٣٠
إليزابيث كُسْتِلُّو ليست وحدها. بجوارها شخص غريب. رجل في أفرول واسع، رأسه مختبئ تحت ما يبدو كأنه دلو من قماش القنَّب. يبدو أن الرجل يتكلم، لكن القناع يفسد كلماته بصورة يستحيل إصلاحها.
تقطع ماريانا الأرضية فجأة. زَبوجا، زار أوبت! تَتعجَّب، ضاحكة. شعره مشبوك! كُلَّما يلبسه — تشير إلى غطاء الرأس الغريب — يشبك شعر رأسه، ويكون عليَّ … تأتي أصابعها بحركة لولبية.
تمسك الرجل من كتفيه؛ إنه ميروسلاف. تلفه، وتبدأ تخليص القناع من شعره الطويل. يفرد ميروسلاف يديه إلى الخلف، متلمسًا «وركيها». تتمايل مبتعدة عن طريقه، وتخلص القناع. يرفعه؛ وجهه متوهج من الحرارة، يبدو في حالة مزاجية طيبة.
يفسر: النحل. كنتُ أنقل الخلايا.
تقول ماريانا: زوجي مُربِّي نحل. تقابل زوجي؟ مسز كُسْتِلُّو، صديقة مستر ريمنت. مِلْ.
تقول إليزابيث كُسْتِلُّو: كيف حالك، مِلْ. سمعْتُ عنك لكن لم نلتقِ أبدًا بلحمنا وشحمنا، إذا جاز التعبير. تربي نحلًا؟
يقول مِلْ أو ميروسلاف: مجرد هواية.
تقول ماريانا: زوجي، عائلته تربي نحلًا دائمًا. أبوه، ومن قبله جده. وهو أيضًا يربي نحلًا، هنا في أستراليا.
يقول مل: خلايا قليلة، لكنه عسل طيب، من شجر الصمغ أساسًا. له نكهة الأوكالبوتس، تعرفون.
تقول البساطة بين الاثنين كل شيء، إضافة إلى ضحكة ماريانا وحرية أصابعها في شعره، ليسا زوجَين متباعدَين إطلاقًا. بالعكس، أليفان. علاقة ألفة مع مُشاجَرة من وقت لآخر، أسلوب بلقاني، لإضافة بعض التوابل: اتهامات، اتهامات مُضادَّة، أطباق تُكسَر، وأبواب تُصفَع. يتبعها ندم ودموع، يتبعها ممارسة حب دافئ. إن لم تكن كل قصة المشاجرة والهروب إلى العمة ليداي كذبةً، فَبْرَكةً. لكن لماذا؟ هل هو موضوع لخطة ممتدة، خطة لم يفهمها؟
يقول مل: حَرٌّ جدًّا في الأفرول. سأغيره. يتوقف. تأتيان لتريا الدراجة؟
يقول: الدراجة؟ لا. أية دراجة؟
تقول إليزابيث: نحب أن نرى الدراجة. أين هي؟
يقول مِلْ: لم تكتمل. لم يعمل فيها دراجو منذ مدة. شيئان ناقصان. لكن يمكن أن تُلقِيا نظرة، ترياها لأنكما قطعتما كل هذا الطريق. لن يبالي.
تقول إليزابيث: نحب ذلك. كان بول يتطلع لذلك بلهفة.
– هيا إذن. نلتقي في الخارج.
يتجمعون خارج البيت. ينضم إليهم ميروسلاف، مرتديًا شورتًا وصندلًا وتي شيرت عليه اسم فريق فلفولين. يرفع باب الجراج. تقف الكومودور الحمراء المعروفة وبجانبها ما يسميه ميروسلاف دراجة.
تتعجب إليزابيث: يا، يا! يا لها من أداة غريبة! كيف تعمل؟
يدفع ميروسلاف الآلة خارج الجراج، ويلتفت إليه مبتسمًا. ربما يمكن أن تقدم تفسيرًا.
يقول: هذه ما يسمونها دراجة معدَّلة. في هذا الطراز لا تستخدم البدَّال، تدير الكَرَنْك بيديك بدلًا من ذلك.
تقول إليزابيث: صنعها دراجو؟ كلها وحده؟
يقول ميروسلاف: أيوه. لم أعمل إلا الطلاء بالنحاس. في المحل، يحتاج الطلاء بالنحاس إلى متخصص.
تقول إليزابيث: حسن، يا لها من هدية رائعة. ألا تعتقد ذلك بول؟ تجعلك حرًّا مرة أخرى. حرًّا في الخروج للتجول.
تقول ماريانا: يريد دراجو أن يقول لك شكرًا. شكرًا لك مستر ريمنت على كل شيء.
كل العيون عليه، على مستر ريمنت، ظهرت ليوبا فجأة. حتى بلنكا، التي نفرت منه في البداية، انضمت إلى المجموعة. جسم نحيف. تتحرك برشاقة. ابنة أبيها. لا جمال، لكن بعض النساء يكتملن متأخرًا. هل ستشكره بلنكا بدورها؟ هل كانت مشغولة كالنحلة تعد هدية؟ ماذا ستكون؟ محفظة مطرزة؟ ربطة مصبوغة يدويًّا؟
يستطيع أن يشعر بحمرة الخجل تزحف عليه، خجل العار، بداية من أذنيه تزحف إلى الأمام باتجاه وجهه. لا يرغب في إيقافها، إنها ما يستحقه. يقول: رائعة. وكما يُتوقَّع منه؛ ولأنه الشيء الصحيح الذي عليه أن يفعله، يأخذ خطوة إلى الأمام على عكازيه ويتأمل هديته عن قرب. يكرر: رائعة، هدية رائعة. ربما يضيف: سخية أيضًا، لكنه لا يفعل. يعرف ما يدفعه لماريانا؛ يمكن أن يخمِّن ما يكسبه ميروسلاف. أكثر بكثير مما يستحق.
العجلة الأمامية في الحجم المعتاد لعجلة الدراجة. مع مجموعة من السنون وسلسلة؛ العجلتان الخلفيتان أصغر، يلفان فقط. الدَّراجة ذات الثلاث عجلات المرشوشة بالأحمر الزاهي ارتفاعها أقل من متر. في الشارع على الأرجح سيكون راكب الدراجة غير مرئي، تحت خط نظر قائد السيارة. ولذا ثبت دراجو خلف المقعد عصا من الفيبر جلاس في طرفها علم برتقالي. يرفرف فوق رأس راكب الدراجة، علم صغير شجاع لتحذير من هم على شاكلة واين بلايت في هذا العالم.
مُعدَّلة. لم يركب من قبل واحدة منها، لكنه يكره المعدَّل بالغريزة، كما يكره السِّيقان الصناعية، كما يكره كل ما هو زائف.
يقول مرة أخرى: رائعة. أعجز عن التعبير. ممكن آخذها لفة؟
يهز ميروسلاف رأسه. يقول: لا كابلات. لا كابلات التروس، لا كابلات الفرامل. لم يركِّبها دراجو بعد. لكن يمكن أن نضبط المقعد وأنت معنا. ترى، ثَبَّتْنا المقعد على قضيب، بحيث تستطيع ضبطه إلى الخلف أو إلى الأمام.
يترك العُكَّازَين، يخلع السُّترة، يسمح لميروسلاف بمساعدته عن قرب. يبدو الكرسي غريبًا.
يقول ميروسلاف: ماريانا تساعد في عمل الكرسي. تعرف من أجْل ساقك. تُصمِّمه، ثم ننفذه بالفيبر جلاس.
ليست مجرد ساعات. أيام، أسابيع. لا بد أنهم قضوا أسابيع في صنعها، الأب، الابن؛ والأم أيضًا. حمرة الخجل لم تُفارق وجهه، ولا يريد أن تفارقه.
– لا يمكنك الحصول على مثل هذا الشيء من محلات الدراجات؛ لذا فكَّرنا أن نصنعها وكأنها بناء على طلب العميل. سأعطيك دفعة، حتى تشعر بها. موافق؟ سأعطيك دفعة لكني سأمسكها؛ لأنه، تذكَّرْ، لا توجد فرامل.
يقف المشاهدون جانبًا. يَعدِله ميروسلاف على الطريق المُمهَّد.
يسأل: كيف أقود؟
– بقدمك اليسرى. يوجد قضيب — انظر — بزنبرك، لا تقلق، ستمسك به.
لا سيارات في ممر نرابنجا. يدفعه ميروسلاف دفعة رقيقة. يميل إلى الأمام، يقبض على مقابض الكرنك، يديرها دورة تجريبية، على أمل أن تعمل الأداة الغريبة وحدها.
بالطبع لن يستخدمها أبدًا، ستذهب إلى المخزن في ممر كنستون حيث يتكوم عليها الغبار، كل ما وضعه آل يوكتش فيها من وقت وجهد بلا طائل. هل يعرفون ذلك؟ هل كانوا يعرفون ذلك طوال الوقت وهم يصنعونها؟ هل هذا الدرس في القيادة جزء من طقس يمارسونه جميعًا، هو من أجلهم، وهم من أجله؟
يهب النسيم على وجهه. يتخيل لحظة أنه يلف في طريق مَجيل، والعلم يرفرف فوق رأسه بتألق ليذكر العالم بأن يرحموه. أشبه ما تكون بعربة طفل: عربة طفل فيها طفل عجوز أشيب، خرج لقيادتها. كم سيبتسم المُتفرِّجون! يبتسمون ويضحكون ويُصفِّرون: رائع، يا جد!
لكن ربما، من منظور أكبر، ذلك بالضبط ما يقصد آل يوكتش أن يُعلِّموه إياه: عليه أن يتخلى عن مظهره الوقور، ويظهر على حقيقته، شخصية هزلية، جنتلمان عجوز بساقٍ واحدة حين لا يعرج على عكازيه يطوف الشوارع على دراجة بثلاث عجلات، صناعة منزلية. مشهد محلي، نمط غريب يضفي لونًا على النسيج الاجتماعي. حتى يأتي يوم يطلق فيه واين بلايت محرِّكه وراءه مرة أخرى.
لم يبرح ميروسلاف جانبه. الآن يغير ميروسلاف اتجاه الآلة في قوس واسع ليتمكنا من العودة إلى الطريق.
تشبِّك إليزابيث كُسْتِلُّو يديها؛ يحذو الآخرون حذوها. تقول: رائع، فارسي! فارس الهدوء الكئيب.
يتجاهلها. يقول: ماذا تعتقدين، ماريانا؟ هل أشرع في قيادة الدراجات من جديد؟
لم تكن ماريانا قد تفوهت بكلمة طوال الوقت. تعرفه ماريانا أفضل مما يعرفه زوجها، أفضل مما تعرفه إليزابيث كُسْتِلُّو. رأت منذ البداية كيف ناضل ليصون كرامته ورجولته، ولم تسخرْ منه أبدًا. ماذا تعتقد ماريانا؟ هل عليه أن يواصل خوض المعركة من أجل الكرامة أمْ آن أن يستسلم؟
تقول ماريانا ببطء: أيوه. تناسبك. أعتقد أن عليك أن تجربها مرة.
تمسك ماريانا ذقنها بيدها اليسرى؛ بيدها اليمنى تسند كوعها الأيسر. الوضع الكلاسيكي للتفكير، للتأمل الناضج. أعطت سؤاله التقدير الكامل، ثم قدمت الإجابة. المرأة التي ما زال يشعر بلمسة شفتيها على خده، المرأة التي، لأسباب لم تكن واضحة أبدًا بالنسبة له، مع أنه من وقت لآخر يشعر بوميض من النور، تسيطر على قلبه، فباح.
يقول: حسن إذن (كان على وشك أن يقول، حسن إذن حبي، لكنه يمسك لسانه؛ لأنه لا يريد أن يؤذي ميروسلاف، مع أن ميروسلاف يعرف بالضرورة، ليوبا تعرف بالضرورة، بلنكا تعرف بالتأكيد، فكل ذلك مكتوب على وجهه)، حسن إذن، أجربها مرة. شكرًا لكم. بكل الإخلاص، بكل ما في القلب من إخلاص، شكرًا لكم، لكل واحد منكم. والشكر الأوفى لدراجو الغائب. كان يود أن يقول: الذي أسأت الحكم عليه، وأخطأت في حقه. يقول: الذي أسأتُ الحكم عليه وأخطأتُ في حقه.
يرد ميروسلاف: لا تقلق، سنضعها على مقطورة وقد نحضرها في نهاية الأسبوع القادم. لم يَتبقَّ سوى شيئين اثنين، الكابلات وذلك الشيء.
يلتفت إلى إليزابيث. يقول: الآن يجب أن ننصرف، أليس كذلك؟ وإلى ميروسلاف: يمكن أن تعطيني يدك؟
يساعده ميروسلاف.
تقول ليوبا: ب. ر. إكسبرس. ماذا تعني ب. ر. إكسبرس؟
وفي الحقيقة كان هذا هو المكتوب بالألوان على هيكل الدراجة ذات الثلاث عجلات، بحروف توحي فنيًّا باندفاع الريح. ب. ر. إكسبرس.
يقول: تعني أني أستطيع السير بسرعة كبيرة. ب. ر. الرجل الصاروخ.
تقول ليوبا: رجل صاروخ. تبتسم له، الابتسامة الأولى له في حياتها. لستَ الرجل الصاروخ، أنت الرجل البطيء! وتنفجر مقهقهة، معانقة «وركي» أمها، وموارية وجهها.
•••
يقول مخاطبًا إليزابيث: كارثة. إنهما في التاكسي، باتجاه الجنوب، باتجاه البيت. نكسة، نكسة أخلاقية، لا شيء أقل. لم أخجل من نفسي أبدًا على هذا النحو.
– نعم، لم تظهر بشكل جيد. كل ذلك الغضب! كل تلك الاستقامة!
ذلك الغضب؟ عن أي شيء تتحدث؟
تواصلُ: فكِّرْ فقط، كنْتَ على وشك أن تفقد ابنك الروحي، ولأي سبب؟ لا أصدق. بسبب صورة فوتوغرافية قديمة! صورة فوتوغرافية لمجموعة من الغرباء. لا يهتمون بك إطلاقًا. بولدٍ فرنسي لم يُولَد بعد.
يقول: من فضلكِ، من فضلكِ كَفَى مناقشات، لم أَعُد أحتملكِ. لا أفهم حتى الآن ما الذي يعطي دراجو الحق في الاستيلاء على صوري الفوتوغرافية، لكن انتهى الأمر. تخبرني ماريانا بأن الصور على موقع دراجو على الإنترنت. أنا ذلك الجهول. ماذا تعني أن تكون على موقعه على الإنترنت؟
– يعني أن أي شخص في العالم لديه فضول للاطلاع على حياة دراجو يستطيع الاطَّلاع على هذه الصور، في شكلها الأصلي وربما في شكلها الجديد المنقَّح والمزيد، في مكانه الخاص في بيته. أما السؤال عن سبب اختيار دراجو طبعها بهذه الطريقة، فلستُ الشخص المناسب لطرح هذا السؤال عليه. سيأتي الأحد القادم ليحضر لك الدراجة. وآنذاك يمكن أن تسأله.
– تدَّعي ماريانا أن عملية التزوير برمتها مجرد نكتة.
– ليستْ حتى تزويرًا. المزوِّر يزوِّر فلوسًا. دراجو لا يبالي بالفلوس. بالطبع مجرد نكتة. أي شيء آخر يمكن أن تكون؟
– ترتبط النكات باللاوعي.
قد ترتبط النكات باللاوعي حقًّا. لكن أيضًا؛ النكتة أحيانًا مجرد نكتة.
– مُوجَّهة ضد …
– مُوجَّهة ضدك. ضد أي شخص؟ الرجل الذي لا يضحك. الرجل الذي لا يحتمل نكتة.
– لكن ماذا لو لم أكتشفها أبدًا؟ ماذا لو ذهبتُ إلى القبر في جهل تام من أمر هذه التي تدعى نكتة؟ ماذا إن لم تُلاحَظ النكتة في مكتبة الولاية أيضًا؟ ماذا لو لم تُلاحَظ حتى نهاية الزمن؟ انظروا إلى هذه الصور يا أطفال. حفَّارُو بلَّرات. انظروا إلى هذا الشخص ذي الشارب الرهيب! وماذا بعد؟
– سيصبح جزءًا من الفلكلور عندنا أن شوارب قُطَّاع الطرق كانت مُوضة في خمسينيات القرن التاسع عشر في ولاية فيكتوريا، هذا كل ما في الأمر. وهو حقًّا موضوع لا يستحق أن تنشغل به بول. المهم أنك غادرْتَ شقتك وزُرتَ منو بارا، ودار بينك وبين محبوبتك ماريانا حديث خاص ورأيتَ قناع تربية النحل على رأس زوجها والدراجة التي يصنعها ابنها لك. تلك هي النتيجة المُهمَّة فيما يسمى بالتزييف. باستثناء ذلك، الحدث بلا أهمية تمامًا.
– نسيتِ النسخة المفقودة. بصرف النظر عن رأيك في الصور الفوتوغرافية وعلاقتها بالواقع، الحقيقة أن إحدى صور فوشي التي بحوزتي، كنز قومي أصيل، لا يُقدَّر بمال، اختفتْ.
– صورتك الفوتوغرافية الثمينة لم تختفِ. انظرْ في خزانتك مرة أخرى. ألف في المائة ستجدها هناك، في غير موضعها. أو سيجدها دراجو في أشيائه ويعيدها إليك الأحد القادم، مع الاعتذار.
– ثم؟
– يُغلَق الموضوع.
– ثم؟
– بعد ذلك؟ بعد الأحد؟ لستُ متأكدة من أي شيء آخر بعد الأحد. قد يشهد الأحد آخر تعاملاتك مع آل يوكتش، بما فيهم مسز يوكتش. لن تكون مسز يوكتش للأسف إلا ذكرى. عن سمانتيها البضتين. عن الخط الساطع لصدرها. عن إساءة استخدامها للكلمات بصورة فاتنة. ذكرى مُظلَّلة باللوعة، تشحب بمرور الزمن، ككل الذكريات. الزمن أعظم المعالِجِين. وستبقى هناك فواتير ربع سنوية من ولنجتون كولج. وليس لديَّ شك في أنك ستدفعها كرجل شريف. وكروت الكريسماس: نتمنى لك كريسماس سعيدًا وعامًا جديدًا مزهرًا؛ ماريانا، مِلْ، دراجو، بلنكا، ليوبا.
– أفهم. هل هناك من مزيد تَهتمِين بكشفه عن مستقبلي، مسز كُسْتِلُّو، وأنتِ في هذه الحالة النبوية؟
– تقصد، هل هناك من تَحلُّ مكان ماريانا أم ستكون ماريانا نهاية الخيط بالنسبة لك؟ ذلك يعتمد. إن بقيتَ في أدليد، أتنبأ بممرضات ليس إلا، واحدة جميلة، واحدة لا بأس بجمالها، لا واحدة منهن ستقترب لتمس قلبك كما مسته ماريانا يوكتش. ومن ناحية أخرى، إن أتيت إلى ملبورن، سأكون أنا، دوبين العجوز الوفية. مع أن سمانتي، كما أتوقع، لا تتفقان تمامًا مع ذوقك.
– وماذا عن حالة قلبكِ؟
– قلبي؟ أحيانًا فوق وأحيانًا تحت. يدق ويلهث كسيارة قديمة حين أصعد السلم، أتجرأ وأقول لن يستمر طويلًا. لماذا تسأل؟ تخشى أن تصبح الشخص الذي يقوم بالتمريض؟ لا تخشَ أبدًا لن أطلب منك القيام بذلك.
– أليس الوقت المناسب لاستدعاء ابنيك؟ أليس الوقت المناسب ليفعل ابناكِ شيئًا من أجلك؟
– ابناي بعيدان بول، عبر البحار. لماذا تذكر ابنيَّ؟ هل تريد أن تتبناهما أيضًا، تصبح زوج أمهما؟ سيثير ذلك دهشتهما بلا نهاية. لم يسمعَا حتى بك.
– لكن لا، إجابة على سؤالك، لا أفكر في أن أفرض نفسي على ابنيَّ. ألتحق بدار للرعاية إن فشل كل شيء آخر. مع أن الرعاية التي أبحث عنها لا توجد، للأسف، في أي دار من دور الرعاية التي أعرفها.
– أي نوع من الرعاية تقصدين؟
– رعاية الحب.
– نعم، مِن الصعب وجودها في هذه الأيام، رعاية الحب. قد يكون عليكِ الرضا بتمريض جيد ليس إلا. يوجد شيء من قبيل التمريض الجيد، تعرفين. يمكن أن تكون الممرضة جيدة بدون أن تحب مرضاها. فكِّري في ماريانا.
– هذه نصيحتكَ إذن: أن أرضى بتمريض. لا أوافق. إذا خيِّرْتُ بين تمريض جيد ويدين مُحبَّتَين، اخترتُ اليدين المُحبَّتين في أي يوم.
– حسن، ليس لي يدان مُحبَّتان، إليزابيث.
– لا، ليس لكَ، لا يدان محبتان ولا قلب محب، القلب المختبئ هو ما أدعوه، كيف نُخرِج قلبَكَ من مخبئه؟ هذا هو السؤال — تتشبث بذراعه — انظرْ!
يتتابع ثلاثة أشخاص على موتوسيكلات مُسرِعة، في الناحية الأخرى، باتجاه منو بارا.
تَتنهَّد: الشخص الذي يلبس خوذة حمراء، ألم يكن دراجو؟ آه للشباب! آه للخلود!
ربما لم يكن دراجو. هناك مُصادَفات كثيرة جدًّا، مَحض مصادَفات. ربما ثلاثة شبان لا علاقة لهم ببعض، مع أن الدماء تتدفق في عُروقهم بالتساوي. لكن ليفترضا مع ذلك أن الشخص الذي يلبس الخوذة الحمراء كان دراجو. يكرر بالإحساس بالواجب: آه دراجو، آه للشباب!
يصل بهما سائق التاكسي إلى ممر كنستون أمام شقته.
تقول إليزابيث كُسْتِلُّو: هكذا. نهاية يوم طويل.
– نعم.
عليه في هذه اللحظة أن يدعوها للدخول، يعرض عليها وجبة ومكانًا للنوم، لكنه لا يَتفوَّه بكلمة.
تقول: الهدية المناسبة فقط، دراجتك الجديدة. دراجو عميق التفكير. يا له من ولد عميق التفكير. الآن أنت حُرٌّ في قيادة الدراجة حيث تشاء. يمكن أن تكتفي بطريق النهر إن كنت لا تزال قلقًا من واين بلايت، ستكون بمثابة تمرين، سَتتحسَّن حالتك المزاجية، سيقوى ذراعاك في أسرع وقت. هل تعتقد أن هناك مكانًا لراكب؟
– هناك مكان لطفل خلف السائق، نعم. وليس لشخص يافع.
– مُجرَّد مزاح بول. لا أريد أن أكون عبئًا عليك. إذا كان لي أن أركب دراجة فسآتي لي بدراجة، والأفضل أن تكون بمحرِّك. هل ما زالوا يبيعون تلك المحرِّكات الصغيرة التي تثبتها في الدراجات التي تسير رويدًا رويدًا وتساعدك في صعود الهضاب؟ كانت موجودة في فرنسا، أتذكر. دو شيفو، حصانان.
– أعرف ما تقصدين، لكنها لا تسمى دو شيفو. دو شيفو شيء آخر.
– ماذا عن القبضة الحديدية؟ قبضة حديدية بالأسود على حقل أبيض، وتحتها شعار مليوس ملفيكورم.
– مليوس ملفيكورم. رائع! تتحول حقًّا إلى حكيم بول. مَن كان يتوقع ذلك منك؟! مليوس ملفيكورم من أجْلي ومن أجْلك إلى الأمام وإلى أعلى. يمكن أن نجوب الأرض كلها، نحن — الاثنين — كل هذه الأرض البنية الشاسعة، شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا. يمكن أن تُعلِّمني العناد ويمكن أن أُعلِّمك العيش بلا شيء، أو بلا شيء تقريبًا. سيكتبون عنَّا مقالات في الصحف. يمكن أن نصبح مؤسَّسة أسترالية محبوبة تمامًا. يا لها من فكرة! يا لها من فكرة عظيمة! هل هذا هو الحب بول؟ هل وجَدْنا الحب في النهاية؟
منذ نصف ساعة كان مع ماريانا. وماريانا وراءهما الآن، وقد تُرِك مع إليزابيث كُسْتِلُّو. يلبس نظارته مرة أخرى، يَلتفتُ، يلقي عليها نظرة دقيقة. في ضوء الأصيل الواضح يرى كل التفاصيل، كل شعرة، كل عِرْق. يفحصها، ثم يفحص قلبها. يقول أخيرًا: لا، هذا ليس حبًّا. هذا شيء آخر. شيء أقل.
– هذه كلمتك الأخيرة، هل تعتقد ذلك؟ لا أمل في زحزحتك؟
– لستُ خائفًا.
– لكن ما أفعل بدونك؟
تبدو وكأنها تبتسم، لكن شفتيها ترتجفان بشدة.
– براحتك، إليزابيث. في المحيط أسماك كثيرة، هذا ما أسمعه. وبالنسبة لي حاليًا: بالسلامة. يميل إلى الأمام ويقبلها ثلاث مرات بالطريقة التقليدية التي تعلمها وهو طفل، يسارًا يمينًا يسارًا.