غرام زائف
نزلت الفتاة من عربة الترام، ودخلت إلى مشرب القهوة؛ فاتجهت إليها الأنظار، وتهامس الحضور عن جمالها وظرفها، وتساءلوا: من تكون؟
سارت الفتاة دون أن تلتفت إلى أحد، ودخلت إلى غرفة خاصة داخل المشرب، وجلست وحيدة تنتظر، ثم شعرت بالملل فأمسكت جريدة وبدأت تقرأ، وكانت من حين لآخر تنظر إلى الساعة، ولم تلبث قليلًا حتى دخل الشاب الذي كانت تنتظره؛ فسُرَّت لمرآه وابتسمت، أما هو فقد تكلَّف إظهار البشاشة رغم أنه كان مصفرَّ الوجه، شاحبه، كأن به مرضًا، وما هو إلا مرض الحب!
كان الفتى يحب الفتاة حبًّا عظيمًا ملأ عليه نفسه وقلبه، فلم يكن له شاغل بعد عمله سوى هذا الحب.
كان يحبها ولكن كان يمنعه من طلب يدها للزواج فقره، وقد طلب منها أن تنتظر حتى يجمع ثروة صغيرة يتوصَّل بها إليها، وقد جد لهذا الغرض وواصل الليل بالنهار …
كان الفتى يتحين الفرص لمقابلتها. أما هي فلم تكن تحبه ولم تكرهه أيضًا، بل كانت تشعر بالعطف عليه عندما يذرف الدمع السخين أمامها، ليعبِّر لها عن حبه وألمه، ولذا لم تكن لتمنعه عن مقابلتها، بل كانت تجد في ذلك تسلية لها هي أيضًا، فهي فتاة تحب — كغيرها — العبث واللهو بقلب الرجل، ولا تحب إلا الملابس والقبعات الحديثة الأزياء، ولا يهمها من حياتها إلا ملبسها وزينتها.
قلنا إنه دخل الغرفة فارتاعت لرؤيته؛ فقد كان شاحبًا أصفر الوجه، دخل فارتمى على يديها يقبلهما، وبكى بكاءً مُرًّا؛ فسألته بلطف عما به؛ فأخبرها أنه أمر في محل عمله بالسفر بعد يومين إلى اليابان لمدة ستة أشهر، وهو مضطر إلى إطاعة هذا الأمر، ولكنه لا يقوى على فراقها يومًا واحدًا.
فهَدَّأت الفتاة من روعه، وشجعته على احتمال هذا الأمر.
وفيما هما كذلك دخل الغرفة عاشقان آخران انتحيا ركنًا من الغرفة، وأخذت الفتاة تطيل النظر إلى المرأة الأخرى، وكانت، فنظر إليها بدقة عظيمة واهتمام زائد من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها، كانت تتمعن في كل جزء من جسمها وملابسها.
وقد فطن الشاب إلى أنها تخاف هذين العاشقين، فقال لها: لا تخافي، فهما مثلنا.
وكأن الفتاة لم تسمع هذه الجملة فاستمرت في التحديق في المرأة الأخرى، ولكنها التفتت أخيرًا إلى عاشقها، فقال لها بلهجة التذلل: أود أن أطلب منك أمرًا، فهل لك أن تجيبيني إليه؟
– اطلب وسنرى.
– هل لك أن تصحبيني في السفر؟
فضحكت الفتاة ضحكة قصيرة وقالت بدهشة: هل جننت يا عزيزي؟ وماذا يقول والدي؟ إنك تريد أن تغيِّر مجرى السعادة التي نترقَّبها من مدة طويلة، سافر أنت، وسأنتظر رجوعك.
ففكر الشاب قليلًا، ورأى استحالة إجابته إلى ما طلب، فقال: إذن هل لك أن تقابليني الساعة الخامسة بعد غد على المحطة؟
– ولكني لن أخرج في ذلك اليوم من البيت؛ فستزورنا عمتي.
– أرجوك، أتوسل إليك! قابليني على المحطة؛ حتى أراك قبل سفري.
– لا تكثر من الإلحاح يا عزيزي؛ فإنك تسبِّب لي آلامًا، لا يمكنني الخروج في ذلك اليوم.
فحزن الفتى حزنًا شديدًا، والتفت إليها فرآها تنظر للمرأة الأخرى فتعجب، ولكنها التفتت إليه وابتسمت له، ثم داعبته بكلمة وقالت: إذا أردت أن تقابلني فيمكنك الحضور لمنزلنا غدًا؛ فهو يوم مقابلاتي.
وعندما انتهت من تلك الجملة حوَّلت نظرها للمرأة الأخرى التي كانت عند الباب، وقد كادت تخرج مع عشيقها؛ فألقت عليها نظرة أخيرة ثم التفتت لعشيقها الذي قال لها: إن المدير يطلبني في هذه الساعة، فأستميحك عذرًا أن تسمحي لي بالذهاب.
ولما نهضت الفتاة لتوديع عشيقها قال لها: هل تقابليني بعد غد؟ عند المحطة.
فقالت له: قلت لك إنه لا يمكنني، وتستطيع الحضور عندنا غدًا.
– ولكني لا أحب الضجة، وأحب أن أكون وحيدًا معك، وعلى كل حال ربما حضرت.
سار الفتى في الطريق، وأخرج منديله يمسح به الدموع المتساقطة، فهو يتألم في غرامه هذا.
وبعد خروج الفتى طلبت الفتاة دواةً وقلمًا، وأخذت تحرر خطابًا، ولكنها عادت فطلبت ورقة أخرى وأعادت كتابة الخطاب، ثم وضعته في الظرف وأخذته معها وقامت. وقد أغفلت الورقة الأولى التي كتبتها، ثم خرجت إلى حال سبيلها.
لم يستطع العاشق المسكين مفارقة محبوبته على تلك الصورة؛ فقرَّر الرجوع إلى مشرب القهوة ليمكث معها هنيهة أخرى، ويمكنه أن يعتذر للمدير عن تأخره في الذهاب إليه. رجع مسرعًا ودخل الغرفة، ولكنه لم يجد أحدًا، ووجد في المحل الذي كان جالسًا فيه مع الفتاة خطابًا؛ فتأكد أنه — ولا ريب — خطاب قد تركته له.
إلى رئيسة قسم تفصيل
الملابس والقبعات بمحلات
اللوفر
عزيزتي مدام
جيني
رأيت اليوم «فستانًا» جميلًا جدًّا أعجبني جد العجب، فرجائي أن تعدلي من «فستاني» قليلًا حتى يكون مماثلًا لذلك الذي رأيته. اجعلي الفتحة الأمامية ضيقة من ناحية الكتفين، وضعي شريطًا أحمرًا بالعرض بالقرب من الوسط. أما القبعة فأرجو أن تأمري بوضع ريشة طويلة من الأمام، وسأمرُّ عندكم بعد غد عند الساعة الخامسة، وأتمنى أن يكون كل شيء قد تمَّ حينذاك.
ذهل الفتى وهو يقرأ، ثم تذكر كيف كانت الفتاة تنظر للمرأة الأخرى التي كانت مع عشيقها معهما في الغرفة وهي تكاد تلتهمها بنظراتها، وذكر أن قبعة المرأة كان عليها ريشة من الأمام وكذلك الفستان؛ فقد كان كالفستان الذي طلبت الفتاة في خطابها أن يكون فستانها مثله.
وعندما عرف لماذا أبت حبيبته أن تقابله على المحطة يوم سفره تملَّكه غضب شديد ويأس، ثم بدت الحال أمامه كأنها رواية هزلية، وذكر ما ذرفه من الدموع أمام من كان يظن أنها تحبه مثل ما يحبها؛ فشعر بالخجل، ثم ضحك، وفكر أنه كان عازمًا على رفض السفر، ولو كان في هذا الرفض طرده من العمل، وكل ذلك ليمكث بجانب المرأة التي لا تحبه، وأخيرًا أمسك القلم وذيل الخطاب الذي وجده بهذه العبارة: «لا تنسيْ أن تصحبي معك عمتك في ذهابك لمحلات اللوفر لتجربة الفستان والقبعة.»
وأخذ معه الخطاب كي يرسله لها، وشعر بالسرور بعد ذلك.
وسافر بعد يومين وقد تخلص من ذلك الغرام.