رحلة تجريبية
لم أعد أعرف في أي يوم نحن. فقد أثَّرَت نوباتُ الحراسة هذه على إحساسي بالوقت.
في الأيام القليلة الأولى، كان كلُّ اثنين منا يتولَّيان الحراسة (وكنتُ أتولى الحراسة مع الخال دوك)، وكانت كلُّ مُناوَبة تستمرُّ أربع ساعات، ثم نستريح ثماني ساعات، ثم نعود للحراسة مدةَ أربع ساعات أخرى. إن أربع ساعات وقتٌ طويل، خاصةً في الليل، عندما تكون كلُّ عضلة في جسمك مشدودة، ما بين السمع والمراقبة. الجميع نائمون في هذا الوقت، وأنت تعلم أن مسئوليةَ حمايتهم تقع على عاتقكما أنتما فقط.
لا يوجد هنا نهار ولا ليل ثم يأتي يوم جديد. بل توجد درجات من النهار ودرجات من الليل، تمتزج وتتبدل. يبدو الأمر كسيل طويل من الزمن يتكشف أمامك وحولك. لا يوجد أمس ولا قبل أمس، وهو شيءٌ غريب؛ لأن في هذه الحالة ما هو الغد؟ وما الأسبوع الماضي أو السنة الماضية؟ وإذا كان لا وجود لأمس أو السنة الماضية — أو عشر سنوات مضَت — فهذا يعني أنه لا يوجد سوى «الآن»، لا يوجد غيرُ لحظةٍ راهنة واحدة ضخمة.
هذا يجعلني أشعر باستغرابٍ شديد، كما لو كان بإمكاني أن أقول: «عمري أربع سنوات الآن»؛ وبذلك أستطيع العودة طفلةً في الرابعة مرةً أخرى. ولكن هذا غيرُ ممكن. غير ممكن حقًّا. هل يمكن أن يكون ذلك ممكنًا؟
•••
ظللنا نُبحر عبر خليج مين باتجاه جزيرة جراند مانان في خليج فندي، غرب نوفا سكوشا مباشرة. يُطلق الخال دوك على الرياح «المرأة المُتقلِّبة المزاج»؛ لأنها تهب بشكلٍ متقطع. أمس (ما زلتُ أستخدم كلمات مثل «أمس»؛ لأنني لا أعرفُ طريقةً أخرى للحديث عن أشياءَ حدثت في الماضي)، عندما عمَّ الضباب الأجواءَ مُدةً، نظَم الخال دوك قصيدةً عن الضباب وهو يزحف على أقدامِ قطط صغيرة، وما إن انتهى، حتى تجلَّى لي ما قاله تمامًا عندما حدَّقتُ في الضباب الرمادي؛ رأيتُ مئاتٍ من أرجُلِ قططٍ صغيرة تمشي على رءوس أصابعها. ولاحقًا، عندما تدفَّق الضباب في كتلٍ أكثر عمقًا وسوادًا، تخيلتُ أرجُلَ نمورٍ كبيرة تثبُ نحونا؛ أرجل نمور رشيقة ناعمة مكسوَّة بالفرو.
أمضيتُ يومًا حزينًا بلا رفيق عندما كنتُ في نوبةِ الحراسة أحدِّق في كل هذا الضَّباب الرمادي، وفجأةً انتابتني رغبةٌ في عدم مغادرة سواحل أمريكا الشمالية، رغبة في الإبحار عبر المحيط، في أن أبتعد تمامًا عن اليابسة. لكن لم يكن عندي متَّسَع من الوقت للحزن؛ إذ هبَّت الرياح بشراسة من الشمال، وهو ما يعني أنه كان علينا القيام بكثير من أعمال توجيه في مواجهة الميَلان والتعرُّج. كانت الأمواج عاتية — من ستِّ أقدام إلى ثمانٍ — أو على الأقل هذا ما رأيته، لكن الخال ستيو أطلَق عليها أمواجًا صغيرة.
سألني الخال ستيو: «هل أنتِ خائفة يا صوفي؟» وشعرتُ كما لو كان يتمنَّى لو «كنت» خائفة؛ لذا أجبتُ قائلةً: «لا، لستُ خائفةً على الإطلاق. ليس لديَّ ولو ذَرة من الخوف.» «كنتُ» خائفة، ولكني لم أُرِد أن يعرف ذلك.
•••
عمَّت الفوضى بالأسفل. فقد كان دوري أنا وكودي في إعداد طعام الغداء، وبعثَرْنا الطعام في جميع أرجاء المكان.
صرَخ كودي بينما كانت محتويات القِدر الساخنة تتبعثر على الجانب: «انتبهي إلى شراع صاري القِدر الخلفي! ارفعي المِغرفة!»
قلت له: «هلا كفَفتَ عن المزاح؟».
ألقى صَدفةً في الحساء مباشرة. ثم قال: «يا إلهي، سيُطالبني الجميع بذلك عاجلًا أو آجلًا.»
أعتقد أنه موضوع حساس.
•••
واجَه القاربُ بعض المشكلات في أول رحلة تجريبيَّة له ما بين تسرُّبات في المقصورة الخلفية ومياه في الحوض المجمَّع. أمضينا كثيرًا من الوقت نتحسَّس طريقنا ببطء بحثًا عن أيِّ مشكلات تحتاج إلى إصلاح، ثم محاولة إصلاح أيِّ خلل. كنا قد تمكَّنا حتى الآن من سدِّ كل مصادر التسريب. لا تشعر بالقلق كثيرًا عندما تعلم أنه يمكنك الوصولُ إلى اليابسة في غضون ساعة أو اثنتين إذا اضطُرِرت إلى ذلك، أو عندما يكون هناك ما يكفي من القوارب من حولك بحيث يمكنك طلبُ المساعدة بسهولة، ولكن بمجرَّد الانطلاق من نوفا سكوشا، ماذا سنفعل إذا حدث تسرُّب كبير؟
لا أريد أن أفكر في ذلك. أفضِّل التفكير في دلالات الفأل الحسن: لقد زارتنا الدلافينُ ثلاثَ مرات! إنها تأتي في مجموعات من أربعة أو خمسة وتسبح بجانب القارب. عادةً ما تأتي عندما نُبحر بسرعة، وتنطلق بجانبنا سريعًا هي الأخرى. يبدو الأمر كما لو كانت تُسابقنا. إنها تظهر أمام مقدمة القارب، منطلقةً إلى الخلف وإلى الأمام تحت الماء، على بُعد بضع بوصات فقط من جسم السفينة.
إنها أروعُ مخلوقات رأيتُها في حياتي، تتحرك في انسيابية في الماء دون أي جهد ظاهر، ثم تتقوَّس على السطح وترفع زعانفها وظهورها خارج الماء.
يَدْعوها كودي «الأعزاء». «هنا، أيتها الدلافين الأعزاء! هنا!»
أشعر دائمًا بقليل من الحزن عندما تسبح بعيدًا في النهاية وينادي كودي: «وداعًا أيتها الدلافين الأعزاء! وداعًا!»
•••
قُمنا بتغيير نظام النوبات لتكونَ على عاتق ثلاثةِ أشخاص خلال عاصفة الضباب (كودي معنا حاليًّا). أنا جالسةٌ الآن متدثِّرة بملابسي الدافئة المناسبة لهذا الطقس السيِّئ، أشاهد شروق الشمس أمامنا والقمر يختفي من الأفق من خلفِنا. أنا متعَبة ومبلَّلة وبحاجةٍ ماسَّة إلى الاستحمام، لكنني في الجنة.
أتعلم الكثير كلَّ يوم، وكلما تعلمتُ أكثر، أدركت أنه ما زال هناك كثير وكثير ممَّا عليَّ معرفتُه عن الإبحار، والمياه، والملاحة، والطقس. اليوم أعطانا الخال ستيو درسًا في قراءات جهاز السدس. إنه أصعبُ مما توقَّعت، واستمرَّ الخال ستيو وبراين يُوبِّخانني أنا وكودي، ويخبراننا أننا لن نقوم بمهامِّ عملنا ما لم نتعلم كيفيةَ القيام بكل هذا؛ لأن حياتهم قد تتوقَّف علينا نحن الاثنان.
قال كودي مازحًا: «من الأفضل أن «تتمنَّوا» ألا تتوقف حياتكم عليَّ أنا وصوفي.»
حينئذٍ جُنَّ جنون الخال ستيو. «ليس كل شيء قابلًا للمزاح يا كودي، وإذا حدث أيُّ شيء ونحن في وسط المحيط، فستدعو أن يكون جميعُ مَن على القارب بإمكانهم إنقاذُك إذا حدث شيء. على الأقل يُمكنك أن تفعل الشيء نفسَه معنا.»
قال كودي وهو متجه إلى أسفل: «أجل، أجل، أجل، أجل، أسمعك.»
حتى الخال دوك بدا منزعجًا من كودي هذه المرة. قال: «آمُل بالتأكيد أن يكون الصبيُّ جادًّا بشأنِ شيءٍ ما.»
•••
رأيتُ حلمًا الليلة الماضية (أم في العصر؟ أم الظهر؟ أم الصباح؟ أم اليوم السابق؟) أننا انجرفنا في المحيط بلا طعام، وكنا جميعًا نُعاني على سطح القارب بلا طاقة لفعل أيِّ شيء، وكان القارب يتقلَّب ويتمايل، ثم ظهر طائرُ نورس يطير فوقنا، وهبط على عارضةِ الصاري، وقال براين: «اقتلوه! اقتلوه!»
•••
الساعة الآن نحو الثانية بعد الظهر، وبزَغَت الشمس من بينِ السُّحب، ونحن الآن على بُعد نحو ستة وثلاثين ميلًا من جراند مانان. نأمُل أن نصل إلى هناك قبل الغروب. لقد حانت نوبةُ حراستي الآن؛ لذا من الأفضل أن أَشغَل نفسي بشيء.