جراند مانان
وصلنا إلى سيل كوف على جزيرة جراند مانان عند غروب الشمس — أكان هذا أمس؟ — بينما اصطبَغَت السماء بخيوط من اللونَين الوردي والأرجواني الفاتح. يا لها من جنة!
أحسب أن للخال دوك مَعارفَ في كل مكان. ففي طريقنا إلى سيل كوف، تواصل الخال دوك مع القائم على الساحل عن طريق الراديو، الذي تواصل بدوره مع صديق لدوك، يُدْعى فرانك، وعندما بلَغْنا بوابة الميناء، كان فرانك في انتظارنا للمساعدة في إرشادنا للدخول إلى الميناء. كانت الميناء بالداخل عبارةً عن حاجزٍ ضخم، مثل حِصن، وكان قاربنا هو القاربَ الشِّراعي الوحيد الذي ينطلق إلى داخل الميناء المكتظ بقواربِ الصيد المتراصَّة في ثلاثة صفوف وأربعة كما لو كان الميناء مرأبًا للسيارات داخل إحدى المدن الكبيرة. حملَنا فرانك في شاحنته الصغيرة مصطحبًا إيانا إلى بيته الذي يقع على بُعد بضعة أبنية من الميناء، والتقينا بأسرته وأخذنا نترنَّح مثل مُهرِّجين مصابين بالدُّوار على أقدامنا المتمايلة التي اعتادت البحر.
بدأتُ الاهتمام فعليًّا هنا بالأسماك والصيد. فهذا شيء لا يُمكن مقاومته؛ فالجميع هنا له علاقة بطريقة أو بأخرى بالأسماك. البعض يصطاد سرطان البحر أو سمكَ البولوك أو الرنجة، والبعض الآخر يعمل في مصانع تعليب السردين والرنجة. أسماك، أسماك، أسماك في كل مكان!
ذهبنا جميعًا اليوم بصحبة فرانك لنصطاد سرطان البحر على متن قاربِ الصيد الخاصِّ به، «فرانكس فورت.» كان فرانك قد اشترى هيكل القارب وقام ببنائه بنفسه. يروقني قيامُ الأشخاص بأشياء مِثل هذه؛ حين يُحولون أشياءَ قديمةً متداعية إلى شيءٍ رائع!
لا يروق ذلك لبراين. فقد قال لي: «لا تُبالغي يا صوفي. إنه مجرد قارب.»
مجرد قارب! إن الأمر قد يستغرق منك أشهُرًا كي تنتهيَ من تفقُّد هذه القوارب. سوف تجد أوعيةً تحتوي على طعوم الصيد، وحاوياتٍ مليئةً بسرطان البحر، وعُصابات لوضعها على مَخالب سرطان البحر، وخراطيم وشِباكًا وأشياء أخرى تُغطيها إفرازاتُ الأسماك اللزجة والأعشاب البحرية. ربما أعمل في صيد سرطان البحر يومًا ما؛ من يعلم؟
قال كودي: «كيف تُحبين كلَّ هذه الأشياء يا صوفي؟»
قلت: «حسنًا، ألا تُحبها؟». وأضفت: «ألا تحب أن تتخيَّل كيف ستكون حياتك إذا أصبحتَ مثلًا صيادًا؟ حينئذٍ سوف تشمُّ رائحة البحر طوال اليوم …»
قال: «ورائحة السمك أيضًا. قد تُصيبك رائحة السمك بالغثيان.»
«أو ربما ترى أنها أزكى رائحةٍ شممتها على الإطلاق. قد تُحب الإحساس بالهواء طوال اليوم والتعامل مع الأسماك و…»
قال «لا بأس يا صوفي. بإمكانك أن تُحبي هذه الأشياء كما تشائين.»
وجدنا بعض المصائد التي أخرَجناها من البحر فارغة، ولم يتبقَّ من الطُّعم سوى هيكلٍ عظمي لسمكة رنجة بيضاء ثلجية لم يمَسَّه أحد.
سألت: «أين الطُّعم؟».
قال فرانك: «براغيث البحر. إنها توجد في كل مكان، وهي صغيرةُ الحجم إلى أقصى درجة، وتكاد تكون غيرَ مرئيَّة. إنها تحب الطُّعم الذي نضعه. إذا سقطتَ من القارب ولم نُخرجك من الماء حتى اليوم التالي، فسوف تلتهمُك هذه البراغيث، وسوف يغوص هيكلك العظمي في القاع!»
رفعَني كودي، وجعلني أتدلَّى من جانب القارب. قال: «أتحبين أن تُجربي؟».
قلت: «هذا ليس مضحكًا يا كودي.» لم أُحبَّ فكرة أن تقوم براغيث البحر بالتهامي حتى لا يتبقى مني سوى العظام.
كانت إحدى إناثِ سرطان البحر تحمل بيضًا، كان عبارةً عن ملايين من حبوبٍ برتقالية (أسماها فرانك بَطارخ) مجتمِعة في شكلِ عناقيد على الجانب السفلي من ذيلها وحتى رأسها.
قذفها فرانك في المياه وقال: «يجب أن تعود هذه الجميلة إلى المياه حتى تستكمل الدورة.»
وانتابني شعورٌ غريب، بينما أفكر كيف أنَّ أنثى سرطان البحر قد نجَت بحياتها بإلقائها في المحيط، في حين أنه كانت ستُصبح تلك هي النهاية بالنسبة إليَّ لو أنا مَن أُلقيتُ في المحيط.
•••
اتصلتُ بالمنزل الليلةَ الماضية. سألَتني أمي نحو مليونَي سؤال: «ما شعورك؟ هل شعَرتِ بدُوار البحر؟ هل تشعرين بالدفء؟ هل أنتِ في أمان؟ هل أنتِ خائفة؟ هل تشعرين بالوحدة؟» وأخيرًا، أخذ أبي الهاتف وقال: «يا لها من مغامرة! يا لها من مغامرة مذهلة!»
كنتُ أشعر أنني بخير حتى تحدَّثت معهما. فقد بثَّت أمي في نفسي شعورًا بالقلق وعدم الارتياح، كما لو كانت تتوقَّع حدوثَ شيء مريع. ظلِلتُ أخبرها أن كل شيء يسير على ما يُرام، وأنه لا داعيَ للقلق، ولكن عندما حان الوقتُ لأقول وداعًا، استطعتُ بالكاد أن أتفوَّه بها. فهي تحمل إيحاءً بالنهاية. لذلك كان عليَّ أن أقول: «وداعًا الآن»، وظلِلتُ أردِّد «الآن» حتى قامت هي بترديدها، فاطمأنَّ قلبي.
قالت والدتي أيضًا إنها اتصلَت ببومبي لتُخبره بقدومنا، وقد «بدا من صوته أنه مُشوَّش تمامًا.»
سألتها: «ماذا يعني هذا؟».
«يبدو أنه لم يعرف هُوية المتصل في البداية، وجعل يدعوني مارجريت.»
«مارجريت؟ من تكون مارجريت؟»
«جدتك. أمي. زوجته. لقد جعلني قلقةً عليه، ولكنه بعد ذلك عاد إلى طبيعته وقال إنه بخير، وإنه كان يمزح فقط، وكان متحمسًا جدًّا لزيارتكم.»
قلت: «حسنًا، إذن. هذا جيد، أليس كذلك؟»
قالت مؤيدةً إياها: «نعم، هذا جيد.»