ثلاثة وجوه
لستُ دائمًا تلك الفتاةَ الحالمة التي تستمع إلى همس البحر وهو يُناديها. أبي يطلق عليَّ صوفي ذاتَ الوجوه الثلاثة؛ وجه حالم ورومانسي، وآخَر منطقي وواقعي، وثالث شديد المِراس ومندفع. إنه يقول إنني إما أن أحلِّق في سماء الأحلام، أو أعيش في دنيا الواقع، أو أسكنَ أرضًا تعجُّ بأناسٍ يتَّسمون بالعناد الشديد، وإذا حدث وجمعتُ بين الوجوه الثلاثة معًا، فسأكون مستعدَّةً لذلك تمامًا، وإن كنتُ أتساءل عن المكان الذي سأكون فيه إذا حدث ذلك. فإن لم أحلِّق في سماء الأحلام، ولم أعِش في دنيا الواقع، ولم أسكن أرضًا تعجُّ بأناسٍ يتَّسمون بالعناد، فأين سأكون؟
يقول أبي إنني أُشبهه إلى حدٍّ كبير في الجانب العقلاني من شخصيتي، وإنني قد ورثتُ وجهي الحالم من أمي إلى حدٍّ كبير، وهذا ليس من العدل في شيء. فأبي يحبُّ أن يرى نفسه رجلًا منطقيًّا، في حين أنه هو من يتفحَّص صور البلاد الغريبة، ويقول أشياءَ على غِرار: «يجب أن نقوم برحلة سفاري!» و«يجب أن نُحلق في الهواء في مِنطاد الهواء الساخن.»
وعلى الرغم من أن أمي عاملةُ نسيج تنسج الأقمشةَ الحريرية وترتدي الملابس المزركَشة بالزهور، فإنها من تُزوِّدني بكتب لتعليم الإبحار، وتُشجعني على دراسة قواعد السلامة في المياه والتنبُّؤ بالطقس، وتقول لي أشياءَ على غِرار: «نعم يا صوفي، لقد علَّمتُك الإبحار، ولكن هذا لا يعني أنني أستسيغ فِكرةَ إبحارك بمفردك. أريدك أن تَبقَي بالمنزل. هنا. معي. في أمان.»
يقول أبي إنه لا يعرف ممَّن ورثتُ شخصيتي العنيدة. فهو يقول إن سِمة العناد لا تَسري في دماء العائلة.
•••
أبلُغ من العمر ثلاثةَ عشر عامًا، وسوف أُبحر عبر المحيط. على الرغم من أني أرغب في السفر بمفردي! — «بمفردي! بمفردي! وأحلِّق فوق صفحات الماء» — فإنني لا أفعل ذلك. فقد راحت الشخصية العنيدة بداخلي تستجدي مكانًا على متن مركب شراعي، حجمُه خمس وأربعون قدمًا، مع فريقٍ غير متجانس يتكوَّن من ثلاثة أخوال وابنَي خال. الأخوال، ستيو ومو ودوك، هم إخوة أمي، التي قالت لهم: «إذا أصاب ابنتي صوفي أيُّ مكروه، فسوف أقوم بتعليقكم من أصابع أقدامكم.»
لا يُساور أمي القلقُ (على الرغم من وجوب عكس ذلك) بشأن تأثير ابن خالي براين عليَّ؛ إذ كان براين هادئًا ومجتهدًا وعاقلًا، لكن القلق يُساورها بشأن العادات السيئة التي قد أكتسبُها من ابن خالي الآخر، كودي. فكودي ذو شخصية صاخبة ومندفعة وجذَّابة بشكلٍ لا يجعل أمي تثقُ به. فهي تقول: «إنه جذَّاب أكثر مما ينبغي، بشكل يجعله يُشكل خطرًا.»
ليست أمي الشخصَ الوحيد الذي لا يروق له هذه الرحلة. فقد بذَل خالاي ستيو ومو قُصارى جهدِهما لِثَنْيي عن قراري بالسفر. «سوف تكون رحلةَ شباب، سنقوم بفعلِ أشياءَ خاصةٍ بالشباب، ولن يكون هذا مكانًا مناسبًا لفتاة»، و«أليس من الأفضل لك أن تبقَي في المنزل، يا صوفي؛ حتى يتسنَّى لكِ الاستحمام يوميًّا؟» و«إنها رحلة شاقة»، ومِثل هذا الهراء. ولكني كنتُ عاقدةً العزمَ على الذَّهاب، وأمسكَت شخصيتي العنيدة بزِمام الأمور، واستخدمتُ مصطلحات خاصة بالإبحار والطقس، وغمَرتُهم بسيلٍ من المعلومات التي اكتسبتُها من كتب الإبحار الخاصة بي، إلى جانب معلومات أخرى توصَّلت إليها كإضافة.
قال الخال دوك، وهو من أُطلق عليه لقب الخال الطيب؛ لأنه كان الشخصَ الذي لم يرَ أيَّ خطر في قدومي معهم: «إن لديها دراية بالقوارب تفوق براين وكودي مجتمِعَين»، فاستسلَموا.
يوجد سببان آخران لعدم تقييد أمي لي في السرير ورفضِها أن أسافر. السبب الأول هو أن الخال دوك قد أعطاها قائمةً شاملة باحتياطات الأمن والسلامة على المركب، وتشمل نظامَ المِلاحة عبر الأقمار الصناعية ونظامَ تحديد المواقع العالمي. أما السبب الثاني، وهو سببٌ غير منطقي إلى حدٍّ كبير، ولكنه يُوفر العزاءَ لأمي بطريقةٍ ما، فهو أن بومبي يعيش على الضفَّة الأخرى من المحيط.
سوف ينتهي بنا المطافُ بين أحضان بومبي، وهي تتمنَّى أن تنضمَّ لنا من أجل هذه اللحظة فقط.
بومبي هو جدي، والد أمي، ووالد أخوالي دوك وستيو ومو، وقد عاش مع والديَّ عدةَ سنوات. إنه بمنزلة أبٍ ثانٍ لي، وأنا أحبُّه؛ لأنه يُشبهني كثيرًا. فلديه ثلاثةُ وجوه مثلي، ويعرف فيما أفكر دون أن أنبس ببنتِ شَفة. إنه رجلٌ لطيف عذب الكلام وراوٍ بارعٌ للحكايات.
عندما بلغ بومبي الثانية والسبعين قرَّر العودة إلى الوطن. كنتُ أعتقد أنه في وطنه بالفعل، ولكن ما كان يقصده بالوطن هو المكان الذي وُلِد فيه، وكان هذا المكان هو «تِلال إنجلترا الخضراء المتموِّجة».
لقد جانَبَ أبي الصوابُ عندما أنكر وجودَ جينات العناد في دماء عائلتنا. فعندما قرَّر بومبي العودةَ إلى إنجلترا، لم يكن أيُّ شيء لِيَثنيَه عن قراره. لقد اتخذ قراره وانتهى الأمر، ورحل.
إلى اللقاء يا بومبي.