٣
مستهتر. كم عانى، ذلك اليوم على طريق مَجيل، ليشهد كلمة الآلهة، المكتوبة على آلتهم الكاتبة السحرية! حين ينظر إلى الوراء، لا يمكن إلا أن يبتسم. يا له من أمر طريف، يا له من أمر عتيق حقًّا، الاعتقاد بأن المرء يتلقى النصيحة، وقت صعود الروح. أي كائنات يمكن أن تُترَك، في أي ركن من العالم، لتهتم بفحص حسابات أسرَّة الموت التي تصعد إلى السماوات، الديون على عمود والأرصدة على الآخر؟
إلا أن مستهترًا ليست كلمة سيئة في وصفه؛ لأنه كان كذلك قبل الحادث وربما ما زال كذلك. مع أنه لم يتسبب في حياته في أذًى يُذكَر، إلا أنه لم يفعل أيضًا أي خير. لن يخلِّف أثرًا وراءه، ولا حتى وريثًا يحمل اسمه. التزحلق عبر العالم: هذا ما جعلهم، في عصور غابرة، يعتادون على تجاهل الحيوات التي تشبه حياته: متابعة اهتماماته تفشل تمامًا في لفت الأنظار إليها. إذا كانت حياة بلا أثر فمن يصدر حكمًا على هذه الحياة، إذا كان قاضي القضاة قد تخلى عن القضية وانسحب ليقلم أظافره، فسيصدر الحكم بنفسه: فرصة هزيلة.
لم يعتقد أبدًا أنه سيقول كلمة طيبة يقولها عن الحرب، لكن يبدو أنه يراجع آراءه هنا، في سريره بالمستشفى، وهو يَستهلِك الوقت ويُستهلَك. يبدأ في إدراك الحكمة في تخريب المدن ونهب الثروات وذبح الأبرياء، في كل هذا التدمير الطائش، وكأن التاريخ في أعمق مستوياته يعرف ما يفعل. انهيار القديم، يُفسِح المجال أمام الجديد! ماذا يمكن أن يكون أكثر أنانية وأكثر شحًّا — وهو ما يزعجه بصورة خاصة — من مُحْتَضر بلا أبناء، ينهي سلسلة النَّسَب، ينسحب من العمل العظيم لخلق جيل جديد؟ إنه أسوأ من الشح، غريب.
يزوره قبل الخروج من المستشفى بيوم زائر غريب: الشخص الذي صدمه، اسمه واين أو شيء من هذا القبيل، برايت أو بلايت، يسأل واين عن تقدم الحالة، مع أنه، على ما يبدو، لا يعترف بارتكاب خطأ. يقول واين: «مستر ريمنت، أود أن أعرف كيف تتقدم حالتك. آسف لما حدث. حظ سيئ.» لم يكن واين الشاب فنانًا في اختيار كلماته؛ إلا أن كل لفظة تلفظ بها تأتي ملتبسة بعناية، وكأنه يعلم أن بالغرفة جهاز تصنت. وفي الحقيقة، كما يعلم فيما بعد، كان والد واين في الدهليز يسترق السمع طوال الوقت. لا شك أنه مرَّن واين من قبل، أَظهِر الاحترام للعجوز التَّافه، تَأسَّفْ له، ولا تعترف بحال من الأحوال باقتراف أي خطأ.
يمكن أن يتخيل أيضًا وبشكل جيد ما يدور بين ابن وأب عن قيادة دراجة في شوارع مزدحمة، لكن القانون هو القانون. حتى المسنون البلهاء التافهون الذين يقودن دراجاتهم لا يجوز لأحد أن يصدمهم، وهذا ما يعرفه واين ووالده. إنهما بالضرورة يرتجفان لفكرة رفع دعوى قضائية، سواء عن طريقه أو عن طريق شركة التأمين. ولا بد أن هذا هو سر انتقاء واين لكلماته بحكمة.
حظ سيئ. ثمة مجال للرد يمكن أن يفكر فيه، بداية مِن لا دور للحظ في الأمر، واين، إنها القيادة السيئة. ولكن ما فائدة تسجيل نقاط ضد ولد لا يملك القدرة على إصلاح ما دمَّره؟ اذهب وتخلصْ من الشعور بالإثم. هذا أفضل ما يمكن أن يفكر فيه الآن. مجرد حكمة، مقولة قديمة غريبة، ينشرح لها بلايت، الأب والابن، في طريقهما إلى البيت. يغلق عينيه، متمنيًا انصراف واين.
حادثة: شيء يصيب شخصًا، شيء غير متعمَّد وغير متوقَّع. بهذا التعريف تَعرَّض بول ريمنت، لحادثة بالتأكيد. ماذا عن واين بلايت؟ هل تَعرَّض واين لحادثة هو الآخر؟ ما شعور واين، حين توغلت القذيفة التي كان يطير بها في الليونة الحلوة للحم البشري؟ دهشة غير متوقعة وغير مُتعمَّدة، بلا شك؛ إلا أنها ليست غير سارة بطريقة ما. هل يمكن وصف ما جرى في مفترق طرق رديئة بأنه أصاب واين حقًّا؟ إذا كانت هناك إصابة، فإن واين، من وجهة نظره، هو الذي أصابه.
يفتح عينيه. ما زال واين بجوار السرير والعرق يتلألأ على شفته العليا. بالطبع! لا بد أن واين تَعلَّم في المدرسة ألا يغادر الفصل قبل أن يعلن المدرِّس انتهاء الحصة. أية راحة شعر بها واين حين تحرر في النهاية من المدْرَسة والمدرِّسين وفوق ذلك، حين استطاع أن يريح قدمه على دواسة البنزين، ويفتح النافذة ويشعر بالرياح على وجهه، يمضغ اللبان، ويدير الموسيقى بصوت مرتفع بقدر ما يهوى، ويصيح في العواجيز المسنين «أمتطيك يا رفيق!» وهو يشق طريقه بجوارهم. والآن يتقلص هنا من جديد، ويتقمص وجهًا يعرف المسئولية، ليبحث عن كلمات تحمل رنين الاعتذار.
هكذا تنحل المعضلة. واين ينتظر الإشارة، وهو يريد إخراج واين من حياته. يقول: مجيئك أمر طيب يا فتى، لكن رأسي يؤلمني وأحتاج للنوم. بالسلامة.