ابنتي الصغيرة
لقد تألَّمت ألم اليأس في مبدأ الأمر؛ فقد كنت أودُّ من كل قلبي أن يكون ولدًا، ولكن عندما وضعوها بين يدي ورأيت وجهها الأحمر الصغير يشبه تمام الشبه وردة مفتحة الأكمام، وصل حبها إلى أعماق قلبي وظهرت لي الدنيا بمظهر جديد، بسبب ابنتي الصغيرة هذه، وفي أشد الأيام ظلامًا كانت لي ابنتي الصغيرة قوس القزح الذي يظهر في الأيام الممطرة، وإذا أشرقت الشمس كانت تظهر لي أشعتها أشدَّ لمعانًا، وإنها كالذهب الوهاج؛ لأنها كانت تسقط على شعرها الجميل. لقد كان لابنتي الصغيرة أجمل شعر، وكان يتوهج كالذهب والنرجس. أما لون عينيها فأظنك تعرف لون زهرة البنفسج، لقد كان هذا لون عينيها.
من المحال أن يوجد في العالم كله طفل أجمل من ابنتي الصغيرة، لقد كانت هبة السماء إليَّ، وكنت أسميها دائمًا: «ابنتي الصغيرة» حتى عندما كبرت وترعرعت، وشبَّت بعيدة عني؛ إذ جاء الوقت الذي حل فيه أصدقاء المدرسة وألعاب المدرسة محلَّ أمها، حين امتنعت عن الحضور إليَّ تشكو أتعابها وتشركني أفراحها، حين أصبحت مظاهر العطف والحب تسبِّب لها السأم والضجر، وحين أصبحت الأم من المنغصات وهي تقول: «لا يجب أن تفعلي هذا.» ولكنْ لهذه الأم أيضًا يدان باردتان في بعض الأوقات، حين تكون الرأس ملتهبة بالألم.
لم تكن رأسي هي التي تلتهب بالألم في بعض الليالي، بل كان قلبي حين كنت أتلصَّص في السير إلى غرفتها بعد نومها وأقبِّلها قُبلة المساء، لقد كان يخيل لي لحظة أن طفلتي قد رجعت إليَّ، وهي نائمة، بشعرها اللامع، وقد انسدل على وسادتها، وإذا كانت تحلم في نومها إذ ذاك برفيق مدرسي، فقد كنت أميل إلى الاعتقاد بأن فكرة والدتها هي التي كانت تجعلها تبتسم بسعادة وثقة، عندما كنت أتقدم وأقبِّلها في جبهتها.
وعندما بلغت ابنتي الصغيرة الثامنة عشرة كانت جميلة، وكان الناس يلتفتون ويتحدَّثون عنها عندما كانت تمرُّ في الشارع، وكان يسرني أن أصنع لها البسيط من الثياب البيضاء التي كانت تظهر فيها كأنها زهرة من زهرات الزنبق، وكنت أحب أن أسمع إطراء الناس لها وقولهم: كم كان يجب أن أكون فخورة بها، وكنت أتأوَّه حزنًا عندما كانوا ينظرون إلى بناتهم، وكانت هذ الفكرة تملك عليَّ مشاعري أحيانًا حتى تجعلني أنسى وحدتي عندما تكون ابنتي الصغيرة خارج المنزل في نزهة مع الأصدقاء.
كان لابنتي الصغيرة كثير من الأصدقاء، حتى وجدت من الضروري أن تُدرِج أمها بينهم.
نعم، إن الشباب يميل إلى الشباب، كما تنمو زهرة الشمس إلى ناحية الشمس.
وأظن أنه من الصعب أن تعتقد ابنة ثمانية عشر ربيعًا أن قلب الأم قد يكون لا يزال فتيًّا كقلب طالبة صغيرة، وأنها قد تكون على استعداد للاشتراك في الضحك والهذر الذي حولها.
فقد جاء وقت ابتعدت فيه عني ابنتي الصغيرة حتى ظننت أنها لن ترجع إليَّ ثانية، وكان هذا عندما وقعت في شباك غرام ذلك النوع من الرجال الذين تجدهم في المصيف إلى جانب البحر، لقد كان شكله كشكل الرجال الذين تراهم في صور «الكارت بوستال».
أما ابنتي الصغيرة التي كانت تظن أنها تعلم الكثير — والحق أنها لم تكن تعلم شيئًا — فقد اعتقدت أنه أمير بين الرجال، لا لشيء إلا لأن له شعرًا مجعدًا حالك السواد … وله سيارة، وكانت تستاء إذا تعرَّضت له بنقد، فكانت ترميني بأنني من دعاة القديم وأنني غير عادلة، بل وفوق ذلك أنني كنت حسودة.
وهي لا تريد أن تبقى في خزنة من زجاج، ولا تريد أن تموت وهي فتاة عجوز كي تسر أحدًا، وقد امتنع عن الحضور إلى المنزل، ولكن كنت أعلم أنه كان يقابلها مرارًا في الخارج، ولقد مررت عليهما مرة وهما في السيارة.
وكان هو الشاب الصغير، الجميل الشكل، الأسمر الوجه، ينظر في وجهها، وكانت ملامحها هي تدل على الاهتمام والخجل، وسقطت خصلات من شعرها الجميل على وجهها، وامتلأت عيناها بأحلام الفتاة الصغيرة … هي أحلام متواضعة حمقاء، كنت أعارض فيها؛ لأنها كانت أحلام ابنتي الصغيرة، وكنت أخاف غاية الخوف أن تستيقظ منها، وفي يوم من الأيام حدث ما كنت أتوقَّع، وابتعد عنها هذا الرجل كما كان قد حلَّ فجأة، وكان عذره ككل الأعذار، عذر العمل، ووعده كما هي العادة، أن يكتب وأن يرجع في العام القادم.
هه، لقد انتُزِع من حياتها كما تُنتَزَع الروح من الإنسان، ولكن كان واجبًا عليَّ أن أحبه؛ لأنه في ليلة رحيله فقط رجعت إليَّ ابنتي الصغيرة، وبينما كانت تشهق بالبكاء بين ذراعيَّ وهي تقص عليَّ قصتها، خُيِّل إليَّ أن حجرًا أزيح من فوق قلبي حتى سمعت دقاته تصل إلى أذني، وذلك لأني علمت أن ابنتي الصغيرة قد عادت إليَّ.