٢٦
على طاولة الردهة ورقة مكتوبة على عجل: بالسلامة مستر ريمنت. تركتُ بعض الأشياء، سآخذها غدًا. شكرًا على كل شيء، دراجو. حاشية: الصور الفوتوغرافية كلها في موضعها.
يتبين أن الأشياء التي يشير دراجو إليها حقيبة نفايات مليئة بالملابس، يضيف إليها زوجًا من السراويل يجده بين مفارش السرير. باستثناء ذلك لا أثر لآل يوكتش، الأم أو الابن. يأتيان، ينصرفان، لا يقدمان تفسيرًا لسلوكهما. تعوَّدَ على ذلك.
لكن يا لها من راحة أن يكون وحده مرة أخرى! أن تعيش مع امرأة شيء؛ شيء مختلف تمامًا عن أن يشارك المرء في بيته شابٌّ مُهمِل لا يراعي شيئًا. التوتر الدائم، القلق الدائم حين يَحتلُّ ذَكران نفس المقاطعة.
يقضي بعد الظهيرة في ترتيب المكتب، واضعًا الأشياء في أماكنها المعتادة؛ ثم يأخذ حمامًا. أثناء الحمام تسقط فجأة قارورة الشامبو. وهو ينحني لالتقاطها، ينزلق إطار زيمر، الذي يأخذه معه دائمًا في المكان الذي يتواجد فيه. يفقد اتزانه فيسقط، وتصطك رأسه في الحائط.
احفظني من الكسور، ذلك أول أدعيته. يحاول أن يحرك ساقيه مستندًا على الإطار. تسري ومضة من الألم الحادِّ من ظهره إلى ساقه السليمة، يأخذ نفَسًا بطيئًا وعميقًا. يقول لنفسه: اهدأْ، زلة قَدَم في الحمام، لا شيء يخيف، يحدث ذلك لكثير من الناس، وقد يكونون جميعًا بخير. وقت طويل حتى تفكر، وقت طويل حتى تعود الأمور إلى طبيعتها.
تعني عودة الأمور إلى طبيعتها (يحاول أن يكون هادئًا وواضحًا)؛ واحدًا: أن يفلت من الإطار؛ اثنين: يخرج من الموضع الذي هو فيه؛ ثم، ثلاثة: يقيِّم ما حدث لظهره؛ وأربعة: يستعد لما يأتي بعد ذلك.
تكمن المشكلة بين واحد واثنين؛ لا يستطيع الإفلات من إطار زيمر بدون أن يجلس منتصبًا، ولا يستطيع الجلوس بدون ألم مبرِّح.
لم يهتم أحد بأن يقول له، ولم يفكر في أن يسأل أحدًا، من هو زيمر الذي يلعب هذا الدور في حياته؛ ليريح نفسه تخيل زيمر رجلًا نحيل الوجه مضموم الشفتين، يرتدي زيًّا بياقة عالية وشريط من ثلاثينيات القرن التاسع عشر. جون أوجست زيمر، ابن لفلاحَيْن نمساويين، عزم على الهروب من الكدح في حقل العائلة، يكدح على ضوء الشمعة فوق كتب التشريح وخلف البيت في «الزريبة» تخور البقرة الحلوب في نومها. بعد أن يشق طريقه في الامتحانات بصعوبة (ليس طالبًا موهوبًا)، يعمل جرَّاحًا في الجيش، يقضي الأعوام العشرين التالية في تضميد الجروح وقطع الأطراف باسم سمو صاحب الجلالة الإمبراطور كارل جوزيف أوجست، الملقب بالطيب. ثم يتقاعد من الخدمة وبعد تنقلات عديدة يهبط في باد شوانِنْسي، أحد المنتجعات المعدنية في بوهيميا، يعالج السيدات المصابات بالتهابات المفاصل. وهناك تنبثق في رأسه فكرة رائعة لتعديل الآلة التي كانت تستخدم في كارنيثيا منذ قرون لتعليم الأطفال المشي بحيث تصلح لمرضاه الذين يعانون من الوهن، واكتسب لنفسه الخلود ببساطة.
هو الآن على الأرضية المفروشة بالمشمَّع، عارٍ، عاجزٌ عن الحركة، واختراع زيمر فوقه يغلق باب المكان، بينما المياه تواصل التدفق والشامبو المنساب من القارورة يرتفع في فقاعات من حوله، والبتر الذي خُبِط في نهايته الملتهبة بدأ يؤلمه ألمًا مميزًا. يفكر، يا لها من ورطة! أَحمَدُ الرَّب أن دراجو لا يشاهد هذا المنظر! أَحمَدُ الرَّب أن كُسْتِلُّو المرأة ليست هنا لتهزأ به!
إلا أن هناك عواقب لعدم وجود دراجو أو كُسْتِلُّو المرأة أو شخص آخر بقربه. إحداها، مع أن المياه الدافئة تتدفق إلا أن ينضح بالبرودة. الحنفيات أبعد من أن يصل إليها. هو حر بالتأكيد في أن ينام هنا طوال الليل بدون أن يتعرض لخطر السخرية؛ لكنه سيكون قرب الفجر قد تجمد حتى الموت.
يستغرق الأمر ثلاثين دقيقة كاملة ليتحرر من السجن الذي وقع فيه. ولما كان عاجزًا عن الوقوف، عاجزًا عن دفع إطار زيمر بعيدًا عن طريقه، يصر على أسنانه ويشد باب المكان إلى الخلف حتى تنخلع المفصلات.
يتلاشى العار في الحال، يزحف على الأرض حتى التليفون، يطلب رقم ماريانا، يسمع صوت طفلة. يقول من بين أسنانه المصطكة: مسز يوكتش، من فضلك. ثم: ماريانا، تعرضتُ لحادثة. أنا بخير لكن هل يمكن أن تأتي الآن؟
– أية حادثة؟
– وقعتُ؛ تعرض ظهري لشيء ما، لا أستطيع الحركة.
– آتي.
يجر ملاءات السرير ويجثم تحتها، ولا يشعر بالدفء، لا يقتصر الأمر على يديه وقدمه، أو على رأسه وأنفه، بل إن بطنه وقلبه غارقان في البرد؛ تزداد حِدَّة التقلص فيتصلب ويرتجف، يتثاءب حتى يصيبه الدوار من التثاؤب. دم عجوز، دم عجوز، تدق الكلمات في مخه، لا توجد حرارة كافية في العروق.
يرى أنه مُعلَّق من كاحليه في غرفة باردة وسط غابة من هياكل السيارات المجمدة، ليس بالنار بل بالثلج.
يغفو إغفاءة خفيفة، وفجأة تنحني ماريانا فوقه، يحاول أن يرسم ابتسامة على شفتيه المتجمِّدتين، يحاول أن ينطق، يئن: ظهري. بحذر. يحمد الرب؛ لأنه لا يحتاج إلى أن يشرح كيفية حدوث ذلك؛ لا بد أن كيفية حدوث ذلك سيكون واضحًا من الفوضى في الحمَّام ومن خرير الدش البارد.
لا يوجد شاي، لكن ماريانا تصنع له قهوة، وتضع برشامة بين شفتيه، تساعده على الشرب، وبقوة مدهشة ترفع جسده من الأرض إلى السرير. تقول: هل أصابك الذعر، إيه! ربما تتوقف من الآن عن الاستحمام تحت الدش بمفردك.
يومئ مطيعًا، يغلق عينيه. تحت إسعافات هذه المرأة الرائعة والمُمرِّضة البارعة، يشعر بذوبان الثلج داخله، لم تنكسر عظام، لن تُؤنِّبه مسز بوتس، ولن تسخر منه مسز كُسْتِلُّو. وبدلًا من ذلك، حضور لطيف لملاكٍ تتخلى عن كل شيء وتأتي لتساعده.
لا شك أن المستقبل يحمل لمعوَّق عجوز مزيدًا من الحوادث المؤسِفة، مزيدًا من السَّقَطات، مزيدًا من المكالَمات المُخزِية طلبًا للمساعدة، إلا أن ما يحتاج إليه في هذه اللحظة ليس هذا المنظور المحبِط الكئيب بل هذا الحضور البارز، الحضور الأنثوي الرقيق المُواسي. هناك، هناك، اهدأ، انتهى كل شيء، هذا ما يريد أن يسمعه، وأيضًا: سأبقى بجانبك وأنت نائم.
وهكذا ينتابه إحساس طفولي بالأسَى حين تنهض ماريانا وترتدي سترتها بسرعة وتلتقط مفاتيحها. يقول: ألا يمكن أن تبقي بعض الوقت؟ ألا يمكن أن تقضي الليل؟
تجلس مرة أخرى على جانب السرير. تقول: لا شيء إن دخنتُ مرة فقط؟ تشعل سيجارة، تنفث الدخان وتنفخه بعيدًا عنه. «لنا حديث، مستر ريمنت، لإصلاح الأمور. ماذا تريد مني؟ هل تريد أن أمارس وظيفتي، أعود، أكون ممرضة لك؟ ثم لا تقول تلك الأشياء، من قبيل.» تلوِّح بالسيجارة وتعرف ماذا أقصد.
– يجب ألا أتحدث عن مشاعري نحوك.
– تمر بوقت عصيب، تفقد ساقك وكل ذلك، أفهم. لك مشاعر، مشاعر رجل، أفهم، هذا حسن.
مع أن الألم يبدو أنه يتضاءل، إلا أنه لا يستطيع الجلوس. يقول، وهو مستلقٍ على ظهره: نعم، لي مشاعري.
– لكَ مشاعر، تقول أشياء، هذا طبيعي، هذا حسن. لكن …
متقلِّب. تلك هي الكلمة التي تبحثين عنها. أنا متقلب جدًّا بأكثر مما تتقلبين، كثيرًا جدًّا ما أكون تحت رحمة المشاعر التي تشيرين إليها. أُعبِّر عن قلبي بكثير من الصراحة، أتكلم كثيرًا جدًّا.
– رحمة، ما رحمة المشاعر؟
– لا تبالي؛ أعتقد أني أفهمكِ. تعرضتُ لحادثة واهتزت أعماقي. ترتفع معنوياتي، تنخفض معنوياتي، لم تَعُد تحت سيطرتي؛ لذلك أرتبط بأول امرأة تمر في طريقي، أول امرأة تتعاطف معي. أسقط، اعذريني على الكلمة، في حبها؛ أسقط أيضًا، وبطريقة مختلفة، في حب أبنائها. أنا، الذي لا أطفال له، أريد فجأة أن يكون لي أطفال، وهذا هو السبب في الخلاف الحالي بيننا، بينك وبيني، ويمكن أن يعود هذا كله إلى اقترابي من الموت على طريق مَجيل. هزني طريق مَجيل بقوة حتى إني اليوم أترك مشاعري تتدفق بدون أن أتدبر العواقب. أليس هذا ما تَودِّين قوله؟
تهز كتفها لكنها لا تعارضه. تنغمس بدلًا من ذلك في التدخين بترف، نافثة الدخان، وتتركه يواصل. يتعرف لأول مرة على اللذة الحسية التي يمكن أن توجد في التدخين.
– حسن، أنتِ مخطئة، ماريانا. الأمر ليس كذلك إطلاقًا؛ لستُ مشوشًا، قد أكون متقلِّبًا، لكن التَّقلُّب ليس انحرافًا، ربما يجب أن نكون جميعًا أكثر تقلُّبًا، كل منا. هذا رأيي الجديد المنقَّح. علينا أن نَرُج أنفسنا أكثر. علينا أيضًا أن نتشجع وننظر في المرآة، حتى إذا كنا نكره ما نراه هناك. لا أشير إلى آثار الزمن، أشير إلى المخلوق السجين خلف الزجاج الذي نحرص بشكل طبيعي على أن نتجنب نظرته. انظرْ هذا الكائن الذي يأكل معي، يقضي الليالي معي، يقول «أنا» ويقصدني! إذا رأيتِ أني متقلِّب، ماريانا، ألا يعود ذلك إلى أني عانيتُ من صدمة؛ لأن هذا الغريب الذي يقول «أنا» يُطل من وقت إلى آخر من الزجاج وينطق فيَّ. من خلالي، ينطق الليلة. ينطق الآن. ينطق حبًّا.
يتلعثم. يا له من وابل من الكلمات! كم تختلف عنه! لا بد أن ماريانا مندهشة. هل هناك حقًّا في هذه اللحظة غريب يتحدث عبر مرآة، يسيطر على صوته؟ (لكن أية مرآة؟) أم إن التدفق الحالي ليس سوى نوبة من التقلُّب، إثر الحادثة الأخيرة — خبطة الرأس، الظهر الممزوق، البتر المؤلم، الدُّش الثلجي، وهلم جرًّا — يرتفع في حلقه مثل المرارة، مثل القيء؟ وربما كان ذلك ببساطة بتأثير البرشامة التي قدَّمتْها له ماريانا (ماذا يمكن أن تكون هذه البرشامة؟) أو حتى بتأثير القهوة؛ ليس متعودًا على القهوة في المساء.
ينطق حبًّا. ليس متأكدًا، فهو لا يلبَس النظارة، لكن الخجل يبدو زاحفًا من حلْق ماريانا. تقول ماريانا إنها تريده أن يكبح جماح نفسه، لكن هذا هراء، لا يمكن أن تعني ذلك حقًّا. أية امرأة لا تريد وابلًا من كلمات الحب تتدفق عليها من وقت إلى آخر، مَهما تكن مصادرها موضع تساؤل؟ تستحي ماريانا، ولسبب بسيط فهي أيضًا مُتقلِّبة. ومِن ثم؟ ماذا بعد ذلك؟ ولذا فكل هذا مترابط! ووراء هذه الفوضى الظاهرة منطق إلهي يعمل! يخرج واين بلايت فجأة من حيث لا يدري ليسحق ساقه سحقًا، ثم ينهار بعد شهور في الحمَّام، ثم يصبح هذا المَشهد ممكنًا: رجل في الستين مقيد ومتيبس إلى حد ما في السرير، يرتجف من وقت إلى آخر، ينهمر بالفلسفة على ممرضته، ينهمر حبًّا، والدماء تتحرك في عروقها، استجابة!
متهللًا، يفرد يده (تجاهل الألم، من يبالي بالألم!) ويضعها (يلاحظ) ضخمة وشاحبة إلى حد ما وغير جذابة على يد ماريانا، وهي أدفأ وأصغر وأصابعها دقيقة الأطراف مما يدل — في رأي جَدَّته في تولوز — على مزاج حسِّي.
تترك ماريانا يدها تحت يده لحظة، ثم تتحرر، تطفئ السيجارة، تنهض وتبدأ في غلق أزرار سترتها مرة أخرى.
يقول: ماريانا، لن ألحَّ، لا الآن ولا مستقبلًا.
– نعم؟ ترفع رأسها، وتنظر إليه نظرة ساخرة: لن تلح؟ هل تظن أني لا أعرف شيئًا عن الرجال؟ يلح الرجال دائمًا. أريد، أريد، أريد. بالنسبة لي، أريد أن أقوم بوظيفتي، هذا طلبي. وظيفتي في أستراليا مُمرِّضة.
تتوقف. لم تخاطبْه أبدًا بهذه القوة، بهذا الغضب (كما يبدو له).
– تتصل، حسن أن تتصل، لا بأس، لكن هذا — تطوح بيدها — هذا الحمام ليس من الطوارئ، ليس من الطوارئ الطبية، تقع في الحمام، تتصل بصديق. «أنا مرتاع، تعالي من فضلكِ.» هذا ما قلْتَه. تتناول سيجارة جديدة، تَعدِل عن رأيها، تعيدها إلى العلبة، تقول: إليزابيث. تتصل بإليزابيث، أو تتصل بأية صديقة أخرى، لا أعرف أصدقاءك. «أنا مُرتاع، من فضلكِ خذي بيدي. ليست طوارئ طبية، فقط من فضلكِ تعالي خذي بيدي.»
– لم أكن مرتاعًا بالضبط، جرحتُ نفسي، لا أستطيع أن أتحرك، يمكن أن تَرَي.
– تقلُّصٌ، تقلُّصٌ ليس إلا، أترك لك برشامًا من أجله. تقلُّصٌ في الظهر ليس من الطوارئ الطبية. تتوقف. أم أنك تريد أكثر؟ ليس فقط خذي بيدي، تريد — كما تقول — الشيء الحقيقي؛ ولذا فعليك أن تنضم لأحد نوادي ذوي القلوب الوحيدة، إذا كان قلبك وحيدًا.
تسحب نفَسًا، وتنظر إليه متأمِّلة: تظن أنك تعرف معنى أن أكون ممرضة، مستر ريمنت؟ كل يوم أمرِّضُ سيدات مُسنَّات، رجالًا مُسنِّين، أنظِّفُهم، أنظِّف أوساخهم، لا أحتاج إلى أن أقول ذلك، أغيِّر الملاءات، أغيِّر الملابس، أسمع باستمرار افعلي هذا، افعلي ذلك، أحضري ذلك، أشعر أني لستُ على ما يرام، أحضري البرشام، أحضري كوب ماء، أحضري كوب شاي، أحضري بطانية، ارفعي البطانية، افتحي النافذة، أَغلِقي النافذة، لا أحب هذا، لا أحب ذلك. أعود إلى البيت مُرهَقة حتى النخاع، يرن التليفون، أي وقت، الصباح، الليل: طارئ، هل يمكن أن تأتي؟
كانت خجولة قبل دقائق، الآن هو الذي يجب أن يخجل. طارئ … هل يمكن أن تأتي؟ بالطبع، لا تُعَد هذه الحالة، في لغة مُحترِفي الرعاية، من الطوارئ، لا يهلك المرء من البرد في شقة مكيفة الهواء في ممر كنستون، شمال أدليد. كان يعرف ذلك حتى وهو يطلب رقم يوكتش، لكنه طلب الرقم على أية حال. تعالي، أنقذيني! قال عبر الفضاء الأسترالي الجنوبي.
يقول: كنتِ أول من خطر على بالي، خطر اسمُكِ على بالي أولًا، اسمك، وجهك. هل تظنين أن ذلك ليس له اعتبار — أن تكوني الأولى؟
تهز كتفها. يسود الصمتُ بينهما. بالطبع إنها كلمة كبيرة، كلمة تحمل الكثير أن تندفع إلى شخص أولًا، لكن ليست هذه هي الكلمة التي يُتوَقَّف عندها. اسمكِ. خطر اسمك على بالي. خطرْتِ على بالي. كلمات خرجتْ منه بلا تفكير، أتتْ إليه. هل يكون المرء على هذا النحو حين يكون متقلبًا: تأتي الكلمات ليس إلا؟
– فكرْتُ باستمرار، يضغط على الكلمات، التمريض مهنة. اعتقدتُ أن هذا ما يجعلها مرفوضة، قضاء ساعات طويلة مقابل أجر ضئيل بالإضافة إلى الجحود والإهانات، من قبيل ما ذكرْتِ أنك تُلبِّين المكالمات. حسن، حين تُستدعى ممرضة، ممرضة حقيقية، لا تطرح أسئلة، تأتي، حتى لو لم تكن حالة طوارئ حقيقية، حتى لو كانت مجرد محنة، محنة إنسانية، أو ما تسمينه ارتياعًا. لم يلقن ماريانا محاضرة من قبل، لكن ربما كانت المحاضرة هي الطريقة التي تختارها الحقيقة، هذه الليلة؛ لتنجلي، حتى لو كان مجرد حب.
حب: أكبر الكلمات الكبيرة، ومع ذلك، تتركه يلقيها عليها، تمتص الضربة هذه المرة، تكاد لا ترمش. أزرار سترتها مغلقة كلها الآن، من القاع إلى القمة.
يكرر بمرارة: مجرد حب.
تقول ماريانا: آن أن أنصرف؛ المسافة طويلة إلى منو بارا، ألا ترى؟
يقمع بمشقةٍ نوبة جديدة من الارتجاف، يقول: ليس الآن، ماريانا، خمس دقائق، ثلاث دقائق، من فضلك. نتناول مشروبًا معًا وتنزلين وتعود الأمور إلى طبيعتها. لا أريد أن أشعر بأني لن أستطيع استدعاءك مرة أخرى أبدًا، من الخجل. نعم؟
– نعم، ثلاث دقائق، لكن لن أتناول شرابًا؛ سأسوق، ولا شراب لكَ، لا يتفق الكحول والبرشام.
تعود إلى كرسيها ببعض التصلُّب، تمر دقيقة من الثلاث.
يسأل بغضب: ماذا يعرف زوجك بالضبط؟
تنهض، تقول: أذهبُ الآن.
•••
مكروبًا، نادمًا، متألمًا، متضايقًا، يرقد مستيقظًا طوال الليل، البرشام الذي قالت ماريانا إنها ستتركه لا يوجد في أي مكان.
يأتي الفجر، يريد أن يذهب إلى المرحاض، يحاول بحذر أن يزحف من السرير، في منتصف الطريق إلى الأرض يشتد الألم من جديد، ويشل حركته.
ألم الظهر ليس من الطوارئ، تقول ماريانا، التي يستأجرها لتنقذه بالضبط من أجل مثل هذا النوع من المعاناة. هل العجز عن التحكُّم في المثانة يعتبر من الطوارئ؟ لا، لا بوضوح. إنه جزء من الحياة، جزء من الشيخوخة؛ يستسلم بصورة مُزرِية ويتبول على الأرض.
على هذا الوضع يجده دراجو الذي كان عليه أن يكون في المدرسة لكنه لم يكن فيها لأسباب تخصه حين يصل ليأخذ حقيبة أشيائه: نصفه في السرير، نصفه خارج السرير، ساقه مشبوكة في مفارش السرير المُلتفَّة، مربوطًا، متجمدًا.
إن كان لا يخبئ شيئًا عن ماريانا؛ فذلك لأنه لا يمكن أن يكون أكثر إذلالًا أمامها مما كان بالفعل. القصة مختلفة مع دراجو. هو الآن، العجوز اليائس في بيجامة تبول فيها يجرجر وراءه بترًا قرنفليًّا قذرًا انزلقت من فوقه الضمادات الغبية، لو لم يكن بهذا البرود لانتابه الخجل.
ولا يتردد دراجو! هل هذا السلوك العملي مع الجسد يجري في العائلة؟ مثلما ساعدته أم دراجو ليصعد إلى السرير، يساعده دراجو لينزل عنه، وهو يحاول أن يبرر، أن يعتذر عن ضعفه، ودراجو هو الذي يهدِّئه: لا تنزعج مستر ريمنت، استرخِ فقط وسينتهي الأمر في دقيقة. ثم ينزع مفارش السرير ويقلب المرتبة ويفرش (بدون دراية، إنه ولد على أي حال) ملاءات نظيفة، ودراجو هو الذي يعثر على بيجامة نظيفة ويساعده في صبر، محوِّلًا عينه كما تقتضي أصول الذوق، على ارتدائها.
يقول في النهاية: شكرًا يا بني، رائع. هناك المزيد مما يود قوله؛ لأن قلبه مُفعَم به، من قبيل: تخلَّتْ أمُّكَ عني؛ تخلَّتْ عني مسز كُسْتِلُّو، التي تثرثر وتثرثر عن الرعاية لكنها تراعي ألا تكون موجودة حين تكون الرعاية مطلوبة؛ تخلَّى الكل عني؛ حتى الابن الذي لم أنجبه في يوم من الأيام؛ ثم أتيتَ أنتَ! لكنه يبقى هادئًا.
يتصل دراجو بالتليفون، يعود. تقول ماما يجب أن آتي لك ببرشام لعلاج الألم. معي اسمه هنا. تقول إنها كانت تنوي أن تترك لك بعضه لكنها نسيتْ، يمكن أن أذهب إلى الصيدلية؛ لكن …
– الفلوس في محفظتي، في درج المكتب.
– شكرًا. هل لديك مِمسحة في مكان ما؟
– خلف باب المطبخ. لكن لا …
– لا شيء، مستر ريمنت. يستغرق الأمر دقيقة.
تَبيَّن أن البرشام السحري ما هو إلا بروفين. تقول ماما خذ برشامة كل أربع ساعات، وعليك أن تأكل أولًا. هل أحضر لك شيئًا من المطبخ؟
– أحضرْ لي تفاحة أو موزة لو فيه، دراجو؟
– نعم؟
– سأكون الآن على ما يرام، ليس عليك أن تبقى، شكرًا على كل شيء.
– نعم.
لتكتمل الفقرة، كان على دراجو أن يقول: نعم، كنتَ ستفعل معي نفس الشيء. وهذا صحيح! إذا اجتاح دراجو طوفانٌ، إذا صدمه غريب مُهمَل وهو على الموتوسيكل، فإنه، بول ريمنت، سيحرك السماء والأرض، وينفق كل قرش معه، لينقذه. سيلقن العالَم درسًا في كيفية رعاية طفل محبوب، سيكون كل شيء له، أبًا وأمًّا، سيبقى بجوار سريره ليلًا ونهارًا ليرعاه. لو فقط!
عند الباب يلتفت دراجو، يُحيِّيه، ويبتسم له واحدة من ابتساماته الملائكية التي لا بد أنها تجعل الفتيات ينتشين. أراك!