الضيف
(١)
إلى السيد القس بينيه، ٨ شارع أزاس، باريز
أسرع بكتابة هذه الكلمة الصغيرة إليك، وأنا أسرها إليك يا عزيزي الأب، وإن قلبي — قلب الأم السعيدة — لا يرغب الانتظار مدة أربعة الأيام التي تفصلنا إلى حين رجوعنا إلى باريز؛ كي أبشرك بالأخبار السارة، وأنا لا أظن أن شيئًا من هذا سيتم قبل نهاية الشتاء حين تكون ابنتي الصغيرة، قد أصبحت ربة دار بفضلكم، وفي حال تحسد عليها.
وكم أنا مدينة لك لمساعدتي، فأنا عديمة الخبرة، وفي عزلتي هذه، إن أرملة يكبر أولادها يومًا عن يوم لتتبيَّن أنه يجب، كي تسدد خطاهم الأولى خارج العائلة — أن تكون لها سلطة أكبر من سلطتي، وخبرة أوسع من خبرتي، والأبناء الذكور يمكن تقييدهم بالكليات أولًا ثم بالمدارس العليا … فمستقبل موريس لا يقلقني نصف ما يقلقني مستقبل أخته.
والآن، وقد انتهت التجربة، وانتهت بالنجاح مع حسن الحظ، لي اعتراف أسره إليك، لقد شككت لحظة في قيمة هذه الفرصة، ولولا كل الاحترام الذي أشعر به لقد استكم لما أمكن إقناعي، فلم أكن أقبل بالمرة أن نضم في سلك حياتنا بالريف، شابًّا لا نعرف عنه إلا القليل مثل «المسيو دي مونتيفري» لو لم تكن أنت الذي قدمته لنا، وكنت أخشى أن يُحدِث حضوره تأثيرًا سيئًا بين الجيران، فإن رابطة الجوار لا تمنع الناس من التحدث بمثالب جيرانهم، والتقول عليهم، وكنت أقول في نفسي: «محال أن يكون من السهل أن يصبح هذا الشاب — وهو في السابعة والعشرين من سنه — صديقًا لموريس الصغير الذي لا تهمه غير علومه، حتى …» وكنت قد أسررت إليَّ قائلًا: «أنا أتحمل كل تبعة!» ولما كنت أنت الذي أحضرت مسيو مونتيفري إلى بوكور، فقد ألجم هذا ألسنة السوء ومنعها من التقول، ورأوا أنه من الطبيعي أن يأكل على مائدتي، وأن يتنزَّه مع ابني وابنتي ومس جكوبسون.
وقد قدر الكل قيمة هذا الشاب بعد الأسبوع الذي قضاه، وكان يظهر عليه أنه يجد في اللعب بالسيف وركوب الخيل مع موريس لذة أكبر من الجلوس مع لوسي لقراءة الموسيقى أو الجلوس مع مس جكوبسون يناقشها في شتى الشئون العلمية. أما احترامه لي فكان يذكرني باحترام زوجي العزيز المسكين، وإذا أضفت إلى كل هذه الفضائل أنه غني وليس له أب أو أم، وأنه ربي تحت رعايتكم، أجد نفسي مضطرة إلى الاعتراف يا عزيزي الأب بينيه، إني أسعد الأمهات وإنك أحكم المرشدين.
وكان قلقي العظيم، بعد أن وثقت من فضائل مسيو دي مونتيفري النادرة هو: هل يقدر له أن يحب لوسي؟ ولوسي هل تحبه هي؟ لوسي فاتنة، ولا أظنني مدفوعة بالتيه الوالدي إذا قلت «فاتنة» … ولكنها ساذجة وبسيطة لدرجة عظيمة، لا تهتمُّ بالتجمل الذي يهم الشبان الآن، وهي ليست أبدًا من اللاتي يرضين بأول راغب في الزواج منهن تلك العزيزة.
ثم كلمة أسرها لك فقط، أظن أنها أحدثت أثرًا عظيمًا في نفس مسيو دي مونتيفري بروحها الخفيفة فقط. آه، إنه لم يصرِّح لها بشيء من ذلك قط، وهو أكثر أدبًا من أن يسمح لنفسه أن يأتي عملًا غير لائق كهذا، ولكنه صرَّح بكل شيء، برزانته المعودة لمس جكوبسون التي أكسبتها سنوها الأربعون شجاعة فائقة، وكانت لا تزال تكرر لي حتى هذه اللحظة: «هل لاحظت كيف كان المسيو دي مونتيفري — وهو الذي يصيب في كل عمل — قلقًا وحزينًا يوم سفره؟ مع أن الحياة في بوكور تنقصها الكثير من الملاهي التي تقدمها باريز لشاب واسع الغنى، كريم المحتد، لا ريب أن السبب ذلك كان لأنه ترك قلبه في بوكور!»
والحق أنها أصابت في حدسها؛ فهي فتاة لبيبة …
أما لوسي، فإنها لم تقل شيئًا، لا لمربيتها ولا لي، وأظن أني كنت أصنع مثل ما صنعت لو كنت مكانها وفي سنها، فكل فتاة عفيفة تكتم في طيات نفسها أقلَّ انفعال من انفعالات قلبها.
ولكني راقبتها، وكانت تتجمَّل إن لم تكن تتبرَّج كي تنال إعجاب ضيفنا، وكانت تسر بمجلسه وصحته، وقد مكثت هي الأخرى شاردة اللب بعد سفره، وفي كلمة واحدة. لقد سارت الأمور في مجرى حسن كي تنتهي حيث تمنينا.
وأنا أرجو أن تُنهي باريز ما بدأته بوكور، ومن المناسب أن يأتي مسيو دي مونتيفري لزيارتنا مرارًا من اليوم التالي ليوم وصولنا. وأنا أفكر في دعوته للغذاء على مائدتنا، وبهذه الطريقة يصبح المتحابان غير قادرين على الافتراق عن بعضهما، ويصل بهما الحال أخيرًا أن يطلبا منا بنفسهما أن نسمح لهما بالزواج في أقرب وقت، ويمكننا برشاقة أن نقدم لهما زواجًا هو زواج رغبة كانا يظنان فيه — لولا هذا الطريق الذي مهدناه لهما — أنه زواج مصالح.
أعترف يا سيدي القس بينيه أننا من صغار المخادعين! ولكنه والحق لأجل سعادة الأبناء الذين نحبهم، ولأجل تكوين عائلة مسيحية، وإني سعيدة سعادة لا يمكنني أن أعبر لكم عنها، وتراني إلى جانب تعبيري عن سروري أزفُّ إليكم أسمى عبارات الشكر الخالص.
(٢)
إلى مادموازيل كلوتيلددي لسبرون — يحفظ بشباك بريد هوسمان، باريز
أرسل إليك هذه الكلمة يا عزيزتي كلو، بكل تكتُّم وتحفُّظ، حتى لا أترك فرصة لوالدتي ولمس جكوبسون وللأب بينيه وللأشخاص الذين يهتمُّون بشخصي الصغير، أنا التي لا يزيد سنها عن سبعة عشر عامًا كي يتدخلوا في شئوننا وحديثنا الودي. وهناك حديث طويل هذه المرة فأرهفي أذنيك: كلو! «أولًا» فرح! فإننا نترك بوكور يوم السبت إلى شارع الجامعة، وسأكون بالمنزل حوالي الساعة الخامسة، وأتمنى أن تجدي وسيلة للحضور مع أخيك المسيو هنري إذا كان راغبًا في اجتلاء طلعتي، وسماع آخر الأخبار عن «زواجي»، فليس هناك شك في أن القرار قد استقرَّ على تزويجي … ﺑ «الضيف»! نعم قرروا أن يزوجوني بتلميذ الأب بينيه المختار، ومس جكوبسون ووالدتي تتهامسان سرًّا من يوم سفره، وهما تدلِّلَاني وتقبلاني كأن ساعة الفراق قد دَنَتْ، وقد رحل المسيو دي مونتيفري كي يلحق بالأب بينيه.
هل يحبني؟ يا رباه! إني لا أعرف حقًّا، فتصرفاته غريبة، تلميذ الأب بينيه، وله رزانة طلبة المدرسة الإكليريكية، وهو ليس كثير الغباوة، خفيف الحركة، ليس أكثر دمامة في وجهه من غيره، ولكنك تعلمين؛ أي كلو الصغيرة، أنه ليس هناك غير وجه رجل واحد يُعجِبني، ويمكنك أن تذكري ذلك الهنري، فلا يكون هناك محل لغيرته!
ويجب أن تُلاحظي جيدًا أن زوجي «المقبل» لم ينتقص من احترامي أبدًا، وهذا ليس بخطأ والدتي أو مس جكوبسون؛ فإنهما كانتا تفعلان كلَّ ما يمكنهما كي تتركاه منفردًا معي، يا للشاب المسكين! وكانتا تأملان — بلا شك — أن انفراده بي يثيره، ثم يجعله لا يحتمل! ومن ثم يجعله يبوح بغرامه، وبعد ذلك يجب تزويجنا توًّا … توًّا!
وتعالي انظري والضيف منفرد معي، وهو يقرب مقعده من مقعدي، ويستمرُّ في التحدث عن الموسيقى والدراجات والعالم، كما أن لو كان الأب بينيه أو أمي حاضرين معنا، يلاحظان مجرى الحديث.
والحق أن هذا كان يغيظني، وكنت أفكر في نفسي: «وعلى كل حال فالأب بينيه يخرجهم من مصنعه على قالب خاص. أنا أرى الصدَّ من هذا الشاب، أنا التي لا يمكن الشبان العاديين الجلوس معي عشر دقائق بغير أن يسرفوا في حديث الحب!»
ولذلك (ولا تروي هذا لهنري) جرَّبت أن أفتنه … قليلًا قليلًا جدًّا؛ فاستعملت النظرات، واحتكَّت يدي بيده مرارًا وأنا جالسة إلى البيانو، وبالتأكيد أثَّر عليه هذا تأثيرًا معينًا، وقد ظننت مرة أو مرتين أنه قد عزم على طبع قبلة احترام على شعري.
ولكن لا! فقد كان يضبط عواطفه دائمًا، وربما كان هذا عن قصد، أو ربما كان هذا ما يحدث عندما تكون النية معقودة على الزواج، ويجب أن تقولي لأخيك إنه يجب أن يكون في معاملته لي ابتداءً من اليوم ضابطًا لنفسه وعواطفه كالمسيو دي مونتيفري، وإلَّا فلن أتزوجه أبدًا، وسأصير «مدام دي مونتيفري».
ويجب أن أعترف مع ذلك، ثناءً على هذا الفارس الشاب الذي ظهر عليه القلق وهو يودعني على المحطة قبل أن يغادرنا مساء الأمس، أنه لم يتمالك نفسه، وظهرت شخصيته الحقيقية التي كان يظهر بغيرها مدة إقامته، وارتبك ارتباكًا ظاهرًا، حتى إنه خاطب والدتي فسماها «سيدي القس»، ونادى مس جكوبسون قائلًا: ديزي فقط!
وقد قبل يدي، وسأجعله يكرر ذلك ويصنع كل ما أريد، طول فصل الشتاء …
فأنا لا أريد أن أتخلَّص منه سريعًا؛ فقد لاحظت أنه منذ فكروا في هذه المشروعات العظيمة أصبحوا أكثر لطفًا في معاملتي، وتركوا لي الحرية لأفعل ما أريد، وجكوبسون بوجه خاص أصبحتْ صديقة حبيبة، هي لا تكلفني بأي عمل من الأعمال، ومع ذلك تصرح أني أشتغل حسنًا جدًّا …
والآن، إلى الملتقى القريب، أي كلو العزيزة، وأنا أرسل لك قبلة كبيرة لنفسك، وأخرى تتصرفين بها كما ترغبين، ولكني سأطلب استردادها من هنري عندما نتقابل في القريب العاجل.
أوه! كنت أودُّ أن أجلس معك في غرفتي لنتسارَّ ونتبادل الأخبار، فليس هناك شيء ألذُّ من ذلك في العالم.
(٣)
إلى المسيو دي مونتيفري، ٢٣ شارع البو، باريز
يصل إلى باريز بعد غد يا حبيبي العزيز الجميل ومعنا طائرتك الصغيرة، دغ أمها، وأتمنى أن أجدك في ذلك اليوم نفسه بمنزلك حوالي الساعة الخامسة آه! ستحبني يا عزيزي كما كان الحال في بوكور؛ أليس كذلك؟ إني أفكر كل هذا الوقت في خلقك الفرنسية، ثم يحمر وجهي خجلًا، سلامًا أيها الصديق، وقبلات كثيرة، إلى الملتقى.