الثنوية الكونية
يُمكن تعريف الثنوية الكونية بأنَّها المعتقد الذي يقول بقيام مبدأَين أو أصلين متناقضين وراء مظاهر الوجود وصيرورة الزمن والتاريخ، وهذان المبدآن شيمتهما الصراع من أجل أن يلغي أحدهما الآخَر، وصراعهما يدفع عجلة الزمن وتاريخ العالم والإنسانية نحو نهاية محتومة عَبْر ثلاث مراحل: المرحلة الأولى هي مرحلة العصر الذهبي للخليقة قبل أن يعدو الشر على الخير، والثانية هي مرحلة امتزاج الخير بالشر، والثالثة هي مرحلة الفصل بين الخير والشر والقضاء نهائيًّا على قوى الشر لكي يعود العالم طيبًا ونقيًّا وكاملًا كما كان، أو من أجل الارتقاء به من حالة الوجود المادي إلى حالة الوجود الروحاني.
وبشكل عام يُمكن تقسيم المعتقدات الثنوية من حيث شكلها ومضمونها إلى ثلاث فئات هي: (١) الثنوية المطلقة. (٢) الثنوية الجذرية. (٣) الثنوية المعتدلة.
تقول الثنوية المطلقة بوجود مبدأين أو أصلين أزليين مستقلين ومتعارضين، لكلٍّ منهما عالمه وسلطانه المطلق على ذلك العالم. فعالم للروح وللنور الأزلي، وعالم للمادة وللظلمة الأزلية، ولم يدخل هذان العالَمان في صلة مباشرة مع بعضهما إلَّا عندما عدت الظلمة على النور ودخلت في نسيجه، فكان لا بد من الفصل بينهما مجددًا، وهذا هو معتقد المانوية. أمَّا الثنوية الجذرية فتقول بوجود مبدأين متساويين في القيمة النسبية وفي علاقتهما بالوجود، ولكن هذان المبدآن ليسا أزليين بل حادثين ومتولدين عن الإله الأزلي الواحد القديم، وهما في حالة صراع دائم منذ صدورهما، وهذا هو معتقد الزرادشتية. وأمَّا الثنوية المعتدلة فتقول بمبدأ واحد وأصل واحد قديم وأزلي هو إله الأنوار الأعلى، ثم إنَّ هذا الإله الأعلى قد خلق إلهًا أدنى منه مرتبةً قام بدوره بخلق العالم المادي. فالمادة شرٌّ بطبيعتها، ولا يُمكن للإله الواحد الخيِّر أن يخلق الشر أو يكون مسئولًا عن وجوده، وهذا هو أساس المعتقدات الغنوصية على تعدُّد فرقها واختلاف مذاهبها.
ويُشكِّل المعتقدان المسيحي والإسلامي ثنوية خاصة بهما يمكن أن ندعوها بالثنوية الأخلاقية. ذلك أنَّ التناقض بين الله والشيطان لا يطال كل مظاهر الوجود، وإنَّما يقتصر على الإنسان والمجتمعات الإنسانية، والشيطان لا سلطة فعلية له إلَّا على النفس الإنسانية يعمل على إفسادها وحرفها عن طرق الله. فالثنوية هنا شكلية لا أساسية، ونحن نطلقها استنادًا إلى أنَّ الإنسان هو بؤرة خلق الله، وأنَّ العالم قد خُلق من أجله، فهو خليفة الله على الأرض وسيدها. من هنا فإن سلطة الشيطان على الإنسان هي نوع من المشاركة في السلطة على العالم، خصوصًا في المعتقد المسيحي، حيث نجد إنجيل يوحنا يدعو الشيطان برئيس هذا العالم (يوحنا، ١٢: ٣١) ويدعوه بولس الرسول بإله هذا الدهر (الرسالة الثانية إلى أهالي كورنثة، ٤: ٤).
ولكي يتضح لنا مفهوم الثنوية بشكل أفضل، لا بد من التمييز بينه وبين مفهوم القطبية الذي لا يتضمَّن معنى الصراع بقدر ما يتضمَّن معنى التكامل والتعاون.
فالقطبية هي معتقد يقول بوجود ثنائية أصلية قوامها قطبان متعارضان ومتناقضان في كل شيء، ولكنهما في الوقت نفسه متعاونان ولا قيام لأحدهما بدون الآخَر، وعن تناقضهما وتعاونهما تنشأ مظاهر الوجود المادي والحيوي وبهما تستمر. إنَّ النموذج الأكمل عن معتقد القطبية هو التاوية الصينية التي وضع أُسسها الفكرية المعلم لاو تسو في القرن السادس قبل الميلاد. يقول لاو تسو في الكتاب الوحيد المعزوِّ إليه، بوجود مبدأ أزلي قديم يُدعى بالتاو، والتاو ليس شخصية إلهية بل هو القاع الكلي للوجود، والحقيقة المطلقة التي يقوم بها كل نسبي، وطبيعة عمله هي أقرب إلى مفهوم القوانين الطبيعية في العلوم الحديثة، والتي تفعل دونما قصد منها أو إرادة عن هذا المبدأ الكلي صدرت قوتان مجردتان، هما قوة اﻟ «يانغ» الموجبة وقوة اﻟ «ين» السالبة، وبدوران هاتين القوتين على بعضهما نشأت «الآلاف المؤلفة» من كل شيء، على حد تعبير المعلم. تُمثَّلُ قوة اليانغ باللون الأبيض الذي يرمز إلى النور، وقوة الين باللون الأسود الذي يرمز إلى الظلام، ولكن النور والظلام هنا لا يحملان أيَّة دلالة قيمية أو أخلاقية، ولا فضل لواحدهما على الآخَر. وبالتالي فإنَّ أحدهما لا يسعى إلى التغلُّب على الآخَر أو إقصائه، لأنَّ مثل هذه الغَلَبة تعود بالكون إلى حالة ما قبل الوجود، وأفضل ما يوصف به هذان القطبان هو تشبیههما بقطبي المغناطيس.
في الديانات التقليدية للشرق القديم نجد أشكالًا من المعتقدات الثنائية التي تنتمي إلى القطبية لا إلى الثنوية، وذلك رغم عنصر الصراع الشكلي بين طرفَي هذه الثنائية، والذي هو ناتج من نواتج القص الميثولوجي، ونموذج هذه الثنائيات عبادات الخصب الكنعانية التي مثَّلت الخصب والجفاف في شخصيتَين إلهيتَين هما بعل ومُوت، فالإله بعل هو المتحكِّم بأسباب الخصب والحياة، والإله مُوت هو المتحكِّم بأسباب الجفاف والموت. وتصوِّر الأسطورة الأوغاريتية هذين الإلهين في حالة صراع دائم لا يُحسم لصالح واحد منهما، فكلما سقط بعل صريعًا بُعث بعد فترة إلى الحياة ودعا موت إلى النزال، وكلما وقع موت صريعًا قام إلى جولة ثانية وتحدى بعل. فالإلهان والحالة هذه هما ترميز على مستوى الأسطورة لواقع حياة الطبيعة وتناوب الفصول ودورات الخصب والجفاف، وما الصراع الشكلي بينهما إلَّا من قبيل تناوب قوتي اليانغ والين في التاوية، فهما قطبان في ثنائية طبيعانية لا طرفان في ثنوية كونية، رغم الطابع شبه الكوني لصراعهما، والأهم من ذلك فإنَّ تناقض هذين القطبين لا ينطوي على دلالة أخلاقية، لأنَّ موت ليس مبدأً للشر الأخلاقي ولا حتى كائنًا شريرًا، والإله بعل ليس مبدأً للخير الأخلاقي، كما أنَّه ليس لتناقضهما وصراعهما أي أثر على النفس الإنسانية ولا على الأخلاق الاجتماعية، يُضاف إلى ذلك أنَّ الإلهين يتمتَّعان بالمكانة ذاتها في البانثيون الأوغاريتي، وتُقدم إليهما فروض العبادة على قدَم المساواة.
على أنَّ الإلهين بعل وموت، وأضرابهما في ميثولوجيات الثقافات الأخرى، يُمثِّلان ما يُمكن أن ندعوه بالخير الطبيعاني والشر الطبيعاني، فإذا كان الخير هو كل ما يُؤدِّي إلى الصحة والسعادة والحياة، والشر هو كل ما يُسبب الألم والشقاء والموت، فإنَّ الآثار الخيِّرة أو الشريرة قد تكون من مصدر طبيعاني أو من مصدر إنساني، فالفيضانات المُدمِّرة والزلازل والبراكين والأعاصير هي شرور طبيعانية، وأمَّا القتل العمد والاغتصاب والسرقة والظلم والكذب فشرور أخلاقية تنجم عن العلاقات الاجتماعية، وبتعبير آخَر فإنَّ الشر الطبيعاني ينجم عن ظواهر فيزيائية بينما ينجم الشر الأخلاقي عن نقائص إنسانية. وبما أنَّ الفكر الميثولوجي يرى في أحداث الطبيعة انعكاسًا لعواطف وإرادات إلهية، فقد نُسب الخير والشر على مستوى الطبيعة إلى هذا الإله أو ذاك، ولم يعقد صِلة بين هذا النوع من الخير والشر والنوع الآخَر المنسوب إلى عواطف وإرادات الذوات الإنسانية الواعية. فحركة الطبيعة وما وراءها من فعاليات إلهية، لا تحمل في حد ذاتها أيَّة قيمة أخلاقية، رغم آثارها السلبية أو الإيجابية على عالم البشر. إنَّ صانع الشر على مستوى الطبيعة ليس بالضرورة حافزًا للشر على مستوى الحياة الإنسانية، كما أنَّ صانع الخير على مستوى الطبيعة ليس بالضرورة راعيًا للخير وباعثًا له في النفس الإنسانية، لهذا كله فقد بقيت الأخلاق في المعتقدات القديمة شأنًا اجتماعيًّا تحكمه قوانين المجتمعات الداخلية، ولم تتصل بالدين إلَّا في فترات متأخرة نسبيًّا من تاريخ الدين، وخصوصًا مع ظهور المعتقدات الثنوية التي طابقت بين الخير الطبيعاني والخير الأخلاقي وأرجعتهما إلى مصدر واحد، وكذلك الأمر فيما يتعلَّق بالشر الطبيعاني والشر الأخلاقي.
إلَّا أنَّ المعتقدات الثنوية تختلف في موقفها من هذه المسألة، فالثنوية الزرادشتية تعزو كل شر طبيعاني وأخلاقي إلى الشيطان، وكل خير طبيعاني وأخلاقي إلى الله. والثنوية الغنوصية ترى أنَّ العالم كله شر لأنَّه ينتمي إلى المادة، وما الخير إلَّا المعرفة التي تُعين الروح الإنسانية على التعرُّف على أصلها النوراني الأعلى، وبذلك يتم خلاصها واتصالها بأصلها مجددًا، وهنا لا تكتسب الأخلاق والسلوك القويم في الحياة أيَّة قيمة خلاصية مباشرة، ولكنها تُهيِّئ النفس في التناسخات المقبلة إلى المعرفة المخلِّصة. فإذا جئنا إلى الثنوية الأخلاقية وجدناها تعزو الشر والخير الطبيعانيين إلى الله، لأنَّ الشيطان لا يملك سلطانًا على مظاهر الكون والطبيعة، وليس ما يبدو من شرٍّ على المستوى الطبيعاني إلَّا تعبيرًا عن غضب الله وعقابه، وكذلك ما يبدو من خير، فهو رضى من الله ونعمة على عباده، فالخير والشر الطبيعانيان هما أداتان في يد الخالق يستخدمهما وَفْق قصد إلهي قد يبدو للناس وقد يخفى عليهم.
لقد صاغت الثنوية عددًا من المفاهيم الميتافيزيكية حول طبيعة الألوهة، وأصل العالم، ومبدأ الشر، وصراع القوتين، والمخلِّص المنتظر، ونهاية الدهر والحياة الأخرى. ولكن هذه التصوُّرات كلها في اعتقادنا تخدم في النهاية مفهومًا فلسفيًّا «وجوديًّا» يدور حول حرية الفرد في الاختيار: اختيار ما هو عليه واختيار مصيره، وحرية الإنسانية في رسم مستقبلها الذي يسير في خط صاعد أبدًا نحو الكمال، فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي لا يخضع لجبرية الطبيعة، ولا تنجم أفعاله بالضرورة عن حتمية السبب والنتيجة مما يسود في عالم المادة، ذلك أنَّ روحه هي قبس من عالم الروح الأسمى وعالم الحرية الإلهية، وليس شقاؤه في التاريخ إلَّا اختبارًا لصلابة هذه الروح وامتحانًا لجدارتها بالحرية ولقدرتها على التغلُّب على جبرية المادة، ولسوف تسوِّغ النتائج التي ستنجلي عنها نهاية الزمن كل بؤس التاريخ ووطأته.