الوحم
تزوج المسيو شربونيل — وكيل باريز لمحلات شوفيه تجار الشمبانيا — وهو في سن الخمسين، فتاةً من بنات أحد زبائنه تدعى «كليمنس روبير»، وكانت غضة الشباب، موردة الوجنتين، شقراء الشعر، وكان كل ذلك مما جذب إليها المسيو شربونيل، وأصبح عقب زواجه توًّا سعيدًا جدًّا، إذ إن كليمنس ملأت المسكن الموحش لهذا العازب ضوءًا وحياة بخفَّتها ورشاقتها وحبورها. وقد أظهرت لزوجها — رغم أنه كان يكبرها سنًّا — أعظم الحب وكل الميل، وكانا يشتركان في كثير، فمن مزاج متوحد، إلى طباع متوافقة، كانا يحبان أكل اللحم ولعب الورق منفردين، وحضور التمثيل والذهاب إلى الملاعب.
وكان من عاداتهما أنهما إذا بدآ قراءة أجمل الروايات المسلسلة التي تنشرها الجرائد السيارة، غلب عليهما النعاس. وقصارى القول أنه رغمًا عن تفاوت عمريهما كان يظهر على كليمنس أنها على استعداد تام لأن تؤدي واجباتها، بل كانت تؤديها بسرور تام. ولم تكن من اللاتي يطالبن أزواجهن بكماليات مفاجئة. ربما ضايقت المسيو شربونيل، وما مرَّ على زواجهما أكثر من سنة حتى فاجأت كليمنس زوجها بأن أسرت إليه أمرًا، ذكرته وعلى وجنتيها حمرة الخجل، فإذ ظهرت عليها آثار توجهت منفردة إلى صديق قديم لأبيها هو «الدكتور تييرسلين»، وكان يدير مصحًّا في شارع سان جورج، وبعد أن فَحَصَها الدكتور قال لها وهو يداعبها بوضع يده على خدها: ارجعي إلى منزلك يا صغيرتي كليمنس، وبشري زوجك بخبر سار، وهو أنك حبلى في الشهر الثاني.
وإن السمنة التي ظهرت على جسمها ملأت قلب شربونيل سرورًا وفخرًا، ولكن تلك السمنة عينها أقلقت معيشة الزوجين؛ ففي الشهر الرابع حين بدأ الجنين يتحرك في بطن كليمنس، بدأ خلقهما في الاختلاف وعاداتهما في التباين؛ فأصبحت كليمنس كثيرة السأم، ذات مزاج غريب، ففي ساعات ضحكها تنقلب فجأة باكية، ومن الإغراق في المحادثة إلى السكوت المطلق، وكرهت أنواع الطعام التي كانت تفضِّلها على غيرها، وأصبحت تُصَاب بنوبات فتلازم غرفتها مدة أسبوع، وبينما كنت تراها ساكنة إذا بها تنقلب فجأة؛ فتصبح كثيرة الحركة والحديث تريد الخروج للذهاب إلى الملاهي!
وكان المسيو شربونيل متأثرًا في خضوع وخنوع، وهو يجيب كلَّ ما يطلبه مزاجها، وكان يحدث نفسه: «إنْ ذلك إلَّا أمر مؤقت، بعد قليل يمر … ومع ذلك فأنا أتحمَّل كل ذلك من أجل فرنسوا!» وكان هذا هو الاسم الذي اتفق عليه الزوجان للجنين الذي ستلده كليمنس، ورجع المسيو شربونيل ذات مساء في شهر ديسمبر وخاطب زوجه: «ارتدي ملابسك بعد العشاء كي نتوجه إلى «السرك» للتفرج على جمز جمز مرود الببغاء؛ إذ يظهر أن ذلك الرجل غير عادي.» فصفقت كليمنس لهذا الخبر، وكانت هادئة الخلق تلك الليلة في رزانتها وسكونها قبل سمنتها، وكانت شديدة الرغبة في رؤية جمز جمز هذا؛ إذ كانت قد رأت صورته الملونة وهو جالس على «العقلة» في لباس أسود ملتصق بجسمه كلباس البحر، وعلى ذراعه الممدود إلى الأمام عدد كبير من طير الببغاء، وكانت هناك إشاعة أنه غني، وأن سيدة إنكليزية عظيمة تُنفِق عليه، وقد رافقته إلى باريز.
وفي تلك الليلة — كما كان في الليالي السالفة — نال جمز جمز نجاحًا عظيمًا كنجاح مروِّد الثيران الإسبانية، وكان وجهه جميلًا جدًّا، يتدلَّى شعره على جبهته، ويكشف لباسه الأسود الملتصق بجسمه عن جسم قوي، وذراعين مفتولين أشبه بأذرع التماثيل. أما النساء فكنَّ يُعجَبنَ بمنظره ويصفِّقن تصفيقًا حادًّا عندما يقوم بإحدى حركاته!
ولما أن رجعا إلى منزلهما سأل شربونيل زوجه في تؤدة: لا ريب أنك سررت من ذلك يا كليمنس؟
فردت عليه ببرود: نعم، قليلًا …
ولم يَفُزْ منها بأكثر من ذلك، وقد تغيَّرت من السرور إلى الغضب، وعادت إلى الخلق الثائرة، ولما أراد زوجها أن يداعبها قليلًا رفضت غاضبة، فنام حزين القلب في خضوع أيضًا، وفكر أن الصبر أفضل؛ إذ يجب الصبر من أجل فرنسوا!
وفي اليوم التالي قامت كليمنس هادئة الخلق، مسرورة، وغنت وهي تلبس ملابسها، وقبلت زوجها في عنقه وهي تضع له ياقته، ونظفت له الحذاء بنفسها، وأعدت له طعامًا يحبه.
ولما تركها نحو الساعة الواحدة بعد الظهر للذهاب إلى محل عمله وضعت له على ملابسه رداءً من الصوف وهي تعلن أن البرد شديد جدًّا وهي لا تريد أن يصاب زوجها الصغير بزكام!
وفي الشارع لحظها وهي في الشرفة، وهي تُرسل له قبلات في الهواء، واستمر الجو حسنًا طول اليوم، وطول المساء إلى اللحظة التي وجد فيها الزوجان جنبًا إلى جنب في سريرهما، وهنا أمسكت كليمنس برأس زوجها الكبير في يديها الصغيرتين، وامتدت بفمها إلى أن وصلت إلى أذنه ودمدمت: لي حاجة أطلبها منك يا عزيزي …
فامتلأ قلب شربونيل سرورًا وأجابها: اطلبي كل ما تريدين، يا قطتي الصغيرة!
– إنها حاجة لا يسهل الإفضاء بها!
– اذكريها … تشجعي …
– دعني أطفئ الشمعة؛ فأنا لا أجسر مطلقًا على طلب حاجتي هذه طالما كان الضوء منتشرًا.
ولما أطفئت الشمعة استمرَّت كليمنس: أنت تعرف جمز جمز، رجل الببغاء جيدًا؟
– نعم … حسنًا، هل تريدين أن تذهبي لرؤيته مرة ثانية؟
– لا … ولكن أريد أن أقول: نعم … ولكن ليس في الملعب …!
وبدأ شربونيل في الضحك، وتحدثت كليمنس غاضبة: لا أريد أن تضحك … إن المسألة جدية، إن لدي «وحم»، وهي رغبة قوية، وإذا لم تفعل ما أريد … حسنًا، إن امرأتك الصغيرة تموت والطفل أيضًا بالطبع!
ضم شربونيل كليمنس بين ذراعيه وقبَّلها بعطف وقال لها: إني أفعل كل ما يمكنني كي أوافقك يا قطتي! وأنت تعلمين ذلك، ولكن صرِّحي!
وحينئذ أسرت كليمنس، وقد التصقت بزوجها في أذنه: أريد أن أرى هذا الرجل وهو عارٍ عن الملابس.
ثم أخفت وجهها على رقبة شربونيل، وصاح شربونيل برعب: ترينه وهو عارٍ عن ملابسه؟! لا ريب أنك قد جننت، ولكن ماذا تقصدين أولًا؟ هل ترغبين في رؤيته وهو بلباس البحر كما رأيته في اليوم السابق؟
فقالت كليمنس مؤكدة: لا، بدون لباس البحر … بدون أي شيء!
فقال شربونيل: أي عارٍ تمامًا!
ولما استقر قرارها قالت: انظر إليَّ … يجب أن أرى هذا الرجل بهذه الهيئة من أجل فرنسوا؛ فالبارحة عندما ظهر في الملعب وهو متَّشِح بالسواد أثرَّ ذلك في قلبي وصدمني صدمة قاسية … وشعرت بالطفل يتحرك، وكأنه غير مرتاح … ومن ذلك الوقت وأنا أرى أمامي دائمًا شبحًا أسود يتَّشِح بلباس أسود كلباس البحر، فإذا لم تجبني إلى ما أطلب سيكون لك ابن أسود زنجي، بل أسود من زنجي! مع أني أرى أن المسيو جمز جمز مثل الرجال الآخرين أبيض الوجه، جميل الشكل … والآن! إن فرانسوا سيكون طفلًا جميلًا أبيض الوجه مثله، وهذا كل ما في الأمر!
وعبثًا عارض شربونيل، وعبثًا حاول أن يؤثِّر على امرأته ويجعلها تعتقد أنها تطلب أمرًا إدًّا مخالفًا للصواب، وأنه حتى إذا وافق هو — شربونيل — فإنه يجب الحصول فوق هذا على موافقة جمز جمز نفسه الذي سيظن أنه يحادث بعض المجانين عندما يطلب منه أن يظهر عاري الجسد أمام سيدة!
عبثًا ثار شربونيل، وعبثًا حاول أن يُرجع كليمنس إلى صوابها، وعبثًا هددها؛ فقد كانت مصرة على الوصول إلى غرضها، وكانت تكرر دائمًا: أريد أن أرى هذا الرجل وهو عارٍ!
وانتهى بها الأمر أن أصابتها نوبة عصبية، فكانت تصيح وتبكي وتهذي أحيانًا، ولم يجد تاجر الشمبانيا وسيلة لتهدئتها غير أن يعدها بما تطلب، وعندئذ نامت من فرط تعبها.
وكان شربونيل يأمل أن تكون رغبتها هذه قد انتهت في الغد، ولكن لم تكد كليمنس تستيقظ حتى قالت بسكون: أنت تعلم أنك وعدتني … ستذهب عند مسيو جمز جمز في الحال، وإلَّا فسوف أصاب بنوبة بعد ظهر اليوم وألد طفلًا ميتًا. كذا!
ولم يقاوم شربونيل، فلبس ملابسه وتزيَّن، وشيعته هي بهذه الوصية: أسرع! لن أقدم لك طعام الإفطار إذا لم تأتني معك بالجواب عند رجوعك.
ورجع بعد ساعة، وكانت كليمنس تنتظره عند الباب، فقالت له: ما وراءك؟
فقال الزوج: أصغ إليَّ، إني لم أذهب عند هذا المدعو جمز جمز، فإنه بلا ريب كان يطردني شرَّ طردة، ولكني ذهبت عند الدكتور تييرسلين في عيادته التي يعالج فيها المرضى بواسطة الماء البارد، واستشرته في حالتك، وهو يعرفك حق المعرفة، وقد أخبرني حقًّا أنه من الخطر معارضتك في حالتك هذه.
فقالت كليمنس: ها قد رأيت صحة حديثي!
– لا تقاطعيني؛ فإنه بالرغم من حسن قصدنا كان يجب أن يرفض طلبك، لولا مصادفة غريبة أرسلها الله؛ فإنك تعرفين أني لم أكن لأوافق بالمرة أن يعرف هذا الرجل جمز جمز برغبتك. أما المصادفة الربانية فهي أن جمز جمز يأخذ حمامًا بالماء البارد كل صباح حوالي الساعة العاشرة عند الدكتور تييرسلين، وهو الذي يعطيه هذا الحمام، وعلى ذلك سنذهب غدًا أنا وأنت إلى عيادة المعالجة بالماء البارد قبل الساعة العاشرة، وسيخبئك تييرسلين بالقرب من الحمام في حجرة داخلية غير ظاهرة يخفيها ستار ويفتح أحد أبوابها إلى مكتب الدكتور، فيمكنك أن تزيحي الستار لتتفرجي على كل ما تريدين رؤيته، والآن إذا كان الأمر لا يهمك فإننا سنكفُّ الحديث حول هذه الحماقة …
وارتمت كليمنس على عنق زوجها تقبِّله بكل حرارة وهي تقول: إني أعبدك! إني أعبدك! سترى كم يكون جميلًا ابنك!
وقد أظهرت طول باقي اليوم شعورًا هادئًا رقيقًا. أما شربونيل فكانت عليه ملامح التفكير، وكان يشعر ببعض الحزن كشعور الرجل الذي يؤدي تضحية مؤلمة بدافع الحب.
وفي اليوم التالي أخذت الحوادث مجراها كما اتفق الزوج والدكتور بطريق رُوعِيَ فيه الحب البريء الذي كان يشعر به الرجل نحو زوجه وواجب صيانته لها من الجهة الأخرى. وصل آل شربونيل عند الدكتور تييرسلين حوالي الساعة التاسعة والنصف بحجة زيارة البناء، وتفرَّجا على كل جزء من العيادة؛ ومن ثمَّ لما أزفت الساعة العاشرة قال الطبيب: لديَّ مريض يأخذ حمامًا في الساعة العاشرة تمامًا، فهل لكما أن تنتظراني لحظة في مكتب عملي، وسألحق بكما بعد برهة.
ثم قادهما إلى غرفة المكتب وتركهما، وكان فيها باب يفتح على غرفة صغيرة مظلمة يفصلها عن غرفة الاستحمام ستار يمكن رؤية الحمام بكل جلاء من بين ثناياه، وبدون أن يكتشف أحد وجودهما.
وكانت كليمنس هادئة جدًّا وراضية، ونظرت من الركن الأيسر للستار، وأخرج شربونيل رأسه من الركن الأيمن.
وكان عنده شعور خاطئ، هو أن اهتمام امرأته بالنظر سيكون أقل تأججًا حتمًا ما دامت تعلم أنه ينظر معها في نفس الوقت ما تنظر هي. وبعد بُرهة دخل رجل مؤتزر بمئزر الحمام، وكان جمز جمز، وتحادث برهة مع الدكتور ثم رمى بالمئزر للخادم وبسط يديه على جسمه العاري، وعرَّض بطنه للماء البارد الذي كان موجهًا إليه، وكان شربونيل ينظر لهذه العملية من وراء الستار وهو يشعر بالسرور رغم أنفه، وظهر له الرجل الرياضي بمظهر الرجل المتين التركيب، ظهر له أنه عريض الأكتاف أثقل وزنًا في مظهره هذا منه إذا رُئِيَ وعليه لباس اللعب الخاص.
وكان غير عادي في شيء واحد هو أن كل جسمه كان مغطًّى بالشعر الكثيف، فكان الشعر تحت إبطيه وعلى نهديه وبطنه، واستمر الحمام عدة ثوانٍ فقط، وعندما أدار تاجر الشمبانيا رأسه لم يجد امرأته بجانبه، وكذلك لم تكن في الغرفة، وكانت الزوجة قد فتحت الباب ودخلت إلى مكتب الدكتور، وعندما دخل زوجها وجدها جالسة على المقعد تفكِّر، فقال لها ببعض أسف: والآن هل أنت راضية؟ هل تفرجت على ما كنت تريدين رؤيته؟
فهزت رأسها وقالت: لا، لم أمكث إلا لحظة قصيرة، لم يكد الرجل يخلع رداءه حتى انصرفت.
فسألها شربونيل: ولماذا؟
فعبس وجهها: إنه مثل المجرمين، فجسمه مغطًّى كله بالشعر، له هيئة القردة، ولذا فكرت في الطفل وقلت: «ماذا أصنع إذا جاء طفلي كهذا!» ولذا أسدلت الستار وفررت بنفسي إلى هنا، بينما بقيت أنت تتفرج، وأنت تعرف أنني لا أريد أن يكون فرنسوا شبيهًا بقرد.
وأضافت بعد برهة بكل سكون: إنني أفضل له عن ذلك أن يكون شبيهًا بزنجي!