ثرثرة بلا حساب
لم أكن سأكتب في دفتر اليوميات هذا بمجرد بُلوغنا اليابسة، ولكن كودي لا يزال يكتب في المُكدِّرة الخاصة به. إنه يقول إن الرحلة لم تنتهِ بعد.
بمجرد رُسوِّ «ذا وندرر» بعد ظهر أمس، تعثَّرنا في المشي على اليابسة، وكان ذلك غريبًا للغاية. فقد بدَوْنا بُلْهًا ونحن نترنَّح بهذا الشكل، كما لو كانت الأرض تهتزُّ تحت أقدامنا ولا نستطيع الاحتفاظَ بتوازُننا. تلك هي المرة الأولى التي أشعر فيها بدُوار البحر؛ دوار بحر على اليابسة!
دلَفْنا إلى إحدى الحانات، وطلبنا ما لذَّ وطاب من الطعام، طلبنا أطباقًا كبيرة منها؛ أطباقًا بها أشياء تسبح في المرق، وأرغفة خبز طازجة، وألوان من الخَضراوات والفواكه الطازجة. كان شعورًا غريبًا ألا يكون علينا التمسُّكُ بالأطباق أثناء الأكل، وكم هو غريبٌ أن نستطيع الأكل والشرب في آنٍ واحد.
كنا جميعًا نُثرثر في جنون، نتكلم مع أي شخص على استعداد أن يسمع. وفي لحظةٍ من اللحظات، نظرتُ حولي لأجد كلًّا منا يتكلم مع شخصٍ غريب، كلٌّ منا يحكي قصتَنا.
«كان يجب أن ترى تلك العاصفة …»
«تحطَّمَت عارضاتُ الصاري في القارب …»
«الأمواج … كالجبال …»
«أتلفتَ الرادار، كل شيء …»
«ظننتُ أننا قد انتهينا …»
«أُصِبتُ بجروحٍ غائرة في وجهي …»
«الرياح … لا يمكن تخيُّلها … دويُّ الرياح …»
«اصطدمَت بنا …»
«عصفَت بنا …»
«جرفَتْنا …»
كنا نُثرثر بلا حساب. وكان الغرباء يُومئون برءوسهم لنا، ويتبادلون معنا قصصَهم.
«البحر شيطان …»
«إنه مخلوقٌ غدَّار …»
«وعمي قد غرق هناك …»
«فُقد سبعةَ عشر قاربًا في عام …»
«أترى تلك الساق؟ إنها ليست ساقي. فقد أخذ البحرُ ساقي الحقيقية …»
ظللنا ساعات على هذا الحال؛ تتدفَّق الكلمات من أفواهنا، وفي لحظةٍ ما تساءلتُ عن مدى اهتمام هؤلاء الغرباء بما كنا نقوله لهم، أو إذا كانوا مهتمِّين أساسًا، ولماذا شعَرنا بهذه الحاجة المُلحَّة إلى إخبارهم بقصتنا، ولماذا قصُّوا علينا قصصَهم.
في وسط كل هذا، شعرتُ بكودي يُراقبني ويستمع لما أقوله، وكأنَّ ما أقوله غريب. حاولتُ أن أُنصت لما أقوله، ولكني كنتُ مندمجةً في الحكي وفي سَماع ما يقوله الآخَرون، لدرجة أنني لم أستطِع التركيز.
ومع انحسار ضوء الشمس بالخارج، شعرت أننا نعرف هؤلاء الأشخاص وأنهم يعرفوننا. أخبَرونا بأماكن للمبيت لقضاء هذه الليلة، وساروا معنا إلى القارب، فهزُّوا رءوسهم أسفًا على الحالة المزرية ﻟ «طفل» دوك، وساعَدونا في حمل ملابسنا المُبتلَّة إلى أعلى التلِّ الطويل، وتمنَّوا لنا جميعًا قضاءَ ليلة هادئة وهانئة على أرض وطنهم أيرلندا.
راودَتني أحلامٌ غريبة، رأيت فيها أشخاصًا كثيرين يجيئون ويذهبون. رأيتُ جوي صديقَ دوك الذي يعيش في بلوك آيلاند، وفرانك وأسرته الذي يعيشون في جراند مانان، والسيدة وكلبها، وروزالي حبيبة دوك، والأيرلنديِّين الغرباء، وبين كلِّ هؤلاء الناس تبادلَ كودي والخال دوك وستيو ومو وبراين الظهور. وأنا. كان ثَمة أشخاصٌ آخَرون أيضًا، أشخاص بدَوا مألوفين، وبدا أنهم يعرفونني، لكنهم اختفَوا وسط الزحام قبل أن أتمكَّن من معرفة مَن هم.