١٩
تقف سيارة أمام شقته عبر الشارع، كُمودور واجن ستيشن حمراء حائلة اللون. تقف من الظهر، الشخص الذي وراء عجلة القيادة ليس واضحًا، لكنه لا يمكن إلا أن يكون ميروسلاف يوكتش. لكن لا يمكن الجزم بما يفعله ميروسلاف. هل يتجسس على زوجته؟ هل يحاول تهديد الرفيقين المُذنِبَين؟
يستغرق عشر دقائق كاملة لاجتياز السلم والمدخل على عُكَّازَيه، ومثلها تقريبًا لعبور الشارع. حين يقترب من السيارة، يطل الرجل الذي بداخلها من الشباك، وينفث سحابة من دخان السجائر الرخيصة.
يقول: مستر يوكتش؟
يوكتش ليس مخلوقًا ضخمًا ثقيل الحركة كما تخيله. إنه، بالعكس، طويل ونحيف، وجهه أسمر وأنفه معقوف.
– أنا بول ريمنت. يمكن أن نتحدث؟ يمكن أن أشتري لك بيرة؟ توجد خمارة قرب الزاوية.
ينزل يوكتش من السيارة. ينتعل بوت الشغل، ويرتدي بنطلونًا من الجينز الأزرق، وتي شيرت أسود، وسترة زرقاء من الجلد. فخذاه نحيلان حتى إنه يبدو وكأنه بلا مؤخرة. جسد يشبه السوط، يفكر. بلا إرادة، يرى ذلك الجسد يعتلي ماريانا، يغطيها، ضاغطًا نفسه فيها.
يشق طريقه، واثبًا بأسرع ما يستطيع.
الخمارة شبه خالية، ينزلق إلى مائدة ويتبعه يوكتش مُغلِقًا شفتيه. يلقي نظرة على يد يوكتش. أصابعه طويلة عليها خصلات من الشعر الأسود، وأظافره مقصوصة. صدره أيضًا مليء بالشعر. هل تحب ماريانا كل هذا الشعر، هذا الجلد الشبيه بجلد الدب؟
ليست لديه خبرات سابقة في مواجهات مع أزواج يشعرون بالظلم. هل من المفترض أن يشعر بالشفقة تجاه الرجل؟ لا يشعر بشيء.
– هل أدخل في صميم الموضوع؟ تريد أن تعرف لماذا أعرض مساعدة ابنك في التعليم. لستُ رجلًا غنيًّا، مستر يوكتش، لكني ميسور الحال وليس لديَّ أبناء. عرضتُ قرضًا على ابنك؛ لأني أود أن أراه في وضع جيد. أنا مُعجَب بدراجو؛ إنه واعد، والمدرسة التي اختارها، لم أسمع عنها من قبل، لكنه يخبرني بأن سُمْعَتها طيبة وأنا أقبل ذلك.
– آسف لأن عرضي أحدث اضطرابًا في بيتك، أُدرِك الآن أنه كان عليَّ أن أتحدث إليك مثلما تحدثْتُ إلى زوجتك.
– وبشأن زوجتك، أقول ببساطة كانت علاقاتي بها سليمة دائمًا. يتردد. عينا الرجل مصوبة إليه مثل فوهات البنادق. يحوِّل نظرته في الحال. لا أنشغل بالنساء، مستر يوكتش، لم أَعُد أنشغل بهن. تركتُ هذا الجزء من حياتي وراء ظهري. لو كنتُ أمارس الحب الآن فأنا أمارسه بطريقة مختلفة، ستفهمني حين تعرفني بصورة أفضل.
هل يكذب؟ ربما، لكن لا يبدو أنه يكذب. باستثناء سمانتيها، اللتين تعلقان بذاكرته، باستثناء ثدييها اللذين يمكن أن يقدم أي شيء ليدس وجهه بينهما، فهو يحب ماريانا في هذه اللحظة بقلب نقي وخيِّر، مثلما يحبها الرب، ومما ينافي الطبيعة أن يكرهه هذا الرجل، أو أي رجل آخر.
يقول يوكتش: أنا وزوجتي متزوجان منذ ٨٢. صوت عميق، على الأقل صوت دب. ثمانية عشر عامًا. حين قابلتُها كانت طالبة في أكاديمية الفنون الرفيعة في دبروفنيك. في البداية كنتُ في الجيش الفيدرالي، ثم حصلْتُ على وظيفة في الأكاديمية، لحَّام، لحَّام وحرفي، لحام غالبًا. نلتقي هناك. ثم نذهب إلى ألمانيا. نشقى في العمل، نوفر فلوسنا، نعيش حياة تقشف — تعرف قصدي؟ — نقدم طلب هجرة إلى أستراليا. أختي أيضًا. نحن الأربعة معًا. كان دراجو طفلًا آنذاك. في البداية نعيش في ملبورن، أعمل في ورشة لحام، ثم أذهب إلى كوبر بيدي مع بعض الرفاق، لنجرب حظنا مع الأحجار الكريمة. هل تعرف كوبر بيدي؟
– أعرف كوبر بيدي.
– مكان شديد الحرارة. ثم تأتي ماريانا. نقيم ثلاث سنوات في كوبر بيدي. حياة صعبة جدًّا على امرأة. تعتمد الأحجار الكريمة على الحظ. أنا لم أكن محظوظًا، تعرف قصدي؟ لكن رفاقي يساعدونني، كل منا يساعد الآخر.
– نعم.
– حياة صعبة جدًّا على امرأة معها أطفال. ثم أحصل على وظيفة في هُلْدِن ونأتي إلى إليزابيث. وظيفة جيدة وبيت رائع. يضع كأسه الفارغة. صمتٌ. تنتهي الحكاية. يبدو وكأنه يقول تلك قصتي، وكأنه يكشف أوراقه على الطاولة. اسحبْ، أيها السيد القاطن في ممر كُنِستون!
– هل تَصادَف أن عرفتَ امرأة اسمها إليزابيث كُسْتِلُّو، امرأة عجوز، كاتبة محترفة؟
يهز يوكتش رأسه.
– لأنه يبدو أنها تعرفك. حكتْ لي أجزاء من القصة التي أخبرتني بها الآن، كيف التقيْتَ أنت وماريانا؟ ماذا كنتما تعملان في دبروفنيك؟ وهلم جرًّا. لم تذكر شيئًا عن ملبورن أو كوبر بيدي. على أية حال، تعمل إليزابيث كُسْتِلُّو في كتاب جديد، ويبدو أنها تُوظِّفُني كشخصية، إذا جاز التعبير. قادها الاهتمام بي إلى الاهتمام بماريانا وبك. واضح أنها تُحَوِّم حول ماضيكما.
ينتظره يوكتش ليكمل الفقرة، لكنه لم يستطع، تبدو منافية للعقل تمامًا. ما يتردد في قوله هو: هذا الوضع المُعَقَّد الذي نقع في شباكه أنا وأنت من فعل إليزابيث كُسْتِلُّو. إذا كان من شخص تلومه فلُمْها. إنها وراء كل ذلك. إليزابيث كُسْتِلُّو مصدر الأذى.
يواصل بدلًا من ذلك: إذا كنتَ لا تشك في كلامي، فعليك أن تصالح ماريانا. أيضًا، اقبل القرض لمصلحة دراجو. دراجو وضع قلبه في ولنجتون كولج، يستطيع أي شخص أن يدرك ذلك، يمكن أن تجعل القرض رسميًّا أو غير رسمي كما تحب. يمكن أن تكتب ورقًا ويمكن أن تستغني عن الورق، لا فرق بالنسبة لي.
عليه عند هذه النقطة أن يقدم زجاجة بيرة أخرى إلى يوكتش، عليه أن ييسر على يوكتش بقدر المستطاع ابتلاع غروره، ويصبح، ولو على مضض، صديقًا حميمًا، لكنه لا يفعل، تكلم بما فيه الكفاية؛ جاء دور يوكتش، دور يوكتش لدفع حساب المشروبات، دور يوكتش ليفضي بما عنده، ويأمل أن ينتهي هذا اللقاء بعد ذلك، هذا المشهد، الذي استسلم له على مضض. ومع أن هذا الرجل له من ماريانا طفلان ملائكيان، وربما ثلاثة، إلا أنه لا يجد في نفسه فضولًا تجاهه. اهتمامه بماريانا: ماريانا وبصرف النظر عما لدى ماريانا وجد اهتمامه بها طريقه إلى أطفالها. هل اهتمامه بماريانا اهتمام أناني أم نزيه. هل الرب الذي يقارن حبه لماريانا بحبه لها رب أناني أم نزيه؟ لا يعرف. السؤال مجرد بطريقة لا تستوعبها حالته المزاجية حاليًّا.
يقتحم يوكتش أفكاره. لديك شقة رائعة.
سؤال؟ تقرير؟ إنه سؤال لأن يوكتش لم يدخل شقته أبدًا. يومئ برأسه.
– مريحة. تقول إنك مستريح. هل أنت مستريح في شقتك.
– ما قلته هو «ميسور الحال.» وهو تعبير يستخدمه من يربكهم الحديث عن الفلوس، وفي حالتي يعني أن دخلي مريح. يعني أن لديَّ ما يكفي احتياجاتي ويفيض. يمكن أن أقدم إحسانًا إن أحببْتُ، أو أقوم بعمل طيب من قبيل إرسال ابنك إلى المدرسة.
– يذهب ابني إلى مدرسة خيالية، له أصدقاء خياليون، يريد كل ما هو خيالي، هل تعرف ماذا أقصد؟
– نعم. مدرسة خيالية قد تعلِّمه أن يحتقر أصوله. لا أستطيع إنكار ذلك. لا تُسئْ فهمي، مستر يوكتش، أنا لا أشجع على المدارس الخيالية، لم آتِ باسم ولنجتون. لكن سأساند دراجو إن كان يود أن يلتحق بها، وأظن أن ولنجتون ليست خيالية كما يدَّعى. المدرسة الخيالية حقًّا لا تحتاج إلى الدعاية.
يستغرق يوكتش في التفكير. يقول: ربما، ربما نستطيع عمل وثيقة ائتمان من أجل دراجو. ومِن ثَمَّ، كما تعرف، لا تكون المسألة شخصية.
وثيقة ائتمان؟ ليست فكرة سيئة، مع أنها حل مكلِّف لمشكلة بسيطة. لكن كيف يَعرِف هذا المهاجِر القادم من دولة اشتراكية الوثائق الائتمانية؟
يقول: يمكن أن نفكر في ذلك. إذا أردْتَ أن تكون قانونيًّا تمامًا، قانونيًّا بطريقة لا تمرر المياه، يمكن أن نتحدث مع محامٍ.
يقول يوكتش: أو مع البنك. يمكن أن نعمل حسابًا باسم دراجو، حساب ائتمان، يمكن أن نضع الفلوس في حساب ائتمان، ليكون الأمر مضمونًا. في حالة … كما تعرف.
في حالة ماذا؟ في حالة أن يغير هو، بول ريمنت، فكرته، ويترك دراجو في وضع حرج؟ في حالة موته؟ في حالة انتهاء حبه لزوجة ميروسلاف يوكتش؟
يقول، بِتوجُّس متزايد: نعم، يمكن أن نفعل ذلك. هل حكاية وثيقة الائتمان وكل ذلك مطلوب لتسكين غرور يوكتش؟
– وماريانا.
– نعم، ماريانا. ماذا تريد أن تقول عن ماريانا؟
– ماريانا مُرهَقة طوال الوقت، من التمريض. تقوم بوظيفتين، مهمتين، أنت وهذه السيدة العجوز الأخرى، مسز إيلُّو. ليس تمريضًا حقيقيًّا، مهنة أقرب ما يكون لشغل البيوت. إذا جمعْتَهما، خمسين ساعة أسبوعيًّا، ستين ساعة، والقيادة، قيادة كل يوم. شخصية مثقفة. شغل البيوت هذا لا يناسب شخصية مثقفة. كل مرة تأتي إلى البيت مرهقة. لذا نفكر في أن تتخلى عن التمريض، وتبحث عن عمل آخر.
– آسف. لم أكن أعرف أن ماريانا تقوم بوظيفتين. لم تذكر لي الوظيفة الثانية.
يحدق فيه يوكتش بحدة. هل يفشل في استيعاب شيء؟
يقول: سأفتقدها إذا ارتحلت. إنها امرأة ذات كفاءة عالية.
يقول يوكتش: نعم. بالنسبة لي، أنا مجرد ميكانيكي، كما تعرف. الميكانيكي ليس شيئًا، لا في كرواتيا، ولا في أستراليا. لكن ماريانا شخصية مثقفة. دبلوم في الترميم، هل أخبرتك بذلك؟ لا توجد أعمال ترميم في أستراليا حتى الآن. في منو بارا، مع مَنْ يمكن أن تتكلم؟ حسن، دراجو مهتم بأشياء كثيرة، يمكن أن تتحدث معه. ثم تقابل مستر ريمنت.
يرد بحذر: كانت محادثاتي مع ماريانا محدودة. مثلما هو حال كل جوانب علاقتي بها. محدودة جدًّا. لم أعرف عن خلفيتها الفنية إلا منذ وقت قريب، من مسز كُسْتِلُّو، المرأة التي ذكرْتُها لك.
ببطء بدأ يتكشف له سبب استعداد يوكتش، وقد ضربها وطردها من البيت، للحصول على يوم إجازة من العمل، وقضائه جالسًا في سيارة في ممر كُنِستون. لا بد أن يوكتش يؤمن أن زوجته، سواء فهمت تمامًا أم لم تفهم، تحت تأثير إغواء بالبعد عن المأوى والبيت بواسطة زبون معه فلوس كثيرة وعلى دراية بالفن والفنانين؛ عَلَّمَتْها أيضًا البيئة الراقية في ممر كنستون أن تنظر باحتقار إلى الطبقة العاملة، يستغيث يوكتش، يستغيث بطبيعته الطيبة. وإن فشلتْ تلك الاستغاثة، ماذا؟ هل يخطط يوكتش لضربه هو الآخر؟
يود لو يعترض، تطلَّعْ إليَّ، إلى منافسِكَ البغيض! ما زلْتَ بالساقين اللتين وهبَهما الرب لكَ، بينما أنا أجرُّ هذا الشيء البشع والقذر معي حيثما ذهبتُ! نصف الوقت أتبول، أتبول على الأرضية! لا أستطيع إغراء زوجتك إذا حاولْتُ، لا أستطيع بكل معنى الكلمة!
في اللحظة نفسها يتذكر مرة أخرى صورة ماريانا وهي تتمطى لتنظف الرفوف العليا، ماريانا بساقيها القويتين الجميلتين. لو كان حبه لماريانا نقيًّا حقًّا، فلماذا لم تحتل مكانًا في قلبه إلا بعد أن رأى ساقيها؟ لماذا يحتاج الحب، حتى هذا الحب الذي يدَّعي أنه يمارسه، إلى الجمال ليبعثه إلى الحياة؟ ما علاقة الساقين الجميلتين، بصورة مجردة، بالحب؟ وما علاقة تلك المسألة بالرغبة؟ أم إن هذه هي طبيعة الطبيعة، التي على المرء ألا يطرح أسئلة عنها؟ كيف يكون الحب بين الحيوانات؟ بين الثعالب؟ بين العناكب؟ هل توجد أشياء من قبيل السيقان الجميلة بين سيدات العناكب؟ وهل قوة جاذبيتها تربك ذَكَر العناكب وهي تجتذبه؟ لا يدري إن كان يوكتش له رأي في الموضوع. لكنه بالتأكيد لن يسأله. سمع من يوكتش ما يكفي اليوم، ومن المتوقع أن يوكتش سمع منه ما يكفي.
يسأل، بصورة شكلية: تأخذ زجاجة بيرة أخرى؟
– لا، يجب أن أذهب.
يجب أن يذهب يوكتش. يجب أن يذهب هو. أين يجب أن يذهبا، هما الاثنان؟ واحد، إلى سرير خالٍ في منو بارا؛ الآخر إلى سرير خالٍ في ممر كُنِستون، حيث يستلقي مستيقظًا طوال الليل، إذا أحب، يسمع دقات الساعة في غرفة المعيشة. يمكن بالمثل أن يقيما معًا في بيت واحد. مُت وجِف.