٢٠
يستغرق حوالي ساعة، متجولًا في المنتزه، ليعثر على إليزابيث كُسْتِلُّو. يجدها أخيرًا على شاطئ النهر، تجلس على أريكة، وحولها مجموعة من البط يبدو أنها تطعمه. يتفرق البط مذعورًا حين يقترب، وينزلق في جلبة عائدًا إلى المياه.
يقف أمامها على العشب مستنِدًا على عكازيه. تجاوزت السادسة، لكنه ما زال يشعر بوطأة شمس الصيف. يقول: أبحث عن دراجو. هل تعرفين أين يمكن أن أعثر عليه؟
– دراجو؟ لا أعرف. اعتقدْتُ أنه يقيم معك. ألن تسأل عني؟ ألا يدفعك الفضول لتسمع كيف قضيْتُ الليلة بعد أن طردْتَني بقسوة؟
يتجاهل السؤال: كان لي لقاء مع زوج ماريانا منذ لحظات.
– ميروسلاف. نعم، يا له من مسكين، يشعر بإهانة بالغة. في البداية نتيجة الغيرة، والآن بعد أن اكتشف مُنافِسه. ماذا قلْتَ له؟
– طلبْتُ منه أن يفكر من جديد. طلبتُ منه أن يعطي الأولوية لاهتمامات دراجو. كررْتُ أن عرضي لا يرتبط بنوايا.
– تقصد أنه لا توجد نوايا مرئية.
– لا توجد نوايا على الإطلاق.
– ماذا عن نوايا القلب، بول، نوايا العاطفة؟
– نوايا العاطفة لا علاقة لها بالموضوع. الفلوس لتعليم دراجو. من العبث الإيماء إلى أنني أريد أن أشتري أمه.
– من العبث؟ علينا أن نسأل ماريانا عن ذلك. ربما لها رأي آخر. قد تقول الشيء بالشيء. كل شيء مقابله شيء. عرضْتَ شيئًا. المسئولية عليها الآن لتأتي بالشيء الصحيح، الشيء المناسب.
– لا تكوني بذيئة.
– رأيي الشخصي، المكافأة الجديرة، إن كان من مكافأة تقدمها، مكافأة للحب، فهي الانسحاب من طريق مسز يوكتش. ليستْ لك. تبقى مارينَّا الاختيار الأفضل (مارينَّا بتضعيف النون). سيكون الترتيب مع مارينَّا، أو من تشبهها، مناسبًا للغاية، سيكون من المناسب تمامًا، لجنتلمان أعزب في مثل عمرك، غير متحمس بسبب إعاقته للظهور على الملأ، أن يستضيف في بيته مرة أسبوعيًّا، بعد الظهيرة، صديقة غير مرتبطة مثل مارينَّا، قد توافق من حين لآخر أن تقبل هدية صغيرة لطيفة مقابل العلاقة الجنسية.
– نعم، بول، الهدايا، الهبات. يجب أن تهيئ نفسك للدفع. لم يعد هناك حب بلا ثمن.
– قد لا أحب مَن أختار؟
– بالطبع قد تحب من تختار. لكن ربما يكون عليك من الآن فصاعدًا أن تحتفظ بحبك لنفسك، كما يحتفظ المرء برأس بارد لنفسه، أو إصابة بطفح جلدي بعيدًا عن أعين جيرانه.
– ومع ذلك، إذا كنتَ ترى أن مارينَّا غير مناسبة، فمَن أنا لأعترض؟ في هذه الحالة؟ لماذا لا تتصل تليفونيًّا بمسز بوتس؟ أخبِرْها أنك تبحث في السوق عن ممرضة جديدة، أخبِرْها بأنك تريد واحدة لا صغيرة جدًّا ولا كبيرة جدًّا، لها ثديان رائعان، وسمانة جميلة، غير مرتبطة، الأطفال ليسوا عقبة، والأفضل ألا تكون مدخنة. ماذا أيضًا؟ متلهفة، متلهفة وسهلة الإرضاء.
– أو لماذا تشغل نفسك بمسز بوتس؟ لماذا لا تستسلم لهراء الممرضات المستأَجَرات والوقوع في حبهن؟ انشر إعلانًا في الصحافة. «جنتل، في الستين، بدون أبناء، يعاني من صعوبة في الحركة، يبحث عن سيدة، ٣٥–٤٥، بهدف الحب، أبوة روحية. رائعة الثديين، إلخ. غير مصابة بقرح الزهري.»
– لا تبحلق، بول. أمزحُ، لتستمر المحادثة. تأكَّدْ أني تعلمتُ الدرس. أعد بأني لن أحاول بعد الآن التوفيق بين شخصين. إذا قررْتَ أنه لا توجد مَن تحل مكان ماريانا في وجدانك، إما ماريانا وإما لا، أستسلمُ، أوافقُ. إلا أن عليَّ أن أخبرك بأن مارينَّا الأخرى، مارينَّا المسكينة، مستاءة بعمق من الطريقة التي عاملْتَها بها. تنتحب في منديلها. أقول لها، كوني طيبة القلب، في المحيط أسماك كثيرة. لكن ذلك لم يعزِّها. بعد أن سلَّمتْ نفسها لك جُرِح كبرياؤها. تقول، يجدني بدينة جدًّا! تنتحب. أقول، هراء، قلبه في مكان آخر، هذا كل ما في الأمر.
– لكن ربما أُسيءُ تفسير موقفك بالكامل. ربما لا تبحث عن مكافأة الحب. أو ربما البحث عن الحب قناع للبحث عن شيء مختلف تمامًا. رغم كل شيء، بول، كم من الحب يحتاج إليه شخص مثلك، إذا تحدثنا بموضوعية؟ أو شخص مثلي؟ لا شيء. لا شيء إطلاقًا. لا نحتاج إلى الحب، في هذه السن. نحتاج إلى العناية: شخص يأخذ بيدنا من حين لآخر حين نرتجف، يصنع لنا كوبًا من الشاي، يساعدنا في نزول السلالم. شخص يغلق عيوننا حين يحين الأجل. العناية لا الحب. العناية خدمة يمكن أن تقدمها أية ممرضة جديرة بالحياة، ما دمنا لا نطلب منها المزيد.
تتوقف لتلتقط أنفاسها؛ أخيرًا أمامه فرصة للحديث. يقول: جئتُ إلى هنا بحثًا عن دراجو، لا لأستمع إليك وأنت تستعرضين حكمتك. أفهم جيدًا الفرق بين الحب والعناية. لم أتوقع أبدًا أن تحبني ماريانا. أتمنى، كجنتلمان في الستين، أن أفعل ببساطة أفضل ما أستطيع لها ولأبنائها. وأمَّا مشاعري، مشاعري أمر يخصني. بالتأكيد لن أفرضها على ماريانا مرة أخرى.
– كلمة أخرى، إذا كنْتِ مصممة على أن تكوني شكَّاكة، فلا تقللي من شأن الرغبة في كل منا، الرغبة الإنسانية، لتمدي جناح الحماية.
– في كل منا؟
– نعم، في كل منا. حتى فيك. إنْ كنْتِ إنسانًا.
كفى كلامًا. تؤلمه ذراعاه، يشعر بسخونة، يود أن يجلس. لكنه لو استقر بجوار مسز كُسْتِلُّو، لظهرا بشكل يختلف تمامًا عن الحقيقة: زوجان عجوزان يلتقطان أنفاسهما. إلا أن هناك، مع ذلك، شيئًا آخر يجب أن يقال.
– لماذا تبذلين كل هذا الجهد معي، مسز كُسْتِلُّو؟ أنا سمكة صغيرة، حقًّا. ألم تسألي نفسك أبدًا ما إن كان موقفك مني خطأ؟ ما إن كنْتُ غير مخطئ من البداية إلى النهاية؟
يمر بهما رفيقان في مركب ببدَّال، صورة عظيمة فائقة الجمال، يبتسمان في سعادة.
– بالطبع طرحتُ على نفسي ذلك السؤال، بول. مرات عديدة. وبالطبع أنت، ببعض المعايير، سمكة صغيرة. السؤال هو، بأية معايير؟ السؤال هو صغير إلى أي حد؟ أقول لنفسي اصبري، ربما ينبثق منه شيء، كآخر نقطة عصير في ليمونة، أو مثل آخر نقطة دماء من حصاة. لكن نعم، قد تكون مصيبًا، وقد تكون مخطئًا، سأسلم بذلك. إذا لم تكن مخطئًا فربما لم أكن هنا في أدليد حتى الآن. أنا هنا لأني لا أعرف ماذا أفعل بشأنك.
– هل يجب أن أستسلم؟ هل أتخلى عنك وأبدأ من جديد في مكان آخر؟ أنا واثقة من أني سأجلب لك السعادة، لكني لا أستطيع. تعرض كبريائي لضربات كثيرة. لا، يجب أن أصمم حتى النهاية.
– حتى النهاية؟
– نعم، حتى النهاية المرَّة.
يتمنى أن يسمع المزيد. يتمنى أن يعرف النهاية. لكن فمها انغلق فجأة، تحدق بعيدًا عنه.
– ابتسمي إن أحببْتِ، مسز كُسْتِلُّو. لكن تذكَّري أني كنتُ ذات يوم ولدًا كاثوليكيًّا صغيرًا من الطراز الأول. قبل أن يقتلعنا الهولندي ويحضرنا إلى آخر الدنيا كنتُ أتلقى دروسًا على أيدي الأخوات الطيبات في لُرْدِز. وبمجرد وصولنا إلى بلَّرات دخلتُ في رعاية الأخوة المسيحيين. لماذا تريد أن تفعل ذلك يا ولد؟ لماذا تريد أن تقترف إثمًا؟ ألا ترى كيف ينزف قلب ربنا حين يراك تقترف الإثم؟ لم تشحب صورة يسوع وقلبه الذي ينزف في ذاكرتي أبدًا، مع أني أعطيتُ ظهري للكنيسة منذ وقت طويل. لماذا أذكر ذلك؟ لأني أريد أن أكف عن إيذاء يسوع بأفعالي. لا أريد لقلبه أن ينزف. تحتاجين إلى فهم ذلك لو أردْتِ أن تؤرخي لي.
– ولد كاثوليكي صغير من الطراز الأول. يمكن أن أرى ذلك، بول. يمكن أن أراه بوضوح. لا تنسَ أني فتاة كاثوليكية أيرلندية حقيقية، كُسْتِلُّو من نورثكوت في ملبورن. لكن واصلْ، واصلْ، أرى حديثك ثريًّا، أراه فاتنًا.
– في حياتي الباكرة لم أتحدث عن نفسي مثلما أفعل اليوم، مسز كُسْتِلُّو. يمنعني الأدب، الأدب أو الخجل. لكني أذكِّرُ نفسي بأنك محترفة، محل ثقة، مثل الطبيب أو المحامي أو المحاسب.
– أو القس. لا تنسَ القساوسة، بول.
– أو القس. على أية حال، منذ الحادث الذي تعرضتُ له بدأتُ أتخلى عن بعض هذا التكتُّم. أقول لنفسي، إذا لم تتكلم الآن فمتى تتكلم؟ وبالتالي: هل يرضى يسوع عن ذلك؟ هذا هو السؤال الذي أضعه، هذه الأيام، نصب عيني باستمرار. هذا هو المعيار الذي أحاول تحقيقه. ليس بالدقة التي يجب، التي لا بد أن أقْبلها. التسامح، مثلًا: لا أنوي أن أسامح الولد الذي صدمني بسيارته، مَهما يكن رأي يسوع. لكني أريد أن أمد يد الحماية إلى ماريانا وأبنائها، أريد أن أُسعِدهم وأجعلهم يزدهرون. عليك أن تضعي هذا في اعتبارك حين يتعلق الأمر بي، ولا أظن أنك ستضعينه.
لم يكن ما قاله عن الإعلان عما يتكتمه، عن الإفصاح عما في قلبه، صحيحًا، إذا شئنا الدقة. حتى ماريانا لم يفتح لها قلبه حقًّا. لماذا إذن يتعرى أمام كُسْتِلُّو المرأة، وهي بالتأكيد ليست صديقة؟ لا توجد إلا إجابة واحدة فقط: لأنها أنهكتْه. أدت دورها المهني بدقة. يتخذ المرء موقعه بجوار فريسته، وينتظر استسلام الفريسة في النهاية. يعرف ذلك كل قس. أو كل جشع. إنها معرفة جشعة.
تقول: اجلس، بول. لا أستطيع أن أواصل النظر إليك.
يرتمي بجانبها.
تُهَمْهم: قلبك الدامي. تومض الشمس الغاربة وهي تخترق المياه بحيث تضطر إلى أن تحجب عينيها عن الشمس. تجتمع عائلة البط، أكثر من عائلة البط، عشيرة البط، تجتمع لتشن هجومًا آخر على الأرض. من الواضح أنها قيَّمته، ذلك المقتحم، وتبينتْ أنه غير مؤذٍ.
– نعم، قلبي النازف.
فكَّرَ في تقديم اقتراح للسلام؛ فكَّر في أن يعرض على المرأة، إن لم يكن سقفًا يظلها في الليل، فعلى الأقل تذكرة عودة بالطائرة إلى ملبورن. لكن الانزعاج القديم يغمره الآن من جديد. يرد ببرود شديد: وهل أنتِ متأكدة من أنكِ لا ترين تعقيدات حيث لا تكون هناك تعقيدات، لتكتبي تلك القصص السخيفة؟
تدس مسز كُسْتِلُّو يدها في حقيبة من البلاستيك عند طرف ثوبها، وتفتت قطعة من الخبز، وتقذفها باتجاه البط. يجتمع البط في جلبة شديدة حول النعمة.
تقول: بول، نود جميعًا أن نكون بسطاء، هذا ما نتمناه جميعًا. خاصة حين نقترب من النهاية. لكننا، نحن البشر، كائنات مُعقَّدة، هذه طبيعتنا. تريد أن أكون أبسط. أنت نفسك تريد أن تكون أبسط، أن تتعرى أكثر. حسن، أحدِّقُ مندهشة، صدِّقْني، في جهودك لتعرية نفسك. لكن القلب البسيط الذي تريده، الطريقة البسيطة في رؤية العالم، مسألة مكلفة. انظرْ إليَّ. ماذا ترى؟
يصمتُ.
– أخبركَ بما ترى، أو بما تحدِّث نفسك بأنك تراه. عجوز تطعم البط على شاطئ نهر تورنس، عجوز تصادف أنها تقترب من النهاية بثياب داخلية نظيفة، عجوز تزعجك بتلميحاتها الماكرة كما تعتقد.
لكن الواقع أكثر تعقيدًا من ذلك، بول. ترى في الواقع أكثر من ذلك — تراه ثم تستبعده. ثمة ضوء بقوة معينة، مثلًا. الشخصية التي يقع عليها هذا الضوء تجلس بالقرب من مياه تنساب في هدوء. تطعنها رماح الضوء، تهدد باختراقها.
– تعقيد غير ضروري؟ لا أظن ذلك. تمدُّدٌ. كالتنفس. شهيق، زفير. تمدد، تقلصٌ. إنه إيقاع الحياة. بول، بداخلك استعداد لأن تكون شخصًا أكمل، أكبر وأرحب، لكنك لن تسمح بذلك. ألحُّ عليك: لا تقطعْ تيارات أفكارك. تتبعْها حتى نهايتها. أفكارك ومشاعرك. تتبعْها وستكبر معها. ماذا قال الشاعر الأمريكي؟ ثمة ذبذبات من شيء إلى شيء يغطيها الخيالي. ذاكرتي تخفت. أصبح أكثر إبهامًا مع كل يوم يمر. يا له من أمر يثير الشفقة. هذا هو الدرس الذي أحاول أن أعلمك إياه. يجدها على شاطئ النهر، تجلس على أريكة، يحيط بها بط يبدو أنها تطعمه، قد يكون وصفًا بسيطًا، وقد تكون بساطته خادعة، لكنها ليست رائعة بما فيه الكفاية. لا تدفعني إلى الحياة، قد يكون دفعي إلى الحياة لا أهمية له عندك، لكن عيبه أنه لا يدفعك إلى الحياة أنت الآخر. أو البط، في هذه المسألة، إذا كنتَ تفضل ألا أكون في مركز الصورة. ادفع هذا البط التافه إلى الحياة وأعدُكَ بأنه سيدفعك إلى الحياة. ادفع ماريانا إلى الحياة، إذا كان لا بد أن تكون ماريانا، وستدفعك إلى الحياة. المسألة بهذه البساطة. لكن من فضلك، خدمةً لي، من فضلك كف عن التردد. لا أعرف إلى متى يمكن أن أدعم طريقة وجودي الحالية.
– إلى أية طريقةِ وجودٍ تشيرين؟
– الحياة العامة. الحياة في الأوساط الاجتماعية، معوِّلة على اللياقة العامة. الحياة برفقة السكارى والمتشردين الذين نَصِفُهم عادة بالهيبز. ألا تتذكر؟ حذَّرْتُك من أني لم يكن لي مأوى أذهب إليه.
– كلامك لا معنى له. يمكن أن تحجزي غرفة في فندق. يمكن أن تركبي طائرة وتعودي إلى ملبورن أو تذهبي إلى حيث تريدين. سأسلِّفُكِ الفلوس.
– نعم، تستطيع أن تفعل ذلك. بالضبط مثلما تستطيع التخلص من آل يوكتش المُزعِجِين المتقلِّبِين وتبيع شقتك وتنتقل إلى دار للمسنين معدَّةٍ جيدًا. لكنك لا تفعل. نحن لا نتغير، بول. هذه هي الحياة التي تُمنَح لنا، حاليًّا لنحياها، ويجب أن نحياها. حين أكون معك يكون لي مأوى؛ وأتشرد حين لا أكون معك. هكذا قرر الزَّهْر. هل كلامي يدهشك؟ لا تندهشْ. ولا تؤنب نفسك. صرتُ في حالة طيبة بشكل مدهش في هذه الحياة الجديدة. انظر إليَّ، لا يمكن أن تقول إني أعيش في حقيبة سفر، أليس كذلك؟ أو أني لم أتناول الطعام في بعض الأيام. باستثناء حبة أو حبتين من العنب.
يصمتُ.
– على أية حال، يكفي الحديث عن نفسي. وأنا أتحدث عن نفسي، بصبر، لم يطلب مني بول ريمنت أن أنزل من فوق كتفيه. ومع ذلك، لو أسرع بول ريمنت فستكون مساعدة عظيمة. قد أكون، كما ذكرْتُ، قريبة من النهاية، لا أستطيع أن أعبر لك عن مدى إرهاقي، ليس إرهاقًا يمكن علاجه بالنوم ليلة هادئة في سرير حقيقي، الإرهاق الذي أقصده صار جزءًا مني يشبه الصبغة التي تتسرب إلى كل ما أفعله، وكل ما أقوله. أشعر — بتعبير هوميروس — أنني مرخية الأوتار، وهي كلمة مألوفة لك، على ما أذكر، لم تعد هناك قوة شد، ارتخى وتر القوس الذي اعتاد أن يكون مشدودًا، صار مثل جديلة من القطن، وهذا ليس حال الجسد فقط، العقل — أيضًا — مرتخٍ، مستعدٌّ لنوم هادئ.
مضى وقت طويل ولم يتطلع إلى إليزابيث كُسْتِلُّو، لم يتطلع إليها حقًّا؛ وذلك يعود — في جانب منه — إلى أنها أَتَته في غيمة من السخط، وفي جانب آخر إلى أنه يجدها بلا لون وبلا ملامح، بالضبط مثلما لا يجد تميزًا في ملابسها، لكنه ينتبه إليها الآن بكل تركيز وتروٍّ، وكانت في الحقيقة — كما تقول — فقدتْ جزءًا من وزنها، لحم ذراعها مُترهِّل، وجهها شاحب، أنفها ناتئ.
يقول: لو طلبتِ مني أن أساعدك لساعدْتُكِ، بشكل عملي، أنا على استعداد لمساعدتك الآن. وبشأن الأمور الأخرى — يهزُّ كتفيه — لسْتُ مترددًا، على الأقل في نظر نفسي، أعمل بسرعة طبيعية، لستُ رجلًا استثنائيًّا، مسز كُسْتِلُّو، ولا أستطيع أن أصير استثنائيًّا من أجْلكِ، آسف.
سيساعدها، يعني ما يقول، يشتري لها وجبة، يشتري لها التذكرة، ويذهب معها إلى المطار، يودِّعُها.
تقول: أنتَ رجل بارد تنطق كلمة الإدانة ببساطة، بابتسامة، أنتَ رجل مسكين بارد، بذلتُ قصارى جهدي لتفهم، لكنك لم تفهم شيئًا. بُعِثْتَ إليَّ، بُعِثْتُ إليكَ. لماذا يجب أن يَحدُث ذلك؟ الرب وحده يعلم. عليك الآن أن تُشفي نفسك قدر ما تستطيع، لن أحاول استعجالك بعد الآن.
تقف على قدميها، بصعوبة، تطوي حقيبتها الفارغة، تقول: سلام.
يبقى مكانه مدة طويلة بعد انصرافها، يبحلق في النهر، ويرتجف. سكونه يشجع البط الذي اعتاد أن يُقدَّم الطعام له، فيقترب من قدميه، لكنه لا يلتفت إليه.
بارد: هل هكذا يبدو حقًّا في أعين الغرباء؟ يريد أن يعترض، يتمنى بصدق، سيشهد أصدقاؤه على ذلك، أولئك الذين يعرفونه أفضل بكثير مما تعرفه كُسْتِلُّو المرأة، حتى المرأة التي كانت زوجته ستُسلم بذلك، يتمنى بصدق، يتمنى الأفضل. كيف يوصف إنسان بالبرود وهو يتمنى الخير من كل قلبه، وحين يعمل، يعمل مِن قلبه؟
بارد، ليست الكلمة التي استخدمَتْها زوجتُه. ما قالتْه كان مختلفًا تمامًا، قالت: أظن أنك كنْتَ فرنسيًّا، أظن أن لديك فكرة. فكرة عن ماذا؟ بعد أن تركَتْه بسنوات، حيَّرتْه الكلمات. فكرة عن ماذا، تلك التي يفترض أن تكون عند من كان فرنسيًّا، حتى لو كان فرنسيًّا أسطوريًّا؟ عمَّا يُسعد المرأة؟ ما يسعد المرأة لغز في عمر أبي الهول. لماذا يجب على الفرنسي أن يتمتع بالقدرة على حَلِّه، ناهيك أن يكون فرنسيًّا نظريًّا مثله؟
بارد، أعمى. شهيق، زفير. لا يتقبل المهمة؛ لا يؤمن بحقيقتها. الحقيقة لا تقال لحظة الغضب. الحقيقة تقال — إن قيلتْ — بالحب، نظرة الحب لا تَخدع. يرى الحب أفضل ما في المحبوب، حتى لو كان من الصعب أن ينبثق أفضل ما في المحبوب إلى النور. مَنْ ماريانا؟ ممرضة من دبروفنيك. خصرها قصير وأسنانها صفراء وساقاها لا بأس بهما. من يُتوقَّع منه أن يرى — بنظر الحب — عيني غزالة خجولتين داكنتين مختبئتين وراء ذلك؟
هذا ما تعجز إليزابيث كُسْتِلُّو عن فهمه، تفكر فيه إليزابيث وكأنه عِقاب حلَّ بها ليفسد عليها آخِر أيام حياتها، كفَّارة غير مفهومة يُحكَم عليها بنطقها، بسردها، بتكرارها. تنظر إليه بنفور، بفزع، بسخط، بقلب أسود، بأي شيء إلا الحب. حسن، حين يصطادها في المرة القادمة سيلقنها درسًا. سيقول: لستُ باردًا، ولسْتُ فرنسيًّا أيضًا. رجل يرى الدنيا بطريقته ويحب بطريقته. رجل فقد منذ فترة وجيزة جزءًا من جسمه، لا تنسي ذلك، سيقول: بقليل من المحبة ربما تجدين في نفسك القدرة على الكتابة.