بومبي والقطار
اليوم بينما كنتُ متذمرًا من كوننا عالقين في جراند مانان، قالت صوفي: «لقد قال لي بومبي شيئًا. قال لي لا يهمُّ أين نذهب، ما يهم هو كيف نذهب إلى هناك.»
قلت لها: «حسنًا، نحن لسنا ذاهبين إلى أيِّ مكان، أليس كذلك؟»
قالت: «بالتأكيد نحن في مكانٍ ما!». وأضافت: «نحن الآن هنا على هذه الجزيرة الرائعة. لقد قمنا بصيدِ سرطان البحر، وسوف نذهب لجمع المحار. كلُّ هذا جزءٌ من الرحلة! نحن رحَّالة!»
لا أستطيع فَهْم صوفي. فبإمكانها أخذُ أصغرِ الأشياء، مثل مصيدة سرطان البحر، والاقتراب منها وطرحُ ملايين الأسئلة عنها، ثم تريد أن ترسمها وتلمسها وتشمَّها، حتى إنك قد تعتقد أنها كانت حبيسةَ قفصٍ طيلة حياتها وأُخرِجَت منه للتو، وتكتشف كل هذه الأشياء الرائعة من حولها.
وأصدُقُكم القول، لم أكن أرى سرطانات البحر ولا مصائدها أشياء مدهشة إلى هذا الحد، إلا عندما تحمَّسَت صوفي لها هكذا. لقد استمرَّت في إخبارنا كيف أنها قد تُصبح صيادةً لسرطان البحر، أو ربما ستعملُ في تشييد القوارب. عندما تستمع لحديثها تبدأ في التفكير في أنَّ مثل هذه الحياة قد تكون رائعةً وبسيطة.
ثم تستمع إلى براين، الذي يقول إن مثل هذه الحياة ستكون بشعةً في فصل الشتاء، وماذا لو لم تنجح في اصطيادِ أي شيء، وماذا لو قمت ببناءِ قارب ثم غرق؟
عندما أستمع إليهما، أشعر بالحيرة.
لقد بدأتُ أشعر بشيءٍ آخَر أيضًا. أظن أن صوفي تخشى الماء. لكنه مجردُ إحساس.
•••
لا يزال براين يُثير ضيقَ صوفي. فبينما كنا نجمع المحار، قالت صوفي إنها عندما كانت تقوم بجمع المحار مع بومبي مرةً، وجدا المحار باستخدام أصابع أقدامهما وليس باستخدام مدمة جمع الأعشاب. فقال براين: «هذا كذب. فأنتِ لم تذهبي لجمع المحار مع بومبي قط من قبل.»
قالت صوفي: «بل قد فعلنا.»
قال براين: «لم تفعلا.»
قالت صوفي: «بل فعلنا.»
•••
استخدمنا الهاتف ليلةَ أمس. وكان هذا غريبًا. اتصلَ أبي بأمي ووبَّخها قليلًا قبل أن يُعطيني الهاتف. قالت بصوتها الخفيض: «كودي؟ حبيبي كودي؟ يمكنُك تغييرُ رأيِك إذا شئت. يمكنك العودة إلى الديار.»
قلت: «ولماذا سأرغب في العودة؟». لم أقصد أن أتكلم بهذا الأسلوب الجاف، لكني أعتقد أنها اعتبرَته كذلك؛ إذ أجهَشَت بالبكاء. قلتُ لها: «اسمعي يا أمي. كل شيء على ما يُرام. نحن جميعًا بخير. أبي ينام كثيرًا؛ لذا فهو لم يعُدْ يُزعجني كثيرًا مؤخرًا.»
لم تكن هذه هي الحقيقةَ بالضبط، لكن أمي لا تُحب سماعَ الحقيقة. ما زلتُ أتساءل لماذا دعاني أبي لهذه الرحلة من الأساس. كان بإمكانه الذَّهابُ بمفرده، وحينها كان سيقضي شهرًا كاملًا أو أكثرَ بعيدًا عني. بلا مضايقات على الإطلاق!
•••
من فوائد أن نكون عالقين على اليابسة الآن هو عدمُ تلقِّينا دروسَ براين المليئة بالتُّرَّهات.
لكن صوفي قصَّت علينا حكايةً أخرى من حكايات بومبي عندما كنا نجمع المحار. كانت القصة كالآتي:
•••
عندما كان بومبي في نفس عمري تقريبًا، كان يعيش بالقرب من نهر أوهايو، في مكانٍ كان فيه النهر عميقًا جدًّا، وكان عرضه يبلغ ميلًا. كان يقطع النهرَ خطٌّ للسكك الحديدية، وكان مُخصصًا للقطارات فقط، وكان المكان يعجُّ باللافتات التحذيرية من السير على هذا المسار؛ حيث لا يوجد منفذٌ للهرب حالَ مرور أحدِ القطارات.
وفي يومٍ من الأيام أراد بومبي عبورَ هذا النهر. كانت لديه رغبة شديدة في الذَّهاب إلى الجهة الأخرى. كان الجوُّ عاصفًا وممطرًا، ولم يشأ أن يسير مسافة ميلين حتى يبلغ جسر المشاة. لذا بدأ بالسير على خط السكك الحديدية.
يجب أن تسمع صوفي وهي تروي هذه الحكاية. تشعر وكأنك هناك مع بومبي، تنظر للأسفل إلى ذلك النهر وتهبُّ الرياح في وجهك، وتتساقط قطرات المطر على عنقِك وداخل قميصك.
ظلَّ بومبي يسير عبر الجسر حتى وصل إلى منتصفه، تخيَّل ماذا سمع؟ حسنًا، لقد توقَّعت ما سيسمع في اللحظة التي قالت فيها صوفي إنه سيسير على خطِّ السكك الحديدية. لقد سمع صوت القطار. وصفَت صوفي القطار وهو قادم بصوته الهادر مِن بعيد، وكان بإمكانك الشعورُ بالاهتزازات على القضبان، ورؤيةُ بومبي ينظر إلى الخلف وهو يعلم أن القطار على وشك الظهور في الأفق، واجتياز المنحنى في أي لحظة.
كان بومبي في منتصف الجسر. بدأ في الركض تجاه نهاية الجسر، وهو يقول لنفسه: «أسرع، أسرع!»، لكن الصخور الموجودة على جانب القضبان كانت زَلِقة، ووجد صعوبةً في الاحتفاظ بتوازنه، ولم يستطِع أن يُسرع. اقترب القطار، وتعالى صوته الهادر أكثرَ وأكثر، وشعر بومبي بتلك الاهتزازات حتى وصل القطارُ الكبير الأسود، مندفعًا بقوة إلى المنحنى، وكان في طريقه إلى الجسر ذي الحوامل.
أدرك بومبي أنه لن يستطيع أن يصل إلى الجانب الآخر في الوقت المناسب. فتسلَّق حافَةَ الجسر، وضغط جسده بين الدعامات الصُّلبة حتى خرَج وتدلَّى بجسده من جانب الجسر. كانت المياهُ موحِلةً وبُنِّية اللون، وكانت بعيدةً جدًّا وتدور في دوَّامات.
وجاء القطار بصوته الهادر المرتفع مندفعًا في اتجاه بومبي، ثم قفز وسقط عميقًا في المياه ذات الدوامات.
حينئذٍ توقَّفَت صوفي عن الكلام ونظرت إلى كلٍّ منَّا.
تساءلنا جميعًا: «حسنًا؟». وأردفنا: «حسنًا؟ وماذا حدث بعد ذلك؟»
قالت صوفي: «تكبَّد بومبي مشقةً بشعة. فقد غاص في ذلك النهر العميق الموحِل. وأدرك أنه هالك لا محالة.»
سألنا: «حسنًا؟ ماذا حدث بعد ذلك؟».
روَت كيف أن بومبي صعد أخيرًا إلى سطح المياه، وكان مسرورًا جدًّا لرؤية السماء حتى إنه استلقى طافيًا على ظهره على سطح المياه وهو يبكي ويضحكُ في آنٍ واحد، وكان التيار يدفعه عبر النهر، فطَفا وشاهد القطار وهو يمر، وأخيرًا انقلب وبدأ في السباحة كالمجنون، وأخذ يسبح ويسبح حتى وصل إلى الشاطئ.
وعندما عاد إلى المنزل، جلَده والدُه لابتلال ملابسه واتِّساخها بالطين، بينما أعطته والدتُه فطيرة تفاح.
•••
عندما انتهت من سردِ هذه القصة، قال براين: «أظن أنك قلت إن براين تَرعرع في إنجلترا.»
قالت صوفي: «لم أقل ذلك. قلتُ إنه وُلِد في إنجلترا. لكنه غادرها عندها كان صغيرًا جدًّا. في سن الخامسة على ما أظن.»
قال براين: «هاه!».
قالت صوفي: «ألا تعرف أي شيء عن جدك؟».