إشارات ضوئية
ها نحن نُبحر إلى إنجلترا وسط المحيط الأزرق الواسع المتلاحقة أمواجُه. أشعر هنا كما لو كان المحيط كائنًا حيًّا يتنفَّس، متقلِّب المزاج، بل متقلب جدًّا! فتارةً تجده هادئًا ولطيفًا كما لو كان نائمًا، وتارةً أخرى يكون مرحًا، يتناثر ماؤه وتتلاحقُ أمواجه، وتارةً يغضب وتتقاذفُنا أمواجُه. يبدو الأمرُ كما لو كان للمحيط عدةُ شخصيات، مثلي.
•••
قضينا يومَ أمس في عملٍ مُضنٍ نظرًا إلى انخلاع حلقتَي تثبيت من موضعَيهما في الشراع الرئيسي. بحث الخال ستيو وبراين عن شخص لإلقاء اللوم عليه. يبدو أيضًا أن مَن بسَط الشِّراع (يقول الخال ستيو إنه كودي، ويقول كودي إنه براين) قد نسي أن يُرخِيَ حبل الصاري، فصار أحدُ جوانب الشراع مشدودًا أكثرَ مما ينبغي، وانخلعَت حلقاتُ التثبيت في الشراع.
حلقات التثبيت. الشرائح. حبل الصاري. كنتُ أعرف بالفعل ما تعنيه هذه الكلمات، لكن كودي يأبى أن يتذكَّرها، وإذا استطاع تذكُّرَها يأبى استخدامَ الكلمات في موضعها الصحيح. فهو يُطلق على حلقات التثبيت «الأشياء ذات الثَّقب»، وعلى شرائح تثبيت الحلقات «الأشياء المعدنية»، وعلى حبل الصاري «الرباط». وأمس نشب شجارٌ كبير بينه وبين الخال ستيو عندما قال له كودي إن «الأشياء ذات الثقوب» تنخلعُ من موضعها وتخرج من «الأشياء المَعدِنية».
صاح الخال ستيو في كودي قائلًا: «ما الذي تتحدَّث عنه بحقِّ الجحيم؟». وأردف: «تبدو كالحمقى. إذا كنت لا تستطيع أن تتعلم الأسماء الصحيحة للأشياء، فأنت لا تنتمي لهذا القارب.»
قال كودي: «أنا أعرف ما أفعله، حتى لو كنتُ لا أُسمي الأشياء بأسمائها المنمَّقة.»
قال الخال ستيو في إصرار: «يوجد سببٌ لتسمية كلِّ شيء باسم.» كان يلكز كتفَ كودي بإصبعه. وأردف: «ماذا ستقول عند حدوث حالة طوارئ؟ النجدة! الشيء ذو الثَّقب غير مُحكَم؟!»
قال كودي: «توقفْ عن لكزي.»
تسبَّب جدالهما في نهوض الخال مو من سريره بالأسفل والصعود إليهما. سأله الخال ستيو: «هل تنعتُ ابني بالأحمق؟»
التفتَ الخال ستيو إلى الخال مو. وقال له: «قلت إنه «يبدو» كالحمقى في بعض الأوقات …»
«إذن، فأنت تنعت ابني بالأحمق؟ وتعتقد أن ابنك الأبلهَ أذكى من ابني؟ هل هذا ما ترمي إليه؟» ثم بدأ الخال مو في لكز الخال ستيو بإصبعه.
قام الخال ستيو بدفع الخال مو. وقال: «إن إصبع قدم براين الصغير أذكى من جسدِ كودي الأحمق برُمَّته!»
أعتقد أنهما كانا بصددِ تبادُلِ بعض اللَّكمات عندما تدخَّل الخال دوك.
قال الخال دوك: «توقفا. هذا القارب لا يتَّسع لرجلَين يتصرفان كطفلين مدلَّلَين.»
صاح الخال مو: «هل تنعتني بالطفل المدلَّل؟»
أجاب الخال دوك: «نعم.»
استنشق الخال مو دفعة من الهواء ثم نفثه، والتفت إلى كودي وقال له: «لماذا يجب دائمًا أن تتسبَّب في نشوب شِجار؟»
قال كودي: «أنا؟».
قال الخال مو: «نعم، أنت. والآن اذهب إلى أسفل وابدأ في تحضير طعام الغداء!»
لم يكن من كودي إلا أن هزَّ رأسه ونزل إلى الأسفل، وتبعه الخال مو. سمعتُهما يتبادلان الصُّراخ بعضَ الوقت، ثم ساد الهدوء، وسرعان ما أحضرا طعام الغداء لبقيَّتنا بالأعلى، وجلس الجميع حول الطعام دون أن ينظر أحدٌ للآخر، فقط تناولنا الطعامَ وحاولنا نِسيانَ المشاجرة.
•••
رأينا الشمس للمرة الأولى هذا الصباح منذ أن غادرنا جراند مانان، وكان مشهدًا مُحبَّبًا بلا شك. الشمس، الشمس، الشمس! الشمس الساطعة البديعة! أراد الجميعُ البقاء على سطح القارب لعبادة الشمس. لقد لفَّتنا جميعًا بأشعَّتِها الشديدة السطوع، ودفأتْ وجوهَنا وعِظامَنا، وجفَّفَت ملابسَنا، وألقَت بوميضها على الأمواج.
كانت أعمالُ الإصلاح التي لزم القيامُ بها أيسَر، والشمس ساطعة من فوقنا. أنزلنا الشراع الرئيسي، وقمنا بإصلاح ثقوب حلقات التثبيت المخلوعة، ووضعنا قطعًا من شريطٍ لاصق خاصة بالأشرعة حول جوانب الشراع لتغطية الثقوب. لكن الشريط لم يكن لاصقًا بما يكفي؛ لذلك قمتُ بخياطة الجوانب لإبقاء الحلقات ثابتة.
لم يستطِع براين المقاومةَ وقال: «إنه لَشيءٌ جيد أن تكون معنا فتاةٌ على القارب حتى تقوم بأعمال الخياطة.»
أثار براين غضبي. فخياطة الأشرعة عملٌ شاق! فالقماش قاسٍ وسميك، ويجب استخدامُ إبرٍ خاصة وكُشْتبان لإدخال الإبرة.
بعد أن انتهيتُ من خياطة الأشرعة، قمتُ أنا وكودي بثقبِ ثقوب جديدة في قماش الشراع، ووضَعْنا حلقاتِ تثبيتٍ نُحاسيةً جديدة. ربَط كودي حبلًا رفيعًا عبر ثقوب حلقات التثبيت الجديدة بالشرائح، وانتهت المهمَّة.
قال كودي على مَسمعٍ تامٍّ من الخال ستيو: «انظري يا سييرا-أوسكار. لقد انتهينا من إصلاح الأشياء ذات الثقوب، وهي الآن ستعمل مع الأشياء المَعدِنية بسهولة.» وابتسم للخال ستيو، وقبل أن ينفجر الخال ستيو غضبًا، قال كودي: «وإذا أردتِ يا سييرا-أوسكار استخدامَ كلماتٍ منمَّقة، فيُمكنك أن تُسمِّي الأشياء ذاتَ الثقوب حلقاتِ تثبيت، والأشياءَ المعدنية شرائح.»
قبل أن نرفع الشراع مرةً أخرى، لاحظ كودي أنَّ حبل الصاري (قال كودي: «الرباط، لكن إذا أردت استخدام مسمَّاه المنمَّق فيجب أن تُطلق عليه حبل الصاري») الذي بجانبِ عارضة الصاري كان يحتكُّ به؛ لذا جئت بالسقَّالة المتحركة وحزام الأمان، وربطتُ نفسي بحبل الراية، وأمسك بي كودي. أحاول عادةً أن أثبِّت نفسي بنفسي، ولكن عندما تكون الأمواج مرتفعة، أريد التركيز فقط على عدم الارتطام بالصاري.
بمجرد أن صعدتُ بضع بوصات فوق سطح القارب، وجَدتُني أطير فوق الأمواج متأرجحةً في كرسي السقالة بينما كان القارب يتمايل مثلَ أرجوحةِ توازُنٍ جامحة. تخيَّل نفسك تتمايلُ فوق الأمواج المتمايلة، والقارب يتمايل، والأمواج تتمايل، بينما أنت مُعلَّق في الهواء تُحلق عاليًا وسط الرياح!
ربطتُ الحبل بالشريط اللاصق بأكبرِ قدرٍ ممكن من البُطء حتى يتسنَّى لي قضاءُ أطولِ وقتٍ ممكن بالأعلى.
ناداني الخال ستيو قائلًا: «ما الخَطب يا صوفي؟». وأردف: «أتُواجهين مشكلة؟ لا تستطيعين فِعلَ ذلك؟»
قلت له: «كل شيء على ما يُرام يا سييرا-تانجو-إكو-ويسكي». كنتُ على وشك إضافة «أيها الأحمق»، لكني نظرت إليه بالأسفل وقد بدا ضئيلًا جدًّا ومجعدًا، ومثيرًا للشفقة بعضَ الشيء؛ لذا ابتلعتُ هذه الإضافةَ ولم أنطق بها.
•••
لا نستطيع صيد أي أسماك. لا أعرف ما الخطأ الذي نرتكبه. لكني أشعر بالارتياح. فأنا أكرهُ قتل الأسماك.
لكنَّنا رأينا طيورًا (تُرى مِن أين تأتي؟) وهي «تحبُّ» الطُّعوم التي نضعُها. اليوم حاول أحدُ طيور النورس أن يخطف الطُّعم، لكنه اشتبك مع الحبل. قام كودي بإنقاذه بطريقةٍ درامية بجذب الطائر إلى القارب وفكِّ الحبل المتشابك حول جَناحه وإعادته إلى الماء برِفق.
نادى كودي على الطائر بينما كان يسبح بعيدًا: «مع السلامة أيها الصغير.»
رأينا أيضًا دلافينَ الليلةَ الماضية، ومرةً أخرى هذا الصباح، وكان ثلاثةٌ منها تقفز وتغوص مستمتعةً بوقتها.
قال لها كودي: «مرحبًا يا أعزائي.»
أحبُّ رؤية الدلافين. أشعر وكأنهم رُسل. قادمون لي.
•••
لم تَدُم شمسُ هذا الصباح طويلًا، وها هي الأمطار تهطل الآن بغزارة. كان هناك أيضًا ضبابٌ كثيف في الليل، لكن الرياح كانت مُواتية.
في الليلة الماضية، عندما كنتُ أنا وبراين نفحص جهاز الرادار وسط الضباب، رصَدْنا إشارتَين ضوئيتَين تتحرَّكان معًا على بُعد نحو خمسة أميال شمال شرق قاربنا. اعتقدنا أنه زورق قطر يسحب صندلًا. ثم رصَدْنا إشارةً أخرى على بُعد نحو ثلاثة أميال جنوب شرق قاربنا، وكانت تتحرَّك بسرعة في اتجاهنا مباشرة، فصعدتُ على سطح القارب ونفختُ في البوق الهوائي، وحاول كودي الاتصال بالمركبة عبر الراديو. لكن لا مُجيب.
كان وقتًا عصيبًا. شيءٌ مخيف عندما لا تتمكَّن من رؤيةِ أيِّ شيء، ولكن الرادار يُخبرك أن ثَمة شيئًا قريبًا منك. حينها تظلُّ متوقِّعًا الاصطدام بسفينةٍ ضخمة تخرج دون إنذار من وسط الضباب. كانت دقَّات قلبي تتسارع، متوقِّعةً ظهورَ هذا الشيء الضخم في أي لحظة.
شغَّلنا المحرك، وتأهَّبنا لتغيير مَسارنا حالَ اقترب هذا الشيء أقلَّ من ميلَين من قاربنا، ولكن حينئذٍ ظهرَت الإشارة الضوئية أمامنا مباشرة. وبعد قليل، ظهرت خمسُ إشارات أخرى، ولا أحد يُجيب على الراديو حتى الآن. كان الأمر مفزعًا؛ إذ خشينا أن يدهسَنا صندلٌ عملاق ويَمضيَ في مساره دون حتى أن يعلم مَن به أنهم قد اصطدَموا بنا.
قضى الخال ستيو كثيرًا من الوقت في تفحُّص الكُتيبات، وخَلَص إلى أنه نظرًا إلى وجود عواصفَ طوال الليل، فإن الرادار على الأرجح كان يلتقطُ السحبَ الممطِرة! شعَرنا بالغباء عندما أدركنا أننا كنا ننفخ في البوق الهوائي لسُحبٍ ممطرة، ونُحاول الاتصال بها عبر الراديو.
•••
تبدو الرُّوح المعنوية بخير بين أسرة القارب اليوم، لكننا لا نحصل على قسطٍ كافٍ من النوم. أظن أن السبب الذي يجعلنا نبدو متعَبين للغاية هكذا — بخلاف أوقات نومنا المتقطِّعة — أن كلَّ شيء نقوم به، حتى أبسط الأشياء، يتطلَّبُ مجهودًا كبيرًا. فمجرد المشي بضع خطوات أمرٌ شاق. إنه يُشبه تسلُّق الصخور، حيث يتعيَّن عليك تحديدُ المكان الذي ستستقرُّ فيه كلُّ يد وكل قدم قبل البدء فعليًّا في التحرك.
لقد أصبحتُ أسير بسرعةِ امرأة عجوز في التسعين أو كشخصٍ مكسور الساقَين. عليك أن تتمالك نفسَك مع كل موجة، وأن تستعدَّ لصدمة الارتطام بأحد الجدران. لا يمكنك الوقوفُ بحُريةٍ أكثرَ من بِضع دقائق دون أن تفقد توازُنَك بسبب حركة القارب.
الطهي مهمَّة صعبة؛ إذ إنه برغم وجود الموقد على حاملِ تثبيتٍ ذي مِحورَين يتحرك مع حركة القارب لإبقاء سطح الموقد مُستويًا، فإن كل شيء آخرَ يطير من حولنا، وينسكبُ ويسقط من على الأرفف، ويتسبَّب في فوضى بشكلٍ عام.
عليك أثناء الأكل ألَّا تترك طبقَك أبدًا، ولا يمكنك أن تشرب وأنت تأكل؛ لأنك ستُضطرُّ حينها إلى أن تترك الطبقَ من أجل كوب الماء، وأنت لا تملك سوى يدَين اثنتين فقط.
أما النوم، فهذا تَحدٍّ آخَر. إن ساعات نومنا ليست ثابتة؛ فهناك دائمًا كثير من الضجيج (رنينُ أشياء، اصطدامُ أشخاص بالأشياء، رفرفةُ الأشرعة، أناسٌ يتحدَّثون)، إلى جانب النوم في سريرٍ مختلف (حسب المتاح) في كل مرة، وهناك دائمًا خطرُ السقوط من سريرك وتطاير الأشياء من الأرفف على رأسك، أو ظهور تسربٍ فوق حقيبة نومك.
لكنني أحبُّ العيش على متن قارب على الرغم من كل ذلك. أحبُّ كوني وحدةً كاملة مستقلَّة تدفعها الرياحُ عبر المحيط.
في الليلة الماضية، أثناء نومي المتقطع، حلمتُ بحُلمي المتكرِّر مع الموجة العاتية. لقد ارتفعَت المياه عاليًا، عاليًا، عاليًا، مثل جبلٍ أسودَ شاهق، ثم التفتُّ بالأعلى، وكنتُ كبقعةٍ صغيرة تحتها، وأخذَت تقترب، واستيقظتُ وفمي مفتوحٌ على مِصراعَيه، وعلى أُهبة الاستعداد للصراخ.
أكره هذا الحلم.