الوزير في الريف
الوزير يمر في المقاطعة، فسائق العربة جالس في أمامها والحجاب في خلفها. أما عربة الوزير فتدرج به نحو الاجتماع السياسي المحلي في «كومب أوفيه»، ولهذه المناسبة المهمة يلبس الوزير سترته المذهبة، وقبعته العالية، وسيفه، وقد وضع على ركبتيه حافظة أوراقه الجلدية، وكان يحدِّق فيها بنظره. الوزير يحدِّق في حافظة أوراقه الجلدية بنظر تائه، وهو يفكِّر في تلك الخطبة الرنانة التي سيُلقِيها على أهل «كومب أوفيه» …
«أيها السادة الأفاضل والإخوة العمال …»
ثم يشتد في الضغط على شاربه الأصفر، ويكرر الجملة مرات: «أيها السادة الأفاضل والإخوة العمال …» ولكنه لم يكن ليذكر شيئًا يتبع به هذه الجملة … وهو يشعر بالحرارة في داخل العربة، وإذ ألقى بنظره إلى الأمام رأى طريق «كومب أوفيه» وهو يمتدُّ أمام ناظره، والهواء يهب عليلًا، والطيور الصغيرة تتجاوب من فوق الأشجار.
وتطلع الوزير فجأة إلى المنظر، فهناك على مسافة ليست بالبعيدة وعلى سفح التل رأى غابة صغيرة من شجر السنديان، وكأنها كانت تنحني إلى الأمام إجلالًا له! كانت غابة السنديان كأنها تنحني له قائلة: «لماذا لا تأتي هنا أيها السيد الوزير؟ إنه لمن دواعي راحتك أن تحضِّر خطبتك تحت أشجاري.»
وكم سُرَّ الوزير للفكرة، فهو يقفز من العربة وقد أخبر المرافقين له أن ينتظروه؛ لأنه سيحضِّر خطبته في غابة السنديان الصغيرة، وفي الغابة الصغيرة كثير من الطيور وزهر البنفسج، ومجارٍ مائية صافية تجري بين الحشائش الخضراء، فعندما رأت الطيور الوزير بلباسه الفاخر وحافظة أوراقه الجلدية خافت وأمسكت عن الغناء، وكذلك النهيرات الصغيرة، فقد انقطع خريرها. أما زهرات البنفسج فقد اختفت بين الحشائش، ولم يكن أحد من سكان هذا العالم الصغير قد رأى وزيرًا من قبل، فبدءوا يتساءلون في همس عمن يكون هذا الرجل الفاضل الذي يخطر في هذه الثياب الجميلة؟ إنهم يتساءلون في همس — من وراء أوراق الأشجار — عمن يكون هذا الرجل الفاضل الذي يخطر في هذه الثياب الجميلة! أما الوزير فقد سحره هدوء المكان ونقاء الهواء، فهو يخلع قبعته ويضعها بجانبه على الأرض، ويسحب ذيل ردائه، ويجلس هو على العشب بجانب سنديانة صغيرة، ثم يضع حافظة الأوراق الجلدية على ركبتيه ويفتحها ويخرج ورقة بيضاء كبيرة من أوراق الحكومة.
قال الهدهد: «إنه فنان!»
فرد طير آخر: «لا، إنه ليس فنانًا؛ فملابسه بيضاء، لا بد أن يكون من الأمراء!»
نعم لا بد وأن يكون من الأمراء!
فرد بلبل كهل، كان قد قضى فصلًا كاملًا من فصول السنة في الغناء بحديقة الوزير: «أنا أعلم ما هو، إنه لوزير!»
وبدأت الغابة الصغيرة كلها تتهامس: «إنه وزير! إنه وزير!»
وبدأت قنبرة تتحدث: «هل هو أصلع الرأس؟» وتساءلت زهرات البنفسج: «هل هو قاسي القلب؟» فأجاب البلبل الكهل: «ليس هو.»
فعندما علمت الطيور ذلك، بدأت الغناء ثانية، وعادت المياه لخريرها، وبدأت رائحة البنفسج تعبق المكان كأن ذلك الرجل الفاضل لم يكن هناك … وكم اغتبط الوزير وسط هذا الجمال!
ولما رفع قلمه عن الورقة، نطق بلهجة الخطيب: «أيها السادة الأفاضل والإخوة العمال …»
وأعاد الوزير بلهجة الخطيب: «أيها السادة الأفاضل والإخوة العمال …» ولكن صوتًا يقطع عليه حبل حديثه فيتلفَّت حوله، ولكنه لا يرى إلا طائرًا كبير الحجم، أخضر اللون، من طيور الغابة، فيهز الوزير كتفيه ويعود إلى خطبته، إلا أن الطائر يقاطعه وهو يصيح: «ما فائدة هذا؟»
فيرد الوزير وقد احمرَّ وجهه: «ماذا تقول؟ ما الفائدة من ذلك؟» ثم يطرد هذا الطائر بحركة خفيفة من يده ويعود ثانيًا إلى خطبته قائلًا بأحسن لهجة: «أيها السادة الأفاضل، والإخوة العمال …»
ولكن في نفس اللحظة، تميل عليه زهرات البنفسج وهي على سيقانها الرفيعة وتتمتم بسكون: «أيها السيد الوزير، ألا تتبيَّن ما أجمل رائحتي؟!» وتلك المجاري المائية السائرة بين الأعشاب، لقد كانت أصواتها كموسيقى سماوية، وعلى فروع الأشجار فوق رأسه. كانت الطيور تغنِّي له أبهج النغمات وأسرَّهَا لفؤاده.
إن الغابة الصغيرة بأكملها تتآمر لتمنعه من تحضير خطبته، ولما ثمل الوزير بالرائحة، وسحر بالموسيقى، حاول عبثًا أن يقاوم هذا السرور غير العادي، فهو يتمدد بنفسه على الحشائش بكل دلال، ثم يفك أزرار سترته الموشاة، ثم يتمتم مرارًا …
«أيها السادة الأفاضل، والإخوة العمال … أيها السادة الأفاضل، والإخوة العمال … أيها السادة والإ …»
ثم هو يتمنَّى بعد ذلك الجحيم لإخوته العمال، ولا يرجو إلَّا أن تزيح عروس الزراعة عن نقابها لتكشف له عن جمالها.
ألا ارفعي النقاب عن وجهك يا عروس الزراعة!
وأخيرًا بعد ساعة من الزمن، عندما قلق خدم الوزير على سيدهم، ذهبوا إلى الغابة الصغيرة، فرأوا منظرًا جعلهم يتراجعون إلى الوراء مذعورين.
فلقد كان الوزير منبطحًا على بطنه فوق الحشائش، مفتوح الصدر كأنه من الغجر … وقد رمى سترته بعيدًا عنه، وكان وهو يقرض إحدى زهرات البنفسج بين أسنانه … يقرض الشعر أيضًا!