الفراشة الراقصة
ابتدأت الأوركسترا في العزف، ثم ارتفع ستار المسرح بحركة لطيفة، وظهر قوام صغير ابتدأ في الرقص. وقد التفتت إحدى المتفرجات إلى رفيقها وهمست في أذنه: «الفراشة الراقصة!» وجلس أحد النظارة أمام المسرح تمامًا، وقد اصفرَّ وجهه لما دارت في خلده فكرة الهرب مع هذه الغادة في يخت كان ينتظرهما، وابتدأت حماسة الرقص على المسرح؛ إذ خاصر «رامون سانشيه» روزا «الفراشة الراقصة».
أخذ الرقص طريقه، فكان حينًا يسرع وحينًا يبطئ، وأخيرًا … ألقت روزا بنفسها بين ذراعي مخاصرها مستقبلة الخنجر الذي طعنها به فأنهى الرقص!
وهنا … في تلك اللحظة وضع شفتيه عند أذنها وقال: موتي! أي زهرة الإسبان اليانعة، لقد رددتك لله.
وقد أصغت الفراشة لتلك الكلمات، ثم ردت قائلة: الوداع يا رامون … إني أموت …
وهنا سقطت على الأرض والدم يتفجَّر من جرحها، وقام المتفرجون وهم يصيحون … أما الشاب الذي كان جالسًا أمام المسرح تمامًا فقد وضع رأسه بين يديه وأخذ يبكي كالأطفال.
•••
كان رامون سانشيه طويل القامة، نحيف الجسم، أسمر الوجه، وكان أنبغ راقص في إسبانيا.
أما رفيقته — الفراشة الراقصة — فكانت تختلف عنه؛ إذ كانت صغيرة القد، ضحوكة، باسمة الثغر، زرقاء العينين، ونظرة واحدة إليهما وهما يرقصان تكفي أن تُعِيد إلى ذهنك المعنى الشعري للحركة، وتجعلك ترى شيئًا جميلًا يملك عليك عواطفك فتنتبه إليه بكل حواسك.
وقد راجت الإشاعات عن علاقاتهما، على أن الأمر كان أبسط مما تقوَّل الناس، ولكنه غريب على كل حال؛ فقد سرق رامون سانشيه الفراشة الراقصة من الله — وكان يعترف بذلك — إلَّا أنه كان يقول إنه سيرجعها لله ثانية يومًا ما، وكان يؤكد أنه وعد بذلك، وأنه لن يُخلف الوعد.
وجدها في حديقة دير، بينما كان يسيح منفردًا في إسبانيا، وكانت ترقص بين الأزهار، وقد سقط ضوء الشمس على وجهها فأكسبه جمالًا وجلالًا، ولاحظ رقصها بضع دقائق، ثم قفز من الحاجز الذي كان يفصله عنها، وذهب إليها فصرخت من دهشتها؛ إذ وجدت يدين قد التفتا حول خصرها، ونظرت بذهول نحو الطارق المفاجئ، فقال لها: «انظري يا «سنيوريتا».» وابتدأ يرقص أمامها رقصًا لم يرقصه أمام الملوك، وكانت الفتاة تلاحظه وعلى فمها ابتسامة إعجاب، ولما انتهى قالت له: الحق يا «سنيور» إن هذا النوع من الرقص هو الحياة بعينها.
فقال لها بهدوء: تعالي معي؛ فنرقص سويًّا في العالم الواسع؛ فإنك قد خلقت لهذا.
فذهبت معه والفرح يملأ قلبها وعلى فمها ابتسامة، وقد ساعدها على القفز فوق الحاجز، ثم ركبت معه على جواده، وقالت له في الطريق: آه يا «سنيور» إني قضيت كل حياتي في الدير، وكم كنت أتمنَّى أن أخرج منه، فإذا كنت مكثت فيه سنة أخرى لأصبحت راهبة، ولكان السيف قد سبق العذل!
فقال رامون باستغراب: راهبة؟
فقالت له ضاحكة: نعم راهبة، وأنا لا أريد أن أكون راهبة، وإنه لمن المحزن أن أكون راهبة، وأنا لم أخلق لأحزن، كما أني لا أحب الحزن!
ولكن رامون كان منشغلًا بأفكاره عن مزاحها؛ فقد عرف أنه سرقها من الله، ولا ريب أن الله يغضب لسرقة هذه الفتاة الجميلة، ذات العينين الزرقاوين، وقد غلى دمه في عروقه؛ إذ فكَّر في غضب الله، وفي تلك اللحظة نطق رامون بوعده لله:
«يا ذا الرحمة، لقد استعرت ابنتك الصغيرة، إن الدنيا لفي حاجة إلى الجمال والسرور، وهي جميلة، ولكن سأرجعها إليك في يوم من الأيام، أنا «رامون سانشيه» أعد بذلك مقسمًا بدم والدتي.»
نطق بهذا الوعد مرة ثانية وهما في الطريق لما عقد عليهما الكاهن، وهكذا صارت «الفراشة الراقصة» شريكة حياة «رامون سانشيه» الراقص الإسباني الكبير.
وتجولا من مملكة إلى أخرى يرقصان معًا في سبيل الشهرة، وأخيرًا رجعا إلى بلدهما، وكان رامون يراقب الفراشة باهتمام غريب، ويرجع هذا إلى حبه وإلى وعده، فكانت هي لا تتحمل أعباء المسئولية عن نفسها، وكانت ميالة إلى المخاطرة تعتبرها ضربًا من ضروب التسلية، وكانت مغرمة بالجواهر والأحجار الكريمة، ولَكَمْ كانت تحب أن تشارك الجمهور المزدحم الذي ينتظرها على باب المسرح كلَّ ليلة في سروره ومزاحه، إلا أن رامون لم يسمح لها بذلك.
وحدث مرة أن رأى دبوسًا ماسيًّا على صدرها، فهجم عليها وانتزعه منها بقوة، وقال لها محذرًا: هذه الأشياء ليست لك يا روزا، فإنها تهدى ليطالَب بثمنها، وهو شبابك وابتساماتك.
فقالت له بحزن عميق: أوليس لي شباب وابتسام يا رامون؟
ذعر عندما أجابته بذلك، فهل استعارها من الله لذلك الغرض؟ وإذا استمر الحال على هذا، فهل يتمكَّن من إرجاعها؟ وهل يتقبلها الإله ثانية إذا هي فعلت ذلك؟
وفي المرة الثانية، وجدها تقبل هدية ثمينة من الحلي، فضربها ضربًا مبرحًا بسوطه، وأخيرًا زحفت إلى رجليه، ومسحت خديها على حذائه؛ دليلًا على الخضوع والطاعة، فرفعها بين يديه وقبَّلها وقال لها: إني أؤلم جسدك لأصلح نفسك، فقالت له: كنت أود ألا يكون من الضروري أن تصلح نفسي لهذه الدرجة، فقد أكون مستريحة يا رامون!
وهنا وضح لها لأول مرة، لماذا يجب أن تكون نفسها نقية إلى هذه الدرجة، فقالت: عندما أكبر في السن يجب أن أرجع، وأذهب بعيدًا عن هذا العالم المضيء، الذي أحببته هذا الحب، حيث يقص شعري وألبس السواد، ولا آكل إلَّا العيش القفار، ولا أشرب غير الماء، آه يا رامون ما أقساك! فقال لها: لقد وعدت بذلك يا روزا.
فسكتت خيفة سوطه، إلَّا أن الزوبعة ثارت في قلبها، وقد بدأت تعرف الحقيقة من ذلك الوقت، فكانت تحذر رامون وتراقبه خيفة أن يغدر بها إذا لاحظ منها شيئًا، وقد انصهر ذلك الحب الذي كانت تبادله إياه لما عرفت حقيقة أغراضه وأصبحت الرابطة الوحيدة بينهما هي رابطة الرقص.
ومر الزمن وكانت شهرتهما آخذة في الانتشار، وكانت روزا تطلب من الله أن يخلصها من رامون، فكان يظهر أثر ذلك في عينيها الزرقاوين. أما في عينيْ رامون السوداوين فكان يظهر الإصرار على تنفيذ ما وعد به، ولما كانت روزا صغيرة أجيبت صلاتها.
كان «فرنون سيلي» شابًّا جميلًا، وكان يذهب كل ليلة إلى المسرح ويجلس في نفس المحل الذي تعوَّد أن يجلس فيه، يأمل نظرة من «الفراشة»، وكان يرسل إليها كلَّ ليلة باقةً من الزهر الأحمر، وفي داخلها كلمة صغيرة، فكانت روزا تتقبَّلها منه بالشكر.
وكانت تخفي الورقة داخل ثوبها قبل أن تقدم لرامون الورد، وبالرغم من عناية رامون بمراقبتها، تمكَّنت من مقابلة «فرنون»، وتمكنت من التحدث إليه والجلوس معه مدة طويلة، حتى تجاسرت يومًا، وطلبت منه أن يأخذها بعيدًا عن رامون، قائلة: لقد سرقني هو فاسرقني أنت الآن!
وقد أخبرته بفرارها من حديقة الدير، ولم تخبره بزواجها من رامون، وأخيرًا وافقها فرنون على الفرار مدفوعًا بنَزَق الشباب، فقالت: ولكن يجب أن تأخذني بعيدًا عن رامون، رامون القاسي.
وحدَّدا ليلة الهرب، وعيَّنا لها ميعادًا بعد انتهاء العمل تلك الليلة، وكان على روزا في تلك الليلة أن تلبس رداءً فوق رداء الرقص وتذهب توًّا إلى سيارة تنتظرها خارج المسرح فتركبها، غير أنها سألته: وهل يجب أن أترك جواهري الثمينة؟ آه، جواهري وردائي الذهبي …!
فأجابها: سأشتري لك غيرها، فأنا لا أرتاح إلى نظرات ذلك الرجل، وآمنُ لنا أن نتركها؛ فإنه خطر، فردت روزا قائلة: ولكنه سهل الانخداع؛ فهو غبي!
وقد ابتدأت فعلًا تهرِّب جواهرها الثمينة إلى المنزل الذي كانت تقابل فيه فرنون، وتجاسرت يومًا أن تصرح أمام رامون قائلة: هل تظنُّ أني أرجع للدير يومًا ما؟ كلا …
ولكنها تذكرت فجأة فرقعة سوطه فسكتت، واستدركت قائلة: إني في حالة رديئة اليوم، فاعذرني يا رامون.
وابتدأت ترقص؛ لعلمها أن الرقص يوقف تيار أفكاره السوداء، ولكنه قال: كان يجب عليَّ أن أرسلك قبل الآن، يظهر أني تأخَّرت روزا، أين الرداء الذهبي؟ وكانت تتوقع هذا السؤال قبل تلك اللحظة، فأجابت: لقد أرسلته لينظَّف.
– وأين عقد الجواهر؟ أجابت: قطع خيطه فأرسلته ليصنع له خيط جديد.
فسكت. وفي تلك الليلة لما وصل إلى المسرح وكانت روزا قد سبقته، أوقفه خادم الباب وكان إسبانيًّا، وقال له: إني آسف «يا سنيور» رامون؛ لأن «السنيورا» ستفارقنا؛ فقد أرسلت كل أشيائها، وا أسفاه كم كانت لطيفة شفوقة …
ذهل رامون من هذا الخبر، ورجع إلى غرفة روزا، وبحث ونقب؛ فوجد أن رداءها الذهبي وعقد اللآلئ، وكل الأشياء الثمينة الأخرى التي أهداها إياها مفقودة، فكظم غيظه وحنقه، ولما رجع قال لخادم الباب: نعم يا بدرو، ستتركنا «السنيورا».
وأسرع فرأى روزا تنتظره بفروغ صبر، فقال لها: إنك نافذة الصبر هذه الليلة يا روزا، فالتفتت إليه برعب، ورأت تغيُّرًا في لهجته وشكله، فقالت: لقد تأخرنا …
ثم ذكرت أنها ستكون بعد مدة وجيزة حرة من رامون وسوطه، فترى أشياء تمنَّت رؤيتها من زمان بعيد بعيد، وتصورت نفسها في اليخت إلى جانب «فرنون».
ولم يتكلم رامون كثيرًا في تلك الليلة، ثم صدحت الموسيقى معلنة ابتداء رقصهما، والآن وقد قربت ساعة الفرار شعرت بالخوف يدبُّ في قلبها لسبب خفي، وكادت تقع في أول الرقص، ولم يتقدم رامون لمساعدتها، بل كانت عيناه تحدقان في الفضاء، لكم كان هذا الموقف مخالفًا لموقفهما في أيامهما الأولى قبل أن يصمم رامون نهائيًّا على منعها عن العالم! مسكين رامون؛ ربما حزن لفقدها، وربما حزنت هى الأخرى لفقده — ولو قليلًا — ولن يمكن لأي إنسان أن يرقص معها مثل رقص رامون، وسيحزن «بدرو» خادم الباب المسن لفقدها، فيجب أن ترسل له هدية؛ كل هذه الخواطر كانت تدور في مخيلتها في تلك الساعة. وهنالك في «اللوج» أمامها كان «فرنون» جالسًا، وستذهب إليه سريعًا فترتمي بين ذراعيه، بلا معطف يُخفي رداءها الأحمر.
وأرادت أن تُخفي اضطرابها؛ إذ ميزت خطأها لما رأت هدوء رامون، ولكن إذا كان رامون قد عرف فهل يكون في مثل هذا الهدوء؟ ثم وجدت رامون يتبعها بنظرات كلها سخرية؛ فارتعبت لما رأت نظرته، فقد كانت نظرة قاسية سوداء، وأخيرًا … شكرت الله إذ سمعت التحويل الموسيقي الذي كان ينبئ بانتهاء الرقص؛ ستكون السيارة معدة عند باب المسرح، واليخت عند الميناء.
•••
وعند انتهاء الرقص سمحت لرامون أن يمسكها؛ فطعنها بالخنجر بدلًا من أن يُتِمَّ الرقص.
وفي تلك اللحظة — بينما هي تستودع الحياة — تقابلت عيناهما؛ فأيقنت أنه عرف كل شيء! إذن فلم يكن لها ذلك اليخت المنتظر في الميناء! ولم يكن لها ذلك الشاب المنتظر الذي يريد أن يتمتع بالحياة والحب! لم يصبح لها الرداء الذهبي أو عقد اللآلئ! هذه هي النهاية التي رأتها في عينيْ رامون التي كانت تحدِّق فيهما؛ فاهت بأنين.
– رامون!
فقال لها بصوت يفيض عطفًا وحنانًا: موتي، أي زهرة الإسبان اليانعة، لقد رددتك لله!
تأوهت لما سمعت لهجته التي لم تكن تعهدها؛ بكت ثم بكت، وكان المنظر محزنًا، فقد قتل رامون كل ما يحبه في الحياة، قالت: الوداع يا رامون؛ إني أموت.
ثم سقطت على الأرض والدماء تتفجَّر من جرحها البالغ؛ فقام الحاضرون يصرخون ويصخبون، وقد صُبِغ وجه الفراشة الراقصة بالدماء.
وهناك جلس فرنون سيلي في «لوجه»، وقد وضع وجهه بين يديه يبكي كالأطفال!