجباتك؛ فهو سيُخبِرُك بالفرْق بين اللَّعِب الذي يبيحه حضورُ الأب والأم، والحريةِ التي تُتَّخَذ في غيابهما مع إساءةِ استعمالٍ لِثقتِهما وتحويلٍ إلى حبائلَ ما ليس غيرَ طُهرٍ في حضرتهما من الألطاف عينِها. وهو سيُخبرك أيها السيد بأنه لا ذنبَ لابنتي معك غيرُ كونها لم تَرَ منذ المرة الأُولى ما لا ينبغي أن تُعانيه مطلَقًا، وهو سيخبرك بأن كلَّ ما يُعَدُّ من الألطاف هو من الألطاف، وبأنه لا يليق برجلِ الشَّرفِ أن يسيء استعمالَ بساطةِ فتاةٍ فيغتصب سِرًّا عينَ الحرية التي يُمكِنُها أن تعانيها أمام جميع النَّاس؛ وذلك لأنه يُعرَف ما يُمكِن أن تسمح به اللياقة جهرًا، ولكنه يجهل أين يَقِفُ في ظِلِّ الخفاء ذاك الذي يكون وحدَه قاضيًا في أهوائه.»
تتركنا هذا الأمُّ الحكيمةُ بعد قيامها بهذا اللومِ الصائبِ الموجَّهِ إليَّ أكثرَ مما إلى تلميذي، وتَدَعُني مُعجَبًا بفِطنتِها النادرةِ التي تَعُدُّ بها لَثْمَ فمِ ابنتها أمامها أمرًا لا يُؤبه له، فتُذعَرُ من الإقدام على تقبيل ثوب هذه البنت على انفراد. وإني حين أُنْعِم النظرَ في سخافة مبادئنا التي تُضحِّي دائمًا بالصلاح الحقيقي باسم الحشمة أدركُ السببَ في أن اللسان يكون عفيفًا بنسبةِ ما تكون الأفئدةُ أكثرَ فسادًا، وفي أن الأوضاع تكون صحيحةً بنسبة ما يكون أصحابُها أكثرَ عدم استقامة.
وإني حين أنْفُذُ في هذه النُّهْزَةِ فؤادَ إميلَ حوْل الواجبات التي كان يجب أن أُمْليَها عليه يَرِدُ خاطري فِكرٌ جديدٌ يحتملُ أنه أكثرُ ما يكون تشريفًا لصوفية، فأحترزُ مع ذلك من إطلاعِ عاشقِها عليه، وذلك أن من الواضح أن ذاك الزهوَ المزعومَ الذي تُلامَ عليه ليس غيرَ احتياطٍ بالغِ الحكمة لوقاية نفسها من نفسها؛ فهي إذ كانت من الشقاء ما تشعُر معه بمِزاجها الملتهِب ذُعِرَت من الشرارة الأُولى فصرفتها عنها بما أُوتِيَت من قوة، وهي ليست شديدةً عن زهوٍ بل عن تواضع، وهي تتخذ من السلطان على إميلَ عن خشيةِ عدمِ اتخاذه نحوَ نفسها، وهي تنتفعُ بسلطانٍ لمقاومةِ الآخر، ولو كانت أكثرَ اعتمادًا على نفسِها لظهرت أقلَّ زهوًا، وأيةُ فتاةٍ في العالم تكون أكثرَ دماثةً وأعظمَ لطفًا إذا ما عَدَوْتَ هذه الناحية؟ ومَنْ يكون أكثرَ احتمالًا للإهانة؟ ومَن يكون أكثرَ فَزَعًا من إهانة غيره؟ وإذا عَدَوْت الفضيلةَ فمن يكون أقلَّ زَعْمًا؟ ثُمَّ إنها لا تَزْهو بفضيلتها، وهي إذا ما زَهَت لم يكن هذا إلا لحفظِ فضيلتها، ولو كانت تستطيع أن تستسلم إلى مَيْلِها بلا خَطَرٍ لَلَاطفتْ حتى عاشِقَها، ولكنَّ أمَّها الرَّزانَ لا تبوح بهذه الجزئيات حتى إلى أبيها؛ فلا يَنْبغي للرجال أن يَعْرِفوا كلَّ شيء.
وقد صارت صوفيةُ البعيدةُ حتى من الظهور بمظهر الفَخُور بنصره، أكثرَ أُنسًا وأقلَّ تطلُّبًا تجاه جميع العالم، وذلك مع استثناء ذاك الذي أوجب هذا التحوُّل على ما يحتمل، وعاد حِسُّ الاستقلال لا ينفُخُ فؤادَها النبيل؛ فهي تنال مع التواضع نَصْرًا يُكلِّفُها حريَّتها، وأصبحت أقلَّ طلاقةً في الهيئة وأكثرَ حياءً في اللهجة منذ عادت لا تَسْمَع كلمةَ «العاشق» من غير أن يحمرَّ وجهُها خجلًا، بَيْدَ أن الرِّضا يَظْهر من خلال ضِيقها، وليس هذا الخجلُ نفسُه شعورًا مُكدِّرًا، وأكثرُ ما يكون الفارقُ في سلوكها تجلِّيًا هو عند اجتماعها بالطارئين من الشُّبَّان؛ فهي إذ عادت لا تخشاهم زال كثيرٌ من سابقِ تحفُّظِها المتناهي نحوهم، وهي إذ قطعتْ في أمرِ اختيارها ظهرت مؤنسةً للأخْلياء من غيرِ تردُّد، وهي إذ غدت أقلَّ تشدُّدًا حوْل مَزِيتهم منذ عادت لا تبالي بهم وجدتهم دائمًا على شيءٍ من اللطف لدى أُناسٍ لا يُعَدُّون عندها شيئًا غيرَ مذكور مُطلَقًا.
وإذا كان الحبُّ الحقيقيُّ يَحتمل الدَّلالَ ظننتُ أنني أرى آثارًا له في الوجه الذي تتصرَّف فيه صوفيةُ مع أولئك في حضرة عاشقها، فيُقال إنها لم تكتفِ بالهوى الحارِّ الذي تُلهِبُه فيه بمزيجٍ لذيذٍ من الحشمة والملاطفة؛ فصار لا يؤسِفُها أن تزيد هذا الهوى سعيرًا بقليلٍ من الهم، ويُقال إنها حين تَسُرُّ ضيوفها من الشبان عَمْدًا، تَقصِد أن تُعذِّبَ إميلَ بألطافِ دُعابةٍ لا تبيحُ لنفسها أن تصنعها معه، بَيْدَ أن صوفية هي من الانتباه والصلاح والحصافة ما لا تُعذِّبه معه حقيقةً؛ فالحبُّ والشرف يَقومان مقام الفطنة في تلطيف ذاك المُغري الخطِر، وهي تعرِف أن تُذْعِرَه وتُسكِّن رَوْعَه تمامًا عند الاقتضاء، وهي إذا ما أورثته غَمًّا أحيانًا لم تُورِثه حُزنًا مطلقًا، ولنغفرْ لها ذلك الهمَّ الذي تلقيه في ذلك الذي تُحِبُّ مع خوفها ألَّا يكون مرتبطًا فيها ارتباطًا كافيًا.
ولكن ما يكون تأثيرُ هذه الحيلة الصغيرة في إميل؟ ألَا تأكله الغَيرةُ أم لا؟ يجب دَرْسُ هذا؛ وذلك لأن مثل هذه الاستطرادات تدخل ضِمْن مادة كتابي أيضًا، وتُبعِدُني من موضوعي قليلًا.
لقد بيَّنتُ سابقًا كيف يَجِد هوَى الغَيرةِ إلى قلبِ الإنسان سبيلَه في الأمور التابعة للرأي العام، ولكنَّ الأمرَ غيرُ هذا في الغرام؛ فهنالك تكون الغَيرةُ من قُرْبها إلى الطبيعة ما يَصْعُب معه أن يُعتَقد عدمُ صدورها عنها، ويَلوح أن مثالَ الحيوانات التي بلغت الغَيرةُ في كثيرٍ منها درجة الجنون، يؤيِّد هذا الإحساسَ تأييدًا لا يُرَد، وهل رأيُ النَّاس هو الذي يُعلِّم الديوكَ تمزيقَ بعضها بعضًا؟ وهل ذاك الرأي هو الذي يُعَلِّمُ الثِّيران الاصطراعَ حتى الموت؟
ولا جِدالَ في أن ما يساورُنا من نفورٍ حوْل كلِّ ما يُكدِّرُ ملاذَّنا ويقاومها دافعٌ طبيعي، وقُلْ مِثْلَ هذا إلى حدٍّ ما عن الرغبة في حيازتنا ما يَرُوقُنا حيازةً مطلقة، ولكن هذه الرغبة إذا ما أصبحت هَوًى، فتحولت إلى صَولةٍ أو إلى خيالٍ جافلٍ ذي اكتئابٍ اسمه «الغَيْرة» تَغيَّر الأمر، فأمكَن أن يكون ذلك الهوى طبيعيًّا أو لا يكون، فلا بُدَّ من التمييز.
وكنتُ قد عالجتُ في رسالتي عن «التفاوت» مثالَ الحيوانات، والآن أُنْعم النظرَ في هذا المثال مُجدَّدًا، فيَظْهر لي أنه من المتانة ما أجْرُؤ معه على ردِّ القرَّاء إليه، وإنما أضيفُ إلى الإيضاحات التي قُمتُ بها في ذلك الكتاب كَوْنَ الغيرةِ التي تَصدُر عن الطبيعة كثيرةَ الاتِّباع لقوة الجنس، وأن هذه القوة إذا كانت، أو بَدَتْ، لا حَدَّ لها طَفَحَ كيْلُها؛ وذلك لأن الذَّكرَ إذ يَزِنُ إذ ذاك حقوقَه بأوطاره فإنه لا يُطيقُ مطلَقًا أن يَرى ذكرًا آخرَ منافسًا مزعجًا له. وبما أن الإناثَ في هذه الأنواع تُطيع أوَّلَ مُقبِلٍ فإنها لا تكون تابعةً للذكور إلا بحقِّ الفتح، وتكون سببًا لِمَا لا ينتهي من صِراعٍ بينهم.
والأنثى على العكس، إذ كانت في الأنواع التي يقترن الواحدُ فيها بواحدة، وحيث السِّفادُ يُسفِرُ عن ضرْبٍ من الرابطة الأدبية، أي يُسفِرُ عن ضرْبٍ من الزواج خاصةً بالذَّكَر الذي وَهَبَت نفسَها له عن اختيارٍ منها، فإنها تمنعُ نفسَها من أيِّ ذَكَرٍ آخرَ على العموم. وإذْ إن للذَّكَر ضمانًا لوفائها بهذا الحُبِّ عن ترجيح، فإن هذا الذَّكَر يكون أقلَّ غمًّا بمنظر الذكور الآخرين، ويعيش معهم عيشًا أكثرَ سلامًا، والذَّكرُ في هذه الأنواع يشترك في رعاية الصِّغار، ويَلوح بسُنَن الطبيعة التي لا تُلاحَظ من غيرِ تَحنُّنٍ أن الأنثى تُظهِرُ للأب حُبًّا كالذي تُظهِر لأولادها.
والواقعُ أننا إذا نظَرْنا إلى النوع البشريِّ في بساطته الابتدائية سَهُلَ علينا أن نرى، بقدْرة الذَّكرِ المحدودةِ وباعتدال رغائبه، أنه أُعِدَّ من قِبَل الطبيعة للاكتفاء بأنثى واحدة، وهذا ما تؤيده المساواةُ العددية بين أفراد الجنسين في أقاليمنا على الأقل، هذه المساواة التي لا محلَّ لها غالبًا في الأنواع التي تكون قوَّةُ الذكورِ فيها من القدرة العظيمة ما يجمع الواحدُ منهم معها بين إناثٍ كثيرٍ. ومع أن الرَّجل لا يَرْخُم كالحَمَام، وليست له ثُدِيُّ للإرضاع، فإنه يُعَدُّ من ذوات الأربع من هذه الناحية، ويَظَلُّ الأولاد من الزَّحْف والضَّعف لزمنٍ طويلٍ ما يَصْعُب عليهم وعلى أُمِّهم أن يستغنوا معه عن عطفِ الأب وعن رعايته التي هي نتيجةُ هذا العطف.
وتتسابق جميعُ المشاهدات إذن في إثباتها أن صوْلةَ الغَيرَة في ذكور بعض الحيوانات لا تَدُلُّ على شيءٍ في الإنسان، حتى إن استثناء الأقاليم الجنوبية القائلة بتعدُّد الزوجات لا يُعَدُّ إلا مؤيِّدًا للمبدأ ما دام احترازُ الأزواج الاستبداديُّ لا ينشأ عن غير كثرة النساء، وما دام شعورُ الرجل بضَعْفه الخاصِّ يَحْمله على الاستعانة بالقهر تخلُّصًا من سُنَن الطبيعة.
ويمكننا، بعد إيضاح جميع ما تقدَّم، أن نُبيِّنَ واثقينَ نوعَ الغَيرة التي يَقْدِر عليها إميل، وذلك بما أن جُرثومة هذا الهوى تكاد تكون في قلب الإنسان، فإن التَّربية هي التي تُعيِّن شكلَه حَصْرًا. ولن يكونَ إميلُ العاشقُ الغيورُ غَضُوبًا جَفُولًا ظَنُونًا، ولكنه سيكون رَقيقًا حسَّاسًا هَيُوبًا، وهو سيكون جَزُوعًا أكثرَ منه مَغِيظًا، وهو سيُعني بنيل خليلته أكثرَ مما بتهديد مُنَافسه، وهو سيُقْصيه إذا ما استطاع كما يُقْصَى المانع، وذلك من غيرِ أن يُبغِضَه كما يُبغَضُ العدو، وهو إذا ما أَبْغضه فلن يكون هذا لأنه أبدى من الجُرأة ما يُنازعه به فؤادًا يَدَّعيه، بل لخطرٍ حقيقيٍّ يَحمِله عليه فيؤدي إلى ضَياعه له، ولا يَكون من الحماقة ما يَثور به عُجْبُه العَسُوف من جُرأةٍ على منافَسته، وبما أنه يُدْرِك أن حَقَّ الأفضلية قائمٌ على المَزِيَّة وحدَها وأن العِزَّ في الفَوْز فإنه سيضاعِفُ جهودَه ليكون محبوبًا، ومن المحتمل أن يُكْتب له النجاح. وسَتَعْلم صوفيةُ الكريمةُ حيث تُثِيرُ ذُعْرَه أن تُسوِّي هذا الذُّعرَ وأن تُعَوِّضه منه. ولا يَلبثُ المنافسون الذين لم يألَموا إلا ليَبْتلوه أن يُرَدُّوا.
ولكن إلى أين أُساقُ من حيث لا أدري؟ وَيْ، إميلُ! ماذا أصبحت؟ وهل يمكنني أن أعرِف فيك تلميذي؟ ما أكثرَ ما أراك قد سقطتَ من مرتبتك! وأين هذا الشابُّ الذي كُوِّن تكوينًا خَشِنًا جِدًّا، والذي كان لا يُبالي بمكاره الفصول، والذي كان يُسْلِمُ بدنَه لأشدِّ الأعمال ويُسْلِم روحَه لقوانين الحكمة فقط، والذي كانت المُبْتَسَرات والأهواء لا تجِدُ إليه سبيلًا، والذي كان لا يحبُّ سوى الفضيلةِ ولا يُذعِن لغيرِ العقل، فلا يأبَه لِمَا لا يأتي منه؟ والآن قد أُتْرِف بالفراغ فيَرْضى أن يُسيطر عليه النساء، وتقوم أشاغيلُه على لهوهن فتكون عزائمُهنَّ دساتيرَ له، وتَظْهَرُ فتاةٌ حَكَمًا في مصيره، ويزَحفُ وينحني أمامها، ويَبدو إميلُ الرزينُ أُلعوبةَ ولدٍ!
وهكذا تتحوَّل مناظرُ الحياة؛ فلكلِّ عُمُر نوابضُه التي تُحرِّكه، ولكنَّ الرَّجلَ هو هو دائمًا، والرَّجلُ إذا كان في العاشرة من سِنِيه سِيق بالحلْوى، وإذا كان في العشرين سِيق بخَليلة، وإذا كان في الثلاثين سِيق باللَّذات، وإذا كان في الأربعين سِيق بالطُّموح، وإذا كان في الخمسين سِيق بالطَّمع، فمتى يسعى في طلب الحكمةِ حَصْرًا؟ طُوبى لمن يُساق إليها على الرغم منه! وليكُن المرشِدُ من أيِّ قبيلٍ كان على أن يسوقه إلى الغاية، وقد أدَّى الأبطال والحكماء أنفُسهم هذه الجِزْيَة إلى الضَّعْف البشري، وليس مَن أدارتْ أصابعُهم مَبَارِمَ أقلَّ من هؤلاء عظمةً لهذا السبب.
وإذا أردتم أن تَبسُطُوا على الحياة كلِّها عَمَلَ تربيةٍ مُوفَّقة، فأطيلوا في دَور الشباب عاداتِ دَوْر الصِّبا الصالحة، ومتى كان تلميذُكم ما يَجبُ أن يكون فافعلوا ما يكون عَيْنَه في جميع الأوقات، وهذا هو آخرُ ما يبقى عليكم أن تكملوا به صُنْعكم؛ ولهذا فإنه يكون من المهمِّ على الخصوص ترْكُ مُرَبٍّ للشبان؛ وذلك لأنه يُخشى بعضَ الشيء ألَّا يَعْرِفوا القيامَ بالحبِّ بغيره. ويتطرَّق الخطأ إلى المُرَبِّين، ولا سيَّما الآباء، مِن ظنِّهم أن طرازًا للحياة يجعل طرازًا آخرَ لها أمرًا متعذرًا؛ فمتى كَبِرَ الولدُ وَجَب أن يُعْدَل عن كلِّ ما كان يُصنَع له في صِغَرِه، وإذا كان هذا صحيحًا فما نَفْعُ العنايةِ بدَور الصِّبا ما دام يَزُول بزواله ما يُصنَع من صالحه وطالحه، وما دامت تُتَّخَذُ طُرُزٌ للتفكيرِ أخرى باتخاذِ طُرُزٍ للحياة مختلفةٍ عن تلك كلَّ الاختلاف؟
وكما أنه لا يَحُلُّ الذاكرةَ غيرُ الأمراض الكبيرة، فإنه لا يوجد غيرُ الأهواء الكبيرة ما يَحُلُّ الأخلاقَ، ومع أن أذواقَنا ومُيُولَنا تتغيَّر فإن هذا التغيُّر الذي يكون مفاجئًا أحيانًا، يُلطَّفُ بالعادات، ويجب على المتفننِ الماهرِ أن يَجعَلَ الانتقالاتِ في تَعاقُب ميولنا أمرًا لا يُشعَرُ به، كما يُتدَرَّج في الألوان تدَرُّجًا صالحًا، فيخلِط بين الأصباغ ويَمْزُج بعضَها ببعض، وأن يَبسُطَ كثيرًا منها على أثره لكيلا يَنفصل أيٌّ منها، وقد أيَّدَت التجرِبة هذه القاعدةَ؛ فمن يُجاوِزون حَدَّ الاعتدال يُغيِّرون في كلِّ يوم عواطفَهم وأذواقهم ومشاعرهم، فلا شيءَ ثابتٌ عندهم غيرَ عادةِ التغيير، وأمَّا الرَّجل المتَّزِن فيعودُ إلى عاداته السابقة دائمًا ولا يَفْقِد حتى في مَشِيبه ذوْقَ الملاذِّ التي كان يُحِبُّها وهو صبي.
وإذا ما صنعتم عند الانتقالِ إلى دَوْرٍ جديدٍ من العُمُر ما لا يزدري الشُّبَّانُ معه دَوْرَ العُمُرِ السابق مطلقًا، وما لا يتركون معه سابق العادات عند إيلافِهم عاداتٍ جديدة، وما يُحِبُّون معه فِعْلَ الخيرِ دائمًا غيرَ ناظرين إلى الوقت الذي بَدَءوا فيه؛ فهنالك فقط تُنقِذون عملَكم وتَطْمئنون إليهم حتى آخرِ أيامهم؛ وذلك لأن أكثرَ ما يُخشَى من ثورةٍ هو ثورةُ العُمُر الذي تَرقُبونه الآن، وبما أنه يُؤسَف عليه دائمًا فإن من الصعب أن يُقضى على الأذواق التي يُؤتى بها إليه من دَوْر الصِّبا، ولكنها لا تَعُود إذا ما قُطِعت.
وليس من العادات الحقيقية معظمُ العادات التي تَظُنُّون أنكم تُلقِّنون الأولادَ والشُّبانَ إياها؛ وذلك لأنهم إذْ لم يَتلقَّوْها إلا كُرْهًا، ولأنهم إذ يتَّبِعونها على الرغم منهم، لا ينتظرون غيرَ فرصةِ التخلُّص منها، فلا يُعتَنَق ذوقُ البقاء في السجن عن فِعْل الإقامة به؛ فالعادةُ هنالك تزيد النفورَ بدلًا من نقصه. وليس هذا حالَ إميلَ الذي لم يصنع شيئًا في صباه إلا طوعًا وبلذة، فلما صار رجلًا داومَ على عيْنِ الفعل، ولم يعملْ غيرَ إضافة سلطان العادة إلى ألطاف الحرية، وقد بَلَغ من احتياجه إلى الحياة الفعَّالة وإلى عمل الذراعين وإلى التمرين والحركة ما لا يَترُك معه هذه الأمورَ من غير أن يألم، وينطوي إلزامُه من فوْره بحياةٍ ناعمةٍ حضريةٍ على سجْنه وتقييده وإلقائه في حالٍ من الشدة والقهر. ولا رَيْبَ عندي في فسادٍ يُصابُ به، مِزاجًا وصحةً على السواء. وهو إذا ما كاد يكون قادرًا على التنفُّس هنيئًا في غُرْفةٍ مُقْفَلةٍ تمامًا احتاج إلى الهواء الطَّلْق وإلى الحركة والعَناء، حتى إنه إذا ما كان راكعًا أمام صوفيةَ لم يستطِع أن يمنع نفسه من إلقاءِ نظرةٍ إلى الحقول في الحين بعد الحين مع رغبةٍ في أن يجوبَها معها، ومع ذلك فإنه يَبقى حينما يجب البقاء، ولكنْ مع غمٍّ واضطراب، ويلوح أنه يَنْتفِض بقَصْد التملُّص، وهو يَبْقى لأنه مُوثَقٌ بالقيود، وسوف تقولون: «إذنْ، هذه احتياجاتٌ قد أخضعتَه لها، وهذه عبوديَّاتٌ قد حبوْتَه بها.» وجميعُ هذا صحيح، وإنما جعلتُه خاضعًا لحال الرجولة.
أجلْ، إن إميلَ يُحبُّ صوفية، ولكن ما الفُتُون الأوَّل الذي ربَطه بها؟ الحُنو والفضيلة وحُب الأمور الصالحة، وهو إذا أحبَّ هذا الحُبَّ في صاحبته فهل يفقده في نفسه؟ وما الثَّمَن الذي تَضَعُ صوفيةُ لنفسها بدَوْرها؟ إنها تضع جميعَ المشاعر التي تُسَاور قلبَ عاشقها من تقدير الأمور الصالحة والقناعة والبساطة والخُلوِّ من الغَرَض وازدراء البذخ والثراء، وكانت هذه الفضائلُ موجودةً في إميل قبْل أن يَفْرِضه الحبُّ عليه، وفيمَ يكون إميل قد تغيَّر في الحقيقة؟ لديْه أسبابٌ جديدةٌ يكون بها إياه، وهذه هي النقطة الوحيدة التي يَخْتلف بها عمَّا كان عليه.
ولا أتصوَّر استطاعةَ أحدٍ حين يقرأ هذا الكتابَ بشيءٍ من الدِّقة أن يعتقد أن جميع الأحوال التي تكتنِف الوضعَ الذي يكون عليه قد تجمَّعَت حوْله مصادفةً على ذاك الوجه، وهل من المصادفة أن توجَد هذه الفتاةُ التي تروقُه في صميمِ مكانٍ منعزلٍ ناءٍ مع تقديم المدن كثيرًا من البنات اللطيفات؟ وهل لَقِيَها مصادفة؟ وهل توافقَا مصادفة؟ وهل من المصادفة ألَّا يستطيعا الإقامةَ بعيْن المكان؟ وهل من المصادفة ألَّا يَجِدَ ملجأً إلا في مكانٍ بعيدٍ منها؟ وهل من المصادفة ألَّا يراها إلا نادرًا، وأن يُضطَرَّ إلى اشتراء نِعمَةِ رؤيتها أحيانًا بمتاعبَ كبيرة؟ أنتم تقولون إنه يتخنَّث، وهو على العكس يتخشَّن، ويجب كذلك أن يكون من الاشتداد كما نشَّأتُه حتى يقاومَ المشاقَّ التي تَحْمِلُه صوفيةُ على احتمالها.
هو يَسكُن منزلًا بعيدًا فرسخَيْن منها، وهذه المسافةُ هي كِيرُ الحدَّاد، وبهذه المسافة أُسَقِّي سهامَ الحُبِّ، ولو كان كلٌّ منهما جارًا للآخر، أو لو كان قادرًا على الذهاب لرؤيتها، جالسًا على فراشٍ وثيرٍ داخل عربةٍ فاخرةٍ لأحبَّها حُبًّا مُريحًا؛ أيْ لأحبَّها على الطريقة الباريسية. وهل كان لِيانْدِرُ يَطلُب الموتَ من أجْل هِيرو لو لم يَفْصِله البحرُ عنها؟ فيا أيها القارئ، اكْفِني مئونةَ الكلام، فإذا كنتَ قد كُوِّنْتَ لإدراكي اتَّبَعتَ بما فيه الكفاية مبادئي كما فصَّلتُ.
وكُنَّا في المرات الأُولى التي ذهبنا فيها لرؤية صوفيةَ قد رَكِبْنا خيلًا للسير بسرعة، ونجد هذه الوسيلةَ ملائمة، ونداوم على ركوب الخيل حتى المرة الخامسة، وكُنَّا ننتظر، ونشاهد أناسًا في الطريق على مسافةِ نصفِ فرسخٍ من البيت. ويلاحظ إميلُ، ويَخْفِق قلبُه، ويدنو، ويَعْرِف صوفيةَ، ويترجَّل بسرعة، وينطلق، ويطير، ويصل إلى الأسرة المحبوبة، ويحب إميلُ جيادَ الخيل، ويكون جوادُه رشيقًا، ويشعر بأنه طليق، ويَهرُب عدْوًا من خلال الحقول، وأتبَعه وأبْلُغُه بعناء وأُعِيده. ومن المؤسِف أن صوفيةَ تخاف الخيلَ، فلا أجرؤ على الاقتراب منها، ولا يُبْصر إميلُ شيئًا، ولكن صوفية تُسِرُّ إليه في أُذُنِه بما تَرَك لصديقه من مشقة، ويُسرع إميلُ خَجِلًا ويتسلَّم الخيل، ويفترق عنَّا ويكون أوَّلَ مَن يذهب للخلاص من مطايانا، وهو إذ تركَ صوفيةَ وراءه على هذا الوجه عادَ لا يجد الحِصانَ مَرْكبًا مُريحًا، ويعود لاهثًا، ويلاقينا في منتصف الطريق.
وفي الرحلة الآتية يعود إميلُ راغبًا عن الخيل، وأقول له: «لماذا؟ ليس علينا إلَّا أن نأخذ خادمًا للالتفات إليها.» ويقول: «آه! أَوَنُرهِقُ الأسرةَ الكريمةَ مصروفًا على هذا الوجه؟ وأنت ترى جيِّدًا أنها تريد إطعامَ الجميعِ من خيلٍ وآدميين.» وأردُّ عليه بقولي: «أجلْ، إن عندهم نُبلَ قِرَى الفقراء. أجلْ، إن الأغنياء البخلاء في أُبَّهتِهم لا يُؤوون غيرَ الأصدقاء، ولكن الفقراء يُؤوون أيضًا خيلَ الأصدقاء.» ويقول: «لِنَسِرْ على الأقدام، ألَا تُقدِمُ على هذا أنت الذي يُقاسِم مَسارَّ ابنهِ المُتعِبةَ طيِّبَ الخاطر؟» وأقول معقِّبًا من فوري: «أذهبُ عن رضًا، وكذلك الحب لا يُريد كما يَلوح لي أن يقع مع كثيرٍ من الضوضاء.»
وندنو فنجِدُ الأمَّ والبنتَ أبعدَ مما كانتا عليه في المرة الأُولى، وقد أتينا كالسهم، ويكون إميلُ غارقًا في عَرَقه، وتتفضَّل يدٌ عزيزة بإمرارِ منديلٍ على خدَّيه، فستوجَد خيلٌ كثيرٌ في العالَم قبل أن نُغوَى بالانتفاع بها بعد الآن.
ومع ذلك، فإن من القسوة ألَّا نستطيع قضاء السهرة معًا؛ فقد أخذ الصيف ينقضي، وقد أخذت النُّهُرُ تنقُص، ومهما يمكننا من قولٍ فإنه لا يُسمَحُ لنا بالرجوع من هناك ليلًا مُطلَقًا، وإذا لم نَفِدْ منذ الصباح وجب العودُ حين وصولِنا تقريبًا. وأخيرًا يَعِنُّ للأم عن توجُّعٍ لنا وقلقٍ من أجلنا أنه وإن كان من غير اللائق أن نقيم بالمنزل، يُمكِن أن يُوجَد لنا مَسكنٌ في القرية كيما ننامُ فيه أحيانًا، ويُصفِّقُ إميلُ عند سماع هذه الكلمة، ويَطْرَب، وتُقبِّل صوفيةُ أمَّها أكثرَ من المعتاد لهذه الوسيلة التي وجدَتْها.
ويقوم لطفُ الصداقة ودَلُّ الطُّهْر ويَثْبُتان بيننا مقدارًا فمقدارًا، وأجيءُ عادةً مع صديقي في الأيام التي تُعَيَّنُ من قِبَل صوفية أو أمِّها، وأدَعَه يذهب وحدَه أحيانًا، والاعتماد يرفَع الرُّوح، وعاد لا ينبغي أن يُعامَل الرجلُ مثلَ ولد، وما أكون قد أنجزت حتى الآن إذا كان تلميذي لا يستحقُّ إكرامي؟ ومما يحدُث أن أذهب من غير أن يكون معي، وهنالك يغتمُّ ولا يتذمَّر، وما فائدتُه من التذمُّر؟ ثُمَّ إنه يَعْرِف جيِّدًا أنني لا أصنعُ ما يؤذي مصالحه، واعْلمْ أنه لا جوَّ يعوقُنا، سواءٌ علينا أذهبنا معًا أم على انفراد، وكلٌّ مِنَّا فخورٌ بالوصول في حالٍ يُرْثى لها. ومن دواعي الأسف أن تَحرِمنا صوفيةُ هذا الشرف؛ فهي تمنعنا من المجيء إذا كان الجوُّ رديئًا، وهذه هي الفرصة الوحيدة التي تتمرَّد فيها على القواعدِ التي أُمليها عليها سِرًّا.
ومما وقعَ ذاتَ يومٍ أن ذهب وحدَه وأنني لم أنتظر رجوعَه إلا في الغد، فأراه يعود في ذات المساء، وأقول له معانقًا: «ماذا! أراك ترجعُ إلى صديقك!» ولكنه بدلًا من أن يجيبَ عن ملاطفاتي قال لي مع قليلِ مِزاجٍ: «لا تَظُنَّ أنني أعود بهذه السرعة مختارًا، بل أعود على الرغم منِّي؛ فقد أرادت أن أجيء، وإني أجيءُ من أجْلها لا من أجْلك.» وأتأثَّر من هذه السذاجة، وأعانقه ثانيةً قائلًا له: «أيتها النفسُ الصدوق، أيها الصديق المخلِص، لا تكتم عني شيئًا يتعلَّق بي، إذا كنتَ قد أتيتَ من أجْلها فإنك تقول هذا من أجْلي. أجلْ، إن رجوعك مِن عملِها، ولكنَّ صراحتَك من عملِي، فحافظْ على هذه السَّريرةِ الجديرةِ بالنفوس الطيبة إلى الأبد. أجلْ، يمكن أن يُترَك للأخلياء أن يُفكِّروا كما يشاءون، ولكنَّ من الإجرام أن يُطاقَ جعْلُ الصديقِ لنا مَزِيَّةً عن شيءٍ لم نَصنعْه من أجْله.»
وأحترزُ من تنزيل قيمةِ هذا الاعتراف في نظره بأن وَجَدْتُ فيه غرامًا أكثرَ من أن أجِد كَرَمًا، وبأن أقول له إنه يريد أن يُجرِّد نفْسه من شَرف هذه العودة أقلَّ من أن يحبوَ به صوفية، ولكنه يَكشِف لي عن سريرته من حيث لا يدري ببيانه أنه إذا ما جاء على مَهْلٍ وبخطًى ضيقة حالِمًا بحبه لم يكن غيرَ عاشقٍ لصوفية، ولكنه إذا ما وصل بخُطًى واسعةٍ نَزِقًا مع هَمْهَمةٍ كان صديقًا لمُرشده.
وتَروْن بهذه التدابير أن فتايَ بعيدٌ من قضاء حياته بجانب صوفية ومن رؤيتها بمقدارِ ما يُريد، وكلُّ ما يُسمَحُ له به هو أن يقومَ برحلةٍ أو رِحلتَين إليها في الأسبوع الواحد، وفي الغالب تَدوم زياراتُه نصفَ نهار، ومن النادر أن تمتدَّ إلى الغد. ويقضي وقتَه في رجائه أن يَراها أو في تهنئته نفسَه بأنه رآها أكثرَ مما في رؤيتها فِعلًا، حتى إنه في الوقت الذي يُخصِّصُ لرحلاته يقضي من الزَّمن في ذهابه وإيابه أكثرَ مما يقضي بجانبها. والواقع أن لهوَه الصحيحَ الطاهرَ اللذيذَ، ولكن مع كونه حقيقيًّا أقلَّ منه خياليًّا، يُثير حبَّه أكثرَ من أن يُخنِّث قلبَه.
ومما يَحْدُث أحيانًا أن يُوجِّه جولاتِه نحوَ البيت السعيد، فيمكنه أن يرجو مشاهدة صوفية خِفيةً وأن يراها من غيرِ أن تراه، بَيْدَ أن إميل لا ينحرف في سلوكه، وهو لا يَعْرِف المواربةَ ولا يُريدها، وهو يتصف بتلك اللطافة السائغة التي تُداري حُبَّ الذات وتُغذِّيه بحُسْن الشعور. وهو يتقيَّد بحدود الإقامة تقيُّدًا وثيقًا، وهو لا يدنو دُنوًّا كافيًا ليظفر مصادفةً بما يرغب في نَيْله من صوفية نفسها، وهو عِوَضًا من ذلك يَجول في الجِوار طيِّبَ الخاطرِ باحثًا عن آثارِ خُطَى صاحبتِه، راقًّا لما تُلاقي من مَشَاقَّ وللجَوْلات التي تفضَّلتْ فقامت بها لمجاملته. وهو يذهب عشيَّةَ الأيام التي يجب أن يراها فيها إلى مزرعةٍ مجاورةٍ ليوصي بوجبةٍ خفيفةٍ للغد، وتسير النزهة إلى تلك الناحية من غير أن يُشعَر بذلك، ويُدْخَلُ هنالك كما لو وَقَع هذا مصادفةً. وتُوجَد فواكه وحلوى وقِشْدة، وتُحِبُّ صوفية الأطعمة اللذيذة فلا تكون غيرَ مكترثةٍ لهذه الالتفاتات، فتبتهج بما كان من استعدادنا. وأنالُ نصيبي من المجاملة وإن لم أشتركْ في الجُهْد الذي استوجبها، وهذا أسلوبٌ تتخذه فتاةٌ صغيرةٌ لكيلا تجدَ حَرَجًا في الشكر. ونأكل أنا والأب من الحلوى ونشرب من الخمر، ولكنَّ إميلَ من حصة النساء، فيترقَّب ليسترِقَ طبقًا من القشدة التي غُمِسَت فيها مِلعقةُ صوفية.
وتَسُوقني الحَلوى إلى الكلام عن مبارياتِ إميلَ السابقة، ويُرادُ أن يُعْرَف ما هذه المباريات، وأُوضِحها ويضحكون، ويُسأل عن كوْنه لا يزال قادرًا على العَدْو، ويجيب بقوله: «أحسن مما في أيِّ وقتٍ كان، ومما يَغِيظُني كثيرًا أن أنساه.» ويرغب أحدُ الأصحاب أن يراه، ولا يجرؤ على قول هذا، ويأخذ آخرُ على عاتقه أن يقترح هذا، ويَقْبَل، ويُجمع له اثنان أو ثلاثةٌ من الجِوار، وتُعْرَض جائزة، وتُوضَعُ قطعةٌ من الحلوى على الهدف كما كُنَّا نصنع في الألعاب السابقة، ويستعِدُّ كلُّ واحد، ويُعطي أبو صوفية الإشارةَ بتصفيقه، ويُسابِقُ إميلُ الرشيقُ الريحَ، ويَبْلُغ الهَدفَ قبْل أن يأخذَ الثلاثة الغِلاظ في الانطلاق، ويتناول إميلُ الجائزةَ من يدِ صوفية، ولا تكون أقلَّ كَرَمًا من إنْياسَ، فتُقدِّمُ هدايا إلى جميع المغلوبين.
ولم يُخلَق النساءُ للعَدْو، وهنَّ إذا ما هَرَبْن فلكي يُدرَكْنَ. وليس العَدوُ هو الشيء الوحيد الذي لا يُتقِنَّه، ولكنه الشيء الوحيد الذي يَقُمْن به مع عدم لباقة، وذلك أن مَرَافقهن، إذ تكون مُلصَقةً ببدنِهن نحوَ الخلف، تَمنحُهن وضْعًا موجِبًا للضَّحِك، وأن كعوبهن العالية التي يَقُمْنَ عليها تُظهِرُهن كالجراد الذي يحاول العَدْوَ من غير أن يَثِب.
ولا يَتَصوَّر إميلُ أن صوفية تَعْدو خيرًا من النساء، فلا يتنازل أن يَخرُج من مكانه، وهو يراها تنطلق مُتبَسِّمًا ساخرًا، ولكن صوفية خفيفةٌ وتَلْبَس كعبَين وطيئَين، وهي لا تحتاج إلى حيلةٍ حتى تَظهَرَ ذاتَ رِجْلٍ صغيرة، وهي تبلُغُ من سرعةِ العَدْوِ ما لم يكن لديه غيرُ ما يحتاج إليه من الوقت لإدراك أتَلَنْتَة الجديدة التي يُبصرُها بعيدةً كثيرًا منه، وينطلق بدوره إذن مشابهًا للنَّسْر الذي ينقضُّ على فريسته، ويتعقَّبها ويطاردها، وأخيرًا يُدرِكُها ضيِّقةَ النَّفس، ويضع ذراعه اليُسرى حولها برفقٍ ويرفعها كريشةٍ ويَضُمُّ هذا الحِمْل اللطيفَ إلى فؤاده، ويُتِمُّ العَدْوَ هكذا، ويجعلُها أوَّلَ مَن يَمَسُّ الهدف، ثُمَّ يهتف قائلًا: «الفوزُ لصوفية!» ويركع على ركبةٍ واحدةٍ أمامها ويعترف بأنه المغلوب.
وتُضاف إلى هذه الأشاغيل المختلفة أُشْغُولةُ الحِرْفة التي تعلمناها، فإذا ما عَدَوتَ يومًا واحدًا في الأسبوع على الأقل مع جميع الأيام التي لا يَسْمَحُ لنا الجوُّ الرديءُ بأن نسعى في الحقول، فإننا نذهب، أنا وإميلُ، للعملِ عند مُعَلِّم، ونحن لا نشتغل شكلًا كما يشتغل مَن يَعْلُون هذه الحرفة، ولكننا نشتغل جِدِّيًّا مثلَ عُمَّالٍ حقيقيين. ويأتي أبو صوفية ليرانا فيجدنا جادَّيْن في العمل، فلا يُعوِزُه أن يَروي لزوجته وابنته ما رأى روايةَ المُعجَب، وهو يقول لهما: «اذهبا وانظرا هذا الشابَّ في المصنع لتريا هل يزدري حال الفقير!» ومن الممكن أن يُتصوَّر ما تَسمع به صوفيةُ هذه الكلمةَ مع الارتياح! ويتكلمون في الموضوع ثانية، وتُرادُ مباغتته في أثناء عمله، وأُسْأل من غير وجودِ غرضٍ خاصٍّ ظاهرًا، وتَتثبَّت الأمُّ والبنتُ في أمرِ يومٍ من أيامنا، ويركبان عربة، ويأتيان إلى المِصْر في ذات النهار.
وتَدخل صوفية المصنع فتشاهد في الطَّرَف الآخر شابًّا لابسًا سُترة، مُهمِلًا تسريحَ شَعْره، بالغًا من الجِدِّ في عمله ما لم يُبصِرها معه قَط. وتقف، وتأتي بإشارةٍ لأمِّها، ويكون إميلُ حاملًا إزميلًا بيدٍ ومِطرَقةً باليد الأخرى، فيُتِمُّ فرضَ خشبة، ثمَّ يَنشُر لوحًا ويضعُ قطعةً منه تحت المِلْزَمة لِصَقْلها، ولا يُثيرُ هذا المنظرُ ضَحِكَ صوفية مطلقًا، بل يُؤثِّر فيها ويستوجب احترامها. فيا أيتها المرأة، أكرمي زوجك؛ فهو يعمل من أجْلك ويكسِب خبزَك ويُطعِمُك، وهذا هو الرجل.
وبينما كانتا تُلاحظانه بدقةٍ أُبصِرُهما، فأجُرُّ إميلَ من كُمِّه، ويلتفت ويراهما، ويَطرَحُ الآلات جانبًا، ويطير إليهما هاتفًا مسرورًا، ويُقعِدُهما بعد أن أسلَم نفْسَه إلى فرحِه الأوَّل، ويستأنفُ عمله، ولكن صوفية لا تَصْبِرُ على البقاء جالسة، فتنهضُ برشاقةٍ وتجوب المعملَ وتفحَص الآلات، وتَمَسُّ الألواح المصقولة، وتلُمُّ نُشارَةً من الأرض، وتنظُر إلى أيدينا وتقول إنها تُحِبُّ هذه الحِرفة لأنها نظيفة، حتى إن هذه اللَّعوبَ تحاول تقليدَ إميل، فتدفع مِنْحَتًا على اللوْح، ويَزْلَقُ المِنْحَتُ ولا يَقرِضُ مُطلَقًا، ويلوح لي أن الحُبَّ نفسه يُحلِّق فوقنا ويُصفِّق بجناحيه، ويلوح لي أنني أسمعه يهتِفُ ابتهاجًا قائلًا: «أُخِذَ ثأرُ هِرْكول.»
ومع ذلك، فإن الأمَّ تسأل المُعلِّمَ: «ما أجرةُ هذين العاملَين يا مُعلِّم؟» «أدفَعُ إلى كلٍّ منهما عشرين دانقًا عن كلِّ يوم يا سيِّدتي، فضلًا عن طعامهما، ولكن هذا الشابَّ يكسِب أكثرَ مما يأخذ بدرجاتٍ لو أراد؛ فهو أحسنُ عاملٍ في البلد.» وتقول الأمُّ وهي تنظر إلينا بحنان: «عشرون دانقًا في اليوم وتُطعِمُهما!» ويَرُدُّ المُعلِّم عليها بقوله: «أجلْ، إن الأمر هكذا يا سيِّدتي.» وتُهْرَع إلى إميلَ عند سماع هذه الكلمة وتعانقه وتَضمُّه إلى صدرها وهي تُفِيض عليه من دمْعها، فلا تستطيع أن تقول له شيئًا آخرَ غيرَ تكرارِها كثيرًا كلمة «ابني! ابني!»
وتقول الأمُّ لبنتها بعد قضائهما بعضَ الوقت في الحديث معنا، ولكن من غيرِ أن تَقْطعا عملنا: «لِننصرِفْ من هنا؛ فقد تأخَّرنا، ولا يجوز أن نَحْمِلَ الأبَ على انتظارنا.» ثُمَّ تدنو من إميلَ وتضربه ضربةً خفيفةً على خدِّه وهي تقول له: «حسنًا! أيها العامل الصالح، ألَا ترغب في المجيء معنا؟» ويجيبها بلهجة الملهوف: «إنني مُتقَبِّلٌ لعمل، فاسألي المُعلِّم.» ويُسأل المُعلِّمُ عن إمكانِ تَفضُّلِه بالاستغناءِ عنَّا، فيجيب بأنه لا يستطيع ذلك، وقد قال: «يُوجَد عملٌ مستعْجَلٌ يجب أن أنجِزه بعد يومين، وقد اعتمدت على هذين السيدَين فرفضتُ عُمَّالًا عَرَضوا أنفسهم، فإذا أعْوَزني هذان العاملان لم أدْرِ أين أجِد مَن يقوم مقامهما، ولم أستطِع تسليم العمل في اليوم الموعود.» ولم تُجب الأم بشيء، وتنتظر قولًا من إميل، ويَخفِضُ إميل رأسه ويَسكت، وتقول له مع بعض الحَيرة من هذا الصمت: «أليس عندك ما تقول لهذا؟» ويَنظر إميلُ نظرَ حنانٍ إلى ابنتها، ولا يَنطِق بغير كلمة: «يجب أن أبقى كما تَرَيْن.» وهنالك تَنْصرِف السيدتان، ويُشيِّعهما إميلُ حتى الباب، ويُتبِعهما بعينيه ما استطاع، ويتأوَّه، ويعود إلى العمل من غير أن يَنبِس بكلمة.
وتأْلَم الأم، فتُحدِّث ابنتَها في الطريق عن غرابة هذا الأسلوب، وتقول: «ماذا! أكان من الصعب كثيرًا إقناعُ المُعلِّم فلا يُضْطرُّ إلى البقاء؟ أفلا يَجِدُ هذا الفتى المِتْلافُ الذي يُنفِق المالَ بلا ضرورة، ما يَستعمِل منه في الأحوال المناسبة؟» وتجيب صوفية بقولها: «أُمَّاه! معاذَ اللهِ أن يَعتمد إميلُ على المال وأن يَنتفعَ به فينقُضَ عهدًا شخصيًّا ويُخلِفَ قولَه بلا عقابٍ ويَحْمِلَ آخرَ على نَقْضِه! أجلْ، إنني أعْرِف أنه يَسهُلُ عليه أن يُعوِّض المُعلِّمَ من ضررٍ طفيفٍ ينشأُ عن غيابه، ولكنه يُعبِّدُ نفسَه بذلك للثراء، فيتعوَّدُ وضْعَه في مكانِ واجباته، ويعتقد أنه يُعفَى من كلِّ شيءٍ إذا ما دفع مالًا. يُوجَدُ لإميلَ أساليبُ أخرى في التفكير، فأرجو ألَّا أكون سببَ تغييره لها. أَوَتظنين أن بقاءه لا يكلِّفه شيئًا؟ أمَّاه، لا تركبي متنَ الخطأ؛ فهو قد بقيَ من أجْلي، وقد أبصرتُ ذلك في ناظريه.»
ولا يَعني ذلك كونَ صوفيةَ متساهلةً في دلائلِ الحبِّ الحقيقية؛ فعلى العكس تجدُ صوفيةَ متجبِّرةً طَلوبًا، فُتفضِّلُ ألَّا تُحَبَّ على أن تُحَبَّ باعتدال، وهي تتصف بزَهْوِ المَزِيَّةِ النبيلِ الشاعرِ بنفسِه والمُقَدِّرِ لذاته والذي يُريد أن يُكرَم كما يُكرِم نفسَه، وهي تزدري قلبًا لا يَعْرِف قيمةَ قلبها ولا يُحِبُّها من أجْل فضائلها حُبًّا يَعدِل فُتُونها أو يزيد، قلبًا لا يُفضِّل عليها واجبه الخاص، قلبًا لا يُفضِّلها على كلِّ شيءٍ آخر، وهي لا ترغب مُطلَقًا في عاشقٍ لا يَعْرِف سلطانًا غيرَ سلطانها، وهي تريد أن تهيمن على رجلٍ لم يُفسدْ بها قَط؛ فعلى هذا الوجه ازدرتْ سِيرْسِه أصحابَ أُوليسَ بعد إذلالها لهم، فوَهَبَتْ نفسَها له وحدَه لعدم استطاعتها أن تُغيِّرَه.
ولكنك إذا عَدوتَ هذا الحقَّ المَصونَ المُقدَّسَ وجدتَ صوفيةَ غيورًا على جميع حقوقها؛ فهي تَرقُب، مع التدقيق، مقدارَ احترامِ إميل لهذه الحقوق، ومقدارَ ما يَبذلُ من هِمَّةٍ في تنفيذ رغائبها، ومقدارَ حِذْقه في حَزْرِه لهذه الرغائب، ومقدارَ انتباهه إلى الوصول في الدقيقة المقرَّرة؛ فهي لا تريد أن يتأخَّر أو يتقدَّم، وإنما تريدُ أن يكون مُدَقِّقًا. إهمالُ صوفية هذا لا يقع مرتين، وكلُّ شكٍّ جائرٍ يساورها يقضي على كلِّ شيء، ولكن صوفية مُنصِفة، ولكن صوفية تَعرف كيف تُصلح خطأها.
ونُنتَظَر ذاتَ مساء؛ فقد تلقَّى إميلُ الأمر، ويُؤتَى لاستقبالنا، ولا نَصِل مُطلَقًا، وماذا حدث لنا؟ وأيةُ بليةٍ أُصِبنا بها؟ لا أحدَ من ناحيتنا، ويُقضى المساء في انتظارنا، وتَظنُّ صوفية المسكينة أننا مِتْنا، ويعتريها حزنٌ شديد، ويضيق صدرُها، وتُحيي ليلتها بالبكاء، ويُرسَلُ في المساء رسولٌ للبحث عنَّا، ولِيَأتيَ في صباح الغد بخبرٍ عنَّا، ويعود الرسولُ مع آخَرَ مِن قِبَلنا ليُبَلِّغ اعتذارَنا ويقولَ إننا في حالٍ جيدة، ويمضي وقتٌ قصيرٌ فنظهر بأنفسنا، وهنالك يتغيَّر المنظر، فتُكَفْكف صوفيةُ دموعَها، وهي إذا ما سَكَبَتْ منها كان ذلك عن غضب؛ فلمْ يكن فؤادُها المختالُ لينالَ شيئًا من اطمئنانه إلى حياتنا؛ فإميل حي، وقد أوجب انتظارَه على غير جَدْوَى.
ونَصِل، فتُريد أن تُقفِلَ عليها البابَ، ويُراد أن تبقى، فتبقى، ولكنها إذ تنقاد من فوْرها تُظهِر من الهدوء والرِّضا ما يُموِّه على الآخرين. ويأتي الأب أمامنا، ويقول لنا: «لقد أقلقتما بالَ أصدقائِكما، ويوجد هنا مَن لا يَسهُل عليهم أن يَعفوا عنكما.» وتقول صوفية بأعذبِ ما يُمكنها مِن تَبَسُّم: «مَن هم إذن يا أبي؟» ويجيب الأب بقوله: «وما يُهِمُّك على ألَّا تكوني منهم؟» فلا تَردُّ صوفية على هذا، وتَطرِقُ على شُغلها، وتستقبلُنا الأمُّ ببرودةٍ وتَكَلُّف، ويرتبك إميل فلا يجرؤ على الدُّنُوِّ من صوفية، فتكون أوَّلَهما كلامًا، فتسأله عن صحَّته، وتدعوه إلى الجلوس، وتُظْهِرُ من التنكُّر ما يُخدَع معه بذاك الفُتورِ هذا الشابُّ المسكينُ الذي لا يزال غيرَ مُدرِكٍ للغة الأهواء العنيفة، فيُوشِكُ أن يَغضب.
وأريدُ أن أُزيلَ الغِشاوة عنه، فأبادر إلى يدِ صوفية وأوَدُّ أن أرفعها إلى شَفتيَّ كما أفعل أحيانًا، فتَسحبُها من فوْرها مع كلمة «سيِّدي» التي كان نُطقُها بها من الغرابة ما كَشفتْها معه هذه الحركةُ غيرُ الإرادية لعينَي إميلَ حالًا.
وتُبصِرُ صوفية أنها كشفتْ سِرَّها، فيقِلُّ ضبطُها لنفسها، وتتحوَّل رباطةُ جأشِها الظاهرةُ إلى ازدراءٍ تَهكُّمِيٍّ، وتُجيبُ عن كلِّ ما يُقال لها بكلماتٍ ذاتِ مقطع واحد تَنطِق بها بتؤدةٍ وتَردُّدٍ كأنها تخاف أن يَنِمَّ كلامُها على غيظِها كثيرًا. ويَظهَرُ إميلُ نصفَ ميِّتٍ ذُعْرًا ويَنظُر إليها متألِّمًا، ويحاوِل أن يَحْمِلها على إلقاءِ نظراتٍ عليه، فتلتقي أعينُهما، فيقرأ في عينيها مشاعرَها الحقيقية. وتكون صوفية أكثرَ غيْظًا من اعتداده بنفسه، فتُلْقي عليه نظرةً تَنزِعُ منه كلَّ رغبةٍ في الفوْز بنظرةٍ أخرى منها، ويُلْجَمُ إميلُ ويَرتجف، وعاد لا يَجرؤ لحُسْن حظِّه على مخاطبتها ولا على النظر إليها؛ وذلك لأنها ما كانت لِتَصفحَ عنه ولو لم يكن مذنبًا، ولو استطاع أن يَحتمل غضبَها.
وأرى أن دَوْرِي قد أتى، وأن وقتَ الإيضاحِ قد حَلَّ، فأعودُ إلى صوفية، وأتناول يدَها ثانية، ولا تخطَفُها، وإن كانت مستعِدَّةً للظهورِ سيئةَ الحال، وأقول لها برقَّة: «نحن تعساء يا صوفية العزيزة، ولكنَّكِ عاقلةٌ عادلة، فسوف لا تَحكُمِين في أمْرِنا من غيرِ أن تَسمعينا، فاسْتمِعي إلينا.» ولا تُجيب بكلمة، وأقول ما يأتي:
«لقد انطلقنا أمسِ في الساعة الرابعة، وقد أُشيرَ علينا بأن نَصِلَ في الساعة السابعة، ونحن نحتاط لأنفسنا بوقتٍ أطولَ مما نحتاجُ إليه كيما نستريحُ عندما ندنو من هنا، ونقطع ثلاثةَ أرباعِ الطريق، فتَقْرعُ أسماعَنا نياحاتٌ مؤلِمةٌ صادرةٌ عن مضيقٍ بجانبِ التَّلِّ بعيدٍ بعضَ البُعد مِنَّا، ونُهْرَع إلى مكانِ الصُّراخ، فنجِدُ فلَّاحًا تَعِسًا راجعًا من المِصْر مجترعًا بعضَ الخمر على حِصانه، فسَقطَ منه سقوطًا شديدًا كُسِرَتْ منه ساقُه. ونَصيحُ ونَطلُب العون، ولا نَجِدُ مَن يُجيب، ونحاول وضْعَ الجريح على حِصانه فلا نستطيع صُنْع ذلك؛ فهذا التَّعِسُ يعاني من الآلام أعظمَها هَوْلًا عند أقلِّ حركة. ونُزمِع على ربْط الحِصان في مكانٍ منحرفٍ من الغابة، ثُمَّ نَجعل من أذْرعنا مَحْمِلًا، ونَضعُ الجريحَ عليه، ونَحْمِله بأعظمِ ما يُمكن من الرِّفق عاملَيْن بإشارته في الطريق التي يجبُ السيرُ عليها لبلوغ منزله، وتكون المسافةُ طويلة، ونُلزَم بالاستراحةِ مراتٍ كثيرة، وأخيرًا نصل منهوكَين تَعَبًا. وكان من دَهَشِنا المُرِّ أنْ كُنَّا نَعرِف البيت، وأنْ كان هذا البائسُ الذي نَقلناه بجُهْدٍ عظيمٍ هو عينَ الرجلِ الذي تَقبَّلَنا بقبولٍ وِدَاديٍّ يوم وصولنا الأوَّل إلى هنا، وما كان يساورنا من كَدَرٍ جميعًا حالَ دون تعارفنا حتى تلك الساعة.
ولم يكن عنده غيرُ طفلَين، وكانت زوجهُ قريبةً من منحه طفلًا ثالثًا، وبَلغ ما عانته من التأثُّر حين رأت وصولَه ما شعرتْ معه بأوجاعٍ حادَّة ووضعتْ بعد ساعاتٍ قليلة. وما يُصنَع في هذه الحال في كُوخٍ بعيدٍ حيث لا يُرجى أيُّ عون؟ عزَمَ إميلُ على أخذِ الحِصان الذي تركناه في الغابة فيركبه ويَعْدو بأقصى ما يُمكن من السرعة لإحضار جَرَّاحٍ من المِصر، ويُعطي الجرَّاحَ الحِصانَ، وبما أنه لم يستطِع أن يجدَ ممرِّضةً على عَجَلٍ فقد عاد سائرًا على قدمَيه مع خادمٍ بعد أن أرسلَ إليكم ساعيًا. وبينما كنتُ مرتبكًا، كما يمكن أن يَلوحَ لكم، بين رَجلٍ مكسورِ السَّاقِ وامرأةٍ في دَوْر الطَّلْق، كنتُ أُعِدُّ في البيت كلَّ ما كان يمكنني أن أبصرَه ضروريًّا لمساعدة الاثنَين.
ولن أُفصِّلَ البقيةَ مطلَقًا؛ فهي ليست موضعَ بحث، وقد حَلَّت الساعةُ الثانية بعد منتصف الليل قبل أن تُتاحَ لكلٍّ مِنَّا، نحن الاثنَين، دقيقةُ راحة. والخلاصةُ أننا عُدنا إلى مأوانا القريبِ من هنا قبْل طلوعِ الشمس، فانتظرنا فيه ساعةَ انتباهِكم من النوم كيما نُخبِرُكم بما حدثَ لنا.»
وأسْكُتُ من غيرِ إضافةِ شيء، ولكنَّ إميلَ يدنو من صاحبته قبْلَ أن يتكلَّم أحدٌ، ويرفعُ صوتَه ويقول لها برصانةٍ لم أتوقَّعْها: «أيْ صوفية، أنت حَكَمٌ في مصيري الذي تعرفين جيِّدًا، أجلْ، إنك قادرةٌ أن تحكمي عليَّ بالموت ألَمًا، ولكنْ لا تأمُلي أن تحمليني على نسيانِ حقوق الإنسانية؛ فهذه الحقوق أقْدَسُ من حقوقك، ولن أتنزَّل عنها من أجْلِك.»
سَمِعتْ صوفية هذه الكلمات، فنهضَتْ من غير أن تُجِيب، ووضعتْ ذراعَها حوْل عُنُقه، وطبعتْ قُبْلةً على خدِّه، ثُمَّ مَدَّت إليه يَدَها بلطفٍ منقطعِ النظير، وقالت له: «أيْ إميل، تناولْ هذه اليد فهي لك، وكن متى شئتَ زوجي أو مُعلِّمي، فسأحاول أن أكون أهلًا لهذا الشرف.»
ولم تَكَدْ صوفيةُ تُقبِّلُه حتى صَفَّق أبوها المسرورُ هاتفًا: «مرةً أخرى، مرةً أخرى.» ولم تلبثْ صوفية أن قبَّلتْ خَدَّه الآخرَ مرتَين من غيرِ استعجال، ولكنها لم تَنْشَبْ أن اعتراها وَجَلٌ في ذات اللحظة تقريبًا، فالتجأتْ إلى ذراعَي أُمِّها وأخفَتْ وجْهَها الملتهِبَ خَجَلًا في صدرِ أمِّها.
ولن أصِفَ سرورَنا الشاملَ مطلقًا؛ فجميعُ النَّاسِ يَشعرون به. ونتناول الغداء، فتطلب صوفية أن يُزارَ ذانك المريضان الفقيران، وتَرْغب صوفية في ذاك العمل الصالح، ويُذْهب إلى هناك، ويُشَاهَدان على فِراشَين منفصلَين. وكان إميلُ قد جَلَبَ فِراشًا لهما، ويُرى حولهما أناسٌ لتسليتهما، وإميل هو الذي قام لهما بهذا، ولكنهما مع ذلك يألَمان به من سوءِ وضعهما أكثرَ من حالهما. وتتناول صوفيةُ وِزْرَةً من الزوجة الصالحة، وتُرتِّبها على فراشها، ثُمَّ تَصْنع مثلَ ذلك للزوج، وتعرف أن تَبحث بيدها اللطيفة الخفيفة عن كلِّ ما يؤلمهما، وأن تجعلَ أعضاءهما المتألِّمَة في وضعٍ أكثرَ إراحةً. وسَبَقَ أن شَعَرَا بسكونٍ في الوَجَع عند دُنُوِّها، فكأنها تتنبَّأ بكلِّ ما يؤلمُها. وما كانت هذه الفتاةُ البالغةُ الرِّقة لِترتدَّ أمام القذارة ولا أمام الرائحة الكريهة، وهي تَعرِف كيف تُزيلُ هذه وتلك من غير استعانةٍ بأحدٍ ومن غيرِ إزعاجٍ للمريضَين. وتعود هذه الفتاةُ التي تُرى ذاتَ حياءٍ دائمًا، ومُزدريةً أحيانًا، والتي لم تَمَسَّ بطَرَفِ إصبعِها فراشَ رجل، وتُغيِّر بَياضاتِ الجريح بلا تَردُّد، وتجعله في وضعٍ مريحٍ يستطيع أن يبقى عليه وقتًا طويلًا، وحَميَّةُ الإحسان خيرٌ من الحياء. وما تفعلُ تصنعُه بخِفَّةٍ ومهارة يُحِسُّ بهما سكونَ وَجعِه من غيرِ أن يَعْرِف أنها مسَّتْه. ويتَّفق الزوج والزوجة على شكرهما للفتاة اللطيفة التي تخدمهما وتتوجَّع لهما وتُفرِّج الغمَّ عنهما، وهي من ملائكة السماء الذين يُرْسلهم الله، ولا عَجَب؛ فلها وجهُ مَلَكٍ ولُطْفُه ورِفقُه ودَعَتُه، ويكون لهذا أبلغُ الأثرِ في نفْس إميلَ فيتأمَّلُها صامتًا. فيا أيها الرجل أحِبَّ قرينتك؛ فقد أعطاك الله إياها لتفريج كَرْبِك في آلامك، وكشْفِ هَمِّك في أوصابك، وهذه هي المرأة.
ويُعَمَّدُ المولودُ حديثًا، وبينَا كانا العاشقان يقدِّمانه إلى جُرْن العِماد كانا يَتُوقان من صميم فؤادهما إلى الوقت الذي يُرزَقان فيه ولدًا فيُعمَّد، وكانا يَتُوقان إلى اليوم المرغوب فيه، وكانا يشعران باقترابه، وقد زالت جميعُ وساوس صوفية، ولكن وساوسي أتت؛ فَهُما ليسا بعدُ حيث يُفكِّران، ولا بُدَّ من أن يكون لكلٍّ دَوْرُه.
مَرَّ — ذات مرَّةٍ — يومان من غيرِ أن يرى أحدهما الآخر، فدخلتُ غرفةَ إميل حاملًا كتابًا بيدي وسألتُه مُحدِّقًا إليه: «ما تصنع إذا ما أخبرك أحدُ النَّاس بأن صوفية ماتت؟» ويصيح ويضرب يدًا بيد، وينظر إليَّ بعينَين حائرتَين من غير أن ينبِس بكلمة، وأداوم على قولي هادئًا: «أجبْ إذن.» ويُسَاوره غضبٌ ويتميَّز من الغيظ إذ يراني رابطَ الجأش هادئًا، ويتَّخذ من الوضع ما يَنِمُّ على الوعيد تقريبًا، ويقول: «ما أصنع؟ لا أدري، وإنما الذي أعْرِف هو أنني لن أُلقي نظرةً على الذي يَنقُلُ إليَّ هذا الخبر ما دمتُ حيًّا.» وأقول له مُتبسِّمًا: «قَرَّ عينًا؛ فصوفيةُ حيةٌ وتتمتع بصحة جيدة، وهي تفكِّر فيك، وهم ينتظروننا في المساء، ولكن لنقمْ بجولةٍ قصيرة، وسنتكلَّم.»
وما يَشغَل بالَه من هَوًى عاد لا يَسمحُ له كما في الماضي بمحادثاتٍ قائمةٍ على العقل الخالص؛ فلا بُدَّ من استمالته بهذا الهوى نفسِه إلى انتباهه لدروسي، وهذا ما فعلتُ بهذا المدخل الهائل؛ فأنا الآن مطمئنٌّ إلى أنه سيستمع لي.
«لا بُدَّ من السعادة يا إميلُ العزيز؛ فالسعادة غايةُ كلِّ موجودٍ حسَّاس، وهي الرغبة الأُولى التي طبعتها الطبيعة فينا، والتي لا تفارقنا مُطلقًا، وكلٌّ يطلبُها، ولا أحدَ يجِدُها، وكلٌّ يُفني حياتَه في البحث عنها فيموت من غيرِ أن يَصِلَ إليها. ويا صديقي الشابَّ، هل كنتُ أعْرِفُ ما ألزمتُ نفسي به عندما تناولتُك بين ذراعيَّ عند ولادتك وأشهدتُ الربَّ العليَّ على العهد الذي أقدمتُ على عَقْده، فوقفتُ أيامي على سعادة أيامك؟ كلَّا، وإنما كنتُ أعْرِف أنني إذا ما جعلتك سعيدًا اطمأننتُ إلى سعادةِ نفسي؛ فكنتُ إذا ما قمتُ بهذا البحثِ المفيدِ في سبيلك جعلتُه مشتركًا بيني وبينك.
وتقومُ الحكمةُ على البِطالة ما دُمْنا نَجْهَل ما يجب أن نَصْنع، وهذا أكثرُ ما يحتاج إليه الإنسان من المبادئ، وهذا أقلُّ ما يَعْرف اتِّباعَه. ويَعْني البحثُ عن السعادة من غيرِ أن يُعْرَف أين هي تَعريضَ الإنسانِ نفسَه للفِرار منها، يَعني تعريضَ الإنسانِ نفسَه لأخطارٍ كثيرةٍ مختلفةٍ بمقدارِ ما يُوجَد من طُرُقٍ يَضِلُّ عنها، ولكن ليس من شأن جميع النَّاس أن يُستطاع عدمُ السَّير مُطلَقًا؛ ففي غَمٍّ من سَوْرة النعيم يُساوِرنا نُفضِّلُ أن نَخْدع أنفسنا في نِشدانِه على عدمِ عملِ شيءٍ للبحث عنه، ونحن إذا ما خرجنا مرَّةً من الموضع الذي نستطيع أن نعرفَه فيه عُدنا غيرَ قادرين على العودِ إليه.
وقد حاولتُ اجتنابَ عينِ الخطأ عن عينِ الجهْل، وإني إذ أخذتُ على عاتقي أن أُعْنَى بك، عزمتُ ألَّا أقومَ بخُطوةٍ غيرِ مُجديةٍ كما عَزَمتُ أن أحُول دونَ اتخاذِك مثلَ هذه الخُطوة، فالتزمتُ سبيلَ الطبيعةِ التي لا تبديل لها، والتي كنتُ أتَّبِعُها من غيرِ أن تَخْطُر ببالي.
وكنْ شاهدي وحاكمي، فلن أرْفِضك مطلَقًا؛ فلم يُضَحَّ بأعوامِك الأُولى في سبيل جميع الأعوام التي يجب أن تعقُبَها، وقد تمتعتَ بجميع المواهب التي أنعمتْ بها الطبيعةُ عليك، وما أخضعتْك له الطبيعةُ من شرور، فقد استطعتُ أن أقِيَكَ منه، ولم تشعُر بغير الشرور التي تستطيع أن تُقوِّيَكَ على سواها، ولم تُعانِ قَطُّ من الشرور ما عانيتَ إلا لاجتنابِ ما هو أعظمُ منها، وأنت لم تَعرِف الحقدَ ولا العبودية، وقد بَقِيتَ، وأنت الحرُّ القانع، عادلًا صالحًا؛ وذلك لأن الألمَ والعيبَ أمران ملازمٌ أحدُهما للآخر، ولا يصيرُ الإنسان شَرِيرًا إلا إذا كان شقيًّا. ولْتستطِعْ ذِكرى صِباك أن تطُول حتى أواخر أيامك! ولا أخشى مُطلَقًا أن يَذكُر قلبُك الطيبُ هذا الصِّبا من غير أن يبارك لليدِ التي رَبَّته.
ولما بلغتَ سِنَّ الرُّشد صُنْتُك من مُبْتَسَراتِ النَّاس، ولما صار فؤادُك حَسَّاسًا حَفِظْتك من سلطان الأهواء، ولو استطعتُ إطالةَ هذا السكونِ الباطنيِّ إلى آخرِ حياتك لوضعتُ عملي في مأمن، ولحُزتَ من السعادة الدائمة أقصى ما يستطيع إنسانٌ أن يَحوزَه، ولكنني غمستُ رُوحك في مياه ستِيكْس يا إميلُ العزيز، فلم أستطِع أن أجعلها معصومةً من الجروح في كلِّ مكان، وذلك أنه يَنْهَضُ عدوٌّ جديدٌ لم تتعلَّم أن تَقهَرَه بعدُ، ولم أقْدِرْ أن أصونَك منه، وهذا العدوُّ هو نفسُك، وقد تركتْك الطبيعةُ والنصيب، فيُمكِنُك أن تحتمل البؤسَ وأن تَصْبِرَ على آلام البدن، وأمَّا آلامُ النفس فقد كانت مجهولةً لديك، وأنت لم تكُ تابعًا لشيءٍ غيرِ الحالِ البشري، والآن تَتْبَعُ جميعَ ما جعلتَ لنفسك من روابط؛ فأنت إذ تعلمتَ الرغبةَ جعلْتَ نفسَك عبدًا لرغائبك، وأنت من غير أن يتغيَّر فيك شيء، ومن غيرِ أن يَمَسَّ وجودَك شيء، ما أكثرَ الآلامَ التي يُمكِن أن تُغِيرَ على نفسِكَ، وما أكثرَ المضارَّ التي يُمكن أن تشعُرَ بها من غيرِ أن تكون مريضًا! وما أكثرَ المَوْتات التي يُمكن أن تُعانيها من غيرِ أن تموت! أجلْ، يُمكِن أن يُوقِعَك في القنوط كَذِبٌ أو خطأٌ أو شَكٌّ.
وقد رأيتَ في المسْرح أبطالًا يُقاسُون آلامًا متناهية؛ فتُدَوِّي دارُ التمثيل بصَرَخاتهم الجافية، ويَنْتَحِبون كالنساء، ويَبْكون كالأولاد، فيَستوْجبون هُتافات الحُضُور. واذكُرْ ما تورثه إياك من الفضائحِ هذه النياحاتُ والصَّرَخاتُ والأنَّاتُ في رجالٍ لا يُنتَظَر منهم غيرُ الرَّصانة والجَلَد، وتقول ساخطًا: «إن هذه أمثلةٌ تُلْقَى علينا لاتِّباعها، وهذه نماذجُ تُعْرَض علينا للاقتداء بها، وهل يُخْشى ألَّا يكون الرجلُ صغيرًا شقيًّا ضعيفًا بما فيه الكفاية إذا لم يُكرَم ضعفُه بمظهرٍ من الفضيلة زائف؟» فيا صديقي الشاب، كن أكثرَ تسامُحًا نحوَ المسرح بعد الآن؛ فقد أصبحتَ أحدَ أبطاله.
وتَعْرِف أن تأْلَم وأن تموتَ، وتَعْرِف أن تصبِرَ على سُنَّة الوُجُوب في الأمراض البدنية، ولكنك لم تفرضْ قوانينَ على شهواتِ قلْبك بعدُ؛ فعن عواطفنا لا عن احتياجاتنا ينشأ اضطرابُ حياتنا، ومدى رغائبنا واسعٌ، ولا تُعَدُّ قُوَّتُنا شيئًا مذكورًا تقريبًا، ويَتْبَع الرَّجلُ برغائبه ألفَ شيء، ولا يَتْبَع شيئًا بنفسه، حتى حياتَه الخاصَّةَ. وكلَّما زاد الرجلُ ارتباطاتِه زادَ آلامه. وكلُّ شيءٍ في الأرض عابر، وكلُّ ما نُحبُّ يُفلِتُ مِنَّا عاجلًا أو آجلًا، ونحن نتصرَّف في الأمر كما لو وجب أن يدوم إلى الأبد. ويا للذُّعرِ الذي حدث عند الظن بأن صوفيةَ ماتت! أَوَتذهب إذن إلى أنها ستعيش أبدًا؟ ألَا يموتُ إنسانٌ في مِثلِ سِنِّها؟ لا بُدَّ من موتِها يا ولدي، وقد تَموتُ قبلك، ومَن يَعْرِف أنها حيَّةٌ الآن؟ إن الطبيعة لم تُخضِعك لغيرِ موتةٍ واحدة، وأنت تُخضِعُ نفسَك لموتةٍ ثانية، وهكذا تَضعُ نفسَك في حالٍ تموتُ بها مرتين.
وهكذا أراك، إذ تَخضع لأهوائك الجامحة، مَحلًّا للتوجُّع! حِرمانٌ دائم، خُسْرانٌ دائم، هَمٌّ دائم، حتى إنك لا تتمتَّع بما يُترَك لك، وما يُساوِرُك من خَوْفِك أن تَخْسَرَ كلَّ شيء يمنعُك من حيازةِ أيِّ شيء. ولن تستطيع قضاء أهوائك لرغبتك في عدم اتِّباع شيءٍ غيرِ أهوائك، وأنت تَطلُب الرَّاحة، والرَّاحةُ ستَفِرُّ منك دائمًا، وستكون بائسًا، وستصير شَرِيرًا، وكيف يمكنك ألَّا تكون هكذا وأهواؤك الجامحة هي التي تسيطر عليك؟ وإذا كنت لا تستطيع احتمالَ الحرمانِ غيرِ الإرادي، فكيف يُمكِنك أن تُلزِم نفسَك بحرمانٍ إرادي؟ وكيف يُمْكنك أن تُضحِّي بالمَيْل في سبيلِ الواجب فتقاوم فؤادَك لتُصغي إلى عقْلِك؟ أنت تقول إنك لا تريد أن ترى مَن يُخبِرُك بموتِ صاحبتك، فكيف ترى مَن يُريد نَزْعَها منك حَيَّةً فيجرؤ على قوله لك: «هي ميِّتةٌ نظرًا إليك؛ فالفضيلةُ تَفصِلُك عنها؟» وإذا كان لا بُدَّ من العيش مع صوفية مهما وقع، فلا أهميَّةَ في كونها متزوجةً أو غيرَ متزوجة، وفي كونها طليقةً أو غيرَ طليقة، وفي كونها تُحِبُّك أو تَكْرَهُك، وفي إعطائك إياها أو رَفْضِ ذلك، فأنت تريدها، ولا بُدَّ من حيازتها بأيِّ ثَمنٍ كان. فأخبرني إذن عن الجريمة التي تَقِفُ رجلًا لا سلطانَ لغير أمانيِّ قلبِه عليه، فلا يستطيع أن يقاومَ شيئًا يَرغب فيه.
وإني حين نشَّأتُك بكلِّ ما في الطبيعة من بساطةٍ وقيْتُك العيوبَ التي تجعل الواجبات شاقَّةً بدلًا من أن أوصيك بالواجبات الشاقة، وجعلتُ الكَذِبَ أقلَّ مَقتًا لديك من أن يكون غيرَ مفيد، وكنتُ أقلَّ تعليمًا لك بأن تَرُدَّ لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه من عدم اكتراثك لحقِّك، وصنعتُ منك صالحًا أكثرَ من أن أجعل منك فاضلًا، ولكنَّ الذي ليس غيرَ صالحٍ لا يبقى صالحًا إلا ببقاء رغبته في أن يكون هكذا، ويتحطَّم الصلاح ويزول بصدمةٍ من الأهواء البشرية؛ فالرجلُ الذي لا يكون غيرَ صالحٍ ليس صالحًا إلا من أجْلِ نفْسه.
ومَنِ الرَّجلُ الفاضلُ إذَن؟ هو الرجلُ الذي يَعْرف أن يَقْهَر عواطفَه؛ وذلك لأنه يَتْبَع عقلَه وضميرَه إذ ذاك، فيقومُ بواجباته، ويَلْزَم نظامًا لا يستطيع شيءٌ أن يُبْعِده منه. ولم تَكُن حتى الآن حُرًّا إلا في الظاهر، ولم يَكن عندك غيرُ حريةٍ مؤقَّتةٍ كحرية العبد الذي لم يُؤمَر بشيء، والآن كُن حُرًّا حقيقيًّا، وتعلَّمْ أن تكونَ سيدَ نفسِك ومُرْ فؤادك، تكُن فاضلًا يا إميل.
وإليك إذنْ تدَرُّبًا آخرَ أمامك، وهذا التدرُّب أصعبُ من الأوَّل؛ وذلك لأن الطبيعة تُنقِذُنا من الشرور التي تَفْرِضها علينا أو تُعلِّمُنا احتمالَها، ولكنها لا تقول لنا شيئًا عما يأتينا من أنفسنا؛ فهي تَكِلُنا إلى أنفسنا، وهي تتركنا ضحايا لأهوائنا، وهي تَدَعَنا نَرْزَح تحت آلامنا الباطلة، فنُباهي بدُموعٍ يجب أن تحَمَرَّ وجوهُنا منها خجلًا.
وأعْلَمُ جيِّدًا أن هذا الهوى ليس جُرْمًا؛ فهو نَقيٌّ نقاءَ النفوس التي تُحِسُّه، والشَّرفُ يُكوِّنه والطُّهْرُ يُغذِّيه. ويا أيها العاشقان السعيدان! لا يُسْفِرُ فُتُون الفضيلة عن غيرِ زيادةٍ في فُتُون الحُب، وليس القِرانُ المُباركُ الذي ينتظركما أقلَّ مكافأةً لكما على حِكْمَتكما مما على ارتباطكما. ولكن قُل لي أيها الرجل المخلِص، هل أنت أقلُّ خضوعًا لسلطان هذا الهوى الخالص؟ وهل أنت أقلُّ مَن يكون عبدًا له؟ وهل تخنُقُه منذ الغد إذا ما عاد في الغد لا يكون بريئًا؟ والآن هو وقتُ تجرِبة قُواك، فإذا ما وَجَب استعمالُها كان الوقتُ قد مضى، ويَجِب وقوعُ هذه التَّجارِبِ الخَطِرةِ بعيدةً من الخطر؛ فما كان ليُمرَّن على القتال أمامَ العدو مُطلَقًا، وإنما يُستعَدُّ له قبْلَ الحرب، فتُخاضُ المعركةُ بعد إعدادِ كلِّ شيء.
ومن الخطأ أن يُفرَّق بين الأهواء المُباحة والأهواء المحظورة تعاطيًا للأُولى وامتناعًا عن الأخرى؛ فجميعُ الأهواء حسنةٌ إذا ما بقينا مسيطرِين عليها، وجميعُ الأهواء سيئةٌ إذا ما تركناها تسيطر علينا، ويقوم ما حَرَّمتْه الطبيعةُ على توسيع مدى صِلاتنا إلى ما هو أبعدُ من قُوَانا. ويقوم ما حرَّمه العقلُ على الرغبةِ فيما لا نَقْدِر على نَيْله ويَقُوم ما حَرَّمه الضميرُ على ترْكِ أنفسنا تُغلَب بالإغواء لا على إغوائها، ولا يتوقَّف علينا أن نكون ذوي أهواءٍ أو لا نكون، وإنما يتوقَّف علينا أن نسيطر عليها، وجميعُ المشاعرِ التي نهيمن عليها شرعية، وجميعُ المشاعر التي تهيمن علينا إجرامية. ولا يكون الرجلُ الذي يُحِبُّ امرأةَ غيرِه مذنبًا إذا ما جعل هذا الهوى المؤسفَ خاضعًا لقانون الواجب، وهو يكون مذنبًا إذا ما أحبَّ امرأتَه الخاصَّةَ فيُضَحِّي بكلِّ شيءٍ في سبيلِ حُبِّها.
ولا تَنْتَظِرْ منِّي مبادئَ طويلةً عن الأخلاق، وليس لديَّ غيرُ مبدأ واحدٍ أُلقيه عليك شاملٍ لجميع المبادئ الأخرى، وهو: كُن رجلًا ورُدَّ قلبَك إلى حدودِ رجولتك، فادرُس هذه الحدودَ واعرِفْها، ومهْمَا تكن هذه الحدود ضيقةً فإننا لا نكون تُعَساء ما أحطنا أنفسنا بها، ونحن لا نشقى إلا إذا أردنا مجاوزتَها، ونحن نجاوزُها إذا ما وضعنا برغائبنا المخالِفةِ للصوابِ غيرَ الممكِن في مرْتبة الممكنات، ونحن نجاوزُها إذا ما نسينا رُجولَتنا، لنصنعَ رجولاتٍ وهميةً فنَزْلَقَ منها إلى رُجولتنا دائمًا، ويكون المتاعُ الذي يؤثِّرُ فينا ضياعُه وحدَه هو ما نعتقد أنه حقٌّ لنا، وما يَكون من تعذُّرِ نَيْله تعذُّرًا جليًّا يَصْرِفُ الذهنَ عنه، وما كانت الرغائبُ بلا أملٍ لتُؤلِمَ مُطلَقًا، وما كان الصُّعْلوكُ لِيَأْلَم من رغبته في أن يكون مَلِكًا، ويُريدُ الملِكُ أن يكون إلهًا عندما يعتقد أنه عاد لا يكون رجلًا.
وأوهامُ الزَّهْوِ هي مصدرُ أعظمِ شرورنا، ولكنَّ إنعامَ النظرِ في بؤس النَّاس يجعَلُ الحكيمَ معتدلًا دائمًا، فيَلزَم مكانَه ولا يحاول أن يخرُج منه مُطلَقًا، وهو لا يستعمل قُوَاه على غيرِ جدوَى حتى يتمتَّع بما لا يستطيع حِفْظَه، وهو إذا ما استعملها كلَّها ليتصرَّف تصرُّفًا حسنًا في كلِّ ما يملِك كان — في الحقيقة — بالغَ القوةِ بالغَ الغِنَى بنسبةِ ما يكون أقلَّ رغبةً مِنَّا، وهل أكوِّن لنفسي، وأنا الموجود الهالكُ الفاني، سلاسلَ أبديةً فوق هذه الأرض حيث يتغيَّر كلُّ شيء، وينقضي كلُّ شيء وسأزول غَدًا؟ وَيْ إميل! وَيْ بُنيَّ! ما يبقى لي من نفسي إذا ما خسِرتُك؟ ومع ذلك فإنه يجب أن أعْرِف افتقادَك؛ وذلك لأنه مَن يَعلمُ متى تُنْزَعُ منِّي؟
وإذا كنتَ تُريدُ أن تعيش سعيدًا حكيمًا إذنْ، فلا تَرْبط فؤادَك بغيرِ الجمال الذي لا يزول أبدًا، ولْتُحدِّدْ رغائبَك بوضعِك، ولْتسبِقْ واجباتُك ميولَك، واجعلْ دستورَ الضرورة شاملًا للأمور الأدبية، وتَعلَّم افتقادَ ما يُمكن أن يُنزَع منك، وتَعلَّمْ ترْكَ كلِّ شيءٍ عندما تأمرُك الفضيلةُ بذلك، وتَعلَّمْ وضْعَ نفْسِك فوق الحوادث فتَفْصِل عنها فؤادَك قبْل أن تمزِّقه، وتعلَّمْ أن تكون جسورًا في الضراء لكيلا تكون بائسًا أبدًا، وتعلَّمْ أن تكون ثابتًا في واجبك لكيلا تكون مُجرِمًا أبدًا، وهنالك تكون سعيدًا على الرغم من الثراء وحكيمًا على الرغم من الأهواء، وهنالك تَجدُ حتى في حيازة الأموال السريعة الزوال لذةً لا يستطيع شيءٌ أن يُكدِّرَها، فتتصرَّفُ في هذه الأموال من غيرِ أن تتصرَّف فيك، وتشعُر بأن الرَّجلَ الذي تفلَّتَ منه كلُّ شيء لا يتمتَّع بغيرِ ما يَعْرِف أن يُضيع. أجلْ، لن يساورَك وهمٌ في الملاذِّ الخيالية مطلقًا، أجلْ لا تُصاب بآلامٍ تنشأ عنها مطلقًا، وستربح كثيرًا من هذه المبادلة؛ وذلك لأن هذه الآلامَ منتشِرةٌ حقيقية، ولأن تلك الملاذَّ نادرةٌ باطلة. وأنت إذ تَقْهَر كثيرًا من الآراء الخادعة تَقْهرُ الذي يُعطي الحياةَ قيمةً عظيمة، وستقضي حياتك بلا كَدَرٍ وستختمها بلا ذُعْر، وستفارقها كما تفارق كلَّ شيء، ولْيستولِ الهولُ على الآخرين حين يُفكِّرون في انقطاعهم عن الوجود بترْكِهم الحياةَ، ولكنك إذ تَعْلم أن الحياةَ عَدَمٌ تعتقِد أنك بادئٌ لها؛ فالموتُ خاتمةُ الحياةِ الخبيثةِ وفاتحةُ الحياةِ الطيبة.»
ويَستَمِع إميلُ إليَّ بانتباهٍ ممزوجٍ بجَزَع؛ فهو يخشى أن تكون لهذه الديباجة نتيجةٌ مشئومة، وهو تُحدِّثه نفسُه، حين بياني له ضرورةَ ممارسةِ قوَّة الروح، بأنني أريد إخضاعَه لهذا النظام القاسي، ومَثَلُه في هذا كَمَثَلِ الجريحِ الذي يرتَجِفُ عندما يُبصِرُ اقترابَ الجِراحِيِّ فيَسْبِقُ إلى ظنِّه شعورُه باليدِ المُوجِعَة على جُرْحه، ولكن مع السلامة، لأنها تَحُولُ دونَ فساده.
ويبدو حائرًا مضطربًا مستعجلًا معرفةَ الموضعِ الذي أريد أن آتي به إليه، فيسألني بدلًا من الجواب، ولكن مع الخوف: «وما يجب أن أصنع؟» هذا ما يقوله مرتجفًا تقريبًا، ومن غير أن يجرؤَ على رفْع عينيه، وأجيب بصوتٍ رصين: «إن الذي يجِبُ أن تصنعَ هو أن تَتركَ صوفية! أَتْرُكها! أَخْدَعُها! أكون خائنًا! أكون مُداجيًا! أكون ناقضًا للعهد! …» وأتناول الكلام قاطعًا قوله: «ماذا! أَمِنِّي يخافُ إميلُ أن أُعَلِّمَه استحقاقَه لمثلِ هذه النعوت؟» ويداوم على كلامه بعين الصَّوْلة: «كلَّا، لا منك ولا من غيرك، ويمكنني أن أحْفَظَ عملَك على الرغم منك، ويُمكِنني ألَّا أستحِقَّ تلك النعوت.»
وكنتُ منتظرًا هذا الاندفاعَ الأوَّل، وأدَعُه يَمُرُّ من غيرِ أن أثور، ولو لم يكن عندي اعتدالٌ أوصيه به لكان عندي لطْفٌ أَعِظُه به! ويَعْرِفني إميلُ كثيرًا فلا يعتقدُ إمكان مطالبته بشيء يكون سيِّئًا، وهو يَعْرِف جيِّدًا أنه يصنع سوءًا إذا ما تَرَك صوفية ضِمْنَ المعنى الذي يُطلِقُه على هذه الكلمة. والخلاصةُ أنه ينتظر منِّي إيضاحًا، وهناك أستأنف كلامي:
«أَوَتظنُّ يا إميلُ العزيزُ وجودَ رجلٍ من أيِّ حالٍ كان يستطيع أن يكون أكثرَ سعادةً منك منذ ثلاثة أشهر؟ إذا كنت تَظُنُّ هذا فأزِلْ ضلالك؛ فقد استنفدت سعادةَ الحياةِ قبْل أن تذوق ملاذَّها، ولا يُوجَد شيءٌ يزيدُ على ما اختبرتَ، وسعادةُ الحواسِّ عابرة، وبها تخسَرُ حال الفؤادِ المعتادة دائمًا، وقد تمتعتَ بالأملِ أكثرَ مما ستتمتَّع به في الحقيقة، وما يُزيِّنه الخيالُ من المرغوب فيه يَترُكه بالحيازة، وإذا عَدَوْتَ الموجودَ بذاته وحدَه لم يُوجَد جميلٌ سوى غير الموجود، وإذا ما أمكن دوامُ هذه الحال في كلِّ وقتٍ وجدتَ السعادةَ العُليا، ولكنَّ كلَّ ما يتعلَّق بالإنسانِ يُشعَرُ بمصيره إلى الزوال، وكلُّ شيءٍ في حياة الإنسان عابرٌ له نهاية، ومتى دامت الحالُ التي تجعلُنا سعداء دوامًا متصلًا نَزَعَتْ عادةُ التمتُّع بها ذوقَها، وإذا لم يتغيَّر شيءٌ في الخارجِ تغيَّرَ القلبُ؛ فالسعادةُ تتركنا أو نحن نتركها.
وفي أثناء هذيانك كان يَمُرُّ الوقتُ الذي لم تَلتفِتْ إليه، وقد انتهى الصيف، والشتاء يَدنو، حتى إننا إذا ما استطعنا أن نداومَ على جَوْلاتنا في فصلٍ بالغِ القسوة كالشتاء لم تُطَقْ على الإطلاق، ولا بُدَّ من تغيير طراز الحياة على الرغم مِنَّا، فلا يُمكِن دوام هذا الطراز، وأُبصِرُ في عينيك الجزوعَين أن هذا المانع لا يعوقك مُطلَقًا؛ فما كان من اعترافِ صوفيةَ ومن رغائبك الخاصة يوحي إليك بوسيلةٍ سهلةٍ لاتقاء الثلج وللعدول عن السَّفر في سبيل رؤيتها، ولا ريبَ في سهولةِ هذه الوسيلة، ولكن الربيع إذا جاء ذابَ الثلجُ وبقي الزواج، ولا بُدَّ من التفكير في أمرِه من أجْلِ جميعِ الفصول.
وتُريد أن تتزوَّج صوفية، ولمَّا تمضِ خمسةُ أشهر على معرفتك إياها! وتُريد أن تتزوجها لأنها تُعجبك، لا لأنها تلائمك، كأنَّ الحبَّ لا يُخدَع حوْل الملاءمات مطلقًا، فلا يَتباغض في آخرِ الأمرِ مَن يبدءون بالتَّحاب! أجلْ، إنني أعلم أنها فاضلة، ولكن أيكفي هذا؟ وهل يكفي أن يكون بعضُ النَّاس من الصالحين حتى يتوافقوا؟ وطبعُها لا فضلُها هو الذي أضعُه موضعَ الشك، وهل تُظْهِر المرأةُ طبْعَها في يومٍ واحد؟ وهل تَعرف مقدار ما يَجب أن تبدو به من الأوضاع حتى يُعرَف مِزاجُها معرفةً أساسية؟ وهل حُبُّ أربعة أشهرٍ ضمانٌ كافٍ لبقية الحياة؟ قد يجعلك غيابُ شهرين تنساها، وقد يَنتظر غيرُك غيابَك فيمحوك من قلْبها، وقد تجدُها عند عودتك خليَّةً بمقدار ما وجدتَها حنونًا حتى الآن، ولا يتوقَّف أمرُ المشاعر على المبادئ؛ فقد تبقى صالحةً جِدًّا مع زوال حُبِّها إياك، وأَمِيلُ إلى اعتقادِ ثباتها ووفائها، ولكن مَن يكفُلُك ومَن يكفُلُها مع عدمِ اختباركما مُطلَقًا؟ وهل تُؤجِّل هذا الاختبار حتى يفوت وقته؟ وهل تَنتظِر لتعارفكما تعارفًا صادقًا حتى الحين الذي يتعذَّر فيه افتراقُكما؟
لم تَبلُغ صوفيةُ الثامنةَ عشرةَ من سِنِيها، وأنت لم تَكَدْ تُجاوز الثاني والعشرين من عُمُرك، وهذه السِّن هي سِنُّ الغرام لا سِنُّ الزواج، ويا لربِّ الأسرة، ويا لأمِّها! وَيْ! انتظرا مجاوزةَ دَوْر الوَلُودِية على الأقلِّ حتى تَعرفا تربيةَ الأولاد، وهل تَعْرف عددَ الفتيات اللائي احتملن متاعبَ الحَبَل قبْل الأوان فأضعفتْ هذه المتاعبُ بِنيتَهن وقوَّضتْ صحتَهن وقصَّرَتْ حياتهن؟ وهل تَعرِف عددَ الأولاد الذين بَقَوا ضعفاء واهين لعدم تغذيتهم في جسمٍ مُكوَّنٍ تكوينًا كافيًا؟ ومتى نَما الولدُ والأمُّ معًا، وقُسِّمَت المادةُ اللازمة لنموِّ كلٍّ منهما، فلم يَنَلْ هذا ولا ذاك ما قَدَّرَتْه له الطبيعة، فكيف يُمكن ألَّا يتأذَّيا بهذا؟ ولا يَعدو الأمرُ حدَّ كوني سيئَ المعرفة بإميلَ أو حدَّ كوْنه سيُفضِّل حيازةَ امرأةٍ وأولادٍ أقوياءَ بعد حينٍ على إشباع هَلَعِه ضَرًّا بحياته وصحَّته.
ولْنتكلَّمْ عنك، فإذا كنتَ ترْنو إلى حالِ الزوج والأب، فهل أنعمتَ النظر في واجباته؟ متى أصبحتَ ربًّا لأسرةٍ صِرْتَ عُضوًا في الدولة؟ وما معنَى عضوٍ في الدولة؟ أتَعرِف ذلك؟ لقد درسْتَ واجباتِك كرجل، ولكن أتَعْرِفُ واجباتِ المواطن؟ وهل تَعرِف ما الحكومةُ والقوانينُ والوطن؟ وهل تَعرف ثَمَن السَّماح لك بالحياة، وفي سبيلِ مَن يجبُ أن تموت؟ أنت تَظُنُّ أنك تعلَّمتَ كلَّ شيء، ولا تزال غيرَ عارفٍ شيئًا. وتَعلَّمْ معرفةَ النظامِ المدنيِّ والمكانِ الذي يلائمك فيه قبْل اتخاذك هذا المكان.
ويجب أن تَترك صوفيةَ يا إميل، ولا أقول أن تتخلَّى عنها، فإذا كنتَ قادرًا على ذلك كانت سعيدةً جِدًّا بعدم الزواج بك الآن، ويجب أن تتركها لتعودَ جديرًا بها، ولا تكن من الاغترارِ ما تَظُنُّ معه أنك تستحقُّها. وَيْ! ما أكثرَ ما بَقِيَ عليك أن تَصْنع! فتَعالَ وقُم بهذا العملِ النبيل، وتَعالَ واصبِرْ على الغِياب، وتعالَ واكْسِبْ ثَمَن الوفاء، فإذا ما رجعْتَ أمكنَك أن تُكْرِمَ نفْسَك بشيءٍ لديها، وأن تطْلُب يدَها طلبَ مكافأةٍ لا لُطْفٍ.»
ولا يُذْعِنُ الفتى، وهو يقاوم ويناضل، ولَمَّا يُمرَّنْ على مكافحة نفسه، ولَمَّا يُعَوَّدْ أن يَرْغَبَ في شيءٍ وأن يُريدَ شيئًا آخر، ولِمَ يَرْفِضُ سعادةً تنتظره؟ ألَا يعني تأخيرُ قبولِ اليد التي قُدِّمَت إليه ازدراءً لهذه اليد؟ وما الضرورةُ إلى الابتعاد عنها ليتعلَّم ما يَجِبُ أن يَعْرِف؟ وإذا كان هذا ضروريًّا، فلِمَ لا يُترَك له عهدُه المُوَكِّدُ لعَوْدِه بالعُرَى الوثقى التي لا انفصامَ لها؟ وليَكُن زوجًا لها وهو يَكون مستعدًّا لاتِّباعي وليقترنا، وهو يتركها بلا وَجَل، وأقول له: «يا للتناقضِ في تزوُّجها وتركِها يا إميلُ العزيز! إن من الجميل أن يقدِرَ العاشقُ على العيش من غير خليلته، وأمَّا الزوجُ فلا يجوز له أن يترك زوجته بلا ضرورةٍ مطلقًا، وأرى لشفاءِ وساوسِك أن تكون مُهَلُك غيرَ إرادية، فتستطيعَ أن تقول لصوفية إنك تتركها على الرغم منك. حسنًا! كُن راضيًا، واعرِف لك مُعلِّمًا آخرَ ما دمتَ لا تُطيعُ العقل، وأنت لم تنسَ العهدَ الذي قطعتَه لي، ولا بُدَّ من ترْك صوفية يا إميل، وهذا ما أريد.»
سَمِع هذه الكلمة، فخَفَضَ رأسَه وسَكَتَ، وسَبَحَ في الخيال دقيقة، ثُمَّ قال لي وهو ينظر إليَّ مطمئنًّا: «ومتى يجب أن نرحل؟» وأقول: «في مدة أسبوع، ولا بدَّ من إعداد صوفية لهذا الرحيل؛ فالنساء أكثرُ ضَعْفًا، ولا بُدَّ من مداراتهن، وبما أن هذا الغياب ليس واجبًا عليها كما هو علينا فإنه يُباح لها أن تحتمله بشجاعة قليلة.»
ولم أبلُغ من الإغواء بالتطويل حتى فَصْلي عن فِتْياني يوميةَ مَعَاشقهم، ولكنني ما فتئتُ منذ زمنٍ طويلٍ أُغَرُّ بمسامحة القرَّاء، فلْألتزِمْ جانبَ الاختصار حتى أنتهي من القصة مرة، وهل يجرؤ إميلُ أن يُبديَ لصاحبته ما أبداه لصديقه من يقين؟ أمَّا أنا، فأذهب إلى هذا؛ فمن حقيقةِ حُبِّه نفسِها ما يجب أن يستنبط هذا اليقين، وهو يَكون أكثرَ ارتباكًا أمامها لو كان أقلَّ اكتراثًا لترْكِها، وذلك أنه يَتركها مذنبًا ما رَبَكَ هذا الدَّورُ الفؤادَ الصالحَ دائمًا. بَيْدَ أن التضحية كلَّما كلَّفَتْه كثيرًا باهَى بها أمام تلك التي جعلتها له أمرًا شاقًّا، وهو لا يَخشى أن تُخطِئ في فهْم الباعث الحافز له على عزْمه، فيلوح أنه يقول لها عند كلِّ نظرةٍ: «أيْ صوفية! اقرئي في فؤادي، وكوني وفيَّةً لي؛ فليس عاشقُك بلا فضيلة.»
وتحاول صوفيةُ الأَنُوفُ من ناحيتها أن تحتمل، مع الوقار، ما وُجِّهَ إليها من ضَربةٍ غيرِ منتظَرة، وتبذل جُهْدَها أن تبدوَ غيرَ متأثِّرةٍ بها، ولكن بما أنه لم يَكُن لها، كما كان لإميلَ، شرفُ المبارزة والفوز، فإنها لم تُطِق الصدمة، فتبكي وتئنُّ على الرغم منها، وما يُخامرها من خشيةِ نسيانها يزيد ألمَ الفِراق، وليس أمام عاشقها ما تبكي، وليس له ما تُبدي مخاوفَها، وهي تُفضِّل أن تَخْتنق على أن تَدَع أنَّةً تُفلِتُ منها أمامه، وإنما أنا الذي يتلقَّى شكواها ويرى دموعها، وإنما أنا الذي تُظهِرُ اتخاذَه نجيًّا لها، ومن خصائص النساء أن يَكُنَّ حاذقاتٍ فيَعْرِفن أن يتنكَّرْن، فكلَّما كانت تتذمَّر من استبدادي خِفيةً كانت تُعنَى بمداراتي. ولا عَجَب؛ فهي تشعر بأنني قابضٌ على مصيرها.
وأُسْليها، وأُسَكِّن رَوْعَها، وأجْعَل نفسي مسئولًا عن عاشقها، وإن شِئتَ فقُلْ عن زوجها، فلتحفظْ له عينَ الوفاء الذي سيحْمِلُه لها، وسيكون لها في عامين، وسيكون زوجًا لها في عامين كما أُقسِم، وهي تَحمِل لي من التقدير ما يكفي لاعتقادها أنني لا أريد مخادعتَها، وأنا ضامنٌ لكلٍّ منهما نحو الآخر، وما عندهما من فؤادٍ وفضيلة، وما عندي من نزاهة، وما عند والديها من ثقة، أمورٌ تُلقي الطُّمأنينةَ فيهما، ولكن ما نَفعُ العقلِ أمام الضعف؟ فهما يفترقان كأنَّه قُدِّر على كُلٍّ منهما ألَّا يَرى الآخر أبدًا.
وهنالك تَذكُر صوفيةُ حَسَراتِ أُوكاريسَ، وتَظُنُّ أنها في مكانها، ولا نُثِرْ أمرَ هذه المعاشقِ الخيالية في أثناء الغياب مطلقًا، وأقول ذاتَ يومٍ لِصوفيةَ: «أيْ صوفية، تَبادلي الكتب أنتِ وإميل، فأَعْطيه كتاب «تِلِماك» كيْما يتعلَّمُ كيف يشابهه، وليُعْطِك كتابَ «الناظر» الذي تُحبِّين قراءته، وادرُسي فيه واجبات النساء الصالحات، واذكري أن هذه الواجبات ستكون واجباتك في عامين.» ويَروق هذا التبادلُ الاثنَين ويُنْعِم عليهما بالثقة، وأخيرًا يَحِلُّ اليومُ الكئيب، فيجبُ الافتراق.
وحين الوداع يعانقني أبو صوفية الوقورُ الذي اتفقتُ معه على كل شيء، ثُمَّ يختلي بي ويقول لي هذه الكلمات بصوتٍ رصينٍ مع لهجةٍ مُوَكَّدة: «لقد صنعتُ كلَّ شيءٍ يُرضيك، وقد عَرَفتُ أنني أُعامِل رجلًا شريفًا، ولم يبقَ عندي غيرُ كلمةٍ أقولها لك، وهي: ذكِّر تلميذك بأنه وقَّعَ عقدَ الزواج على فم ابنتي.»
ويا لَلْفَرْق في هيئة العاشقَين! فأمَّا إميلُ الصائلُ المشتعلُ الهائجُ المضطرب فيبكي بصوتٍ عالٍ ويَسكُب سيولًا من الدموع على أيدي الأب والأم والبنت، ويعانق منتحِبًا جميعَ من في البيت، ويُكرِّرُ ذاتَ الأمورِ ألفَ مرةٍ بشيءٍ من الاختلال يوجِب الضَّحك في كلِّ مناسبةٍ أخرى. وأمَّا صوفيةُ العبوسُ الممتقَعةُ الكابيةُ العينِ القاتمةُ الناظر، فتبقى ساكنةً ولا تنبِس بكلمة، ولا تبكي مطلقًا، ولا ترى أحدًا حتى إميلَ، ومن العبث أن يتناول يديها وأن يعانقها؛ فقد بقيتْ فاقدةَ الحركة غيرَ متأثِّرَةٍ بدموعه وملامساته وكلِّ ما يَفْعَل، ولا غَرْو؛ فهو في نظرها قد ذهب، وما أكثرَ ما يكون هذا المنظرُ أعظمَ تأثيرًا من عويل عاشقها المزعج وحسراتِه الصاخبة! وهو يراه، وهو يَشعُر به، وهو محزونٌ منه، وأجُرُّه بمشقة، ولو تركته دقيقةً أخرى ما رَضيَ الانصراف، وقد سَرَّني أن حَمَلَ معه هذه الصورة المحزنة، فإن سوَّلَت له نفسه أن ينسى ما يَجِبُ عليه نحوَ صوفية ذَكَرَها كما شاهدها حين انصرافه، فوَجَبَ أن يكون أخْبَلَ الفؤاد إذا لم أستطِع ردَّه إليها.
السِّيَاحات
يُسْألُ هل من الحَسَن أن يَسيِح الشُّبَّان، ويُجادَل حوْل هذا كثيرًا، ولو اقتُرِح أن يكون السؤالُ غيرَ هذا، فسُئِلَ هل من الحَسَن أن يَسِيحَ الرجال، لكان الجِدالُ حَوْل هذا أقلَّ مما حَوْل ذاك.
فسوءُ استعمال الكتب يَقتل العلم، وذلك أنَّ النَّاس إذ يعتقدون معرفة ما يقرءون يعتقدون أنَّهم في غِنًى عن تعلُّمه، ولا ينفعُ كثيرٌ من القراءة لغير صُنْع جاهلين مُعجَبين بأنفسهم، ولو نُظِرَ إلى جميع عصور الأدب ما وُجِدَ عصرٌ يُطالَعُ فيه بمقدار ما يُطالَعُ في هذا العصر، وما وُجِدَ عصرٌ يُسفِرُ فيه ذاك عن قليلِ علمٍ كما في هذا العصر، ولا تَجِدُ في جميع أوروبة بلدًا تُطْبَعُ فيه كتبٌ في التَّارِيخ والرحلات كما يُطبع في فرنسة، ولا تجد مع ذلك بلدًا أقلَّ من فرنسة معرفةً بعبقرية الأمم الأخرى وطبائعها، وكثيرٌ من الكتب ما يَحْمِلُنا على إهمالِ كتابِ العالَم، أو إننا إذا ما قرأناه استمسك كلُّ واحدٍ مِنَّا بصحيفته، ولو كانت كلمة «أيُمكنُ الإنسانَ أن يكون فارسيًّا؟» مجهولةً لديَّ لانصرف ذهني عند سماعها إلى صدورها عن البلد الذي هو أكثرُ البلدان خضوعًا للمُبْتَسَرات القومية وعن أكثر الجنسين نشرًا لها.
ويَظُنُّ الباريسيُّ أنه يَعْرِف النَّاس مع أنه لا يَعْرِف غيرَ نفسه، وهو يَعُدُّ في مدينته الزاخرة بالأجانب دائمًا كلَّ أجنبيٍّ حادثًا عجيبًا لا مثيلَ له في العالم، ويجب أن يُنظَرَ إلى بُرجوازية هذه المدينة الكبرى عن كَثَب، ولا بُدَّ من العيش معهم، ليُرى كيف يُمْكِن الواحدَ أن يكون غبيًّا بمقدارِ ما هو ذكيٌّ، ووجهُ الغرابةِ في الأمر هو أن كلَّ واحدٍ منهم قرأ عشرَ مراتٍ على ما يحتمل وصفًا للبلد الذي يُثيرُ الواحدُ من سُكَّانه عَجَبَه.
ومن الأمور الشاقة كثيرًا كشفُ مُبْتَسَرات المؤلفين ومُبْتَسَراتنا معًا للوصول إلى الحقيقة، وقد قضيتُ حياتي في مطالعة كتب السياحة فلم أجد اثنَين منها قَطُّ قد أعطياني عينَ الفكرة عن عينِ الشعب، وإني حين قابلتُ بين القليل الذي استطعتُ ملاحظته بما كنت قد قرأت، انتهيتُ إلى ترْكِ السُّيَّاح هنالك آسفًا على الوقت الذي أنفقتُ في التعلُّم من كتبهم، معتقدًا أنه يجب أن يُرى الشيءُ لا أن يُقرَأ في الأمور القائمة على الملاحظة من كلِّ نوع، ويكون هذا صحيحًا في مثل هذه الحال حين يكون جميع السُّيَّاح مخلصين فلا يَرَوْن غيرَ ما يَرَوْن أو ما يعتقدون، ولا يُنَكِّرون الحقيقة بما تَتَّخِذ في عيونهم من ألوان زائفة، وما يكون ذلك إذا ما وَجَبَ تمييزُ الحقيقة من خلال أكاذيبهم وسوء نيتهم!
ولنترُكْ إذنْ وسيلةَ الكتبِ التي يُباهَى بها عندكم لِمَن كُوِّنوا للاكتفاء بها؛ فهي صالحةٌ صلاح فنِّ ريمون لُول، لِتَعلُّم الهَذْر حوْل ما لا يُعْرَفُ مطلقًا، وهي صالحةٌ لتعليم الأفْلَاطُونِين البالغين من العُمُر خمسة عشر عامًا أن يتفلسفوا في الأندية ولإطلاع النَّاس على عادات مصرَ والهندِ وَفْقَ ما قرَّره بول لُوقا أو تافِرْنيه.
ومن المبادئ المُسلَّم بها عندي أن مَن لم يَرَ غيرَ أُمَّةٍ لا يَعْرِفُ سِوى مَن عاش معهم بدلًا من أن يَعْرِف الرجال، وإليك إذنْ وجهًا آخرَ لِوضع عين المسألة عن السياحات، وهي: أيكفي الرجلَ الحسنَ التنشئةِ ألَّا يَعْرِف غيرَ مواطنيه، أم إن من المهمِّ أن يَعْرِف النَّاسَ على العموم؟ عاد لا يكون هناك شكٌّ ولا جدال، ورَوْا مقدارَ ما يتوقَّف حلُّ المسألة الصَّعبة أحيانًا على الوجه الذي تُوضَعُ به.
ولكنْ أيجب أن يُطاف في جميع الأرض لدراسة النَّاس؟ وهل يجِب الذهاب إلى اليابان لملاحظة الأوروبيين؟ وهل من الواجب معرفةُ جميع الأفراد لمعرفة النوع؟ كلَّا، وإنما يوجد من النَّاس مَن يتشابهون كثيرًا، فلا ضرورةَ لدرْسهم على انفراد، ومن رأى عشرة فرنسيين فكأنما رأى الفرنسيين جميعًا. ومع أنه لا يُمكن أن يُقال عن الإنكليز وبعضِ الأمم الأخرى ما يُقال عن أولئك، فإن من الثابت أن لكلِّ أمةٍ سجيتَها الخاصة بها المميزةَ لها، والتي تُستَنبَط بالاستقراء القائم على ملاحظةِ كثيرٍ من أفرادها، لا على فردٍ واحدٍ منها، ومَن يقارن بين عشرِ أممٍ يَعْرِفِ الرجال، كما أن الذي يَرى عشرةَ فرنسيين يَعْرِفُ الفرنسيين.
ولا يكفي الطوافُ في البلدان للوقوف عليها، وإنَّما يجب أن يُعْرَف كيف تكون السِّياحة، وتستلزم الملاحظةُ وجودَ عيونٍ وتوجيهَ هذه العيون نحوَ الموضوع الذي تُراد معرفتُه، ويُوجَدُ كثيرٌ من النَّاس مَن تُعَلِّمُهم الرحلاتُ أقلَّ ممن تُعلِّمهم الكتب؛ وذلك لأنَّهم يجهلون فنَّ التفكير، ولأن ذهنهم يُوجَّه في المطالعة من قِبَل المؤلِّف على الأقل، ولأنهم لا يَعْرِفون أن يَرَوا في الرحلات شيئًا بأنفسهم. ويوجَدُ آخرون لا يتعلَّمون شيئًا لأنهم لا يريدون أن يتعلَّموا، ويبلُغُ موضوعهم من الاختلاف عن ذلك ما لا يَقِفُ نظرَهم معه مُطلَقًا، ومن المصادفة العظيمة إذا ما رأَوا تمامًا ما لا يبالون برؤيته مطلقًا، والفرنسيُّ بين جميع أمم الأرض هو أكثرُ مَن يسيح، ولكن بما أنه طافحٌ بعاداته، فإنه يخلِط بين جميع ما لا يشابهها. ويُوجَد فرنسيون في جميع زوايا العالم، ولا يُوجَدُ بلدٌ مشتملٌ على أناسٍ قاموا بسياحات كمن تشتمل عليهم فرنسة، ومع ذلك فإنك لا ترى بين جميع أمم أوروبة كالفرنسيين مَن تَقِلُّ معرفتهم للأمم على الرغم من كونهم أكثرَ الأمم مشاهدةً لها.
والإنكليزيُّ يسيحُ أيضًا، ولكنْ على طرازٍ آخَر، فوَجَبَ أن تكون هاتان الأمَّتان متناقضتَين في كلِّ شيء؛ فأشراف الإنكليز يسيحون، وأشراف الفرنسيين لا يسيحون مُطلَقًا، وأهلُ فرنسة يَسيحون وأهلُ إنكلترة لا يسيحون مُطلَقًا، وللإنكليز فخرٌ بهذا الاختلاف كما يَظهر لي، والغُنْم تقريبًا هو ما يهدف إليه الفرنسيون في سياحاتهم دائمًا، ولكن الإنكليز لا يبتغون الثراء لدى الأمم الأخرى مطلقًا، ما لم يكن هذا عن تجارةٍ ومع امتلاء يد؛ فهم إذا ما ساحوا كان هذا لإنفاق مالهم، لا ليعيشوا بحيلة، وهم من الزَّهو ما لا يَتمسْكنون معه خارجَ بلادهم، ومن شأنِ هذا أن يكون تَعلُّمهم لدى الأجنبي أفضلَ مما يتفق للفرنسيين الذين يدور في رءوسهم غَرَضٌ آخَر، ومع ذلك فإن للإنكليز مُبْتَسَراتهم القومية، حتى إن لديهم منها أكثرَ مما لدى أيِّ إنسانٍ كان، غير أن هذه المُبْتَسَرات قائمةٌ على الهوى أكثر مما على الجهل، وللإنكليزيِّ مُبْتَسَراتُ الكبرياء وللفرنسي مُبْتَسَرات الخُيَلاء.
وكان القدماءُ قليلي السياحة قليلي المطالعة قليلي التأليف، ومع ذلك فإنه يُرَى فيما بَقيَ لنا منهم أنهم كانوا يلاحظون بعضَهم بعضًا ملاحظةً أفضلَ من ملاحظتنا مُعاصِرينا. وإنَّا من غير رجوعٍ إلى تآليف أُوميرس، هذا الشاعر الوحيد الذي ينقُلُنا إلى البلاد التي يصِفُها، لا نستطيع أن نحبِس عن هيرودتْس شرفَ تصويره الطبائعَ في تاريخه، ومع أن هذا كان بطريق الخبر أكثرَ مما بإنعام النظر، فإنه أفضلُ مما يَصنع مؤرخونا الذين يشحنون كتبهم بالرسوم والحروف. وقد وصف تاسيتُ جِرْمان زمنه بما لم يصف به كاتبٌ ألمانَ الوقت الحاضر. ولا مِراءَ في أن الذين يُكِبُّون على التَّارِيخ القديم يَعْرِفون الأغارقةَ والقرطاجيين والرومان والغوليين والفرس معرفةً أحسنَ من معرفة أيةِ أمَّةٍ في الوقت الحاضر لجاراتها.
ومما يَجب أن يُعتَرَفَ به أيضًا أن أخلاقَ الأممِ الأصليةَ تَزول يومًا بعد يوم، فيصير إدراكُها أكثرَ صعوبة، وكلَّما امتزجت العروقُ واختلطت الأممُ رُئي بالتدريج زوالُ هذه الفروقِ القومية التي كانت تَقِفُ النظرَ أوَّل وهلةٍ فيما مضى. وكانت كلُّ أمةٍ في الماضي أكثرَ اقتصارًا على نفسها؛ فقد كانت الأمم أقلَّ اتِّصالًا وأسفارًا ومصالحَ مشتركةً أو متباينة، وأقلَّ صلاتٍ سياسيةً وعلائقَ مدنية، وقد كانت أقلَّ عِلْمًا بهذه القَرْقعات المَلَكية التي تُسَمَّى مفاوضات، وكان لا يوجد سفراء عاديون أو مقيمون دائمون، وكان كِبارُ الملاحين نادرين، وكانت التجارةُ القاصيةُ قليلة، وما كان من هذه التجارة القليلة يَقوم به الأميرُ نفسُه، فيستخدِم فيها أناسًا من الأجانب أو أناسًا أذِلَّةً لا تأثير لهم في الآخرين ولا يكونون للأمم جامعين، وما بين أوروبة وآسية من صلاتٍ في الوقت الحاضر أكثرُ مائةَ مرةٍ مما كان بين إسبانية وبلادِ الغُول، وكانت أوروبة وحدَها أكثرَ تفرُّقًا من جميع الأرض في أيامنا.
وإلى ذلك أضيفوا أنَّ الأمم القديمة، إذ كانت تَعُدُّ نفسَها في الغالب سُكَّانًا أصليين لبلادها الخاصة، كانت تشغلُ هذه البلاد منذ زمنٍ طويلٍ محوًا لذكرى القرون البعيدة التي فيها استقرَّ أجدادُها بها، وتَرْكًا للإقليم من الوقت ما يجعلُ فيها انطباعاتٍ دائمة، وذلك بدلًا من كون مهاجرات البرابرة الحديثة قد مَزَجَت كلَّ شيءٍ وخَلَطَت كلَّ شيءٍ بيننا بعد غَزَوات الرومان، وعاد فرنسيو اليومَ لا يَكونون ذوي أجسام طويلة شُقْرٍ بَيض كما في الماضي، وعاد الأغارقةُ لا يَكونون أولئك الآدميين الحِسانَ الذين صُنِعوا ليَصلُحُوا نماذجَ للفن، وقد غيَّرَت وجوهُ الرومانِ أنفسِهم طابعَها كما غيَّروا طِباعَهم، ويفقدُ الفُرسُ الذين يرجع أصلهم إلى بلاد التتر، كلَّ يومٍ شيئًا من شناعتهم الأُولى باختلاط الدم الشَّركسي، وعاد الأوروبيون لا يَكونون غُوليِّين ولا جِرمانًا ولا إيبِرِيين ولا من الألُّوبُورْج، وإنما هم من الشِّيت الذين اختلفُوا تَحوُّلًا من حيث الوجوهُ والأخلاق.
وهذا هو السبب في كَوْنِ الفروق القديمة بين العروق، وفي كونِ خصائص الهواء والأرض كانت تَمِيزُ أقوى تمييزٍ بين أمَّةٍ وأمَّةٍ في الأمزجة والوجوه والطبائع والأخلاق؛ فلا يُمكِنُ أن يَظْهَرَ هذا في أيامنا التي لا يَدَعُ فيها تقلُّبُ الأمور في أوروبة لأيِّ داعٍ طبيعيٍّ من الوقت ما يَطبَعُ فيه طابعَه، والتي عادت فيها الغابات المُختبَطة والمستنقعاتُ المجففةُ والأرضُ المزروعة على نَمطٍ واحد، مع سوءِ فِلاحة، لا تَدَع حتى في المظهر الطبيعي عينَ الفرْق بين أرضٍ وأرضٍ وبين بلدٍ وبلدٍ.
ومن المحتمل أنَّه، إذا ما نُظِرَ إلى مِثل هذه التأمُّلات، يُتورَّع بعض الشيء عن تحويل هِيرُودُتْس وكتِيزياس وبليني إلى مَهْزَأةٍ لأنَّهم عَرَضوا سُكَّانَ مختلفِ البلدان بأوصافٍ أصليةٍ وفروقٍ بارزةٍ عُدْنا لا نَجِدها فيهم، ولا بُدَّ من العثور على عين الآدميين لتُعرَف فيهم عينُ الوجوه، ولا بُدَّ من عدمِ تغيير شيءٍ لهم حتى يكونوا قد بَقَوا عينَ النَّاس، وإذا ما استطعنا أن ننظر في وقتٍ واحدٍ إلى جميعِ النَّاس الذين كانوا، فهل من الممكن أن نَشُكَّ في أننا نَجِدُ فروقًا بين قرنٍ وقرنٍ أعظمَ مما نَجِدُ اليومَ بين أمَّةٍ وأخرى؟
وفي الوقت الذي تَغْدو فيه هذه الملاحظاتُ أكثرَ صعوبةً يتمُّ أمرُها تمامًا أكثرَ إهمالًا وأعظمَ سوءًا، وهذا سببٌ آخرُ لقلة نجاح مباحثنا في التَّارِيخ الطبيعي للجنس البشري. وتتوقَّف المعارفُ التي تُكتَسَب من السياحات على الغَرَض الذي أوجب هذه السياحات، فإذا كان هذا الغرض نظامًا فلسفيًّا لم يَرَ السائح غيرَ ما يريد أن يَرَى، وإذا كان هذا الغرضُ مصلحةً استغرقت جميعَ انتباه مَن يُكِبُّون عليها، ومن شأنِ التجارةِ والفنونِ التي تَمزُج الأمم وتَخلِط بينها أن تَحُولَ دون دراسة بعضها لبعض؛ فإذا عَرَفتْ هذه الأممُ كيف ينتفع بعضُها من بعض فما زيادة المعرفة التي تحتاج إليها؟
ومِمَّا يَنفَع الإنسانَ أن يَعْرِف جميعَ الأماكن التي يُمكن أن يعيش فيها حتى يَختار، فيما بعدُ، أيُّها يستطيع أن يعيش فيه بأكثرِ ما يكونُ سهولة، وإذا كان كلُّ واحدٍ يكفي نفسَه بكَدِّه لم يُهِمَّه غيرُ معرفة اتساع البلد الذي يُمكِن أن يُغذِّيَه. وأمَّا الهمجي الذي لا يحتاج إلى أحد ولا يتشوَّف إلى شيءٍ في الدنيا، فإنه لا يَعْرِف ولا يحاول أن يَعْرِف بلادًا أخرى غيرَ بلده، وهو إذا ما اضطُرَّ إلى التوسُّع ليعيش تجنَّبَ الأماكن العامرة بالنَّاس وتَعَقَّب البهائم ولم يَحتَج إلى غيرها ليغتذي. وأمَّا نحن الذين يحتاجون إلى الحياة المدنية، والذين عادوا لا يَستغنون عن افتراس النَّاس، فإن من مصلحة كلِّ واحدٍ مِنَّا أن نتردَّد إلى البلاد التي يُوجَدُ فيها من الآدميين أكثرُ مما يُفتَرَس؛ ولذا فإن الجميع يتقاطرُ إلى رومة وباريس ولندن، وفي العواصم دائمًا يُباع الدمُ البشري بأبخسِ ما يكون ثمنًا، وهكذا فإنه لا يُعرَف غيرُ الأمم الكبرى، والأممُ الكبرى تتشابه كلُّها.
ويُقال إن عندنا من العلماء مَن يَسيحون ليَتثقَّفوا، وهذا خطأ؛ فالعلماء يَسيحون عن منفعةٍ كالآخرين، وعاد الأفْلاطُونون والفيثاغُورون لا يُوجَدون، أو إنهم إذا وُجِدوا كانوا مِنَّا بعيدين. ولا يَسيح علماؤنا إلا بأمرٍ من البلاط، وهم يُرْسَلون على عَجَل وتُدْفَع إليهم نفقاتُ سفرهم، ويُؤدَّى إليهم مالٌ حتى يَرَوا هذا الشيء أو ذاك الشيء الذي ليس موضوعًا خُلُقيًّا، وهم يَقضُون جميعَ وقتِهم في هذا الأمر الوحيد، وهم من الصلاح البالغ ما لا يَسرِقون معه ما يُعطَونه، وإذا حَدَثَ في بلدٍ ما أن ساح أناسٌ من مُحِبِّي الاطِّلاع على نفقتهم الخاصة كان هذا لتعليم النَّاس لا لدِراستهم مطلقًا. وليس العِلم هو ما يحتاجون إليه، بل الافتخار، وكيف يتعلَّمون في سياحاتهم أن يُلْقُوا نِيرَ المُبْتَسَر عنهم؟ والمُبْتَسَر هو الذي يقومون بسياحاتهم من أجْله.
ويُوجَد فرْقٌ بين السياحة من أجلِ مشاهدة البلد الأجنبي ومشاهدةِ الأمم الأجنبية؛ فالأمر الأوَّل هو ما يقوم به ذوو الفضول دائمًا، ولا يكون الأمر الثاني عندهم إلا ثانويًّا. وعكس هذا ما يجب أن يكون لمن يُريد أن يتفلسف، والولدُ يُلاحِظ الأشياءَ منتظرًا وقتَ قدْرته على ملاحظة النَّاس، ويجب أن يبدأ الرجلُ بملاحظة أمثاله، ثُمَّ يلاحِظ الأشياءَ إذا ما سَمَح له الوقتُ بذلك.
ومن سوء البرهنة، إذنْ، أن يُستَنْتج كونُ السياحاتِ غيرَ مفيدةٍ لأننا نسيء السياحة، ولكنه إذا سُلِّمَ بفائدة السياحات، فهل يَعني هذا ملاءمتَها لجميع النَّاس؟ كلَّا، وإنما تُلائم عددًا قليلًا جِدًّا من النَّاس، وإنما تلائم الرجالَ الذين يكونون من قوَّة النفس ما لا يُغْوَوْن معه إذا سَمِعوا دروسَ الخطأ، وما لا يُجذَبون معه لمثالِ العَيْب إذا ما رَأوْه. والسياحاتُ تَدفع الجِبِلِّي إلى مَيْله وتُكمِل جعلَ الرجلِ صالحًا أو طالحًا. ومَن يَرجِع من الطَّواف في العالم يَكُن عند عَوْدته ما يَكُونه مَدى حياته؛ أيْ إنه يَرْجِع من الطواف أشرارٌ أكثرُ من الصالحين؛ وذلك لأن مَن يقومون بالسياحة يكونون عند انطلاقهم أكثرَ مَيلًا إلى الشرِّ مما إلى الخير. ومَن يَكُن من الشبان سيئ التنشئة سيئ السلوك فإنه يَقتبِس في سياحاته جميعَ عيوب الأمم التي يعاشِرُها، ولا يقتبس واحدةً من الفضائل التي تمازجُ هذه العيوب، ولكنَّ مَن هم سُعَدَاءُ مَوْلِدًا، ومَن أُحْسِن بالتَّربية تَعَهُّدُ جِبِلَّتِهم الصالحة، فيَسيحون بقصدِ التثقُّف حقًّا، يعودون كلُّهم أكثرَ صلاحًا وأعظمَ مما كانوا عليه عند بدء سفرهم؛ فهكذا سيسيح إميل، وهكذا كان قد ساح ذلك الشابُّ الجديرُ بأفضل القرون، فأُعْجبتْ أوروبة الدَّهِشَةُ بمَزِيَّته، ذلك الشابُّ الذي مات في مَيْعَة شبابه من أجْل بلده، ولكن مع استحقاقه أن يعيش، ذلك الشابُّ الذي كان قبرُه المُزيَّنُ بفضائله وحدَها، ينتظر يدًا أجنبيةً تُكرِمه بنَثرِ أزهارٍ عليه.
ويجب أن يكون لكلِّ ما يُفْعَل بالعقل قواعدُه، وإذا ما عُدَّت الرحلاتُ قِسْمًا من التَّربية وَجَبَ أن تكون لها قواعدُها. والسياحةُ للسياحة تَعني تَسكُّعًا وتشرُّدًا، وكذلك السياحة للتعلُّم تنطوي على أمرٍ غامضٍ جِدًّا، ولا تُعَدُّ السياحة الخالية من الغاية شيئًا مذكورًا، وكنت أوَدُّ مَنْحَ الفتى غَرَضًا خاصًّا في التعلُّم، وهذا الغرض إذا ما أُحسِنَ اختيارُه قرَّر طبيعةَ التعلُّم أيضًا، وهذه تكملةٌ للمنهاج الذي حاولتُ مزاولتَه دائمًا.
والواقع أنَّه بَقيَ له أن يَنظُر إلى أمره من حيث علاقاتُه بمواطنيه بعد أن نَظَرَ إليه من حيث علاقاتُه الماديةُ بالموجودات الأخرى، ومن حيث علاقاتُه الأدبيةُ بالنَّاس الآخرين؛ ولذا فإنه يَجِبُ أن يبدأ بدراسة طبيعة الحكومة على العموم، وبدراسة مختلف أشكال الحكومة، ثُمَّ بدراسة الحكومة الخاصة التي وُلِدَ في كَنَفِها، وذلك ليَعْرِف هل يلائمه العيش تحت ظِلِّها؛ وذلك لأن كلَّ إنسانٍ إذا ما بلغ سِنَّ الرُّشد وصار سيدَ نفسِه أصبح وَفْقَ حَقٍّ لا يستطيع شيءٌ أن يُلغيه، سيِّدًا أيضًا في العدول عن العَقْد الذي يرتبط به في المجتمع بتركِه البلدَ المستقِرَّ به، وليس بغير إقامته ببلده بعد سنِّ رشده ما يُعَدُّ مُؤيِّدًا تأييدًا ضمنيًّا للعهد الذي اتخذه أجدادُه، وهو يَكتسِب حقَّ التنزُّل عن وطنِه كما يَتنزَّل عن ميراث أبيه، ثُمَّ بما أن مكانَ المَوْلد هِبَةٌ من الطبيعة، فإنه إذا ما تَخلَّى عنه يكون قد تَخلَّى عن أمرٍ خاصٍّ به، وإذا ما نُظِرَ إلى الأمر من حيث الحقُّ الوثيقُ وُجِدَ أن كلَّ إنسانٍ يَظَلُّ حُرًّا على مسئوليته في أيِّ مكانٍ وُلِدَ فيه، وذلك ما لم يَخضع مختارًا للقوانين نَيْلًا لحقِّ حمايتها إياه.
ولذا فإنني أقول له مثلًا: «لقد عِشْتَ تحت إدارتي حتى الآن، وقد كنتَ عاجزًا عن تدبير أمرك بنفسك، بَيْدَ أنك تدنو من العُمُر الذي تترُك لك القوانينُ فيه حقَّ التصرُّف في مالك فتجعلُك وليَّ أمرك، وتُوشِك أن تجدَ نفسَك وحيدًا في المجتمع تابعًا لكلِّ شيء حتى لنفسك، وترغب في الزواج، وهذه الرغبة جديرةٌ بالثناء، وهي من واجبات الرجل، ولكن لا بُدَّ لك قبل أن تتزوج من أن تعرف أيُّ رجلٍ تريد أن تكون، وكيف تَقضي حياتك، وما التدابير التي تريد اتخاذَها لضمانِ عيشِك وعيشِ أُسْرتك؛ وذلك لأنه وإن كان لا ينبغي لنا أن نَجعل من هذا الأمرِ همَّنا الرئيسَ، يجب أن نُفكِّر فيه مرةً واحدة، وهل تُريد أن تكون تابعًا لأناسٍ تزدريهم؟ وهل تُريدُ توطيدَ ثروتِك وتثبيتَ وضْعِك بصِلاتٍ مدنيةٍ تجْعَلك تحت تصرُّف الآخرين بلا انقطاع، فيحمِلوك على أن تكون مَكَّارًا اجتنابًا للماكرين؟»
وفوق ذلك فإنني سأُبيِّنُ لك جميعَ الوسائل الممكنة لاستغلال ماله سواء أفي التجارةِ أم في التكاليفِ أم في المالية، كما أنني سأُبيِّن له أنه لا يوجد في هذه الأمور ما لا ينطوي على خَطَرٍ يَناله، وما لا يَضَعُه في حالٍ تابعٍ غيرِ ثابت، وما لا يُنظِّم به طباعَه ومشاعرَه وسلوكَه على غِرار الآخرين ومُبْتَسَراتهم.
وسأقول له: «تُوجَدُ وسيلةٌ أخرى لاستعمال وقته وشخصه، وهي أن يلتحق بالجيش؛ أي أن يؤجِّر نفسَه بأجرٍ زهيدٍ ليذهبَ فيقتلَ أناسًا لم يصيبونا بأذًى قَط. ولهذه الحرفةِ اعتبارٌ كبيرٌ بين النَّاس، والنَّاس يُقِيمون وزنًا عجيبًا لمن لا يَصْلُحون لغير هذا، وفضلًا عن ذلك فإن هذه الحرفةَ تجْعلك مُضطرًّا كلَّ الاضطرار إلى الوسائل الأخرى بدلًا من إعفائك منها؛ وذلك لأنه يدخل ضِمن شرفِ هذه الحرفة بَوَارُ مَن يَحْبِسون أنفسَهم عليها. أجلْ، إن البَوَار لا يُصيبُهم فيها جميعًا؛ فمن المُوضَة أن يُغْتنى فيها على وجهٍ غيرِ محسوسٍ كما في الحِرَف الأخرى، ولكنني أشُكُّ في أنني، إذا ما أوْضحتُ لك السُّبُل التي يتخذها مَن يَنْجَحون فيها، أجعلُك مُولَعًا بتقليدهم.
وستعلم كذلك أنَّ الأمرَ في هذه الحِرْفة نفسِها عاد لا يقوم على الشجاعة ولا على القيمة، ما لم يكن هذا لدى النساء على ما يحتمل، وعلى العكس يُرى أن الأنذلَ والأسفلَ والأذلَّ هو أكثرُ مَن يُكرَم دائمًا، فإذا ما عَنَّ لك أن تسلُكَ سبيلَ الصلاحِ والجِدِّ في حِرْفتك ازدُريتَ ومُقِتَّ وطُرِدتَ على ما يُحتمل، أو ذهبتَ ضحيةَ المحاباة فاغتصب زملاؤك مكانَك وحُمِلت على القيام بخدمتك في الخنادق على حين يقومون بخِدَمهم في تزيين أنفسهم.»
ومن المشكوك فيه أن تكون جميعُ هذه الخِدَم ملائمةً لذوقِ إميل، وسيقول لي: «ماذا! أنَسيتُ ألعابَ صِباي؟ وهل فقدْتُ ذراعيَّ؟ وهل نَفِدَت قُوَّتي؟ وهل عُدْتُ لا أعْرِف العمل؟ وما يُهِمُّني من جميع خِدَمِك الجميلة وجميعِ مُبْتَسَرات النَّاس؟ لا أعْرِف مجدًا غيرَ كوني مُحسِنًا مُنصِفًا، ولا أعرِف سعادةً غيرَ العيش مستقلًّا مع مَن أُحِبُّ كاسبًا كلَّ يوم صحةً وشهوةَ طعامٍ من عملي، وما كانت جميعُ الهموم التي تُكلِّمُني عنها لتؤثِّر فيَّ مُطلَقًا، ولا أرغبُ من الخيرِ في غيرِ مزرعةٍ صغيرةٍ في زاويةٍ من الدنيا، وسأبذل جهدي كلَّه في استغلالها، وسأعيش بلا هَم، وأعْطني صوفية وحقلي أكُ غنيًّا.»
«أجلْ يا صديقي، يكفي لسعادة الرجل الحكيم أن تكون له امرأةٌ وحقل، بَيْدَ أن هذه الكنوز غيرُ مألوفةٍ كما تظن، مع أنها معتدلة، وأندرُ الكنوز هو ما وجدتَ، فلنتكلمْ عن الآخَر.
حقلٌ لك يا إميل العزيز! ففي أيِّ مكان ستختاره؟ وهل تستطيع أن تقول في أية زاويةٍ من الأرض «إنني هنا سيدُ نفسي وسيدُ هذه الأرض الخاصة بي»؟ إننا نعرف الأماكن التي يسهُل على الرجل أن يصير غنيًّا فيها، ولكنْ مَن يَعْرِف المكانَ الذي يُستَغْنَى فيه عن الغِنى؟ ومَن يَعْرِف المكانَ الذي يُمكِنُ أن تُقضَى فيه حياةٌ مستقلةٌ طليقةٌ من غيرِ احتياجٍ إلى إيذاءِ أحدٍ ومن غيرِ أن يُخشى تلقِّي أذًى من أحد؟ وهل تَظنُّ أن من السهل كشفَ البلد الذي يُسمَح للرجل فيه دائمًا أن يكون صالحًا؟ وإذا وُجِدَتْ وسيلةٌ شرعيةٌ مضمونةٌ للعيش بلا مَكرٍ ولا خِصامٍ ولا خضوع، فإن هذا يَعني، كما أرى، عيشًا بكدِّ اليد، وذلك بزراعةِ الإنسانِ أرضَه الخاصَّة. ولكن أين الدولةُ التي يُمكن أن يُقال فيها «إن الأرض التي أطأُها خاصةٌ بي»؟ وتثبَّتْ قبْل اختيار هذه الأرض المبارَكة في أنك تَجِدُ فيها السلامَ الذي تَنشُد، واحترِزْ من وجودِ حكومةٍ جافيةٍ ودِينٍ جائرٍ وأخلاقٍ فاسدةٍ تُنَغِّصُ عليك عيشَك في مكانك، واجعلْ نفسك في حِرْزٍ لها تستنفِد رأسَ مالك، واصنَعْ حين تقضي حياةً صالحةً ما لا تتزلَّف معه إلى المُدرَاء ومساعديهم وإلى القضاة والقساوسة والجيران الأقوياء، وإلى أصناف الخبثاء الذين يستعدُّون دائمًا لإيذائك إذا ما أهملتهم، وضعْ نفْسَك على الخصوص في مأمنٍ من جَنَف الكبراء والأغنياء. ولا يَغِبْ عن بالك إمكانُ مجاورة أرَضِيهم في كلِّ مكانٍ لكَرْمِ نابوتَ، وإذا قضى سوءُ حظِّك بأن يَشتري أو يبني رجلٌ في الحَوْزة بيتًا بالقرب من كوخك، فهلْ تجيب بأنه لن يَجِدَ وسيلةً يتذرَّع بها للاستيلاء على تُراثك ليُثرِي، أو أنك لن تراه يبلَعُ جميعَ مواردك توسيعًا لطريقٍ عامة؟ وإذا كان لك من الاعتبار ما تَحترِز به من جميعِ هذه المحاذير أمكنَك أن تَحفظ أرزاقَك لِمَا عاد حِفْظُها لا يُكلِّفُك شيئًا؛ فكلٌّ من الثراء والاعتبار يعتمد على الآخر تبادُلًا، ويكون تماسُك كلٍّ منهما من غير الآخرِ سيِّئًا.
وأنا أكثرُ منك تجرِبةً يا إميلُ العزيز، وأنا أحسنُ منك بصرًا بصعوبة مشروعك، ومع ذلك فإن مشروعَك رائع، ومع ذلك فإن مشروعك صالح، وهو يجعلك سعيدًا بالحقيقة، فلنبذُلْ جُهدَنا في تنفيذه، وإنما يُوجَد لديَّ اقتراحٌ أذكُره لك، وهو أن نُخصِّصَ العامَين اللذين انتحلناهما حتى رجوعك لاختيار ملجأ في أوروبة تستطيع أن تعيش فيه سعيدًا مع أُسرَتِك أمينًا من جميع الأخطار التي حدَّثْتُك عنها، وإذا ما وُفِّقنا وَجَدْتَ السعادة الحقيقية التي ينشدها أناسٌ كثيرون في الحقيقة، ولم تأسفْ على الوقت الذي بَذَلْتَ في هذا السبيل، وإذا لم نُوفَّق شُفِيتَ من وَهْم، وأسليتَ نفسَك عن مصيبةٍ لا مناصَ منها، وخضعتَ لسلطان الضرورة.»
ولا أدري هل يرى جميعُ قُرَّائي أين يَسوقنا هذا البحث المُقترَح هكذا، وإنَّما الذي أعْرِف جيِّدًا هو أن إميل إذا كان لا يعود من رحلاته، التي بُدِئت وأُديمت لهذا الغرض، مُطَّلِعًا على جميعِ أمورِ الحكومة والطبائع العامة وعلى جميع أنواع مبادئ الدولة، وجب أن يكون مُجرَّدًا من الذكاء، وأن أكون مُجرَّدًا من قوى التمييز.
ولمَّا يُولَدِ الفِقْه السِّياسي، وقد يُفتَرَض أنه لن يُولَدَ مُطلَقًا، وليس غرُوسْيُوسُ — الذي هو أستاذُ جميعِ علمائنا في هذا الفَرْع — غيرَ ولدٍ، والأفظعُ من هذا أن يكون ولدًا سيئَ النية، وعندما أَسْمع رفعَ غروسيوسَ إلى الأوْج الأعلى وغمْر هُوبْزَ باللعَنات أُبصِرُ مقدار قراءة ذوي الألباب لهما وإدراكهم إياهما. والواقعُ أن مبادئهما متشابهة تمامًا، وهما لا يختلفان في غير التعابير، وهما يختلفان في المِنْهاج أيضًا؛ فهُوبْز يعتمد على المغالطات، وغروسْيُوس يعتمد على الشعراء، وإذا عدوْتَ هذا وجدتَ هذَين المؤلِّفَين متفقَين في كل شيء.
ومُونْتِسْكيُو العصريُّ الشهيرُ وحدَه هو الذي استطاع وضعَ هذا العِلمِ العظيمِ غيرِ النافع، ولكنه لم يُراعِ مبادئَ الفقه السياسي، وإنَّما اكتفى بمعالجة الفقه الوَضْعي للحكومات القائمة، ولا شيءَ في العالَم أشدُّ اختلافًا من هاتَين الدراستَين.
ومع ذلك، فإنَّ الَّذي يريد أن يُصدِر حُكمًا صحيحًا في الحكومات القائمة مُلزَمٌ بجمْع ما بين الدراستَين؛ إذ لا بُدَّ من معرفة ما يجب أن يكون للحكم فيما هو كائن، وكلُّ الصعوبة في إلقاء نُورٍ في هذه الموضوعات المهمة هو في جَعْلِ الفردِ يناقش فيها فيُجيبُ عن هذين السؤالَين، وهما: ما يُهِمُّني؟ وما أستطيع أن أصنع؟ وقد وضَعْنا إميلَ في حالٍ يُجيبُ معه عن السؤالين.
وتأتي الصُّعوبةُ الثَّانية من مُبْتَسَرات الوَلُودِية، ومن المبادئ التي غُذِّينا بها، ولا سيَّما محاباةُ المؤلفِين الذين، إذ يُحدِّثون دائمًا عن الحقيقة التي لا يُبالون بها مطلقًا، لا يُفكِّرون في غيرِ مصلحتهم التي لا يتكلَّمون عنها مُطلَقًا. والواقع أن الشعب لا يمنح كراسيَّ ولا وظائفَ ولا أماكنَ في الأكاديمية، فليُحكَمْ في الوجه الذي يجب أن تقوم عليه حقوقُه من قِبَل أولئك النَّاس! وأمَّا أنا فقد صنعتُ ما تَكون به هذه الصعوبةُ أمرًا لا يُعتَدُّ به لدى إميل. وإميلُ لم يَكَد يَعرِفُ ما الحكومة، والشيء الوحيد الذي يُهِمُّه هو أن يَجِدَ أفضلَ الحكومات، وليس هدفُه أن يَضَعَ كتبًا، وهو إذا ما وَضَعَ منها فلن يكون هذا ليتزلَّف إلى السلطات، بل ليُوطِّد حقوقَ الإنسانية.
وبَقيتْ صعوبةٌ ثالثة؛ فهذه الصعوبةُ مُموَّهةٌ أكثرُ منها متينة، ولا أرغبُ في حلِّها، ولا في تقديمها، وإنما أكتفي بألَّا تُرْهِب غَيْرَتي واثقًا في المباحث التي هي من هذا النوع، بأن المواهبَ الكبيرةَ أقلُّ لزومًا من حُبٍّ للعدلِ صادقٍ ومن إجلالٍ للحقيقة؛ ولذا فإن أمورَ الحكومة إذا ما أمكن أن تُعالَج الآن أو لم يُمكِن فذاك حظُّنا.
ولا بُدَّ من وضْعِ قواعدَ للملاحظة قبْل أن نلاحِظ، ولا بُدَّ من وضْعِ مقياسٍ يُرجَع إليه فيما يُتَّخَذُ من قياسات، ومبادئنا في الفقه السياسي هي هذا المقياس، وقياساتنا هي القوانين السِّياسيَّة لكلِّ بلد.
وستكون أصولُنا واضحةً بسيطةً مقتبسةً من طبيعة الأشياء مباشرة، وستتخذ شكلَ المسائل المُجادَل فيها بيننا، فلا نُحوِّلها إلى مبادئَ إلا بعْد حلِّها حلًّا كافيًا.
ومن ذلك أننا إذْ نَرْجِع في بدء الأمر إلى الحال الطَّبيعيَّة نبْحَث في هل يُولَدُ النَّاسُ عبيدًا أو أحرارًا، مشْتركين أو مستقلين، وهل يتَّحِدون طوْعًا أو كَرْهًا، وهل تستطيع القوة الأصلية التي تجمعهم تكوينَ حقٍّ دائمٍ تُلزِمهم به، حتى عند غَلَبها من قِبَل قوةٍ أخرى كالتي أَخْضعَ لها الملكُ نمرودُ الأممَ الأخرى على ما يُروى، فقوَّضتْ تلك، فغدتْ جائرةً أو غاصبة، وصار لا يُوجَد ملوكٌ شرعيون غيرُ أبناء نمرودَ أو مَن انتقلتْ إليهم حقوقُه، أو هل تُلْزِمُ القوةُ التي عَقَبَت القوةَ الأصليةَ بعد انقطاع هذه والقضاء على إلزامها، فلا يُجْبَرُ على إطاعتها إلا كَرْهًا، ويُحَلُّ منها عند إمكان مقاومتها؛ أي إن هذا الحقَّ لا يُضيف شيئًا إلى القوة كما يَلوح، ولا يكون غيرَ تلاعبٍ في الألفاظ.
وسنبحث في هل يأتي كلُّ مَرَضٍ من الرب، فيكونُ من الإجرام دعوةُ الطبيب.
وهل كلمةُ السُّلطان هذه تَعْني في هذه المناسبة شيئًا آخَرَ غيرَ السلطان الشرعي، فيكون هذا السلطانُ خاضعًا للقوانين التي يَستَمِدُّ منها وجودَه؟
ولْنفترضْ نَبْذَ حقِّ القوة هذا جانبًا وانتحالَ حقِّ الطبيعةِ أو السلطانِ الأبويِّ كمبدأ للمجتمعات، فحينئذٍ نبحثُ عن مقياس هذا السلطان وعن كيفية قيامه في الطبيعة، وعن وجود سببٍ له غيرِ فائدةِ الولدِ وضَعْفِه وما يَحْمِل الأبُ من حُبٍّ طبيعيٍّ له، فإذا ما زال ضَعفُ الولد ونَضِجَ عقلُه أفلا يكون وحدَه قاضيًا طبيعيًّا فيما يلائم بقاءه؛ ومِنْ ثَمَّ ألَا يكون سيدَ نفسِه مستقلًّا عن أيِّ إنسانٍ آخَر، حتى عن أبيه؟ وذلك لأنَّ من الثابت أن الابن يُحبُّ نفسَه أكثرَ من حُبِّ الأبِ لابنه.
وإذا مات الأب، أفيُلزَم الأولادُ بإطاعة كبيرهمِ أو بإطاعةِ آخرَ لا يَحمِلُ لهم حُبَّ الأبِ الطبيعي؟ وإذا ما كان الأمرُ بين سُلالةٍ وأخرى، أفيوجد رئيسٌ واحدٌ دائمًا؟ وهل يُبحث في مثلِ هذه الحال عن الوجهِ الذي يُمكِن أن يُقْسَم به السلطان، وعن الوجه الذي يَكون به في العالَم أكثرُ من رئيسٍ للسيطرة على النوع البشري؟
ولْنفترِضْ أن الأقوامَ تَكوَّنوا باختيارهم، فهنالك نَمِيزُ بين الحقِّ والواقع، فنسأل قائلِين إنهم إذا كانوا قد خضعوا على هذا الوجه لإخوتهم أو أعمامهم أو أقربائهم طَوْعًا لا كَرْهًا، أفلا يَدخُل هذا النوعُ من المجتمع نطاقَ الجماعة القائمة على الحرية والاختيار.
ثُمَّ ننتقل إلى حقِّ الرِّق، فنبحثُ في هل يستطيع الإنسانُ أن يَبيعَ نفسه من آخرَ بلا قيدٍ ولا تَحَفُّظٍ ولا أيِّ نوعٍ من الشُّروط؛ أي هل يستطيع أن يتنزَّل عن شخصه وحياته وعقله وذاتيته وكلِّ خُلُقِيَّةٍ في أفعاله، والخلاصةُ أن ينقطع عن الوجود قبْل موته على الرغم من الطبيعة التي تفرض عليه أمرَ حِفْظِ نفْسه حالًا، وعلى الرغم من ضميره وعقله اللذين يُلزِمانه بما يجب أن يَصنع وبما يَجب أن يَمتنع عنه.
وإذا كان العبدُ لا يستطيع أن يبيعَ نفْسَه من مولاه بلا تَحَفُّظ، فكيف تستطيع الأمَّة أن تبيع نفسها من رئيسها بلا تحفُّظ؟ وإذا كان العبد يبقى قاضيًا في أمر مراعاة مولاه للعَقد، فكيف لا يَبْقى الشعبُ قاضيًا في أمرِ مراعاة رئيسه للعَقد؟
ونحن، إذ نجِدُ أنفسَنا مُلْزَمِين بالعود إلى الوراء على هذا الوجه ناظرين إلى هذا المعنى الجماعيِّ لكلمة الأمة، نبحثُ لإقامة الأمة في هل يَجِبُ وجودُ عقدٍ ضمنيٍّ على الأقلِّ سابقٍ للذي نفترضه.
وما دامت الأمَّةُ أُمَّةً قبل أن تنتخب لها مَلِكًا، فما الذي جعلها أمَّةً إن لم يكن العَقد الاجتماعي؛ ولِذا فإن العقدَ الاجتماعيَّ أساسُ كلِّ مجتمع مدني؛ ففي طبيعة هذا العَقد يَجِبُ أن يُبحَث عن طبيعة المجتمع الذي يؤلِّفه.
وسنبحث في فَحوَى هذا العَقد، ونَرى هل من الممكنِ أن يُعبَّر عنه بالصيغة الآتية، وهي: «إن كلَّ واحدٍ مِنَّا يَضَعُ بالاشتراك أموالَه وشخصَه وحياتَه وجميعَ قُوَّته تحت الإدارة العليا للإرادة العامة، فنَقْبَلُ كهيئة، كلَّ عضوٍ جزءًا من المجموع لا يَتجزَّأ.»
وإننا بعد افتراض هذا سنلاحظ لتعيين العباراتِ التي نحتاج إليها أن عَقْد الاجتماع هذا يُوجِبُ هيئةً أدبيةً جماعيةً مؤلَّفةً من أعضاءٍ بمقدارِ ما في المجلس من أصوات، وذلك بدلًا من ملاحظة الشخصية الخاصة لكلِّ متعاقِد، وعلى العموم يتَّخِذُ هذا الشخص العام اسم «الهيئة السِّياسيَّة» التي يُطلِقُ أعضاؤها عليها اسمَ «الدولة» إذا كانت منفعلةً، واسمَ «السيد» إذا كانت فاعلة، واسمَ «السلطان» إذا ما قُورِنت بنظيراتها، وأمَّا الأعضاء أنفسهم فإنهم يتخذون اسمَ «الأمَّة» جَمْعًا، واسمَ «مواطنين» أفرادًا، كأعضاءِ «الوطن» أو شركاءَ في السلطان ذي السيادة، واسمَ «رعايا» كخاضعين للسلطان عَيْنِه.
وسنلاحِظ أن عَقْد الاجتماع هذا ينطوي على عهدٍ متقابل بين الجمهور والأفراد، فيكون كلُّ فردٍ متعاقدٍ مع نفْسِه على هذا الوجه مُلزَمًا بصِلةٍ مضاعفة؛ أي كعضوٍ للسيد نحو الأفراد، وكعضوٍ للدولة نحو السيد.
وسنلاحِظ أيضًا أن كلَّ واحدٍ إذ لا يكون مُلزَمًا بغير التعهدات التي هو طَرَفٌ فيها، فإن التشاورَ العامَّ الذي يُلزِم جميعَ الرعايا نحو السيد، بسبب الصِّلتَين المختلفتَين اللتَين يُنظَر بهما إلى كلِّ واحدٍ منهم، لا يُمكِنُ أن يُلزِمَ الدولةَ نحو نفسها؛ ومِنْ ثَمَّ يُرَى أنه لا يُوجَد، ولا يُمكن أن يوجَدَ، قانونٌ أساسيٌّ آخرُ غيرُ الميثاق الاجتماعي وحدَه، وهذا لا يعني أن الهيئة السِّياسيَّة لا تستطيع من بعض الوجوه أن تُلزِم نفسَها نحوَ غيرِها؛ فهي تصيرُ نحوَ الأجنبيِّ كائنًا بسيطًا، تصيرُ فردًا.
وبما أنه لا يُوجَد للطَّرَفَين المتعاقدَين، أيْ للجمهور وكلِّ فرد، أيُّ رئيسٍ مشتركٍ قادرٍ على الحُكمِ في خصوماتهما؛ فإننا سنبحث في هل يبقى كلٌّ من الفريقين حُرًّا في نقض العقد متى شاء؛ أي أن يَعْدِل عنه من ناحيته إذا ما عَدَّه ضارًّا به.
وتنويرًا لهذه المسألة نلاحظ وَفْقَ الميثاق الاجتماعي أنَّ السَّيِّدَ إذ لا يستطيع أن يَسيرَ إلا بعزائمَ مشتركةٍ عامة، فإنَّه لا ينبغي أن يكون لأفعاله غيرُ أغراضٍ عامَّةٍ مشتركة، فينشَأ عن هذا كونُ الفرد لا يُمكن أن يُضَرَّ مباشرةً من قِبَل السيد ما لم يُضَرَّ الجميع، ولا يُمكِنُ هذا أن يكون ما دام هذا يَعْني إصابةَ الواحدِ نفسَه بأذًى، وهكذا فإن العَقد الاجتماعي لا يحتاج إلى ضامنٍ آخرَ غيرِ السلطة العامة؛ وذلك لأنَّ الضَّررَ لا يُمكِن أن يصدُر عن غيرِ الأفراد، وهنالك لا يكون الأفرادُ مُعْفَوْن من عهدِهم، بل يُعاقَبون على نقضه.
وسنجتهد لتقرير جميع المسائل المشابهة في ذِكْرنا دائمًا أن الميثاقَ الاجتماعيَّ ذو طبيعةٍ خاصةٍ قاصرةٍ عليه وحدَه، وذلك من حيث كونُ الأمة لا تُعاقِدُ غيرَ نفسها؛ أي إنَّ الأُمَّة كهيئةٍ صاحبةٍ للسيادة تعاقِد الأفراد كرعايا، وعلى هذه الشروط يَقوم كِيان الجهاز السياسي وسَيْره، وهذا الشرط وحدَه يجعل التعهُّدات شرعيةً معقولةً خاليةً من الخطر، ولولا هذه لكانت التعهداتُ خُرُقًا جائرةً عُرْضةً لأعظمِ ما يكون من سوء الاستعمال.
وبما أن الأفرادَ لا يَخضعون لغير السيد، وبما أن السلطانَ صاحبَ السيادةِ ليس سوى الإرادة العامة، فإننا سنرى كيف أن كلَّ إنسانٍ إذْ يَخضع للسيد لا يخضع لغير نفسه، وكيف نكون في الميثاق الاجتماعي أكثرَ حُرِّيةً مِنَّا في الحال الطبيعية.
وإنَّا بعد أن قابلنا بين الحرية الطبيعية والحرية المدنية من حيث الأفراد، سنقابل من حيث الأموال بين حقِّ التملُّك وحقِّ السيادة؛ أي بين المِلْك الخاصِّ والمِلْك العام. وإذا كان السلطان ذو السيادة قائمًا على حقِّ التملُّك، فإن هذا الحقَّ يجب أن يكون أعظمَ ما يُحتَرَم من قِبَل ذاك السلطان، وهو يَبْقى مَصونًا مُقدَّسًا ما بَقِيَ حقٌّ فرديٌّ خاص، وهو إذا ما عُدَّ من فوْره مشتركًا بين جميع المواطنين خَضَع للإرادة العامة. وهذه الإرادة هي التي تستطيع أن تُبطِلَه. وهكذا فإنه لا يُوجَد للسيد أيُّ حقٍّ في مسِّ مالِ الفردِ ولا مالِ كثيرٍ من الأفراد، ولكنه يستطيع أن يستولي على مال الجميع استيلاءً شرعيًّا، وذلك كما وقع بإسبارطة في زمن ليكُورغَ، مع أن إلغاء الديون من قِبَل سولون عُدَّ عملًا غيرَ شرعي.
وبما أنه لا شيءَ يُكرِه الرعايا غيرُ الإرادة العامة فإننا سنبحث عن كيفية تجلِّي هذه الإرادة، وعن العلامات التي يُطمأنُّ إلى معرفتها بها، وعن معنى القانون، وعن صفاته الحقيقية، وهذا الموضوعُ تامُّ الجِدَّة، ولا يزال القانون يتطلَّب تعريفًا.
وإذا ما اعتبرت الأُمَّةُ واحدًا أو أكثرَ من أعضائها على انفرادٍ انقسمت من فوْرها، وتكوَّنت بين الكلِّ وجزئه صلةٌ تَجْعَلُ منهما موجودَين منفصلَين، فيكون الجزءُ أحدَ الموجودَين، ويكون الكلُّ بعد طرْح هذا الجزء منه ثانيَ الموجودَين، ولكن الكلَّ بعد طرْح جزءٍ منه لا يكون كُلًّا، ويَعُود لا يُوجَد كلٌّ إذنْ، ما بقيت هذه النسبة، بل يُوجَد قسمان متفاوتان.
وعلى العكس، إذا ما وضعت الأمةُ كلُّها قانونًا لجميعِ الأمة، فإنها لا تعتبر غيرَ نفسِها، وإذا ما تكوَّنت علاقةٌ كانت علاقةَ الموضوع كلِّه من وجهةِ نظرٍ بالموضوع كلِّه من وجهة نظرٍ أخرى، وذلك من غيرِ تقسيمٍ للكلِّ قَطْعًا، وهنالك يَكون الموضوعُ الذي يُوضَع له قانونٌ عامًّا، وتكون الإرادةُ التي تَضَع القانونَ عامَّةً أيضًا، وسنرى هل يُوجَدُ نَوعُ قرارٍ آخرُ يُمكِن أن يَحمِل اسمَ القانون.
وإذا كان السيد لا يستطيع أن يتكلَّم إلا بالقوانين، وإذا كان القانونُ لا يُمكِن أن يكون له غيرُ موضوعٍ عامٍّ شاملٍ لجميع أعضاء الدولة على السواء، فإن هذا يَعني عدمَ وجودِ سلطةٍ للسيد يَضَعُ بها قانونًا حوْل موضوعٍ خاص، وبما أن من المهم لبقاء الدولة مع ذلك تقريرَ أمورٍ خاصَّة، فإننا سنرى كيف يُمكن صنعُ هذا.
ولا يُمكِن أن تكونَ أعمالُ السيدِ غيرَ أعمالِ الإرادة العامة، غيرَ قوانين، ولا بُدَّ بعد ذلك من أعمال البتِّ أو أعمال القوة أو الحكومة تنفيذًا لهذه القوانين نفسِها، وعلى العكس لا يُمكِن أن يكون لهذه الأعمال غيرُ موضوعاتٍ خاصَّة، وهكذا فإن المرسوم الذي يَصْدُر عن السيد لانتخاب رئيس يكون قانونًا، وإن المرسومَ الذي يُنتخَبُ به هذا الرئيسُ تنفيذًا للقانون ليس سوى مرسومِ حكومة.
وسنبحث في إمكانِ تَجرُّدِ الأمةِ من حقِّها في السيادة مُوَلِّيةً به رجلًا أو أكثر، وذلك بما أن عملَ الانتخاب ليس قانونًا، وبما أن الأمةَ بهذا العمل ليست سيِّدًا بعينه، فإنه لا يُرى مطلقًا كيف تستطيع الأمة إذ ذاك أن تنقُل حقًّا ليس لها.
وبما أن كُنْه السيادة يقوم على الإرادة العامة فإنه لا يُرى كيف يُمكِن أن يُوقَنَ بأن الإرادة الخاصة تكون على اتِّفاقٍ مع الإرادة العامة دائمًا، ومن الجدير وجوبُ افتراضِ كَوْن الأمرِ على العكس غالبًا؛ وذلك لأن المصلحة الخاصة تَميلُ إلى الامتيازات دائمًا، وأن المصلحة العامة تميلُ إلى المساواة، ومتى كان هذا الاتفاق ممكنًا كفى ألَّا يكون ضروريًّا ممتنعَ الزوال لكيلا ينشأ عنه الحقُّ ذو السيادة.
وسنبحث في هل رؤساء الأمة الذين يُختَارون تحت أيِّ اسمٍ كان، يُمكِنهم من غيرِ نقضٍ للميثاق الاجتماعي أن يكونوا شيئًا آخَرَ غيرَ ضُبَّاطٍ لدى الأمة التي تأمرهم بتنفيذ القوانين، وفي هل هؤلاء الرؤساء غيرُ مُلزَمِين بتقديمِ حسابٍ إليها عن إدارتهم وغيرُ خاضعين للقوانين المُفَوض إليهم أن يحافظوا عليها.
وإذا كانت الأمة لا تستطيع أن تبيع حقَّها الأعلى، فهل تستطيع أن تُودِعَه لوقتٍ معيَّن؟ وإذا كانت الأمة لا تستطيع أن تَجعلَ لنفسها موْلًى، فهل تستطيع أن تجْعل لنفسها ممثلين؟ فهذه المسألة مهمةٌ وتستحقُّ النِّقاش.
وإذا كانت الأمةُ لا تستطيع أن تكون ذاتَ سيِّدٍ ولا ممثلين، فإننا سنبحث عن كيفية قيامها بقوانينها، وعن وجوبِ وجودِ قوانينَ كثيرةٍ لها أوْ لا، وعن وجوبِ تغييرِ هذه القوانين غالبًا أوْ لا، وعن أنه يَسهُلُ على الأمة الكبيرة أن تكون مشترعةً لنفسها بنفسها أوْ لا.
وسنبحث في هل الرُّومان أمةٌ كبيرة.
وسنبحث في هل من الصالحِ وجودُ أممٍ عظيمة.
ويَظهر من الاعتبارات السابقة أنه يُوجَد في الدولة هيئةٌ متوسطةٌ بين الرعايا والسيد، وأن هذه الهيئةَ المتوسطة المؤلَّفة من عضوٍ واحدٍ أو أكثرَ مُفوَّضٌ إليها أمرُ القيام بالإدارة العامة، وتنفيذ القوانين، والمحافظة على الحرية المدنية والسِّياسيَّة.
ويُسمَّى أعضاءُ هذه الهيئة وُلاةً أو ملوكًا، أي حُكَّامًا، وتُسمَّى الهيئةُ بأَسْرِها أميرًا عند النظر إلى الذين تتألَّفُ منهم، وتُسمَّى حكومةً عند النظر إلى عملها.
وإذا نَظرْنا إلى عمل الهيئة بأسْرِها، وهي تعْمَل في نفسِها؛ أي إلى نسبة الكلِّ إلى الكل، أو السيد إلى الدولة، أمكننا أن نقارِنَ هذه النِّسبةَ بطَرَفَي النِّسبة المتَّصلة التي تكون الحكومةُ وسطَها الجامع. ويتلقَّى الحاكم من السيد ما يُلقِي على الأمة من الأوامر، وهو إذ يُعَوَّض تمامًا، يكون حاصلُه أو سلطانُه على ذات المستوى لحاصل المواطنين أو سلطانهم، هؤلاء المواطنين الذين هم رعايا من ناحيةٍ وسادةٌ من ناحيةٍ أخرى، وما كان لِيُمْكِنَ إفسادُ أيِّ طَرَفٍ من الأطراف الثلاثة من غيرِ أن يُقضَى على النسبة حالًا، وإذا أراد السيد أن يحكُمَ، وإذا أراد الأمير أن يضع قوانين، وإذا رفض التابع أن يُطيع، عَقَبَ الاختلالُ النظامَ وسقطتِ الدولةُ المنحلةُ في الاستبداد أو وقعت في الفوضى.
ولْنَفْرضْ أن الدولة مؤلَّفةٌ من عشرة آلاف مواطن، فلا يُمكنُ اعتبارُ السيد إلا جماعيًّا أو هيئة، ولكنَّ لكلِّ واحدٍ كتابعٍ وجودًا فرديًّا مستقلًّا، وهكذا فإن نسبة السيد إلى التابع كنسبة الآلاف العشرة إلى الواحد؛ أي إنه لا يكون لكلِّ عضوٍ في الدولة من النصيب غيرُ جزءٍ من عشرة آلافٍ من السلطان ذي السيادة، وإن كان خاضعًا للكل، وإذا كانت الأمةُ مؤلَّفةً من مائة ألف إنسان لم يتغيرْ وضعُ الرعايا، واستمرَّ كلُّ واحدٍ على حَمْلِ عِبءِ القوانين، مع أن صوتَه الذي نُزِّلَ إلى واحدٍ من مائةِ ألفٍ صار له من النفوذ عند وضْعِ القوانين أقل مما كان له عشرَ مرات، وهكذا فإن التابع إذْ يبقى واحدًا دائمًا تزيد نسبةُ السيد بنسبة زيادة عدد المواطنين، وينشأ عن هذا أن الدولة كلَّما كَبُرَت قلَّت الحرية.
والواقعُ أنه كلَّما قلَّ تعلُّقُ الإرادات الخاصة بالإرادة العامة؛ أي تعلُّقُ الطبائع بالقوانين، زادت قوَّةُ الردع، وتَرى من ناحيةٍ أخرى أن اتساع الدولة، إذ يوجب في أمناء السلطة العامة زيادةَ مَيْلٍ إلى الشهوات وزيادةً في وسائل سوء الاستعمال، فإنه كلَّما كان لدى الحكومة من القوة ما تردع به الأمة وجب أن يكون لدى السيد بدوْره من القوة ما يردَعُ به الحكومة.
ويُرَى من هذه الصلة المضاعفة أن النسبة الدائمة بين السيد والأمير والأمَّة ليست فكرةً مُرادِيةً مُطلَقًا، بل نتيجةٌ لطبيعة الدولة، ويُرَى أيضًا أن الأمة التي هي أحد الأطراف إذ كانت ثابتة، فإن النسبة المضاعفة كلَّما زادت أو نَقَصَت زادت النسبةُ البسيطةُ أو نقصت بدورها، وهذا لا يُمكِن أن يَقَع من غيرِ أن يتغيَّر الطَّرَفُ المتوسطُ في كلِّ مرة، ومِنْ ثَمَّ يمكننا أن نستخرج النتيجةَ القائلةَ إنه لا يُوجَد نظامٌ للحكومة وحيدٌ مُطلَق، وإنَّما يجب أن يكون موجودًا من الحكومات المختلفة طبيعةً بمقدارِ ما يُوجَد من الدول المختلفة اتِّساعًا.
وإذا كانت الأمةُ كلَّما كَثُرَ عددُها قلَّ تَعلُّقُ الطبائع بالقوانين، فإنَّ مِمَّا نبحث فيه هو هل يُمكننا، بقياسٍ على شيءٍ من الوضوح، أن نقول: إنَّ الْحُكَّام كلَّما كَثُرَ عددُهم زادت الحكومة ضَعْفًا.
ولإلقاء نورٍ على هذا المبدأ نَميزُ في شخصِ كلِّ حاكمٍ ثلاثَ إراداتٍ مختلفةٍ اختلافًا جوهريًّا، وذلك أوَّلًا: إرادةُ الفردِ الخاصةُ التي لا تَهْدف إلى غيرِ مصلحتهِ الخاصة. ثانيًا: إرادةُ الحكامِ المشتركةُ التي تهدف إلى مصلحة الأمير، هذه الإرادةُ التي يُمكن أن تُدْعى إرادةَ الهيْئة، فتكون عامةً نظرًا إلى الحكومة، وخاصَّةً نظرًا إلى الدولة التي تُعَدُّ الحكومةُ جزءًا منها. ثالثًا: إرادةُ الأمة أو الإرادةُ ذاتُ السيادة؛ فهذه الإرادةُ تكون عامةً بالنسبة إلى الدولة التي تُعَدُّ الكلَّ، وبالنسبة إلى الحكومة التي تُعَدُّ جُزءًا من الكل. وفي الاشتراع الكامل يجب أن تكون الإرادة الخاصة صِفْرًا تقريبًا، وأن تكون إرادةُ الهيئة الخاصة بالحكومة تابعةً جِدًّا، وأن تكون الإرادةُ العامةُ ذاتُ السيادة قاعدةَ كلِّ إرادةٍ من حيث النتيجة، وعلى العكس تكون هذه الإراداتُ مختلفةً وَفْقَ النظام الطبيعي أكثرَ فِعْلًا كلَّما تركَّزت، فتكون الإرادةُ العامةُ أكثرَ ضَعفًا دائمًا، وتكون المرتبةُ الثانية لإرادة الهيئة، وتكون الإرادةُ الخاصةُ مفضَّلةً على الجميع، وبذلك يكون الفردُ أوَّل مَن يأتي، ثُمَّ يأتي الحاكم، ثُمَّ يأتي المواطن؛ أي يُرى تدرُّجٌ معاكسٌ توًّا لِمَا يقتضيه النظام الاجتماعي.
ولْنفترضْ بعد وضْع ذلك أن الحكومةَ غَدَتْ قبضةَ رجلٍ واحد؛ فبهذا تكون الإرادةُ الخاصةُ وإرادةُ الهيئةِ قد اتحدتا اتِّحادًا تامًّا، وبذا تكون هذه الإرادةُ في أقصى ما يُمكِن شِدَّةً، والواقعُ أن استعمالَ القوة إذ يتوقَّف على هذه الدرجة من الشِّدة، وأن قوةَ الحكومةِ المطلقةَ إذْ تكون قوةَ الأمةِ دائمًا فلا تتغيَّر مُطلَقًا، فإنه يَنْجُم عن هذا كونُ أكثر الحكومات فعَّاليةً هي حكومةَ الفرد.
وعلى العكس، إذا ما وحَّدنا بين الحكومة والسلطة العليا، فجعلنا السيدَ أميرًا، وجعلنا المواطنين حُكَّامًا، فهنالك لا يكون لإرادة الهيئة الممزوجة بالإرادة العامة مزجًا تامًّا، فعَّاليةٌ أكثرُ مما لهذه، وتَدَعُ الإرادةَ الخاصة في كمال قوَّتها، وهكذا فإن الحكومةَ الصاحبةَ لذات القوة المطلقة دائمًا تكون في الحدِّ الأدنى من فعَّاليَّتها.
ولا جِدالَ في هذه القواعد، ويُوجَدُ من الاعتبارات الأخرى ما يؤيدها، ومن ذلك أن الحكامَ يكونون أكثرَ فعَّاليةً في هيئتهم من المواطنِ في هيئته، فيكون للإرادة الخاصة من النفوذِ أكثرُه في ذلك؛ وذلك لأن كلَّ حاكمٍ يكون مُفوَّضًا إليه دائمًا تقريبًا ببعض الوظائف الخاصة في الحكومة، وذلك بدلًا من كلِّ مواطنٍ يخلو من أيةِ وظيفةٍ من وظائف السيادة إذا ما أُخِذَ على انفراد، ثُمَّ إن الدولة كلَّما اتسعت زادت قوَّتُها الحقيقية، وإن كانت هذه القوة لا تزيد تبعًا لاتساعها، ولكن الدولة إذا ما بقيت على ما هي عليه وزاد عددُ الحكام على غيرِ طائلٍ لم تَنَل الحكومةُ من وراء ذلك قوةً حقيقيةً أعظمَ من تلك؛ وذلك لأنها مُستودِعةٌ لقوة الدولة التي نفترض تَساويَها دائمًا، وهكذا فإن فعَّاليَّة الحكومة تَنقُص من غيرِ أن تُمْكِن زيادةُ قوَّتِها.
وإنَّا بعد أن وجدنا أن الحكومة ترتخي بنسبة زيادة الحكام، وأن الأمة كلَّما زادت عددًا وَجَبَ أن تزيد قوةُ الحكومة الزاجرة، ننتهي إلى أن علاقةَ الحكَّام بالحكومةِ يجب أن تكونَ على عكس علاقة الرعايا بالسيد؛ أي إن الدولة كلَّما اتسعت وجب أن تضيق الحكومة، فينقُصَ عددُ الرؤساء تبعًا لزيادة الأمة.
وإنَّا، لكي نُعَيِّنَ فيما بعْدُ هذا التنوُّعَ في الأشكالِ بأسماءٍ أكثرَ ضبطًا، سنلاحِظ في أوَّل الأمرِ أن السيد يستطيع أن يُفوِّض وديعةَ الحكومة إلى الأمة أو إلى أعظم قسمٍ من الأمة، فيكون من المواطنين الحكام مَن هم أكثرُ من المواطنين الخاصِّين؛ فعلى شكلِ الحكومةِ هذا يُطلَق اسمُ الديموقراطية.
أو إن السيد يستطيع أن يُضيِّق نطاقَ الحكومة، فيجعله قبضةَ عددٍ أقلَّ من ذاك، فيكون من المواطنين الخاصِّين مَن همُ أكثرُ من الحكام، فعلى شكلِ الحكومةِ هذا يُطلق اسمُ الأريستوقراطية.
وأخيرًا يستطيع السيدُ أن يَجمعَ جميعَ الحكومةِ في يدِ حاكمٍ واحد، وهذا الشكلُ الثالث هو الأكثرُ شيوعًا، وهو يُسمَّى المَلَكِيَّة أو الحكومةَ المَلَكِيَّة.
وسنلاحظ أن جميعَ هذه الأشكال، أو الشكلَين الأوَّلَين على الأقل، تَحْتمل الزيادةَ والنقصان، وأن لها من اتساع المدى ما هو كافٍ أيضًا؛ وذلك لأن من الممكن أن تشتمل الديموقراطيةُ على جميعِ الأمةِ أو أن تنقبِض حتى النصفِ، ولأن من الممكن أن تنقبِض الأريستوقراطية بدورها من نصف الأمة حتى أصغرِ الأعدادِ انقباضًا غيرَ مُحدَّد، حتى إن المَلَكية تقبل التقسيم أحيانًا، سواءٌ أبينَ الأبِ والابنِ أم بين الأخوين أم على وجهٍ آخَر، وكان يوجد مَلِكان في إسبارطة دائمًا، وقد شُوهد في الإمبراطورية الرومانية من الأباطرةِ مَن بَلَغ عددُهُم حتى الثمانيةِ معًا، وذلك من غيرِ أن يُقال إنَّ الإمبراطورية قُسِّمَت، وتوجدُ نقطةٌ يختلط فيها كلُّ شكلٍ للحكومة بالشكل الذي يليه، فتقبلُ الدولة تحت الأشكال الثلاثة النوعية، من الأشكال بمقدار ما في الدولة من مواطنين بالحقيقة.
وليس ذاك كلَّ ما في الأمر؛ فبما أن كلَّ واحدةٍ من هذه الحكومات تستطيع من بعض الوجوه أن تنقسم إلى أقسامٍ مختلفةٍ يُدارُ قسمٌ منها على وجهٍ ويُدارُ قسمٌ آخَرُ منها على وجهٍ آخَر، فإنه يُمكن أن ينشأ عن هذه الأشكال الثلاثة المختلطة عددٌ وافرٌ من الأشكال المُركَّبة التي يُمكِن كلَّ واحدٍ منها أن يُكَثَّرَ بجميع الأشكال البسيطة.
فبِسِياق هذه المباحثِ ننتهي إلى معرفة واجبات المواطنين وحقوقهم، ومعرفةِ إمكانِ فصلِ هذه عن تلك، ومعرفةِ الوطن وما يَقوم عليه ضَبْطًا، وكيف يُمكِن كلَّ واحدٍ أن يَعْرف هل له وطنٌ أوْ لا.
وإنَّا بعد النظرِ على هذا الوجه إلى كلِّ نوعٍ من المجتمع المدني بنفسه، سنقابل بينها لملاحظة ما بينها من صلات، فنَرى بعضَها كبيرًا والأخرى صغيرة، ونَرى بعضَها قويًّا والأخرى ضعيفة، فتَتَهاجم وتَتَشاتم وتَتَهادم، موجبةً بهذا الفعلِ ورَدِّه الدائمَين من بؤسِ كثيرٍ من النَّاس والقضاء على حياتهم ما هو أعظم مما لو حافظوا على حريتهم، وسنبحث في هل صُنِعَ شيءٌ كثيرٌ أو قليلٌ في النظام الاجتماعي، وفي هل يبقى الأفراد الخاضعون للقوانين والآدميين، على حين تحتفظ المجتمعاتُ فيما بينها بالاستقلال الطبيعي، عُرْضَةً لشرورِ الدولتَين من غيرِ أن يفوزوا بمنافعهما، وفي هل يكون عدمُ وجودِ أيِّ مجتمعٍ مدنيٍّ في العالم مطلقًا أفضلَ من عدم وجود مجتمعات كثيرة فيها، أَوَليست هذه الدولة المركَّبة تشترك في الاثنتَين ولا تَضْمَن هذه وتلك «لا تَدَع مجالًا لإعداد العُدَّة لزمن الحرب ولا لأمْن زمن السَّلْم»؟ أَوَليست هذه الجمعية الجزئية الناقصة هي التي تؤدي إلى الطغيان والحرب؟ أَوَليس الطغيانُ والحربُ أعظمَ آفات الإنسانية؟
وأخيرًا سندرُس نوعَ الأدوية التي بُحِثَ عنها لمعالجة تلك الأضرار، وذلك بالتعاهُد والاتحاد، فتَدَعُ كلَّ دولةٍ سيِّدةً داخلًا وتُسَلِّحُها خارجًا دفعًا لكلِّ مُعتدٍ ظالم، وسنبْحثُ عن الوجه الذي يُمكِن أن تُقام به جمعية اتحادية صالحة، والذي يُمكِن أن تدوم به، وعن المدى الذي يُمكن أن يُوسَّعَ به حقُّ الاتحاد من غيرِ أن يُؤذَى حقُّ السيادة.
وأخيرًا سنضع المبادئَ الصحيحة لِفقْه الحرب، وسندرُس السببَ في كونِ غُروسْيوسَ وغيرِه لم يُقدِّموا سوى مبادئَ فاسدةٍ عنها.
ولن يُدهِشَني، في وَسَط جميع براهيننا، أن يقول لي مقاطعًا فتاي ذو الذوق السليم: «يُخيَّلُ إلى الإنسان أننا نقيم بناءنا من الخشب، لا من النَّاس، ما دمنا نَصُفُّ قِطَعَنا على خطٍّ مستقيمٍ وَفْقَ القاعدة!» وأقول له: «هذا صحيحٌ يا صديقي، ولكن اذكر أن الفِقهَ لا ينحني أمام أهواء النَّاس، وعلينا تتوقَّف إقامةُ مبادئ الفقه السياسيِّ الحقيقية. والآن، وقد وُضِعَت أُسُسُنا، تعالَ لِنبْحثَ فيما أقام النَّاسُ فوقها، وهنالك ترى أمورًا غُرًّا!»
وهنالك حملْتُه على قراءة «تِلِماك»، وعلى سلوك طريقه، ونبحث عن سالَنْتةَ السعيدةِ وإيدُومِينِه الصالحِ الذي جعلتْه المصائبُ حكيمًا. وبَيْنَا نحن سائرَين لاقَيْنا كثيرًا من طراز برُوتِيزِيلاس، ولم نُلاقِ أحدًا من نوع فِيلُوكْلِيس، وكذلك لم تُمْكِن ملاقاةُ مَلِك الدُّونْيان: أدْرَاسْت. ولكنْ لِنَتْرُكِ القراء يتمثَّلون رِحلاتنا أو يقومون بها في مكاننا، و«تِلِماك» في يدهم، ولا نُوحِ إليهم مطلقًا بتطبيقاتٍ مُحْزِنةٍ يَتجنَّبُها المؤلِّف نفسه أو يأتيها على الرغم منه.
ثُمَّ بما أن إميلَ ليس مَلِكًا، وبما أنني لستُ إلهًا، فإننا لن نُقلِقَ بالَنا مُطلَقًا في تقليد تِلِماكَ، والمرشدِ، في الخبرِ الذي كانا يقومان به نحو النَّاس، ولا أحدَ أحسنُ مِنَّا عِلْمًا في البقاء حيث هو، ولا أحدَ أقلُّ مِنَّا رغبةً في الخروج من مكانه، ومما نَعْرف أن عيْنَ العملِ قد عُيِّنَ للجميع؛ فمَن يُحِبُّ خيرَ الجميعِ من صميم فؤاده، ويصنعُه بما أُوتِي من قوةٍ يكون قد قام بذاك العمل. ومما نعرفُ أن تِلِماكَ والمرشدَ هما من الأوهام، ولا يَسيح إميلُ مثلَ رجلٍ بَطَّال، وهو يفعلُ من الخيرِ أكثرَ مما لو كان أميرًا، ولو كُنَّا مَلِكَيْن ما كُنَّا أكثرَ حُبًّا للإحسان، ولو كُنَّا مَلِكَيْن ومحسنَيْن لأتينا من حيث لا ندري ألفَ شرٍّ حقيقيٍّ في مقابل خيرٍ ظاهرٍ نَظُنُّ أننا نفعله، ولو كُنَّا مَلِكَيْن وحكيمَيْن لكان أوَّلُ خيرٍ نرغب في صنْعه نحو أنفسنا ونحو الآخرين هو أن نتنزَّل عن المَلَكِية وأن نعود إلى ما نحن عليه الآن.
وقد قلتُ كلَّ ما يَجعلُ السِّيَاحاتِ غيرَ مُجديةٍ لجميع النَّاس، والذي يجعلُها أقلَّ جدْوَى للشباب هو الوجهُ الذي يُحمَلُ به على القيام بها؛ فالمُرَبُّون يكونون أكثرَ حُبًّا للَهْوِ أنفسهم مما لتثقيف الشباب، فيَجْلِبونه من مدينةٍ إلى أخرى، ومن قصرٍ إلى آخَر، ومن نطاقٍ إلى آخَر، وهم إذا ما كانوا علماءَ أو أدباءَ جعلوه يقضي وقتَه في الطواف بين المكتبات وفي زيارة الخبراء بالعاديَّات، وفي فحْص قديم الآثار واستنساخ قديم الكتابات، وهم في كلِّ بلدٍ يُعْنَون بعصرٍ آخَر، وذلك كما لو كانوا يُعْنَون ببلدٍ آخر، فإذا ما جابوا أوروبة بنفقاتٍ عظيمةٍ وتجرَّدوا للتُّرَّهات أو أسلموا أنفسهم إلى السَّأَم، عادوا من غيرِ أن يكونوا قد رأوا شيئًا يمكن أن ينفعهم، أو من غيرِ أن يكونوا قد تعلَّموا شيئًا يُمكِن أن يفيدَهم.
وتتشابه جميعُ العواصم، وفيها تختلط جميعُ الأمم، وفيها تَمْتزج جميعُ الطِّباع، وليس إليها ما يجب أن يُذْهب لدراسة الأمم، وليست باريسُ ولندنُ غيرَ عيْنِ المدينة في نظري، أجلْ، إن لسكانهما مُبْتَسَراتٍ مختلفة، ولكنْ لا يُوجَد عند إحداهما من المُبْتَسَرات ما هو أقلُّ مما عند الأخرى، وجميعُ مبادئهما العملية هي هي، ويُعرَف أيُّ نوعٍ من الآدميين يجتمع في البلاطات، ويُعرَف أيُّ نوعٍ من الطِّباع يُسْفِرُ في كلِّ مكانٍ عن ازدحامِ الأمةِ وتفاوتِ الثَّرَوات، وإذا ما حُدِّثْتُ عن مدينةٍ مؤلَّفةٍ من مائتي ألفِ نَفْسٍ عَرَفتُ مُقدَّمًا كيف يعيش النَّاس فيها، وما لا أعْرِف فيها من أمورٍ لا يستحقُّ أن أذهب لأتعلَّمه هناك.
وإلى الأقاليم القاصية؛ حيث يُوجَد قليلُ حركةٍ وتجارة، وحيث تَقِلُّ سياحةُ الأجانب، وحيث يَقِلُّ انتقالُ الأهلين، وحيث يَقِلُّ تبديلُ السُّكَّان لثروتهم ووضعهم، يجبُ أن يُذهَب لدراسة عبقرية الأمة وأخلاقها. وألْقُوا نظرةً إلى العاصمة حين تمُرُّون، ولكن اذهبوا للبحث عن البلد في مكانٍ بعيد؛ فالفرنسيون هم في تُورينَ لا في باريس، ويكون الإنكليز في مِرْسِي أكثرَ مما في لندن، ويكون الإسبانُ في جَلِّيقيَّة أكثرَ مما في مدريد، وفي هذه الأماكن النائية تُمازُ الأمةُ وتَبْدو خالصةً كما هي، وفيها خيرُ ما يُشْعِرُ بأثرِ الحكومة السيِّئ أو الرديء، وذلك كما تستطيع أن تَقيِسَ القوسَ قياسًا أكثرَ دقَّةً بنصفِ قطرٍ أكثرَ طولًا.
ولكنْ يجب لهذا أن يكون هؤلاء الأهلون نتيجةً طبيعيةً للحكومة والطِّباع؛ وذلك لأن هذا إذا ما تمَّ بمستعمراتٍ أو بسُبُلٍ أخرى عارضةٍ أو عابرةٍ دَلَّ الدواءُ على الدَّاء. ولمَّا جاء أُغُسطُس بقوانينَ لمكافحة العُزُوبة، نَمَّتْ هذه القوانينُ على أن الإمبراطورية الرومانية كانت قد أخذت في الزوال. ويجب أن يكون صلاح الحكومة حافزًا للمواطنين إلى الزواج، لا أن يكون القانونُ مُكرِهًا إياهم عليه، ولا نُكلِّفُ أنفسنا بالبحث فيما يُصنَع بالقوة؛ وذلك لأن القانون الذي يُكافِح النظامَ يتملَّصُ منه ويغدو فارغًا، وإنما نبحث فيما يتمُّ بفعلِ الأخلاق وميلِ الحكومة الطبيعي؛ فهذه الوسائلُ وحدَها هي ذات الأثرِ المستمر. وتقوم سياسةُ الرئيسِ الصالحِ لديرِ القدِّيس بطرس على البحثِ الدائمِ عن دواءٍ قليلٍ لكلِّ داءٍ خاص، وذلك بدلًا من الرجوعِ إلى المنبعِ الجامعِ ليُرَى أنه لا يُمكن الشِّفاءُ من هذه الأدْواء إلا دفعةً واحدة، ولا يقوم الأمرُ على معالجةِ كلِّ قرحةٍ تظهرُ على جسمِ المريضِ على انفراد، بل على تصفيةِ مجموعِ الدم الذي يُحدِث القُرُحات جميعًا. ويُقال إنَّه يُوجَدُ جوائزُ للزِّرَاعة في إنكلترة، فلا أطلبُ دليلًا أعظمَ من هذا ليَثبُتَ عندي أنَّ الزِّراعة لن تزدهرَ في إنكلترة زمنًا طويلًا.
وفي الأهلين أيضًا تتجلَّى العلامةُ الثانيةُ لصلاحِ الحكومةِ والقوانين النسبي، ولكنْ على وجهٍ آخَر؛ أي إن هذه الأمارةَ تُستخْرَج من توزيعهم لا من عددهم، وقد تتساوى الدولتان اتساعًا وسُكَّانًا، ولكن مع تفاوتهما قوة، وتكون أقوى هاتَين الدولتَين دائمًا هي التي يكون أهلوها منتشرين انتشارًا متساويًا على أرَضيها، والدولةُ التي لا تشتمل منهما على مُدُنٍ كبيرةٍ كثيرة؛ ومِنْ ثَمَّ تكون أقلَّهما ازدهارًا، تَقْهرُ الأخرى دائمًا. والمدن الكبيرة هي التي تستنزف الدولة وتُوجِبُ ضَعفَها، وما تنتجه من ثراءٍ فهو ثراءٌ ظاهرٌ خادع، وهو كثيرُ نقدٍ وقليلُ خير، ويُقال إنَّ مدينة باريس تَعْدِل ولايةً قِيمَةً لدى ملك فرنسة، ولكنني أعتقد أنها تُكلِّفه عدة ولايات، وذلك أن الولايات تُغذِّي باريس من وجوهٍ كثيرة، وأن مُعظم دخلها يَصُبُّ في هذه المدينة ويبقى فيها من غير أن يَعود على الأمة أو على الشعب مُطلقًا، ومما لا جدال فيه في عصر الحاسبين هذا أنه لا يوجد واحدٌ يُبصر أن فرنسة تكون أكثر قوةً إذا ما دُمِّرَت باريسُ تدميرًا. ولا يقتصرُ الأمرُ على كونِ الأمَّةِ السيئةِ التوزيعِ غيرَ نافعةٍ للدولة، بل هو أدعى إلى الخرابِ من الإقفار، وذلك من حيث إن الإقفارَ لا يُسفِرُ عن غيرِ إنتاجِ صِفر، وإن الاستهلاكَ غيرَ المرتَّب يُسفِر عن إنتاجٍ سلبي، ومتى سمعتُ فرنسيًّا وإنكليزيًّا فخورَين بعظمة عاصمتيهما، فيتجادلان حول أيَّتهما أكثرُ سكَّانًا، كان هذا في نظري مساويًا لتَجَادلهما حولَ أي الشعبين له شرفُ كونه أكثرَهما سوءَ حكومةٍ.
وادرُسوا الأمَّةَ خارجَ مُدُنها، فلن تَعرِفوها بغير هذا الوجه، ولا يَدُلُّ على شيءٍ أن يُرى شكلُ الحكومةِ الظاهرُ المُزوَّقُ بجهاز الإدارة وبرطانة المديرين إذا لم تُدْرَس طبيعتُه بالأثر الذي يُحدِثه في الأمَّة وفي جميع درجات الإدارة، وفي الأساسِ إذ يُوجَدُ فرقُ الشكل مقسومًا بين جميع هذه الدرجات، فإن هذا الفرقَ لا يُعْرَفُ إلا باكتنافِها جميعًا. وفي بلدٍ ما يُؤخذُ في الشعورِ بروحِ الوزارةِ بدسائسِ وكلائها، وفي بلدٍ آخَر يجب أن تَطَّلِعوا على انتخابِ أعضاءِ البرلمانِ للحكمِ في هل من الصحيحِ كوْنُ الأمَّة حُرَّة، وفي بلدٍ ثالث — أيًّا كان — يتعذَّر على مَن لم يَرَ غيرَ مُدُنها أن يَطَّلع على الحكومة لِمَا لا يكون الروح واحدًا في المدن والأرياف مُطلَقًا. والحقُّ أن الأرياف هي التي تُوجِدُ البلد، وأن أهل الأرياف هم الذين يُوجِدون الأمَّة.
ومن شأن هذه الدراسة للأمم في أقاليمها القاصية وفي بساطة مواهبها الأصلية مَنْحُ ملاحظةٍ عامةٍ كثيرةِ الملاءمة لِمَا أكتبُ، كثيرةِ السُّلْوان لقلب الإنسان؛ وذلك أن جميع الأمم إذا ما لُوحِظَت على هذا الوجه ظهرت أجدَر بالملاحظة. وكلَّما دنت الأممُ من الطبيعة ساد الصلاحُ أخلاقَها، وليس بغير الاحتباس في المدن، وليس بغير التغيُّر بفعل الثقافة ما تَفسُد الأمم، وما تُحوِّل بعضَ النقائص، التي هي أكثرُ غِلظَةً منها ضررًا، إلى معايبَ مستعذبةٍ مؤذية.
وينشأ عن هذه الملاحظة نفْعٌ جديدٌ في طراز السياحة التي أقْتَرح، وذلك من حيث إنَّ الشُّبَّان الذين هم قليلو الإقامة في المدن الكبيرة، حيث يسود فسادٌ هائل، أقلُّ إصابةً بهذا الفساد، فيحفظون بين الرجال الذين هم أكثرُ بساطة، وفي المجتمعات الأقلِّ عددًا، حُكْمًا أعظمَ صوابًا، وذوْقًا أرفعَ سَدادًا، وأخلاقًا أشدَّ صلاحًا، ومع ذلك فإنه لا يُوجَدُ في هذه العَدْوى ما يُخشى منه على إميلَ الذي لديه كلُّ ما يلزم لوقايته منها، وأعتمد، بين جميع الاحتياطات التي اتخذتُها في هذا السبيل، اعتمادًا بالغًا على الحُبِّ الذي يَحمِلُ في فؤاده.
ولا يُعْرَف ما يُمكِن أن يكون للحبِّ من فعلٍ في ميول الشباب؛ وذلك لأنَّ القائمين بتربيتهم، إذ لا يَعْرِفونه خيرًا منهم، يُحوِّلونهم عنه، ومع ذلك فإنه لا بُدَّ للشابِّ من أن يُحِبَّ أو أن يكونَ داعرًا، ومن السهلِ أن يُخدَعَ بالظواهر. أجلْ، قد يُذكَر لي ألفُ شابٍّ يُقال إنهم يَقْضُون حياةَ طُهْرٍ كبيرٍ بلا غرام، ولكن ليُذْكَر رجلٌ نامٍ، ليُذكَر لي رجلٌ صادق، يقول إنه قضى شبابَه على هذا الوجهِ حقيقةً. والواقع أنه لا يُطلَب غيرُ الظاهرِ في جميعِ الفضائلِ وجميعِ الواجبات، وأمَّا أنا فلا أطلبُ غيرَ الحقيقة، وأكون قد خُدِعْتُ إذا كان يُوجَدُ من الوسائل غير التي أقدِّم لبلوغ ذلك.
ولستُ صاحبًا لفكرة جعلِ إميلَ عاشقًا قبْل حَمْلِه على السياحة، وإليك الحادثَ الذي أوحى إليَّ بها:
كنتُ أقوم في البندقية بزيارةِ مُرَبٍّ لفتًى إنكليزي، وكان هذا في فصل الشتاء، وكُنَّا حوْل النار، ويتناول المربِّي رسائلَه من البريد، ويُلقي نظرةً عليها، ثُمَّ يَتلو إحداها على تلميذه بصوتٍ عالٍ، وقد كانت باللغة الإنكليزية التي لا أفهم منها شيئًا، ولكنني رأيت في أثناء التلاوة أن الفتى يُمزِّق كُمَّيْه الجميلَيْن من أطرافهما ويُلْقي في النار قطعةً بعد الأخرى بأقصى ما يستطيع من تُؤدَة لكيلا يَشعُر أحدٌ بذلك، ويَعْتريني دَهَشٌ من هذا الهَوَس، وأنظُر إلى وجهه، وأظُنُّ أنني أرى اضطرابَه، بَيْدَ أن العلامات الخارجية للأهواء، وإن كانت متشابهةً لدى جميع النَّاس، ذاتُ فُروقٍ قوميةٍ يَسهُل أن يُخدَع بها، وللأمم على الوجه من مختلف اللغات ما يَعْدِل التي في الأفواه، وأنتظر ختام التلاوة، فأُطْلِع المُربِّي على مِعصَمَي تلميذه العاريَين اللذين كان يُخْفيهما بأقصى ما يُمْكنه، وأقول له: «أيُمكنني أن أعْرِف ما يَعني هذا؟»
ويُبْصِرُ المُربِّي ما وقعَ فيأخذُ في الضَّحِك، ويعانقُ تلميذَه عِناقَ رِضًا، ويُوضِحُ لي ما أرغبُ فيه بعْد نَيْل موافقتِه.
لا تَتركُ لوسي كُمَّيْ لُورْد جُون مُطلَقًا، وأمسِ أتت مِسْ بِتِّي رُولْدَام لقضاءِ ما بعدَ الظهرِ عندها، فأرادت، مع الإصرار، أن تَقوم بشُغْلِها، وإني إذ علمتُ أن لوسي نَهَضَت اليومَ مُبكِّرَةً زيادةً على العادة، أردتُ أن أرى ما تَصْنع، فوجدتُها جادَّةً في نَقضِ جميعِ ما عَمِلتْه مِس بِتِّي أمس؛ فهي لا تُريد أن تَرى في هَديَّتها أيةَ نقطةٍ من صُنْعِ غيرها.
وقد خرج جُونُ بعد دقيقةٍ ليتناول كُمَّيْنِ آخرَين، فقلتُ لمُرَبِّيه: «لديك تلميذٌ ذو طَبْعٍ رائعٍ. ولكنْ قُل لي: أليس كتابُ أمِّ مِسْ لوسي عَمَلَ ترتيبٍ مطلقًا؟ أليستْ هذه وسيلةً اتَّخذْتَها ضِدَّ صاحبة الكُمَّين؟» ويقول لي: «كلَّا؛ فالأمر حقيقي، ولا أسلُك سبيلَ الحِيَلِ في أعمالي، وتقوم جهودي على البساطةِ والهِمَّة، وقد بارك الله لي في عملي.»
ولم أنسَ حادثَ هذا الفتى قَط، وليس من شأنِه ألَّا يتركَ أثرًا في رأسِ حالِمٍ مثلي.
وقد حان وقتُ الختام، فلنأتِ بلُورد جُون إلى مِسْ لوسي، أي بإميلَ إلى صوفية، وهو يأتيها بقلبٍ ليس أقلَّ رِقَّةً مما كان عليه قبْل سفرِه، وهو يأتيها بذهنٍ أكثرَ وضوحًا، وهو يأتي بلدَه مُزوَّدًا بفائدةِ معرفتِه الحكوماتِ من ناحيةِ معايبها، والأممَ من ناحية جميع فضائلها، حتى إنني عُنيتُ في كلِّ أمَّةٍ بأن يَرتبط في رجالٍ من أصحاب المزايا بعَهْدٍ من القِرَى على طريقة القدماء، ولن يَغِيظَني أن يتعهَّد هذه المعارفَ بتبادُلِ الرسائل. وإذا عدوتَ ما يُمكن أن يكون من فائدةٍ ومن مُتعَةٍ دائمةٍ في المراسلات بالبلدان البعيدة، وَجَدتَ هذا من الاحتياط الجميل تجاه سلطان المُبْتَسَرات القومية التي تسيطر علينا عاجلًا أو آجلًا بهجومها علينا مدى الحياة، ولا شيءَ أصلحُ لنزْع هذا السلطان منها من معاشرة ذوي الرشاد الخالين من الغرض والذين هم موضعُ إجلالنا، والذين هم، إذ عَطِلوا من مُبْتَسَراتنا، يكافحون هذه بمُبْتَسَراتهم فيُعطوننا من الوسائل ما نعارض معه هذه بتلك بلا انقطاعٍ واقين أنفسنا منها كلِّها على هذا الوجه. ولا يُعَدُّ أمرًا واحدًا مطلقًا أن يعاشرَ الأجانب في بلدنا أو في بلدهم؛ وذلك أنهم في الحال الأُولى يَقُومون في البلد الذي يقيمون به بضرْبٍ من المجاملة يُخفون معه رأيَهم عنه، أو أنه يَحْمِلهم على إبدائهم نحْوه من الرأي ما يكون ملائمًا له ما داموا فيه، فإذا ما عادوا إلى بلدهم رَجَعوا عنه ولم يَبْدوا غيرَ عادلين. ومما يَسُرُّني كثيرًا أن يكون الأجنبيُّ الذي أستشيرُ قد زار بلدي، ولكنني لن أسألَه رأيَه عنه إلا في بلده.
وقد فَرَغَ صَبْرُ إميلَ بعد قضاء نحوِ عامين في جَوْب بعض الدول الكبيرة بأوروبة، وكثيرٍ من دولها الصغيرة، وبعد تَعَلُّمِ اثنتَين أو ثلاثٍ من لغاتها المهمَّة، وبعدِ مشاهدةِ ما يستوقفُ النظرَ فيها حقًّا، سواءٌ أفي التَّارِيخِ الطبيعيِّ أم في الحكومةِ أم في الفنونِ أم في الرِّجال، فأخْبَرَني بأن الأجَلَ قد حان، وهنالك أقول له: «حسنًا يا صديقي، إنك تَذْكرُ الغايةَ الرئيسةَ من رِحْلاتنا؛ فقد رأيتَ، وقد لاحظتَ، فما نتيجةُ ملاحظاتك؟ وما الذي أنت عازمٌ عليه؟» إمَّا أن أكونَ قد خُدِعْتُ بمِنْهاجي، وإمَّا أن يكون جوابُه كما يأتي تقريبًا:
«وعَلَام أعزِم؟ لقد عزمتُ على أن أظلَّ كما كَوَّنْتَني، وعلى عدمِ إضافتي، بطوْعي، أيَّ قيدٍ آخرَ غيرِ الذي تُحَمِّلُني إياه الطبيعةُ والقوانين، وكلَّما دَرَسْتُ عملَ النَّاس في نُظمهم أبصرتُ أنهم يَجْعَلون أنفسَهم عبيدًا من حيث يَرْغَبُون أن يكونوا مستقلِّين، وأنهم يستعملون حريَّتهم نفسَها في جهودهم الفارغة توطيدًا لها، وهم يقومون بألْف كَلَفٍ لكيلا يُذْعنوا لسيْل الأمور، وهم إذا ما أرادوا أن يتقدَّموا خُطوةً بعد ذلك لم يستطيعوا، واعتراهم دَهَشٌ من تعلُّقهم بكلِّ شيء. ويلوح لي أنه ليس علينا أن نصنع شيئًا لنكون أحرارًا، وإنما يكفي ألَّا نُريد الانقطاعَ عن أن نكون أحرارًا، وأنت الذي جعلني، يا مُعلِّمي، حُرًّا بتعليمي الخضوعَ للضرورة، ودَعْها تأتي متى تريد، وسأتتبَّعها بلا إكراه، وبما أنني لا أريد مناهضتَها فإنني لا أتشبَّثُ بشيءٍ يُمسِكُني، وقد حاولتُ في سياحاتنا أن أجدَ في الأرض زاويةً أكون فيها مالكًا لنفسي على الإطلاق، ولكن ما المكان الذي يستطيع الإنسان اتخاذه بين النَّاس من غيرِ أن يَتْبَع أهواءهم؟ وقد بحثتُ كثيرًا فوجدتُ أن بُغيَتي نفسَها متناقضة، وذلك أنني إذا ما قَضَيْتُ بألَّا أتعلَّق بأيِّ شيءٍ آخرَ تعلَّقْتُ على الأقل بالأرضِ التي أستقرُّ بها، وستتعلَّق حياتي بهذه الأرض كتعلُّق الحوريات بأشجارهن. وإني، إذْ وجدتُ أن السُّلْطة والحرية كلمتان متناقضتان، لم أستطِع أن أكون صاحب كُوخٍ إلا بعُدُولي عن كَوْني مالكَ نفسي.
أمَانِيَّ؟ هذه هي: أرضٌ متوسطةُ الاتساع.
وأذكر أن أموالي كانت سببَ استقصائنا، وقد أقمتَ دليلًا بالغَ القوة على أنني لا أستطيع الاحتفاظَ بثروتي وحريتي معًا، ولكنك عندما أردتَ أن أكونَ حُرًّا خاليًا من الاحتياجاتِ معًا أردتَ أمرَين متباينَين؛ وذلك لأنني ما كنتُ لأستطيعَ الخلاصَ من اتِّباعِ النَّاسِ إلا باتِّباعي الطبيعة. وما أصْنعُ إذنْ بالثروةِ التي تَرَكها لي والديَّ؟ سأبدأ بعدمِ اتِّباعي لها مطْلقًا، وسأُرْخي جميعَ الروابطِ التي تَرْبِطني بها، وهي إذا تُرِكتْ لي بقيتْ لي، وهي إذا ما حُرِمتُها لم أجُرَّ نفسي وراءها، ولن أُقلِقَ بالي في إمساكها مطلقًا، ولكنني سأبقى ثابتًا حيث أنا، وسأكون حُرًّا سواءٌ أكنتُ غنيًّا أم فقيرًا، ولن أكونَ ذلك في هذا البلد أو تلك البقعة فقط، بل أكونه في جميع الأرض، وتَرى جميعَ قيود المُبْتَسَر قد كُسِرَت بالنسبة إليَّ، ولا أعْرِف غيرَ قيود الضرورة، وقد تعلمتُ حَمْلَها منذ ولادتي، وسأحملها حتى مماتي؛ وذلك لأنني رجل. ولِمَ لا أحمِل هذه القيودَ كرجلٍ حُرٍّ ما دُمت أحمِلُها وأنا عبدٌ مضافةً إلى قيود العبودية؟
وما أهميةُ مُقامي في الأرض في نظري؟ وما أهميةُ المكان الذي أكون فيه؟ أكون في منزل إخوتي حيث يُوجَد آدميون، وأكون في منزلي حيث لا يوجد آدميون، ولديَّ مالٌ للعيش، وسأعيش ما استطعتُ أن أبقى مستقلًّا مُوسِرًا، فإذا كان مالي يُعَبِّدُني فإنني أتْركه بلا عناء، فلديَّ ذراعان للعمل، وسأعيش، وإذا ما أعْوَزَتني الذراعان عِشتُ ما غُذِّيت، وسأموت إذا ما هُجِرْت، وسأموت أيضًا وإن لم أُهْجَرْ؛ وذلك لأنَّ الموت ليس عِقابًا على الفقر، بل هو قانونٌ للطبيعة، وأتحدَّى الموتَ في أي وقتٍ يأتي، وهو لن يُباغتني وأنا أُعِدُّ عُدَدًا للحياة، وهو لن يَحُول دون ما كان من حياتي.
ذاك ما أنا عازمٌ عليه يا أبَت، ولو كنتُ خاليًا من الأهواء لكنتُ في رُجُولتي مستقلًّا مثل الإله نفسِه، وذلك من حيث إنني لا أريدُ أن أكونَ غيرَ ما أنا عليه؛ فلا أكافحُ المصيرَ مطْلقًا، وليس لديَّ غيرُ قيدٍ واحدٍ على الأقل، وهو الوحيدُ الذي سأحمله دائمًا، وهو الذي أستطيعُ أن أُباهيَ به، فتعالَ إذن وأعْطِني صوفية؛ فأنا حُر.»
«أيْ إميلُ العزيز، حقًّا أنه يَسُرُّني سماعي من فَمِك كلامَ رَجُل، وأن أُبْصِر مشاعرَ في فؤادك، وليس هذا التجرُّدُ من الهوى المتناهي مما لا يَرُوقني صدورُه عمن هو في عُمُرك، وهو سيَقِلُّ متى صِرتَ ذا ولد، وهنالك تكون، ضبطًا، ما يكونه رَبُّ الأُسْرة الصالحُ والرجلُ الحكيم. وكنتُ أعرِف ما تكون النتيجةُ قبْل رحلاتك، وكنتُ أعرِف عند النظر إلى نُظُمنا عن كَثَب أنك تكون بعيدًا من أن تُعيرها اعتمادًا لا تستحقُّها. ومن العبثِ أن نَطْمَح إلى الحرية تحت ظلِّ القوانين. آلقوانين؟ أين هي؟ وأين تكون مُحترَمة؟ لم تَرَ تحت هذا الاسم في أيِّ مكانٍ كان غيرَ سيادةِ المصلحةِ الشخصية وأهواء النَّاس، ولكن قوانينَ الطبيعة والنظام الأبديةَ موجودة، وهي تَقوم مقامَ القانون الوضعيِّ لدى الحكيم، وهي مكتوبةٌ في صميم فؤاده بالعقل والضمير، وعليه أن يُعبِّدَ نفسَه لها كيما يكون حُرًّا ولا يُوجَدُ عبدٌ غيرُ الذي يصنع الشر؛ وذلك لأنه يَفْعلُه على الرغم منه دائمًا. وليست الحرية في أيِّ شكلٍ من أشكال الحكومة، وإنما هي في فؤاد الرجل الحُر، وهو يحمِلُها معه في كلِّ مكان، والرجل النذل يحمِلُ العبوديةَ في كلِّ مكان، وأحدُهما يكونُ عبدًا في جنيف، ويكون الآخر حُرًّا بباريس.
وإذا ما حدَّثتُكَ عن واجباتِ المواطن سألتَني، على ما يحتمل، عن مكان الوطن، وظننتَ أنك تَرْبُكني، ومع ذلك فإنك تخدع نفسك يا إميل العزيز؛ وذلك لأنه يُوجَد بَلدٌ على الأقل لمن ليس له وطن، وفي كلِّ وقتٍ توجدُ حكومة مع أشباحٍ للقوانين عاش تحت ظِلِّها بهدوء. وهل من المهمِّ ألَّا يكون العقدُ الاجتماعيُّ قد رُوعيَ إذا ما حَمَتْه المصلحةُ الخاصةُ كما كان على الإرادة العامة أن تَصْنَع، وإذا ما صانته الصَّوْلةُ العامة من الصولات الخاصة، وإذا كان الشرُّ الذي أَبْصَر وقوعَه قد حَبَّبَ إليه ما كان حَسَنًا، وإذا كانت نُظُمُنا نفسُها قد أطْلَعَته على أوزارها الخاصة فجعلته يُبْغِض هذه الأوزار؟ أيْ إميل! أين رجلُ الخيرِ غيرُ المَدِين لبلده بشيء؟ ومهما يكن من أمرِ هذا البلد فإنه مَدينٌ له بأثمنِ شيءٍ للإنسان، مَدينٌ له بمكارمِ أعمالِه وبحبِّ الفضيلة. أجلْ، إنه إذا ما وُلِدَ في وَسَط غابةٍ عاشَ أكثرَ سعادةً وأعظمَ حرية، ولكنه إذ لا يكون لديه شيءٌ يكافحه تبعًا لميوله فإنه يكون صالحًا بلا فضيلة، وإنه لا يكون فاضلًا مطلقًا، وأمَّا الآن فإنه يَعْرِف أن يكون فاضلًا على الرغم من أهوائه، وما يكون من ظاهر النظام وحدَه يحمله على معرفة ذلك وحُبِّه. ويكون الخيرُ العام، الذي لا يصلُح أن يكون غيرَ ذريعةٍ لدى الآخرين، باعثًا حقيقيًّا عنده؛ فهو يتعلَّم مقاومةَ نفسِه وقهْرَها والتضحيةَ بمصلحته الخاصة في سبيل المصلحة العامة، وليس من الصحيح أنه لا يستفيد شيئًا من القوانين؛ فالقوانين تُنعِم عليه بشجاعةٍ يكون بها عادلًا حتى بين الأشرار، وليس من الصحيح أنها لم تَجْعلْه حُرًّا؛ فهي قد علَّمته أن يسيطر على نفسه.
ولِذا لا تَقُلْ: ما أهميةُ المكان الذي أكون فيه؟ فمما يُهِمُّك أن تكونَ حيث تستطيع القيامَ بجميع واجباتك، ومن هذه الواجبات أن تُحِبَّ مَسْقط رأسك، وقد حماك مواطنوك صغيرًا، فيجب أن تُحِبَّهم كبيرًا، ويجب عليك أن تعيش بينهم، أو على الأقل في المكان الذي تستطيع أن تكون نافعًا لهم فيه ما أمْكنك، وفي المكان الذي يَعْرِفون أن يجدوك فيه إذا ما احتاجوا إليك. وتوجد أحوالٌ كثيرةٌ يستطيع الرجل أن يكون فيها أكثرَ نفعًا لمواطنيه خارجَ وطنه مما لو كان يعيش في سوائه، وهنالك يجب عليه ألَّا يُلبِّيَ غير داعي غَيْرته، وأن يصبِرَ على غُرْبته بلا تذمُّر؛ فهذا الاغتراب من جملة واجباته. وأنت يا إميلُ الصالح، الذي لا شيء يَفرِض عليه هذه التضحيات الأليمة، وأنت الذي لم يَنتحِل وظيفةَ قول الحقيقة للناس، اذهبْ وعِشْ بينهم، وتعهَّدْ صداقتَهم بصحبةٍ ليِّنة، وكُنْ مُحسِنًا إليهم وقُدْوةً لهم؛ فمثالُك يكون نافعًا لهم أكثرَ من جميع كتبنا، وسيكون المعروفُ الذي يرونك صانعًا إياه أعظمَ تأثيرًا فيهم من جميع كلامنا الفارغ.
ولا أُحرِّضُك على الذهاب للعَيش في المدن الكبيرة، وعلى العكس فإن من الأمثلة التي يجب على الصالحين أن يُلْقُوها على الآخرين هو مثالُ الحياةِ الأبوية الحقلية؛ أي حياةِ الإنسان الأُولى التي هي أهدأ ما يكون لدى صاحبِ القلبِ غيرِ الفاسدِ وأقربُ إلى الطبيعة وأحلى. وطُوبى يا صديقي الفتى للبلد الذي لا يُحتاج فيه إلى الذهاب للبحث عن السَّلْم في الصحراء! ولكن أين هذا البلد؟ بَلى، لا يُرْضي الرجلُ المحسنُ مَيْلَه بين المدن حيث لا يجِدُ تقريبًا ما يمارس من أجْلِه هِمَّتَه إلا الأرَّاجين والماكرين، وما يَجِدُ الكُسالى الذين يأتونها للبحث عن الثراء من حُسنِ قبولٍ لا يُسْفِرُ عن غيرِ اجتياحِ البلدِ الذي يجب إعمارُه ثانيةً على حساب المُدُن كما يَقْضي الحق. ويُعَدُّ جميعُ مَن يَنْزَوُون من المجتمع الأكبر نافعين لأنهم يعتزلونه تمامًا، وما دامت جميعُ عيوبه تأتيه من كثرة عدده، ومما يجعلهم نافعين أيضًا استطاعتُهم أن يَجلُبُوا إلى الأماكن المُقفِرَة ما هو خاصٌّ بحالهم الأُولى من الحياةِ والحرْثِ والحُب، وأَحِنُّ حين يَعِنُّ لي مقدارُ ما يستطيع إميلُ وصوفية أن يَنشُرا من الحسنات حوْلهما في أثناء عزلتهما، ومقدارُ ما يَقْدران على إنعاشه من الرِّيف ويُحْيِيَان من هِمَّة القَرَويِّ الشقي الخامدة. ويُخيَّلُ إليَّ أنني أرى الشعبَ يتكاثر، وأن الحقولَ تُعمَر، وأن الأرض تلبَسُ حِليةً جديدة، وأن الجُمهور والوُفُور يُحوِّلان الأشغالَ إلى أعياد، وأن البركات وهُتَافات الفرح تتصاعد بين الألعاب الحقلية وحوْل الزوجين المحبوبين اللذين أعادا إليها الحياة. ويُعَدُّ العصر الذهبي من الأوهام، وهذا يكون دائمًا عند مَن هو ذو قلبٍ وذوقٍ فاسدَيْن، حتى إنه ليس من الصحيح أن يُؤسَف عليه ما دامت هذه الحَسَرات لا طائل فيها دائمًا، وما يجب أن يُصْنَع لبعث هذا العصر إذن؟ أمرٌ واحدٌ متعذِّر، وهو أن يُحَب.
وكان قد لاح لي بعْثُه حوْل مَنزل صوفية، وليس عليك إلا أن تُكمِلَ معًا ما بدأ أبواها الوَقوران، ولكن يا إميل العزيز لا تَدَع الحياةَ البالغةَ الدَّعَة تَحْمِلك على كراهية الواجبات الشاقة إذا ما فُرِضَت عليك، واذْكُر أن الرومان كانوا ينتقلون من المِحْراث إلى القنصلية. وإذا ما دعاك الأميرُ أو الدولة إلى خدمة الوطن فاترُكْ كلَّ شيءٍ واذهبْ لتقوم بوظيفة الوطنيِّ المَجيدَة في المركز الذي يُعيَّن لك، وإذا كانت هذه الوظيفةُ ثقيلةً عليك فإنه يوجدُ وسيلةٌ شريفةٌ أمينةٌ للتخلُّص منها، وذلك أن تقوم بها بإخلاصٍ كافٍ حتى لا تُترك على عاتِقك زمنًا طويلًا، ثُمَّ لا تَفْزع من عُسْرِ مثل هذا العبء، فلستَ بالذي يُطلَب لخدمة الدولة ما وُجِدَ رجالٌ من أهل هذا العصر.»
ولِمَ لا أُبيحُ لنفسي وصفَ رجوعِ إميلَ إلى صوفية وخاتمة مَعَاشقهما، وإن شئت فقُلْ بدءَ غرامهما الزَّواجي الذي يَجْمع بينهما! هذا الغرام القائم على الإكرام الذي يدوم مدَى الحياة، وعلى الفضائل التي لا تُمْحى مع الجمال، وعلى توافُق الأخلاق الذي يَجعلُ الصحبةَ مُحبَّبَةً والذي يُطيل في المشِيب فُتُون الوِصال الأوَّل، ولكن جميع هذه التفاصيل قد تَرُوقُ من غير أن تكون نافعة، وقد أَبحتُ لنفسي حتى الآن أمرَ القيام بتفاصيلَ مُستحبَّةٍ كالتي اعتقدتُ فائدتَها، وهل أَترك هذه القاعدةَ عند ختام عملي؟ كلَّا، وإني أشعر بمَلَالٍ اعترى قلمي، وإني وأنا البالغُ من الضَّعْف ما لا أقُوم معه بأعمالٍ تقتضي نفَسًا طويلًا، كنتُ أترك هذا العملَ لو كان أقلَّ تقدُّمًا، وإذا كان من غيرِ الجائز تركُ هذا العمل ناقصًا فإن وقتَ الفراغ منه قد أنَى.
وأخيرًا أُبْصِرُ أكثرَ أيام إميل سِحْرًا، وأكثرَ أيامي سعادةً، وأُبصِرُ تمامَ جهودي، وأبدأ بذواق ثمرتِها، ويتَّحِدُ الزوجان الكريمان بقيدٍ لا انفصامَ له، ويَلْفِظ فمُهما، ويؤيد فؤادُهما، وعودًا لن تكون باطلةً مطلقًا؛ فهما عروسان، ويَعودان من المَعْبد، ويُسَيَّران، ولا يَعْرِفان أين هما وأين يَذهبان، ولا ما يُصنَع حوْلهما، وهما لا يَنتبهان مُطلَقًا، وهما لا يُجيبان بغيرِ كلماتٍ غامضة، وعادت أعينُهما الحائرةُ لا تَرى شيئًا. ويا للهذيان! ويا للضَّعف البشري! إن حِسَّ السعادة يَسْحق الإنسان، وليس الإنسانُ من القوة ما يحتمله معه.
وقليلٌ مِن النَّاس مَن يَعْرِفون اتخاذَ لهجةٍ ملائمةٍ مع الزوجين يومَ قِرانهما، ويَلوح لي أنَّ من غير المناسب على السواء ما يَكون عليه بعضُهم من احتشامٍ عابسٍ وما يصدر عن الآخرين من لغوِ الكلام. وأُفضِّلُ أن يُترك الفؤادان الفَتِيَّان عاكفَين على نفسِهما، وأن يستسلما إلى اضطرابٍ لا يخلو من فُتُون، على أن يُمعَنَ في شَغْلهما عنه بأن يُرْبكا باحتشامٍ زائفٍ مُغِمٍّ لهما، أو بأن يُلْبَكا بدُعاباتٍ لاذعةٍ تُزْعجهما في مثل ذاك اليوم، وإن كانت تَروقهما في وقتٍ آخَر.
وأُبصِر الفَتَيَين في ذُبولهما العَذْب الذي يضطربان به، فلا يسمعان ما يُوجَّهُ إليهما من كلام. وأمَّا أنا، الذي يُريد أن يُتَمتَّع بالحياةِ كلَّ يوم، فهل أَدَعُ يومًا عزيزًا كذاك يَضيع عليهما؟ كلَّا، وإنما أريد أن يَذوقاه، وأن يتنعَّما فيه، وأن يتمتَّعا بملاذِّه، وأنْزِعُهما من الجَمْعِ غيرِ الرَّصينِ المُتْعِبِ لهما، وآتي بهما للنزهة في مكانٍ منحرف، وأردُّهما إلى نفسهما بالحديث عنهما، وليست أذناهما ما أريد أن أخاطب، بل فؤادُهما، ولا أجهل الموضوع الوحيد الذي يُمكن أن يَشْغل بالَهما في ذلك اليوم.
وأُمسِكُ بيدِ كُلٍّ منهما وأقول: «أيْ ولديَّ، لقد رأيتُ منذ ثلاث سنين ظهورَ هذه الشُّعْلة المُضطرِمة الطاهرة التي تنطوي على سِرِّ سعادتكما اليوم، وهي ما فتئتْ تزيد بلا انقطاع، وأُبصِرُ في أعينكما أنها في آخرِ درجاتِ حِدَّتها، وعاد لا يُمْكن غيرُ وَهْنِها.» أَوَلَا ترون أيها القراء هَيَجانَ إميل وهِيَامَه وأيْمانَه، ومظهرَ الازدراء الذي استخلصتْ صوفيةُ به يَدَها من يدي، والتصريحاتِ الناعمةَ التي كانا يتبادلانها بأعينهما دلالةً على عبادةِ كلٍّ منهما للآخر حتى النَّفَس الأخير؟ وأتغاضى عنهما، ثُمَّ أرجع إلى الكلام فأقول: «ما أكثرَ ما أبصرتُ أنه إذا ما أمْكنتْ إطالةُ سعادةِ الحُبِّ في الزواج مُلِكَت الجنةُ فوق الأرض، وهذا هو الذي لم يُرَ حتى الآن، ولكنَّ الأمرَ إذا لم يتعذَّر تمامًا كنتما جديرَين بأن تكونا قُدوَةً لم تتلقَّياها من أحدٍ ولم يستطع غيرُ أزواجٍ قليلين أن يُقلِّدوها، وهل تريدان يا ولديَّ أن أُحدِّثَكما عن وسيلةٍ أتمثلُها في هذا السبيل معتقدًا أنها ممكنةٌ وحدَها؟»
ويتبادلان النظراتِ مُتَبسِّمَين ويَسْخَران من بساطتي، ويَشكُر لي إميلُ إرشادي بجلاءٍ قائلًا إنه يعتقد أن صوفيةَ تَكُنُّ لي أكثرَ من هذا، مكتفيًا بما قاله عن نفسه، وتُوافق صوفيةُ على هذا وتبدو مطمئنة، ومع ذلك فإنني أَمِيزُ من خلال وضْعِها الساخرِ شيئًا من الفُضول، وأُنعِمُ النظرَ في إميلَ فأجدُه يلتهم فُتُون زوجِه بعينَيْه الملتهبتَين، وهذا هو الأمرُ الوحيدُ الذي يَظهَرُ به فُضوله، وما كانت أقوالي لِتثيرَ انتباهَه، وأتبسَّم بدَوْري قائلًا في نفسي: «سأعْلم من فوْري كيف أجعلُكَ مُنتبِهًا لي.»
وأعود إلى الكلام، فأقول: «والأمرُ بسيطٌ سهل، وذلك أن يستمرَّ الزوجان على كوْنهما عاشقَين.»
ويقول إميلُ ضاحكًا سِرًّا: «إننا لن نَجِدَ في ذلك عُسْرًا.»
«قد يكون أعسرَ مما تتصور أنت الذي يتكلم، فأرجو أن تترك لي من الوقت ما أُوضِح فيه ما أرى.
إنَّ العُرَى التي يُراد شَدُّها كثيرًا تَنْفَصِم، وهذا ما يحدثُ لعُقْدَةِ النكاح التي يُرادُ مَنْحُها من القوة أكثرَ مما يَنبغي. والوفاءُ الذي يَفْرضه النكاح على الزوجين هو أقدسُ من جميع الواجبات، ولكنه يَمنح كُلًّا منهما سلطانًا كبيرًا، ولا يَتساوق القسْر والغرام، ولا يُوصَى باللذة. ولا تَخْجلي يا صوفية، ولا تُفكِّري في الفِرار، ومعاذَ اللهِ أن أُريد الإساءةَ إلى حيائك! ولكنَّ الأمرَ خاصٌّ بمصيرك؛ ففي موضوعٍ بالغِ الأهميةِ احتَملي حديثًا بين الأب والزوج لا تَحْتملينه في موضعٍ آخَر.
وليست الحيازةُ كإخضاعٍ يُرْوِي الغليل، ويُحْفَظ للفتاة التي تُحظِي من الحُب ما هو أطولُ من الذي تُحبَى به الزوجة. وكيف يُمكِن أن يُجعَل واجبٌ من أنْعَم الألطاف وحقٌّ من أحلى آيات الغرام؟ إن تَبادُلَ الرغبةِ هو الذي يَصْنع الحقَّ، ولا تَعْرِف الطبيعةُ حقًّا آخرَ مطلقًا، أجلْ يستطيع القانون تضييق هذا الحق، ولكنه لا يَقدِر أن يُوسِّع مداه. ويا لَحَلاوةِ الشهوةِ بنفسها! وهل تَنال بالضَّنْك الكئيب من القوةِ ما لا تستطيع نَيْله بجواذبها الخاصة؟ كلَّا يا ولديَّ، إن القلوب تتحد بالزواج، ولكن الأبدان لا تُعبَّدُ مطلقًا، وكلٌّ منكما مُلزَم بالوفاء نحو الآخر، لا بالمسايرة، ولا يُمكِن كُلًّا من الاثنَين إلا أن يكون للآخر، ولكن لا يَنبغي أن يكون أيٌّ من الاثنَين للآخر إلا إذا راقه.
وإذا كنتَ يا إميلُ العزيزُ تريد أن تكون عاشقًا لزوجتك حقًّا، وَجَبَ أن تكون خليلةً لك ولنفسِها دائمًا، وكُن عاشقًا سعيدًا، ولكن مُكْرِمًا، وفُزْ بالغرام كلِّه من غيرِ أن تَطْلُب شيئًا من الواجب، ولا تجعلْ من أقلِّ الحُظُوات حقوقًا لك مطلقًا، وإنما دَعْهَا تكون ألطافًا. وأعْرِفُ أن الحياءَ يَحتَرِزُ من الاعترافات الصريحة، ويَقضي بأن يُقْهَر، ولكن هل العاشقُ مع الرِّقةِ والغرامِ الحقيقي يُخدَع حوْل البُغيةِ الخفية؟ وهل يَجهَلُ عند موافقةِ القلبِ والعينَينِ ما يُظْهِرُ الفمُ مِن رفض؟ ودَعْ كلَّ واحدٍ من الاثنَين مالكًا لشخصه وملامساته، فيحقُّ له ألَّا يَمُنَّ بهما على الآخرِ إلا حينَ يُريد. واذكُرْ في الزواج دائمًا أن اللَّذَّة لا تكونُ شرعيةً إلا عند تبادُلِ الرغبة، ولا تخافا يا وَلدَيَّ أن تَفْصِل هذه السُّنَّةُ أحدَكُما عن الآخر، بل هي على العكسِ تجعلُ كُلًّا منكما أكثرَ انتباهًا كيما يَروقُ الآخَر، وتَحُول دون الكِظَّة، وليقتصِرْ كلٌّ منكما على الآخر؛ فالطبيعة والحُبُّ يُقرِّبان بينكما بما فيه الكفاية.»
تُثير هذه الكلماتُ وما ماثلها غضبَ إميلَ، فيصيحُ معترضًا، ويعتري صوفيةَ حياءٌ فتضعُ مِرْوحتَها على عينيها ولا تَنْبِس بكلمة، وقد لا يكون أكثرُ الاثنَين سخطًا أكثرَهما شكاية، وأُصِرُّ بلا رحمة، وأجْعل إميلَ يَحْمَرُّ خجلًا من قلَّة لطافتِه، وأضْمَنُ أن تَقْبَل صوفية البحثَ من ناحيتها، وأَحُضُّها على الكلام، ومما يُشَكُّ فيه أن تجْرُؤ على تكذيبي. ويُشاوِر إميلُ المشغولُ البالِ عينَيْ زوجتِه الفتاة، ويراهما من خلال ارتباكهما مملوءتَين كَدَرًا شهْوانيًّا مُطَمْئنًا إياه حوْل خَطَرِ اعتماده عليها، ويُلقي نفسَه على رجلَيْها ويُقبِّل اليدَ التي تَمُدُّها إليه هائجًا مُقْسِمًا أنه يتنزَّل عن كلِّ حقٍّ عليها خلا الوفاءَ الموعود، ويقول لها: «أيْ زوجتي العزيزة، كوني حَكَمًا في ملاذِّي كما أنكِ حَكَمٌ في أيامي ومصيري، ولو قَضَتْ قسوتُك بتكليفي الحياةَ لسلَّمتُ إليكِ أعزَّ حقوقي، ولا أريد أن أكون مَدِينًا لملاطفتك، وإنما أريد نَيْلَ كلِّ شيءٍ من فؤادك.»
ويا إميلُ الصالح، قرَّ عَينًا؛ فصوفية من الكَرَم البالغ ما لا تَدَعُك تَموتُ معه ضحيةَ كرمِك.
وفي المساء، عندما أوشكتُ أن أترُكَهما، قلتُ لهما بأقصى ما يُمكِنني من لهجةٍ رصينة: «ليَذْكُرْ كلٌّ منكما أنه طليقٌ وأنه لا محلَّ للبحث في واجبات الأزواج الآن، وصدِّقاني أنه لا إكرامَ كاذبٌ. فيا إميل، أتريد المجيءَ معي؟ فصوفية تأذن في هذا.» ويكاد إميلُ يَضْرِبني غضبًا. «وأنتِ يا صوفية، ما تقولين؟ هل آخذه؟» وتقول الكاذبة وقد احمرَّ وجهُها خجلًا: «نعم.» فهذا الكَذِبُ العذبُ الفاتنُ أفضلُ من الحقيقة!
وفي اليوم الثالث، أُبْصِرُ تَغيُّرًا في المنظر، وذلك أن إميلَ يُريد إظهارَ شيءٍ من الاستياء، ولكنني أُلاحِظُ من خلال هذا التظاهُر نشاطًا رقيقًا، حتى إذعانًا كثيرًا، لا أتوقَّعُ منه ما يُغِم. وأمَّا صوفية، فهي أعظمُ مَرَحًا مما كانت عليه عَشِيَّة، وأرى في عينيْها التماعَ ظاهرٍ مُرْضٍ، وهي تبدو مع إميلَ فاتنة، وهي تُبدي له من الدَّلال تقريبًا ما يعود منه غيرَ غاضب.
ولا تكاد هذه التحولاتُ تكون ظاهرة، ولكنها لا تَفوتني، وهي تشغل بالي. وأسأل إميل على انفراد، فأعلمُ أنه على ما أبدى من لَهَفٍ كبير، ومع كلِّ ما أظهرَ من إلحافٍ كثير، لم يُسمَح له بأن يشاطِرَ صوفيةَ فراشَها في الليلة الماضية؛ فقد بادرت هذه المتكبِّرة إلى استعمال حقِّها. ويُصارُ إلى التفسير، ويألَم إميلُ ألمًا مُرًّا، وتضحك صوفية، ولكنها إذ تُبصر على أثرِ ذلك أنَّ إميل يُوشِك أن يَحْرَد، تُلْقي عليه نظرةً مملوءةً لطافةً وغرامًا، ولا تنطِق، وهي تصافحني، ولكن بلهجةٍ تنفُذ في الفؤاد بغير كلمة: «كَنُود!» ويكون إميلُ من الغباوة ما لا يُدْرِكها معه، وأمَّا أنا فأدْرِك، وأُبعِد إميل، وأتناول صوفيةَ بدوْرها على انفراد.
وأقول لها: «أُبصِرُ سببَ هذه النَّزْوة، ولا أحدَ يكون أكثرَ لطافة، ولا أحدَ يستعمل هذه اللطافة بما هو أكثرُ سوءًا. فيا صُوفية العزيزة قَرِّي عينًا؛ فهذا رجلٌ أعطيتك إياه، ولا تخافي أن تعامليه هكذا، وقد اقتطفتِ بواكيرَ شبابه، وهو لم يَجُدْ بشبابه على أحد، وهو سيحتفظ به من أجلك زمنًا طويلًا.
ويجب يا بِنْتي العزيزة أن أُوضِح لك ما أبديتُ من آراء في أثناء الحديث الذي دار بيننا منذ ثلاثة أيام، ومن المحتمل ألَّا تكوني قد أبصرْتِ فيه غيرَ وسيلةٍ دارَيتُ بها ملاذَّكما إدامةً لها. أيْ صوفية! كان لذلك الحديث من الأغراض ما هو أكثرُ جدارةً بجهودي؛ فإميلُ إذ صار زوجًا لك أصبح قوَّامًا عليك، فعليك أن تطيعيه، وهذه هي مشيئة الطبيعة، ومتى شابهتِ المرأةُ صُوفيةَ كان من الصالح مع ذلك أن يُقاد بها، وهذه هي سُنَّة الطبيعة أيضًا، وقد جعلتُك حَكَمًا في أمرِ ملاذِّه كيما يكون لكِ من السلطان على فؤاده ما يَعْدِل السلطانَ الذي منحه جنسُه إياه على شخصك. أجلْ، سيُكلِّفك هذا حِرْماناتٍ شاقة، ولكنك ستسيطرين عليه إذا عَرَفتِ أن تسيطري على نفسك، وما وَقَع يدلُّني على أن هذا الحِذْقَ البالغَ الصعوبةِ ليس فوقَ قوَّة جَنَانك، وستسيطرين بالحبِّ زمنًا طويلًا إذا ما جعلتِ ألطافَك نادرةً ثمينةً وإذا ما عَرَفتِ حُسْن استثمارها. وإذا أردتِ أن تَرَيْ زوجَك عند قدميك بلا انقطاع، فاجعلي بينه وبين شخصِك بعضَ المسافة دائمًا، ولكن لِتكُنْ شِدَّتُكِ نتيجةَ اعتدالٍ لا نتيجةَ نزْوة، ولْيَجِدْكِ فَطُونًا لا جَمُوحًا، واحترِزي حينَ مُداراتِه لحُبِّه أن يرتابَ مِن حُبِّك، وغالي بنفسِك في ألطافِك، وأكْرِمي نفسَك عندَ منْعك حُظُواتك، وليُجِلَّ عفافَ زوجِه غيرَ متوجِّعٍ من فُتُورها.
وهكذا يَمْنحُكِ ثِقتَه يا بُنيَّتي، ويُصْغي إلى آرائك، ويستشيرُك في شئونه، ولا يَقطعُ أمرًا قبْلَ أن يُذاكرَك فيه. وهكذا يُمكنُك أن تَدْعِيه إلى سبيلِ الحكمةِ إذا ما ضَل، وأن تَرُدِّيه إلى هذه السبيلِ بالإقناعِ الليِّن، وأن تُحبِّبي نفسَك لتكوني نافعة، وأن تَلوذي بالدَّلالِ من أجْلِ الفضيلة، وأن تَعُوذِي بالغرامِ مِن أجْلِ العقْل.
ولا تظُنِّي، مع جميع هذا، أن هذا الحِذْقَ يستطيع أن يكون خادمًا لمقاصدك دائمًا؛ فمهما يُمكِن اتخاذُه من احتياطٍ فإن التمتُّع يُوهِنُ الملاذَّ، والحُبَّ قبْل غيره، ولكنَّ الحُبَّ إذا ما دام زمنًا طويلًا ملأت فراغَه عادةٌ حُلوة، وعَقَبتْ جاذبيةُ الثقة فائرَ الهوى. ويتألَّف من الأولاد، بين مَن أنْعَموا عليهم بالوجود، رابطةٌ لا تَقِلُّ حلاوةً عن الحُب نفسه، وهي تكون أقوى منه غالبًا، ومتى عُدتِ غيرَ خليلةٍ لإميلَ غدوتِ امرأتَه وصديقتَه وكنتِ أمًّا لأولاده، وهنالك أقيمي بينكما أعظمَ ما يكون من أُلْفةٍ بدلًا من الاحتراز الأوَّل؛ فلا سريرَ منفصلٌ، ولا امتناعَ ولا نزوات، وابْلُغي من كونك نِصفًا له ما لا يستطيع معه أن يستغنيَ عنكِ مطلقًا، فإذا ما تركك شَعَر بأنه بعيدٌ من نفسه. واجعلي سرَّ الحياة المنزلية يُهيمن على بيتكما بعد أن جَعَلْتِه يهيمن على بيت أبيك؛ فكلُّ رجلٍ يطيب له أن يُقيم بمنزله يُحبُّ امرأتَه، واذكُري أن زوجَك إذا ما عاش سعيدًا في بيته كنتِ زوجةً سعيدة.
وأمَّا الآن، فلا تكوني كثيرةَ القسوة على عاشقك؛ فقد يستحقُّ أعظم ملاطَفة، ومما يُسيء إليه ما يكون من مخاوفك، ولا تبالغي في مداراة صحَّته على حساب سعادته، وتمتَّعي بسعادتك، ولا ينبغي لك انتظارُ نُفورٍ ولا رفضُ رغبة، بل مغالاةٌ بحُظْواتك.»
ثُمَّ أجْمَعُهما وأقول لزوجِها الشابِّ أمامَها: «لا بُدَّ من احتمالِ النِّيرِ الذي يُفرَض، واصْنَعْ ما تَستحِقُّ معه أن يكونَ خفيفَ الوطْأةِ عليك، وضَحِّ في سبيلِ الألطافِ على الخصوص، ولا يَبْدُ لك أنك تكونُ أكثرَ حُظوةً إذا ما أبديتَ استياءك.» ولا يَصْعُب إقرارُ السلام، وكلٌّ يَسْهُل عليه أن يرتاب من الأحوال، وتُمضَى المعاهدةُ بقُبلَة. ثُمَّ أقول لتلميذي: «أيْ إميل العزيز، يحتاج كلُّ إنسانٍ في حياته إلى مستشارٍ ودليل، ولم آلُ جُهدًا حتى الآن في القيام بهذا الواجب نحوك، وهنا ينتهي عملي الطويل ويبدأ عملُ غيري، واليوم أتخلَّى عن السلطان الذي عهدتَ به إليَّ، وها هي ذي مُربِّيتُك من الآن فصاعدًا.»
ويسكُن الهذيان الأوَّل مقدارًا فمقدارًا، ويدعُهما يذوقان فُتُون حالهما الجديدة بسلام، ويا للعاشقَين السعيدَين! ويا للزوجَين الفاضلين! تقضي الإشادة بفضائلهما، ويقضي وصفُ سعادتهما وضعَ تاريخٍ عن حياتهما، وما أكثرَ ما خَفَق قلبي عندما أُبْصِرُ تتويجَ أثَري بهما! وما أكثرَ ما جمعتُ يديهما في يدي شاكرًا للربِّ مُتنفِّسًا الصُّعَداء بحرارة! وما أكثرَ ما طبعتُ من قُبُلاتٍ على تينك اليدَين المتصافحتَين! وما أكثرَ ما بلَّلتْ دموعُ فرحِهما يدي! ويَرِقَّان بدَوْرهما حينما يُقاسمانني هَيَمَاني، دَعْ والديهما الجليلَين اللذين يتمتَّعان بشبابهما مرةً أخرى في صورة ولدَيهما؛ ومِنْ ثَمَّ يستأنفان الحياةَ فيهما، وإن شئتَ فقُل إنهما يَعْرِفان قيمةَ الحياةِ للمرة الأُولى، فيلْعَنان ثراءهما الأوَّل الذي حال دون تمتُّعهما، وهما في مثلِ ذلك الدَّور من العُمُر، بنصيبٍ بالغٍ ذاك المقدارَ من الفُتُون، وإذا ما وُجِدَتْ في الأرض سعادةٌ وجبَ البحثُ عنها في المأوى الذي نعيش فيه.
وتمضي بضعةُ أشهر، فيدخُلُ إميلُ غرفتي ذاتَ صباحٍ ويقول لي وهو يعانقني: «هنِّئ ولدَك يا مُعلِّمي؛ فهو يأملُ أن ينالَ شرفَ كونه أبًا عما قليل. آه! يا للجهود التي تُفرَض على نشاطنا! ويا لكثرةِ ما نحتاج إليك! ومعاذَ اللهِ أن أتركَ لك تربيةَ الابن بعد أن قُمْتَ بتربية الأب، ومعاذَ اللهِ أن يقوم غيري بواجبٍ مُقدَّسٍ عَذْبٍ كذاك، ولو قُضي بأن اختارَ له مثلَما اختِيرَ لي! ولكنْ دُمْ مُعلِّمًا لشُبَّان المُعلِّمين، وانصحْنا وسيْطِر علينا تجدْنا طائعَين، وسأحتاج إليك ما دمتُ حيًّا. والآن، حين تَبدأ واجباتي مثلَ رجلٍ أحتاج إليك أكثرَ مما في أيِّ زمنٍ كان. أجلْ، لقد قُمتَ بواجباتك، فوجِّهني حتى أسيرَ على غِرارك، واستَرِح؛ فقد حلَّ الوقت.»
فذلك هو وصْفُ حديقةِ أَلْسِينُوس الملكية في الجزء السابع من الأوذيسة؛ حيث لا تُرى عرش ولا تماثيل ولا شلالات ولا خِيام من أزهار، وإن كان هذا لا يروق ذلك الشائب الحالم بأوميرس وأمراء عصره.