١٦
تقول مسز كُسْتِلُّو: أتتْ إليَّ كما أتيْتَ إليَّ. امرأة العتمة، امرأة في العتمة. تجري القصة كما يلي: كلمات في أذني النائمة، ينطق بها ما كنا ندعوه قديمًا ملاكًا، يدعوني إلى مباراة في المصارعة؛ ولأني لا أعرف شيئًا عن المكان الذي تعيش فيه مارينَّا، تَمَّت كل المعاملات معها بالتليفون، يمكن أن أعطيك نمرتها إذا كنْتَ تود أن تكرر الزيارة.
زيارة أخرى، ليس هذا ما يريده. ربما بعد ذلك، لكن ليس الآن. ما يريده الآن هو التأكد من أن القصة التي حدثت له قصة حقيقية، المرأة التي أتتْ إلى شقته كانت المرأة التي رآها في المصعد؛ واسمها مارينَّا؛ وتعيش مع أمها المحدودبة، وقد هجرها زوجها بسبب البلوى التي حلَّتْ بها؛ وهلم جرًّا، يريد أن يتأكد أنه لم يُخْدَع.
ولأن هناك قصةً بديلة، قصةً سهل عليه نسج خيوطها. في القصة البديلة عثرت كُسْتِلُّو المرأة على مارينَّا ذات المؤخرة الضخمة في الدليل التجاري، قد يكون اسمها ناتاشا، قد يكون اسمها تانيا، جاءت من مُلْدَفيا عن طريق دبي ونيقوسيا. دربتها في التليفون على تمثيلية. قالت لها: لزوجي أخ ربما تحتاجين إلى معرفته، له تصرفات غريبة. ولكن هل هناك رجل ليس له تصرفات غريبة؟ وماذا تفعل المرأة، إذا أرادت أن تتجنب الفشل، سوى أن تعثر على طريقة لترويضهم؟ أغرب سلوكيات أخي زوجي أنه يفضل ألا يرى المرأة التي يقيم معها علاقة. يُفضِّل عالَم الخيال، يُفضِّل أن يُحلِّق برأسه فوق السحاب. ذات مرة انقلبت حياته رأسًا على عقب في حب امرأة اسمها مارينَّا، ممثلة. يريدُ منكِ، وطلب أن أنقله إليكِ بطريقة غير مباشرة، أن تُقدِّمي نفسك له على أنك مارينَّا الممثلة، متقمصة بعض العتاد أو الصفات التي سأمدك بها. هذا دورك؛ وسيدفع لك مقابل تمثيل هذا الدور، هل تفهمين؟ قالت ناتاشا أو تانيا: بالتأكيد، لكن الاستدعاء الخارجي له سعر إضافي. توافق كُسْتِلُّو: الاستدعاء الخارجي له سعر إضافي. من المؤكد أني سأذكِّرُه بذلك. كلمة أخيرة، كُونِي لطيفة معه. فقدَ ساقًا منذ وقت قريب في حادثة طريق، ولم يَعدْ إلى طبيعته.
ربما هذه هي القصة الحقيقية، وراء زيارة من تُدعى مارينَّا، مع اختلاف بعض التفاصيل؟ لبست النظارة القاتمة لتخفي حقيقة أنها ليست ضريرة، لا حقيقة أنها ضريرة؟ حين ارتجفت، لم ترتجف نتيجة التوتر بل نتيجة الجهد الذي تبذله لكتم الضحك والرجل الذي يلف جوربًا حول رأسه يتحسس ملابسها الداخلية. تخطينا العتبة، الآن يمكن أن نتقدم إلى ما هو أسمى وأفضل. يا لها من حماقة مقدسة! ربما ظلت تضحك في التاكسي حتى وصلَتْ إلى بيتها.
هل كانت مارينَّا مارينَّا أم كانت مارينَّا ناتاشا؟ هذا ما يجب كَشفُه في أول فرصة؛ هذا ما يجب انتزاعه من كُسْتِلُّو. وقد ينتقل، فقط حين يحصل على الإجابة، إلى السؤال الأكثر عمقًا: هل يهمه من كانت المرأة حقًّا، هل يهمه أنه خُدِع؟
يقول متذمرًا: تعاملينني كدمية. تعاملين الجميع كأنهم دُمًى. تُؤلِّفِين قصصًا ترغميننا على تمثيلها أمامك. افتحي مسرح عرائس، أو حديقة حيوانات. لا بد أن هناك حدائق الحيوانات كثيرة معروضة للبيع؛ لأنها لم تعد تساير موضة العصر. اشتري واحدة، وضعينا في أقفاص عليها أسماؤنا: بول ريمنت، كَنيس إنفليكس، مارينَّا بوبوفا، سودوسيكا (مهاجرة). وهلم جرًّا. صفوف وصفوف من الأقفاص بها أناس مِمَّن يأتون إليكِ، كما تقولين، في سياق حياتك ككاذبة ومؤلفة أكاذيب. يمكن أن تفرضي رسم دخول، يمكن أن تعيشي منها، يمكن للآباء أن يُحضِروا أبناءهم في نهاية الأسبوع للفرجة علينا وإلقاء الفول السوداني لنا. أسهل من كتابة كتب لا يقرؤها أحد.
يتوقف منتظرًا أن تثور، تصمت.
يواصل: ما لا أفهمه — لم يكن غاضبًا حين بدأ هذا التقريع، وليس غاضبًا الآن، لكن بالتأكيد يجد لذة في الاستمرار — ما لا أفهمه هو، لماذا تثابرين معي وأنت تَرَيْن أني شديد الغباء، ولا أستجيب لمخططاتك؟ أسقطيني، أَتَوسَّل إليك، اتركيني أَعِشْ حياتي. اكتبي بدلًا من ذلك عن مارينَّا الضريرة وهي تحت تَصرُّفِك. تتمتع بإمكانات لا يمكن أن أتمتع بها في أي وقت. لستُ بطلًا، مسز كُسْتِلُّو. فَقْد الساق لا يؤهل شخصًا لدور درامي، ليس فقد الساق مأساة وليس ملهاة، سوء حظ ليس إلا.
– لا تكن قاسيًا، بول. أسقطيني، ارفعي مارينَّا، قد لا أفعل، وقد أفعل، مَنْ يعرف ما قد ينجرف إليه المرء؟
– لستُ قاسيًا.
– أنتَ قاسٍ بالطبع. أَسمَع القسوة في صوتك، أنت قاسٍ، ومَن يستطيع أن يلومك بعد كل ما تعرَّضْتَ له.
يأخذ عكازيه. يقول بفظاظة: يمكن أن أَحيَا بدون تَعاطُفك. سأخرج الآن، لا أعرف متى أعود، حين تغادرين، أغلقي الباب وراءك.
– سأغلق الباب بالتأكيد إذا غادرْتُ، لكن لا أظن أني سأفعل هذا. لا يمكن أن أخبرك كم أنا مشتاقة إلى حمَّام ساخن، هذا ما سأفعله، إذا كنت لا تمانع، يا له من ترف في هذه الأيام!
لم تكن المرة الأولى التي ترفض فيها كُسْتِلُّو المرأة تفسير ما تقوم به. لكن مراوغتها الأخيرة تثيره وتُقلِقُه. قد لا أفعل، وقد أفعل. هل اهتمامها به مُؤقَّت إلى هذا الحد؟ ربما تصبح مارينَّا الشخصية التي يقع عليها الاختيار بدلًا منه؟ بصرف النظر عن جلسة التصوير المُبهَمة، التي لا يتذكر شيئًا عنها، هل كانت المواجهتان بينهما، الأولى في المصعد، والثانية على الكنبة؛ حدثين في قصة حياة مارينَّا بوبوفا وليس في قصة حياة بول ريمنت؟ بالطبع ثمة إحساس بأنه شخصية عابرة في حياة مارينَّا أو أي واحدة أخرى يصادفها في طريقه، كما أن مارينَّا أو أية واحدة أخرى شخصيات عابرة في حياته. لكن هل هو شخصية عابرة بمعنى أكثر عمقًا أيضًا، شخصية يُركَّز الضوء عليها برهة وجيزة قبل أن ترحل؟ هل يتحول ما جرى بينه وبين مارينَّا إلى مُجرَّد مَمر ضمن مَمرَّات كثيرة في بحث مارينَّا عن الحب؟ أو ربما تكتب كُسْتِلُّو المرأة قصتين في الوقت ذاته، قصتين عن شخصيتين تعانيان الفقد (البصر في حالة، والحركة في الأخرى) وعليهما أن تَتعلَّما العيش معًا؛ وكتجربة أو نكتة مهنية، ربما رتبت ليتقاطع خطَّا حياتيهما؟ ليست لديه خبرة بالرِّوائيين وتصرفاتهم في العمل، ولكن يبدو أن الأمر قابِل للتصديق.
يتفحص «منزل في شارع إكلِز». ليوبُلْد بلوم. هوج بويلان. ماريون بلوم. ما مشكلتها؟ ألا تستطيع أن تؤلف شخصيات خاصة بها؟
يعيد الكتاب إلى موضعه، ويتناول «الأتون المشتعل» يقرأ بشكل عشوائي.
يُقلِّب الصلصال بين كفيه حتى يدفأ ويلين، ثم يشكِّله على هيئة حيوانات صغيرة: طيور، ضفادع، قطط، كلاب منتصبة الأذن. يضع التماثيل على قمة الطاولة في نصف دائرة، وأعناقها مشرئبة إلى الخلف كأنها تعوي على القمر، أو تنبح، أو تنقُّ.
صلصال قديم، من مخزون الكريسماس الأخير. الكيك الطازج أحمر طوبي، الورقة خضراء، السماء زرقاء، والآن وقد نزفت كلٌّ منهما في الأخرى، أصبحت أرجوانية كئيبة. لماذا؟ يتعجب؛ لماذا يبهت اللامع ولا يلمع الباهت أبدًا؟ ماذا نحتاج ليتلاشى الأرجواني ويخرج الأحمر والأخضر مرة أخرى، كما تخرج الكتاكيت من البيض؟
يقلِّب الصفحات حتى يصل إلى منتصف الكتاب. لم تكن تستطيع البقاء مع رجل مرهق باستمرار. وكان من الصعب تمامًا أن تستبعد إرهاقها الخاص. لم يكن عليها إلا أن تتمدد بجانبه في السرير المألوف تمامًا حتى تشعر بالضجر يتسرب منه ويجرفها في تيار خامل بلا لون ولا رائحة. كان عليها أن تفر! الآن!
ماريون لا مارينَّا. ليس هناك — بقدر ما يرى — مكفوفون أو مبتورون. يغلق «الأتون المشتعل» فجأة. لن يتعرض لمزيد من هذا الغاز الكئيب الخامل، عديم اللون والرائحة، المنبعث من صفحاته. ماذا جرى يا إلهي لتصبح إليزابيث كُسْتِلُّو مؤلفة شهيرة، إن كانت شهيرة حقًّا؟
المؤلفون العالميون المعاصرون، في قسم المراجع في المكتبة، به سيرة ذاتية موجزة مع نفس الصورة البحرية. ولدتْ في مِلْبورن، أستراليا، ١٩٢٨م. أقامت في أوروبا فترة طويلة. أول كتاب ١٩٥٧م. قائمة بالمكافآت والجوائز، قائمة بالأعمال بدون ملخصات. تزوجت مرتين، أنجبت ولدًا وبنتًا.
اثنان وسبعون! عجوز إلى هذا الحد! ماذا تفعل؟ تنام على أرائك المتنزهات! هل اختل عقلها؟ هل هي مخبولة؟ قد يفسر ذلك كل شيء؟ يجب وضع ابنها وبنتها في الصورة؟ هل يأخذ على عاتقه مهمة تتبعهما؟ من فضلك احضر حالًا. أمك تقيم معي، وأنا غريب عنها تمامًا، وترفض أن تغادر. وقد نفدت حيلتي. انقلها، استلمها، افعل ما أطلبك من أجله ما دمتُ حرًّا.
يعود إلى الشقة. كُسْتِلُّو ليست موجودة، لكن مفكرتها على طاولة القهوة. يحتمل أنها تركَتْها مُتعمِّدة. إذا اختلس نظرة فسيكون ذلك انتصارًا آخر لها، ومع ذلك، تكتب بحبر أسود ثقيل، بخط انسيابي كبير، بضع كلمات في السطر. يقلِّب الصفحات إلى أن يصل إلى آخر فصل، يقرأ: ظلام ظلام ظلام. كلهم غارقون في الظلام، فضاء خاوٍ بلا قمر.
يتصفح ما قبل ذلك.
يقرأ: تنحني على الجسد. تدعو، الكلمة تحتها خط. تهتز كثيرًا على جانب السرير إلى الخلف وإلى الأمام، يداها على أذنيها، عيناها مفتوحتان عن آخرهما، لا ترمش، كأنها تخشى أن تفوتها اللحظة التي ستفارق فيها الروحُ الجسدَ، مثل تدفق الغاز، لترتفع في طبقات الهواء طبقة بعد أخرى، حتى الستراتوسفير وما بعدها. خارج النافذة، الشمس ساطعة والطيور تغرد كالمعتاد. حبيسة إيقاع أساها مثل عدَّاء المسافات الطويلة. مارثون الأسى. ستواصل على هذا المنوال طوال اليوم إذا لم يأتِ أحد وينتشلها. إلا أنها لم تَلمَسْه بعد (هو، جسمه). لماذا لا؟ الهلع من اللحم البارد؟ هل الرعب أقوى من الحب رغم كل شيء؟ أو ربما صممتْ، من بين فوضى الأسى، ألا تحاول استعادته مرة أخرى. قالت بالسلامة، تصحبك السلامة. بالسلامة: الرب معك. وبعد ذلك، على الصفحة: ظلام ظلام ظلام …
لو قرأ ما قبل ذلك بما يكفي، فسيعرف دون شكٍّ وبصورة أوضح مَن المرأة الحزينة، وجُثَّة مَنْ. لكن يبدو أن عفريت الفضول ينصرف. ليس متأكدًا من أنه يريد أن يعرف المزيد. في هذه الكتابة شيء غير موفق، الحبر الثقيل يتناثر بلا اكتراث على خطوط الترام، شيء ما عاقٌّ، مستفز، يكشف ما لا ينتمي إلى ضوء النهار.
هل المُفكِّرة كلها بهذا الشكل: استفزاز، تحدٍّ للذوق؟ يتصفحها بحذر من البداية. لا يستطيع ربط الفصول معًا نتيجة المط الطويل، تكتب وكأنها تتعجل في تدوين قصة استَرقَت السمع إليها، ضاغِطَة السرد، مُختصِرة الحوار، قافزة بنفاد صبر من مشهد إلى مشهد. لكن ثمة عبارة تسترعي انتباهه: ساق زرقاء، ساق حمراء. ليوبا؟ لا يمكن إلا أن تكون ليوبا. مهرج، ألوان جنونية. بالألمانية، البقر المخطط بقر مجنون، الممسوس، الذي يقفز على القمر. ويضحك الكلب الصغير. أدخلي كلبًا، الكلب المهجن الصغير الذي يهز ذيله للجميع بلا استثناء نابحًا تواقًا للرضا؟ رد فعل ب. ر قد أكون كلبًا صغيرًا، لكن ليس إلى هذا الحد بالتأكيد! مُت وجِيف.
يغلق الكتاب فجأة. إذا لم تكن أذناه تحترقان فقد تحترقان. بَدَا خائفًا: تَعرِف كل شيء، كل كبيرة وصغيرة. عليها اللعنة! طوال الوقت الذي ظن فيه أنه سيد نفسه كان في القفص كفأر، يندفع هنا وهناك، يتذمر، تراقبه شيطانة، تشاهد وتستمع وتسجل ملاحظات، وتسجل تطور حالته.
أم إن الأمر أسوأ من ذلك، أسوأ بصورة لا تُوصَف، أسوأ لدرجة تهدد العقل بالعطب؟ هل هذا ما يمكن ترجمته بما لا يمكن إلا أن يدعوه حاليًّا الجانب الآخر؟ هل هذا ما حدث له؟ هل هذا ما يحدث لكل إنسان؟
بحذر شديد يستقر في كرسي. إن لم تكن هذه اللحظة لحظة كبرى، لحظة كونية، فماذا تكون؟ انكشفتْ له أعظم الأسرار. عالم يوجد، بلا شك، جنبًا إلى جنب مع الأول. يتحرك المرء في الأول فترة معينة؛ ثم يصل ملك الموت في شخص واين بلايت أو شخص آخر مثله. يتوقف الزمن لحظة، دهرًا؛ يسقط المرء في حفرة معتمة، ثم يُبعَث المرء، يا للعجب بسرعة، في عالم ثانٍ يشبه الأول، حيث يستأنف الزمن ويستمر الفعل — التحليق في الهواء كقط، حشد من المتفرجين الفضوليين، الإسعاف، المستشفى، دكتور هَنْسِن، وهلم جرًّا، باستثناء أن المرء عنده الآن إليزابيث كُسْتِلُّو، أو مَن يشبهها، يلتف حول عنقه.
مجرد وثبة يثبها، من كلمة ك – ل – ب في المفكرة إلى الحياة الأخرى. حدسٌ وحشي. قد يكون مخطئًا. إنه مخطئ على الأرجح. لكن سواء كان مخطئًا أم مصيبًا، سواء كان ما يدعوه في أكثر حالات الروح تذبذبًا الجانب الآخر حقيقة أم وهمًا، فأول نعت يصادفه، مكتوبًا حرفًا بعد حرف خلف جفونه بآلة كاتبة سماوية؛ هو سقيم. إذا لم يكن الموت إلا حيلة، وقد يكون أيضًا حيلة كلامية، إذا لم يكن الموت إلا غصة في حلق الزمن تستمر الحياة بعدها كما كانت من قبل، فلماذا كل هذه الجلبة؟ هل يُسمَح للمرء برفضه، رفض هذا البقاء، هذا المصير السقيم؟ أريد استعادة حياتي القديمة، الحياة التي انتهت على طريق مَجيل.
إنه مُستنزَف، ذهنه يترنَّح، ليس أمامه إلا أن يغلق عينيه ويستغرق في النوم، لكنه لا يريد أن يرقد هنا خاملًا ومكشوفًا حين تعود كُسْتِلُّو المرأة، بدأ يُدرِك خاصية مُعيَّنة فيها، ثعلبية أكثر منها كلبية، وهو أمر لا علاقة له بمظهرها لكنه يستفزُّه ويهز ثِقَته عمومًا. يستطيع بيُسرٍ أن يتخيلها تطوف خِلْسَة من غرفة إلى غرفة في الظلام، تتشمم الفريسة.
يشعر بِهَزَّة خفيفة وهو ما زال جالسًا في الكرسي. لا تقف أمامه مسز كُسْتِلُّو الثعلبية بل ماريانا يوكتش، المرأة التي تضع على رأسها وشاحًا أحمر وهي بطريقة ما (لا يستطيع الآن أن يتذكر كيف، ذهنه مرتبك تمامًا) جذر كل هذه التعقيدات أو مصدرها أو ينبوعها.
– مستر ريمنت، أنت بخير؟
– ماريانا! نعم، بالطبع. بالطبع أنا بخير — لكنها ليست الحقيقة. ليس بخير. رائحة فمه كريهة، ظهره متصلب، لكنه يكره المباغتة — كم الساعة؟
تتجاهل ماريانا السؤال. تضع ظرفًا على طاولة القهوة بجانبه. تقول: شيكك، يقول رُدِّيه، لا نقبل فلوسًا. زوجي. يقول لا يقبل فلوس رجل آخر.
فلوس. دراجو. حديث ينتمي إلى عالَم آخر. عليه حشد حكمته. يسأل: وماذا عن دراجو نفسه؟ ماذا عن تعليم دراجو؟
– يستطيع دراجو أن يذهب إلى المدرسة كما كان، لا يحتاج مدرسة داخلية. يقول زوجي.
تلمس الطفلة ليوبا «جيبة» أمها بأصابعها، تمص إبهامها. بحذر تتسحب كُسْتِلُّو المرأة من خلفها إلى الغرفة. هل كانت في الشقة وهو نائم؟
يقول: هل تَودِّين أن أكلم زوجك؟
تهز ماريانا رأسها بقوة. لا يمكن أن تتخيل ما هو أسوأ من ذلك، وما هو أكثر غباءً.
– حسن، نفكر فيما علينا أن نفعله بعد ذلك. ربما لدى مسز كُسْتِلُّو كلمة تنصحنا بها.
تقول إليزابيث كُسْتِلُّو: أهلًا ليوبا، أنا صديقة أمك، يمكن أن تنادينِي بإليزابيث أو الخالة إليزابيث. آسفة، ماريانا؛ لأني سمعتُ مشكلتك، لكني جديدة على المشهد، لا أظن أنه يجب أن أتَدخَّل.
يفكر بضغينة، تَتدخَّلِين طوال الوقت. لماذا أنتِ هنا إن لم يكن لتتدخلي؟
تلقي ماريانا بنفسها على الكنبة بتنهيدة تكاد تكون صرخة. تخبئ عينيها؛ تنهمر الدموع الآن. تتخذ الطفلة مكانها بجوارها.
تقول: مثل هذا الولد الرائع. مثل هذا الولد الرائع. يهزمها النحيب. يريد أن يواصل طريقه إلى أبعد مَدًى!
في عالَم آخر، في عالَم كان فيه شابًّا كاملًا ورائحة نفَسه زكية، كان سيضم ماريانا في ذراعيه، ويجفف دموعها، ويقول: سامحيني؛ لم أكن مخلصًا لك، لا أعرف السبب! حدث ذلك مرة ولن يتكرر مرة أخرى أبدًا! ضُمِّيني إلى قلبك وسأعتني بكِ، أقسم، حتى أموت!
تُحدِّق فيه الطفلة بعينيها الداكنتين، كأنها تقول: ماذا فعلْتَ بأمي؟ إنها غلطتك وحدك!
إنها غلطته. ترى هاتان العينان الداكنتان خبايا قلبه، تريان رغبته الخفية، تريان في أعمق أعماقه أن هذه اللمحة الأولى لصدع بين رجل وزوجة تجعله مبتهجًا، لا حزينًا. سامحيني أيضًا! يقول في صَمْت مُوجِّهًا نظرة مباشرة إلى عيني الطفلة. لا أقصد أذًى، أنا في قبضة قوة خارج سيطرتي!
يقول بنبرة شديدة الأسى: لدينا وقت كافٍ. أمامنا أسبوع قبل غلق باب تقديم الطلبات للعام الجديد، سأتكفل بمصروفات المدرسة، سأطلب من المحامي أن يكتب لهم خطاب الضمان، وبهذه الصورة لا يبدو الأمر شخصيًّا. تَحدَّثِي مع زوجك مرة أخرى بمجرد أن يهدأ. أنا واثق من قدرتك على إقناعه، أنتِ ودراجو معًا.
تهز ماريانا كتفها يأسًا. تقول للطفلة شيئًا لا يفهمه؛ تغادر الطفلة الغرفة وتعود بلفة مناديل. تجفف ماريانا أنفها بصوت عالٍ. الدموع، البصاق، مخاط الأنف: وجه الأسى الأقل رومانسية، الوجه الخفي. كالوجه الخفي للجنس: البقع، الروائح.
هل تدرك ما حدث هنا، على الكنبة حيث تجلس؟ هل تشعر بذلك؟
يواصل: إلا إذا كانت المسألة مسألة شرف، إذا رأى زوجك استحالة قبول قرض من رجل آخر، ربما يمكن تشجيع مسز كُسْتِلُّو على كتابة الشيك، وتكون بمثابة وسيط في هذا العمل الخيِّر.
المرة الأولى التي يُورِّط فيها مسز كُسْتِلُّو. يشعر بنشوة انتصار حقيقي.
تهز مسز كُسْتِلُّو رأسها. تقول: لا أعتقد أن تَدخُّلِي ممكن. إضافة إلى وجود صعوبات عملية أفضِّلُ ألا أخوض فيها.
يقول: مثل؟
تُكرِّر: أفضل ألا أخوض فيها.
يقول: لا أرى أية صعوبات عملية إطلاقًا. أكتبُ لك شيكًا وتكتبين شيكًا للمدرسة. لا شيء أبسط من هذا. إذا لم تفعلي ذلك، إذا رفضْتِ أن تتدخلي، على حد تعبيرك، فعليك أن تنصرفي. انصرفي واتركينا وَحْدَنا.
يتمنى أن تثيرها حدَّتُه. لكنها لم تُستَثَرْ إطلاقًا. تقول بهدوء: أترككما وحدكما؟ بهدوء حتى إنه لا يكاد يسمع. إذا تركتكما وحدكما (ترمش عيناها لماريانا) إذا تركتكما أنتما الاثنين معًا، فماذا تفعلان؟
تنهض ماريانا، تجفف أنفها مرة أخرى، تضع المناديل في كمها. تقول بحزم: يجب أن نمشي.
يقول: ساعديني، ماريانا، من فضلك!
على بسطة السلم، بعيدًا عن تَنصُّت كُسْتِلُّو المرأة، تتجه إليه: إليزابيث صديقة طيبة؟
– طيبة؟ لا، لا أظن. ليست صديقة طيبة، ليست صديقة حميمة، لم أرَها إلا منذ فترة وجيزة، ليست صديقة إطلاقًا، إليزابيث كاتبة محترفة، تكتب روايات وقصصًا عن الحب. تتصيد حاليًّا شخصيات لتضعها في كتاب تخطط له. يبدو أنها تضع آمالها فيَّ، وفيك أيضًا، بعد خطوة، لكني لستُ شخصًا مناسبًا. لهذا تزعجني. تحاول أن تجعلني مناسبًا.
تحاول السيطرة على حياتي. أنقذيني. هذا ما يود قوله. لكن الاستغاثة بماريانا في حالتها الحالية ظلم.
تبتسم له ماريانا ابتسامة باهتة. انتهت الدموع إلا أن عينيها حمراوان، وأنفها منتفخ. ضوء السماء الساطع يظهرها بوحشية، جلدها خشن بدون مكياج، لون أسنانها متغير. يفكر، من هذه المرأة التي أتوق إلى أن أمنحها نفسي؟ سرٌّ، كل شيء سرٌّ. يأخذ يدها. يقول: سأقف بجانبك. سأساعدك، أعدك، سأساعد دراجو.
تنتحب الطفلة: ماما!
تخلص ماريانا يدها. تقول: يجب أن نذهب، وتذهب.