الروح الكورسكية
لما سلمت جنوه جزيرة كورسيكا لفرنسا، وجدت جيوش لويس الخامس عشر نفسها أمام أعداء لا يستهان بهم، وكان هناك رجل متفانٍ في حب وطنه اسمه: «بسكال باولي» نظم لهذه الجزيرة حكومة أخذت على عاتقها تجنيد جميع السكان، والوقوف أمام المغتصب الجديد؛ فكانت تلك الأزمان محنًا تتلوها محن، أظهر الفريقان في غضونها من ضروب البسالة ما أدهش العالم، ويجب الاعتراف بأن جيش «لويس المحبوب» النظامي وجد في باولي ومساعديه رجالًا لا يعرفون للموت معنًى؛ مما أثار إعجابهم. وكان من بين هؤلاء رجل يدعى كسيلا، بطل قصتنا هذه: امتنع هذا الكورسيكي الشجاع في قصر نونزا الذي كان يتحكَّم في منطقة الجزيرة كلها، وأبى بأنفة التسليم للأعداء، غير أن مدة الحصار طالت واشتدت الأزمة؛ فخشي القائد الفرنسي إذ ذاك وهو الكونت دي جران ميزون أن يصل المدد إلى المحاصرين، ورأى أن يعرض عليهم تسليمًا شريفًا؛ فأرسل لهذا الغرض الكابتن فودمون ومعه ضارب على الطنبور، وسار الاثنان قاصدين الحصن، فلما وصلا إلى مسافة قريبة منه علَّق الكابتن شارة بيضاء في طرف حسامه ورفعها في الهواء، وما هي إلا بضع دقائق حتى رأى المندوب علمًا أبيض يرفع على قمة الحصن بالقرب من العلم الوطني الكورسيكي، فتقدم المفاوض مجتازًا الهضبة، غير أنه وقف في مكانه عندما سمع صوتًا عاليًا يقول: قف حيث أنت، من أنت؟
فأجابه: أنا مفاوض من قبل صاحب الجلالة.
– وماذا يريد صاحب الجلالة مني؟
– افتح باب الحصن وأنا أبلغك رسالتي.
– إن ذلك غير ممكن، ولكن أخبرني أولًا من أين أتيت؟
– لا يمكن الكلام لأن الهواء يهب رأسًا في وجهي.
قال الكابتن هذه الجملة وتقدم قليلًا إلى الأمام، فقال له كسيلا: إن تقدمت خطوة أخرى إلى الأمام فستقتل في الحال.
فتمتم الكابتن فودمون قائلًا: إنه لرجل صعب المراس! ثم وضع يديه على فمه وقال: إن مولاي الكونت دي جران ميزون — قائد جيوش صاحب الجلالة — يرغب في حقن الدماء.
– إنه لشعور طيب فاجأتني به أيها الكابتن، فأي ساعة تلك التي جعلتك تفكِّر في ذلك؟
– إن ما جعلني أفكر في ذلك هو ما نملكه من الذخيرة الوافرة، فعندنا من المدافع اثنا عشر، ومن الرجال أربعة آلاف، في حين أن رجالكم لا يتجاوزون الخمسين عدًّا. غير أن ذلك ليس ببيت القصيد، إنني ما جئت هنا للمفاوضة، إنما جئت لأبلغك رسالتي، فأكرر إنه حقنًا للدماء نعرض عليكم تسليمًا شريفًا.
– وإذا رفضنا ذلك؟
– حينذاك نكون مجبورين على إخضاعكم بحد الحسام، ومعاملتكم معاملة قاطعي الطرق الذين يأبون الخضوع لقواعد الحرب ويصممون على الدفاع الذي لا فائدة منه.
– حسنًا أيها الكابتن! لكن إذا أشعلنا النار في الذخيرة ونسفنا أنفسنا والحصن سواء؟
– لا يمكنكم أن تأتوا عملًا كهذا.
– لا يمكنا! ولماذا؟
– لأن ذلك يكون منافيًا لقواعد الحرب، ويعتبر عملًا وحشيًّا.
– حقًّا! لقد علمت أفكارك، وعليه يجب كي لا أعتبر متوحشًا أن أسلم نفسي للذين حلوا بجزيرتنا لسلب حريتنا وهم يدعون المدنية.
– أرجو عدم الخروج عن موضوعنا، فللمرة الأخيرة أتريدون ترك الحصن والخروج بالتحيات العسكرية أم لا؟
– يجب عليَّ استشارة مجلسي أولًا؛ فأرجو الانتظار قليلًا حتى أعرفكم قرارنا.
غاب كسيلا وبقي الكابتن في انتظاره، وانقضت مدة طويلة، وأخيرًا أطل القائد من السور وقال: ليس في وسع المجلس أن يتخذ قرارًا قبل أن يعرف شروطكم.
– قرروا أنتم ما شئتم؛ فإن سيدي القائد العام مستعد لمنحكم كل الشروط التي تخولها له سلطته.
– حسن جدًّا.
– مع العلم أنكم لا تطلبون المزيد.
– لا بأس، فعليكم أن تحكموا.
– أولًا: تخرج الحامية على صوت الطنبور رافعة أعلامها مع أداء كل التحيات العسكرية لها.
– أوافق على ذلك.
– ثانيًا: تحتفظ الحامية بأسلحتها وأمتعتها ووو … إلخ.
– أوافق على ذلك.
– ثالثًا: على قائدكم العام إعطاؤنا الخيل والمركبات اللازمة لنقل الأمتعة المذكورة.
– لا يمكنني موافقتكم على ذلك.
– إذن ونحن لن نخرج من الحصن، ولنستأنف القتال من جديد.
– مهلًا! اصبر قليلًا، إنك لرجل نافذ الصبر، دعني أفاوض القائد العام، فربما منحكم هذا الشرط.
– افعل ما بدا لك.
– سأرجع بعد عشر دقائق.
– حسنًا ارجع متى شئت فلست مستعجلًا.
فاوض الكابتن القائد العام؛ فأظهر هذا ترددًا في قبول شرط كسيلا، وكان يجهل قوة الحامية، غير أنه كان يخشى وصول المدد إليهم؛ فجعلته أهمية تلك المسألة الأخيرة يتخذ قرارًا. فأخبر الكابتن أنه مستعد لقبول الشرط الأخير على أن يكون التسليم في الحال؛ فرجع الكابتن إلى الحصن ولوح بمنديله، ولما جاء كسيلا قال له: منحناكم هذا الشرط على أن يكون التسليم في الحال بدون إمهال.
فقال له كسيلا: قد اتفقنا إذن تمامَ الاتفاق، ولكن … هل هناك فكرة انتقام؟
– كلا.
– أرجو عدم المؤاخذة إن ألححت؛ فإنك صغير السن، أما أنا فهرم، وقد علَّمتني التجارب أن آخذ الحيطة في كل أمر، ويقال يا كابتن إن الحساب المضبوط يوثق عرى الصداقة، فأرى أن نراجع الشروط المتفق عليها: تخرج الحامية وتحيى بالتحية العسكرية وتحتفظ بأسلحتها وأمتعتها وتعطونا العربات اللازمة للنقل، أليست هذه كل الشروط؟
– نعم هي تمامًا، وعلاوة على ذلك قد تعهد الكونت دي جران ميزون — قائد جيوش صاحب الجلالة — بشرفه أن يعمل بالشروط المتفق عليها بلا أي نية سيئة ولا أقل ضغينة.
– حسن جدًّا، ولكن يجب أن تتعهد أنت أيضًا بذلك.
– أيها القائد، أتريد أن أعتبر قلة ثقتك إهانة لي؟ ووضع يده على حسامه.
– لا يا كابتن، إني لا أقصد إهانة أحد، ويمكنك إن فكرت قليلًا أن توافق على مسالكي، ويكفيني منك وعد شريف على احترام اتفاقنا، فإن أعطيتني هذا الوعد فلن ألحَّ أكثر من ذلك.
– إني أعطيك وعدًا شريفًا بذلك.
– إذن فليحضر رجال حرسك، وسأعد أنا كلَّ شيء استعدادًا للرحيل.
وصل رجال الحرس بعد عشر دقائق سائرين على النظام العسكري الكامل، وتقدموا حتى باب الحصن الخارجي، وهناك انقسموا قسمين واصطفُّوا منتظرين. وما هي إلا بضع دقائق حتى فتح باب الحصن فجأة، وعندئذ صاح الكابتن آمرًا بالتحية العسكرية؛ فأطاع الجند الأمر. وظهر القائد كسيلا في وسط الصفين رافعًا بيده اليسرى العلم الكورسيكي وباليمنى زخمتي الطنبور، وكان يضرب عليه بإتقان عظيم، وكان مرتديًا أجمل ملابسه العسكرية، وعلى رأسه قبعة ذات ريشة ذهبية، وهو يسير بتؤدة غير ملتفت لمن حوله. وكان رجال الحرس يكتمون ابتساماتهم بصعوبة والنظام العسكري يمنعهم عن إظهارها.
ولما وصل القائد أمام الكابتن فودمون الذي كان شاهرًا سلاحه بالتحية العسكرية وقف أمامه ووضع زخمتي الطنبور في حمالتيهما، ورفع قبعته ردًّا على التحية، ثم استمر في سيره ضاربًا على الطنبور بكل قواه.
سأله الكابتن: أين الحامية؟ ومتى تخرج؟
فأجابه كسيلا: الحامية؟!
– نعم الحامية المدافعة عن الحصن.
– أيها الكابتن: إن الحامية كلها قد خرجت.
– يظهر أنك لم تفهم ما قلته؛ ولذا سأوضحه لك: ففي أي وقت يخرج جنودك؟
– لقد فهمت ما تقصد من أول لحظة وكلامك واضح، وأنا أخبرك أن الحامية كلها خرجت بخروجي من الحصن.
فدهش الكابتن أشد الدهشة وقال: هل هذا صحيح؟
– نعم صحيح كل الصحة؛ فإني كنت بمفردي في الحصن أدافع عنه.
– لقد خدعتني إذن وجعلتني لعبة! آه، سيهزأ بي الجميع، وسأصبح مضغة في الأفواه! ويلاه! إني كنت أفضل الموت على ذلك، فكيف أجسر على العودة إلى باريس؟! ألم يكن هناك إلا كورسيكي واحد ليرسم لنفسه تلك الخطة الجهنمية؟! لقد قضيت بالسخرية على رجل فرنسي شريف يا سيدي.
– تلك مسألة أخرى يتوقف خروجك منها على ما تظنه كفيلًا بذلك، على كل منا أداء واجبه، وكان واجبي الخروج من الحصن بشرفي العسكري، وقد أفلحت في ذلك، فعليك أداء واجبك أنت أيضًا.
واستمر كسيلا في سيره ضاربًا بكل قواه على طنبوره.