الرحمن والشيطان في المعتقد الإسلامي
يقوم المعتقد الإسلامي على الإيمان بالله إلهًا أوحد وخالقًا أوحد، ويتبع هذا الركن الأساسي في إيمان المسلم عدد آخر من أركان الإيمان، تفصلها لنا الآية ١٣٦ من سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا. غير أنَّ هذا الإيمان وحده لا يكفي لإسلام المرء، بل لا بد من اقترانه بالعمل الصالح وتجليه على أرض الواقع من خلال السلوك الأخلاقي القويم، ويتضح لنا مدى اقتران الإيمان بالأخلاق، في النص القرآني، من تكرار ورود كلمة «الإيمان» وتصريفاتها المختلفة، في ارتباط مع العمل الصالح. وذلك كقوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى (الكهف: ٨٨). وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ (البقرة: ٨٢). وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ (الطلاق: ١١). لقد ورد الإيمان بالله مقترنًا بالعمل الصالح حوالي خمسين مرة في النص القرآني «والإيمان بالله أينما ورد يتضمَّن حُكمًا الإيمان برسوله وبالكتاب الذي نزل على رسوله.» وورد مقترنًا باليوم الآخر حوالي ثماني عشرة مرة، وبالكتب السماوية والرسل والملائكة حوالي عشر مرات. وهذا يدل على أنَّ المسلم الذي ينطق الشهادتين لا يصح إيمانه إلَّا إذا تجلَّى في السلوك الأخلاقي أولًا، وبالإيمان باليوم الآخر ثانيًا، ثم بالكتب السماوية والرسل والملائكة ثالثًا.
لا يُشكل الإيمان بالشيطان عنصرًا من عناصر العقيدة القرآنية، ولكن الاعتقاد بوجوده ودوره في حياة الفرد والجماعة أمرٌ مفروض على كل مسلم. فالشيطان عدوٌ للإنسان يتربَّص به عند كل زاوية وباب ليضله عن سُبل الحق: وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (البقرة: ٢٠٨). إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (الإسراء: ٥٣). الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ (البقرة: ٢٦٨). وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (النساء: ٦٠). إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ (المائدة: ٩١). وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ (النمل: ٢٤). فلقد أخذ الشيطان على نفسه عهدًا، منذ أن خلق الله آدم، بالإيقاع بالإنسان وتزيين المعصية له وحرفه عن سُبل الحق والخُلق القويم: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (الأعراف: ١٦–١٧).
رغم ما يبدو من شبه ظاهري بين الشيطان في المعتقد القرآني وشيطان العقائد الثنوية، فإنَّ فحوى المعتقد القرآني يختلف عن فحوى الثنويتين الجذرية والمطلقة في نقطة مبدئية حاسمة، وهي أنَّ الشيطان في الإسلام ليس ندًّا للرحمن ولا حتى بصورة مرحلية مؤقتة، ولذا فإنَّه لا يتمتَّع بالسلطة أو القوة اللازمتين للخلق، أو للتدخل في مظاهر خلق الله وإفسادها: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (النحل: ١٧). هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ (لقمان: ١١). كما يختلف فحوى المعتقد القرآني عن فحوى الثنويات الأخلاقية في نقطةٍ حاسمةٍ أخرى، وهي أنَّ الشيطان ليس مبدأ كونيًّا للشر، وليس حاكمًا على مملكة للشر تقف في مواجهة مملكة أخرى للخير، كما أنَّه ليس متصرفًا بشئون هذا العالم، يتصرَّف به كما يشاء خلال الفترة الوسطية من التاريخ. فالخير والشر احتمالان مجردان وخياران أخلاقيان سيَّرهما الله لبني البشر ليكونا موضوعًا للحرية التي وهبها، تمييزًا لهم وتكريمًا على بقية الكائنات غير العاقلة: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (الأنبياء: ٣٥).
ورغم سلطة الشيطان على المجال الأخلاقي وحده من دون بقية المجالات، فإنَّ مقدرته على التأثير في هذا المجال محدودةٌ أيضًا، لأنَّ سلطانه يقتصر على الأشخاص الذين اتَّخذوا خيارهم وانحازوا إلى جانب الشر، فهو يُعاضدهم ويزيد في غيهم. أمَّا من اختار جانب الخير فلا سلطان للشيطان عليه. وهذا ما تنص عليه آيات كريمة عديدة: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (النحل: ٩٩–١٠٠). إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (الإسراء: ٦٥). إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (الحجر: ٤٢). وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ (سبأ: ٢٠–٢١). وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ (إبراهيم: ٢٢).
وإنَّنا لواجدون في مؤدى قول الشيطان أعلاه: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ خلاصة مفهوم الخير والشر في المعتقد القرآني. فهذان النازعان موجودان في النفس الإنسانية ولا يأتيانها من خارجها: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (الشمس: ٧–١٠). أمام هذه المحنة الكبرى يقف الإنسان بكل عزةٍ وكرامة تليق بخليقة الله على الأرض، ليُكافح الشر في نفسه وفي خارجها، ويسير بالتاريخ نحو غايةٍ سامية، والخروج به من عالم المتناقضات إلى عالم الخير الكامل. هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ (فاطر: ٣٩). لقد قَبِل الإنسان ما وهبه الله من وعي ومن حرية وتحمُّل مسئولية هذه الهبة، وما عليه سوى السير في درب التاريخ الشاق ليثبت أهليته لعطية ربه: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب: ٧٢). أي ظالمًا لنفسه بقبوله هبة الله، جاهلًا بعواقب موقفه البطولي هذا. لقد رفض الإنسان أو يكون جمادًا، أو حيوانًا مُشترطًا بغرائزه، أو ملاكًا مُسيَّرًا لا إرادة له، وفضَّل ما تُسبغه عليه الحرية من تميز على جميع خلق الله، وما تعطيه هذه الحرية من مغزى ومعنى لحياته، فكان عليه أن يتحمَّل كل وطأة وجور التاريخ، قبل أن يُحقق انتصارًا بعيدًا ولكنَّه مؤكدٌ بعون الله وعطفه.
بعد أن ابتلى الله الإنسان بالخير والشر، وقَبِل الإنسان أمانة الوعي الحر والمسئول، لم يكن الله ليقف موقف الحياد تجاه خلقه، فهو الخير المحض، وهو الذي يحفظ خلقه المؤمن من شرور إبليس: فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (يوسف: ٦٤). وتتجلَّى رحمة الله ولطفه بعباده في عونه لهم ومدهم بالقوة أمام إغواء الشيطان، وتزيين الخير لهم: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ (الحج: ٧٧). وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا (الأنفال: ١١–١٢). وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (النساء: ٨٣). وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (الأعراف: ٢٠٠). إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (الأعراف: ٢٠١). فالله يريد الخير لعباده، وما يأتيهم الشر إلَّا من أنفسهم: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (النساء: ٧٩). ولكن المبادرة يجب أن تأتي من الإنسان أولًا: إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (الرعد: ١١). مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا (الجاثية: ١٥). يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (الانشقاق: ٦).
إنَّ دور الشيطان كوكيل للشر وحافز عليه دور ثانوي، وهو لا يستطيع ممارسة سلطانه إلَّا على من جنح للسيئة واختار الشر، عند ذلك يغدو الشيطان وليه وموجهًا لخطاه. فالشر ينبع من النفس أولًا ثم يتفاقم بعون الشيطان: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (يوسف: ١٨). وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ (ق: ١٦). وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (طه: ٩٦). من هنا فإنَّ كيد الشيطان ضعيف إذا لم يكن عند الفرد قابليةٌ مسبقة لتلقي الكيد: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (النساء: ٧٦). وهو رغم استقلاليته الظاهرية، إلَّا أنَّه خاضعٌ للرحمن، يأتمر بأمره متى شاء، فيرسله على من ضلَّ ليزيده ضلالًا: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (الزخرف: ٣٦–٣٧). أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (مريم: ٨٣–٨٤). وهو رغم دعوته إلى الكفر، إلَّا أنَّه يُبطن الإيمان والخضوع لرب العالمين: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (الحشر: ١٦). وها هو يُعلن لمن اتَّبعه أنَّه يكفر بإشراكهم له مع الله في الطاعة: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ١ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (إبراهيم: ٢٢).
فالإنسان مُخيَّرٌ في سعيه، وهو الذي يُحدد مصيره بنفسه: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (الإنسان: ٣). ولو شاء الله لأتى بخلقٍ مؤمن منذ البداية، ولكنَّه ارتضى للإنسان مكانة متميزة، وأعلنها للملائكة عندما أمرهم بالسجود لآدم، وذلك إشعارًا منه لجميع خلقه بأنَّ الوعي يسمو على كل ما في الكون: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس: ٩٩). وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (الأنعام: ١٠٧). وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (الأعراف: ١١).
ولكن سعي الإنسان وكدحه إلى ربه لن يُقيِّض له النجاح بغير مدد من عند الله وعون. وخلاص الإنسان في النتيجة هو مِنَّة عُلوية، ورحمة من الله الذي التزم بخلاص البشرية منذ البداية: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (الفرقان: ١٦). وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ (التوبة: ١١١). إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (الليل: ١٢–١٣). فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ (غافر: ٥٥). قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ (الأعراف: ١٨٨). يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (آل عمران: ٧٤). مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ (الأنعام: ١١١). ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة: ٢٧). وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ (الشورى: ٨). وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (التكوير: ٢٩). يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (المائدة: ١٦).
سوف تتضح هذه الأفكار أمامنا بشكل أوسع وأدق من خلال تقصينا لمفهوم التاريخ في القرآن الكريم، وهو المفهوم المركزي الذي يدور حوله تعليم القرآن من أوله إلى آخره. فالآيات والسور تتلى لتروي للمؤمنين قصص البدايات والنهايات، خلق العالم وخلق الإنسان، سِيَر الأولين ومن تلاهم إلى يوم الدين. فالتاريخ هو المسرح الذي تتجلَّى فيه مشيئة الله وقصده الخلاصي. فهو منذ أن تاب على آدم بعد معصيته، ملتزم بتخليص خليفته وهدايته إلى سُبل العيش القويم، وإلى الحياة السرمدية، بعد عصور الامتحان الطويلة.
يتحرَّك التاريخ عبر ثلاث مراحل تعقب الحالة السابقة على التكوين عندما لم يكن سوى الله والعرش والماء.
(١) الخلق والتكوين
(١-١) السرمدية
لا يوجد في القرآن الكريم سوى آية واحدة تصف الحالة السابقة على الخلق، وهي الآية السابعة من سورة هود: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (هود: ٧). فقبل ظهور العالم لم يكن سوى الماء والعرش وخالقهما، ثم خلق الله السماوات والأرض على ست مراحل متتابعة. وأمَّا هدف الخلق فهو الإنسان الذي أخلفه الله في الأرض ليظهر جدارته بهذه الخلافة، ويبذل ما هو صالحٌ لنفسه ولبقية كائناتها التي سخَّرها الله له، مثلما سخَّر له بقية مظاهر الكون والطبيعة.
(١-٢) خلق العالم
أمَّا عن خلق بقية المظاهر الكونية والطبيعانية، فقد تمَّ خلال هذه الأيام الستة، ولكن دون الإشارة إلى ترتيب معين في أسبقية الظهور: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ (الأنعام: ١). يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ (الأعراف: ٥٤). لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (يس: ٤٠). وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (فُصِّلت: ١٢). هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا (يونس: ٥). وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (إبراهيم: ٣٣). إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (الصافات: ٦). وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (الأعلى: ٤–٥). وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (طه: ٥٣). اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ (الروم: ٤٨). وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ (الحجر: ٢٢).
وقد جاء خلق الله هذا تامًّا وكاملًا، وسيبقى كذلك إلى اليوم الموعود. فالعالم كله حسنٌ وخيِّر، يسير وفق الخطة التي وضعها الله له، ولا سلطة للشيطان عليه: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (السجدة: ٧). فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (المؤمنون: ١٤). هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ (لقمان: ١١). مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ (الملك: ٣). وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (الرعد: ٨). الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (الرحمن: ٥). وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (الرحمن: ٧). وهذا يعني أنَّ ما يبدو من اضطراب في عمليات الطبيعة أحيانًا مثل العواصف والأعاصير والفيضانات والزلازل والبراكين، هو جزء من نظام الطبيعة ذاتها، لا اختلال في ذلك النظام. كما أنَّ الله يُسخر بعض هذه الظواهر كأدوات عقاب على الأقوام العاصية التي فسدت وتحلَّلت فيها الأخلاق والمعاملات: فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ (الإسراء: ٦٩). فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ (فُصلت: ١٦). والشيء نفسه يُقال عن المخلوقات المؤذية بطبيعتها وعن الأمراض والأوبئة. وبتعبير آخر، فإنَّ كل ما يبدو حولنا من تعارضات ذات طبيعة قطبية، هو جزء من النظام الخفي لصيرورة العمليات الكونية والطبيعانية.
(١-٣) الملائكة
وللملائكة في يوم القيامة دور هام يلعبونه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ (النحل: ٣٣). يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ (الفرقان: ٢٢). وللملائكة أجنحة يختلف عددها على ما يبدو باختلاف طبقاتها: جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ (فاطر: ١). على أنَّ هذا لا يضفي الصفة المادية على الشكل الملائكي، والبشر لا يقدرون على رؤيتها، في حال تجليها، إلَّا في هيئةٍ إنسانية عادية: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (الأنعام: ٨- ٩). وكلمة «رجل» في هذه الآية الكريمة تدل على الإنسان لا على جنس الذكر، لأنَّ الملائكة لا جنس لها.
(١-٤) الجن
الجن هم فريق آخر من الكائنات غير المادية، خلقها الله قبل الإنسان من عنصر النار: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (الحجر: ٢٦–٢٧). وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (الرحمن: ١٥). إنَّ تعبير «نار السَّموم» وتعبير «مارجٍ من نار» في الآيتين السابقتين يدلان على النار الصافية التي لا يُخالطها دخان. وهذا يعني أنَّ الجن مخلوقون من نارٍ غير أرضية، فهم طاقةٌ صافية لا أجساد لها، ومع ذلك فإنَّهم يسكنون المجال الأرضي وينقسمون إلى أمم وشعوب، شأنهم في ذلك شأن البشر. ومثل البشر أيضًا، هم مُخيَّرون وعُرضةٌ للامتحان عبر صيرورة الزمن: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا (الأنعام: ١٣٠). وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا (الأعراف: ١٧٩). قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا (الأعراف: ٣٨). ثمَّ إنَّهم في النهاية مُطالبون بالإيمان برسالة الإسلام: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (الأحقاف: ٢٩). قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (الجن: ١–٢).
ويبدو أنَّ الآلهة التي عبدها البشر من دون الله كانت من الجن الكافر: وَجَعَلُوا لِلهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ (الأنعام: ١٠٠). وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (سبأ: ٤٠–٤١). وللجن شياطين تغويهم مثلما للإنس: شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ (الأنعام: ١١٢–١١٣).
ولدينا في سورة النمل نموذج عن القوة فوق الطبيعانية التي للجن، وذلك في قصة ملكة سبأ مع سليمان. فلقد سمع الملك سليمان بخبر ملكة سبأ، فأرسل إليها يدعوها للإيمان بالله وترك عبادة الشمس والكواكب، فأرسلت إليه هدايا ثمينة ولم تجبه للإيمان، فردَّ سليمان هداياها إليها وعزم على السير لمحاربتها، ولكنَّها بادرته بالسير لزيارته، قبل أن تصل الملكة أراد أن يُريها آية تدفعها إلى الإيمان. ولمَّا كان سليمان متسلطًا على الجن، يأتمرون بأمره: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ (سبأ: ١٢)، فقد دعا الجن وسألهم أيهم قادر على إتيانه بعرش الملكة من بلدها قبل أن تصل: قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ (سورة النمل: ٣٨–٤٠).
(١-٥) خلق الإنسان وسقوطه
وبعد أن انتهى الخالق من صنع جسد آدم نفخ فيه من روحه: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ (السجدة: ٧–٩). وبذلك صار آدم نفسًا حية، يجمع في تركيبه عنصرين: الأول مادي ينتمي إلى الأرض، والثاني روحاني، هو قبسٌ من روح الله ذاته.
هذا التكوين الخاص الجامع بين المادة و«الروح»، هو الذي جعل آدم مميزًا على بقية الكائنات التي خلقها الله، ومُفضلًا على الملائكة والجان. ولكي يُظهر الله للملائكة فضل آدم عليهم، فقد علَّمه أسماء جميع مخلوقات الأرض، ثمَّ عرضهم على الملائكة لينبئوه بأسمائهم فعجزوا، ولكن آدم فعل: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (البقرة: ٣١–٣٢). عند ذلك أمرهم الله بالسجود لآدم سجود تبجيل وتكريم: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (البقرة: ٣٤). قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (الأعراف: ١١–١٣).
وفي آية أخرى يوسوس الشيطان إلى الزوجين معًا: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (الأعراف: ٢٠–٢٤). ولكن رحمة الله ترافقت مع غضبه، فما لبث طويلًا حتى غفر للإنسان خطيئته: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (البقرة: ٣٦–٣٧).
نلاحظ من الآيات الكريمة التي أوردناها أعلاه عددًا من النقاط الأساسية التي تُميِّز الرواية القرآنية عن الروايات الكتابية الأخرى. فالشيطان قد وسوس إلى آدم أولًا، ثمَّ إلى الزوجين معًا، ثمَّ إنَّ الاثنين قد أكلا من الشجرة، دون الإشارة إلى من كان البادئ بالأكل والمُحرِّض عليه. وبذلك فقد برَّأ القرآن الكريم المرأة من التحريض على المعصية الأولى، وألقى اللوم على الطرفين معًا، ثمَّ إنَّ الله لم يلعن الإنسان بسبب معصيته، ولم يلعن الأرض بسببه، بل طرده من الجنة إلى الأرض ليحصِّل فيها قوته بالكد والعتب. وأعلن منذ البداية التزامه بهدايته وخلاصه: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة: ٣٨). كما أنَّ الله قد سامح الإنسان وغفر له ذنبه ما إن دعاه وطلب غفرانه. وهذا يعني أنَّ مفهوم الخطيئة الأصلية غير موجود في المعتقد القرآني، وأنَّ نسل الإنسان لم يرث خطيئة آدم لينوء بها عبر تاريخه، بل هو قادر على تحقيق خلاصه بمجرد الإيمان بالله تعالى والإخلاص له.
(١-٦) إبليس
وعندما حلَّت عليه لعنة ربه بسبب عجرفته وتكبره وعصيانه، وآذن بهلاكٍ مؤكد، طلب التأجيل إلى يوم القيامة: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (ص: ٧١–٨٥).
لم يكن عصيان إبليس واتخاذه جانب الشر بالأمر المهم في صيرورة تاريخ العالم وتاريخ الإنسانية. فالشر لا يصدر عن إبليس بقدر ما يصدر عن النفس الإنسانية الواعية والحرة والمسئولة. كما أنَّ نهاية التاريخ مقررة ومقدَّرة سلفًا، وهي جزء لا يتجزأ من خطة الله في الخلق، ولم يكن لمعصية إبليس أو خطيئة الإنسان أي أثر على هذه الخطة. ونحن إذا نظرنا إلى الآيات الكريمة المتعلقة بالخلق والتكوين نجد في معظمها قد ربط الخلق بالنهاية، لأنَّ العالم مخلوق لأجل مسمى: مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى (الأحقاف: ٣). وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (لقمان: ٢٩). وَخَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ (الجاثية: ٢٢). فالعالم مخلوقٌ لأجل الإنسان، وهو المسرح الذي يُحقِّق فيه خياراته عبر صيرورة التاريخ. ورغم أنَّ مسيرة الزمن والتاريخ مرسومةٌ مسبقًا في خطوطها العامة، إلَّا أنَّ ما يجري في هذا التاريخ هو مسئولية الإنسان.
ضمن هذه الخطة المتكاملة التي تجمع الجبرية في صيرورة التاريخ، والحرية في نشاط الإنسان ضمن هذا التاريخ، لا يلعب الشيطان إلَّا دورًا ثانويًّا، وليس العهد الذي أخذه على نفسه بغواية بني البشر بذي أثر حقيقي على خطة الرحمن. نقرأ في سورة الإسراء: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (الإسراء: ٦١–٦٥). ونقرأ في سورة الأعراف: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (الأعراف: ١٤–١٨).
باشر إبليس مهمته فورًا، وبعد إغوائه لآدم وزوجته عمد إلى ضلالة فريق من الجن «أو الملائكة» فانحازوا إلى جانبه وتحوَّلوا إلى شياطين تعمل كجندٍ تحت إمرته: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (الشعراء: ٩١). فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (الشعراء: ٩٤–٩٥). كما صار له ذرية ونسلٌ تقفُّوا أثره: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (الكهف: ٥٠). وكلمة «ذرية» في هذه الآية الأخيرة قد تعني نسلًا بالمعنى الحرفي للكلمة، وقد تعني النظائر والأشباه، وذلك كقوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ (الإسراء: ٢٧). فأخوَّة بعض البشر للشياطين هنا ليست أُخوة فعلية، بل أُخوَّة معنوية.
وهكذا ابتدأ الشيطان والإنسان تاريخهما معًا، ودخلا المرحلة الثانية من التاريخ، مرحلة الامتحان الكبير.
(٢) مرحلة الامتحان الكبير
قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (الدخان: ٣٨–٤٠). أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (الروم: ٨). فالإنسان هو معنى العالم وغايته، وإليه أوكل الله الأمانة الكبرى التي لم يحملها أحد من خلق الله، وإنَّ عليه خلال المرحلة الثانية من التاريخ أن يُثبت جدارته بهذه الأمانة ويصل بها إلى هدفها الأخير، وهو تنقية النفس الإنسانية من شوائب البشر، وتحقيق الخيار الوحيد اللائق بالجنس البشري، خيار الحق والخير، ليكون أهلًا للدخول في السرمدية. وهو رغم مسئوليته الكاملة عن مصيره، فإنَّه ليس وحيدًا في خضم الامتحان، لأنَّ الله يقف على الدوام إلى جانب من تولوه في صراعهم مع نوازعهم ومع الشيطان، ويُحارب الباطل بالحق: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ (الأنبياء: ١٦–١٨).
منذ أن طرد الله آدم من الفردوس أعلن عن مقصده في التاريخ، والتزامه بهداية الإنسان وخلاصه من عالم التجربة والمحنة إلى حياة الأبدية: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ (الأعراف: ٢٧). وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ (التغابن: ١١). إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ (يونس: ٩). فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ (البقرة: ٢٥٦–٢٥٧). يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (الأعراف: ٣٥). ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى (المؤمنون: ٤٤).
خلال المرحلة الثانية ينشط إبليس وجنوده فيُضلُّون ويُفسدون، ولكن الله الأمين على عهده ووعده، يُتابع صلته بالبشر ليُجنِّبهم مهاوي الشيطان: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ (الحديد: ٢٥). وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (النحل: ٣٦). وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (إبراهيم: ٤). قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا (يونس: ١٠٨). تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (لقمان: ٢–٣). ولكن هذه المرحلة تميَّزت بعزوف معظم الناس عن الهداية، وعدم الإصغاء لصوت الحق: كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ (المؤمنون: ٤٤). وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (الحجر: ١٠–١١). يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (يس: ٣٠).
هذا الصراع المفتوح بين الخير والشر لن يستمر أبدًا، لأنَّ الزمن يسير نحو نهايةٍ محتومة ومقررة سلفًا في صُلب الخلق الأول. ولسوف ترجح كفة الخير في الهزيع الأخير من التاريخ، الذي يُتوَّج باستئصال شأفة الأشرار ووليهم إبليس: أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (المجادلة: ١٩). والهزيع الأخير من التاريخ يبتدئ بالبعثة المحمدية.
(٣) البعثة المحمدية ونهاية التاريخ
(٣-١) خاتم الأنبياء
(٣-٢) الساعة واليوم الآخر
تتخذ الرسالة المحمدية طابعًا آخرويًّا واضحًا، فلا تكاد تخلو سورة من سور القرآن الكريم من آية أو عدد من الآيات التي تُذكِّر باليوم الآخر وبقيام الساعة. لقد بلغ عدد مرات ذكر «الآخرة» و«اليوم الآخر» في الكتاب حوالي ١٤٠ مرة، وذكر «الساعة» حوالي ٤٨ مرة. وذلك إضافة إلى التعابير الأخرى التي تحمل الدلالة نفسها مثل «الغاشية» و«الواقعة» و«القارعة» و«الآزفة» و«اليوم الموعود» و«يوم الوعيد» و«الموعد» و«الميقات» وغيرها. فاليوم الآخر هو تجسيد لعدالة الله الحقة، وكل تعاليم القرآن تصب في النهاية في تعليم واحد، هو آخر الزمن ونهاية التاريخ.
يُفتتح اليوم الآخر بالساعة الرهيبة التي تُزعزع الأرض وتُشقق السماء وتُبعثر النجوم وتفيض البحار. هذه الساعة قريبة، ولكن موعدها لا يعلم به سوى الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي (الأعراف: ١٨٧). وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (الزخرف: ٨٥). وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (الأحزاب: ٦٣). وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (الشورى: ١٧). فهي تأتي بغتة دون إنذار: أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (سويف: ١٠٧). وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً (الحج: ٥٥). بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ (الأنبياء: ٤٠). يسبق الساعة ثلاث إشارات: هي الدخان ودابة الأرض التي تُكلم الناس، وخروج شعب يأجوج ومأجوج: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (الدخان: ١٠–١١). وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (النمل: ٨٢). حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (الأنبياء: ٩٦–٩٧). ويأجوج ومأجوج هم القوم الذين حجبهم ذو القرنين وراء سد كبير اتقاء أذاهم (الكهف: ٩٤–٩٧). وهم قبل الساعة ينقبون السد ويخرجون للفساد في الأرض.
ينتبه الأحياء من غفلتهم على صوت بوقٍ عظيم تضطرب له الأرض وتفزع الكائنات: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ (النمل: ٨٧). ويأتي صوت البوق أشبه بصيحة واحدة لا متقطعة ولا متكررة: وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (ص: ١٥). يلي ذلك عدد من الكوارث الطبيعية والكونية: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (الحاقة: ١٣–١٦). إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (الانفطار: ١–٣). إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (الزلزلة: ١–٥). وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ (الزمر: ٦٧). إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (التكوير: ١–٤). إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (الطور: ٧–١٠). يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (المعارج: ٨–١٠). يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى (الحج: ٢).
وعندها تُبرز صحف أو كتب الأعمال التي كان الملائكة يسجلون فيها أعمال كل فرد خلال حياته: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (الكف: ٤٩). وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (الإسراء: ١٣–١٤). إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (يس: ١٢). ومع إبراز صحف الأعمال ينقسم المحشورون إلى أهل اليمين وأهل الشمال: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (الواقعة: ٢٧). وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (الواقعة: ٤١). فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (الانشقاق: ٧–٩). وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (الحاقة: ٢٥–٢٩).
بعد استلام صحف الأعمال، يتَّجه المحشورون إلى ميزان الحساب المنصوب: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (الأنبياء: ٤٧). وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ (الأعراف: ٨–٩). فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ٢٠ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ (القارعة: ٦–١١). بعد اختبار الميزان يتجه أهل اليمين إلى نعيمٍ مقيم، ويتجه أهل الشمال إلى عذاب السعير.
(٣-٣) أحوال الجنة وأحوال النار
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ (آل عمران: ١٥). وللجنة أبواب تستقبل أهلها وفق طبقاتهم، وعليها خزنةٌ موكلون بشئونها: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (الزمر: ٧٣). وللجنة درجات: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِذَوَاتَا أَفْنَانٍ (الرحمن: ٤٦، ٤٨). وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِفِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (الرحمن: ٦٢ و٦٦). وفيها أنهارٌ من ماءٍ عذب وأنهارٌ من لبن وعسل وخمر: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ (محمد: ١٥). ولكن خمر الجنة لا يُسكر: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (الصافات: ٤٥–٤٧). يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (الواقعة: ١٧–١٩). يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (المطففين: ٢٥–٢٨).
وأهل الجنة لا يعملون ولا يكدُّون، بل يأتيهم رزقهم دون سعي أو مشقة، وليهم فيها أزواج مطهرة: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (مريم: ٦١–٦٢). إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (يس: ٥٥–٥٨). أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (الصافات: ٤١–٤٤). وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الواقعة: ٢١–٢٤).
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ (الأعراف: ٤٤). وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (الأعراف: ٥٠).
ولجهنم أيضًا أبوابٌ تستقبل أهلها حسب طبقاتهم، وعليها حَفَظَةٌ يديرون شئونها: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (الحجر: ٤٣–٤٤). وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (الزمر: ٧١). ولها أيضًا درجات تتسلسل صعدًا من الأسفل إلى الأعلى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (النساء: ١٤٥). فإذا اقتربوا منها سُمع عن بُعدٍ صوت غليان النار فيها، مثلما يغلي صدر الغضبان من الغيظ، وسُمع لها شهيقٌ وزفير: وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (الفرقان: ١١–١٢). إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (الملك: ٧–٨). فإذا رأى الكافرون ما هم فيه من عذاب ندموا وطلبوا فسحة من الوقت يرجعون خلالها إلى الحياة الدنيا ليعملوا صالحًا، ولكن هيهات، فإقامتهم هنا أبدية: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (الأنعام: ٢٧). فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (هود: ١٠٦–١٠٧).
ومن صنوف العذاب التي يلقونها على يد ملائكة العقاب: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (البقرة: ٢٤). عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (التحريم: ٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ (النساء: ٥٦). إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (غافر: ٧١). إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (الإنسان: ٤). فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (الحج: ١٩–٢٢). لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا (فاطر: ٣٦). وفي مقابل طيبات رزق الجنة، فإنَّ لأهل النار طعامًا أيضًا: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (الدخان: ٤٣–٤٥). إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (الصافات: ٦٤–٦٦).
(٣-٤) الخلق الجديد
ورد في الآية ١٠٧ من سورة هود التي أوردناها أعلاه، أنَّ الذين شقوا هم في النار خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وفي هذا دلالة على أنَّ العالم لن يفنى عقب يوم القيامة، وإنَّما يتم تجديده بعد الدمار الشامل الذي حلَّ به. ويدعم هذا التفسير الذي نتقدَّم به هنا الآيات الكريمة التي تتحدَّث عن «الخلق الجديد». ففي بعض هذه الآيات يرد تعبير «الخلق الجديد» للدلالة على إعادة خلق الموتى وبعثهم، وذلك كقوله تعالى: إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ (يونس: ٤). وكقوله: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (الرعد: ٥). ولكن تعبير الخلق الجديد يرد في مواضع أخرى للدلالة على إعادة خلق العالم. وذلك كقوله: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (العنكبوت: ٢٠). يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ (الأنبياء: ١٠٤). أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (يس: ٨١). من هنا، فإنَّ الجنة والنار اللتين لم يُحدِّد النص صراحةً مكانهما وموضعها، قد تكونان في هذه الأرض الجديدة، خصوصًا وأنَّ بعض الآيات تنص صراحة على أنَّ المؤمنين يرثون الأرض في اليوم الآخر: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ (الزمر: ٧٤). كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (الأنبياء: ١٠٤–١٠٥).
أي إنَّ الله يخلق بعد تدمير السماء والأرض سماءً جديدة وأرضًا جديدة، تدخلان في السرمدية مع المؤمنين، الذين يسقيهم ربهم شرابًا طهورًا، هو شراب الخلود في عالم انتفت منه التناقضات والتعارضات، بعد أن توقَّف التاريخ وصبَّ تيار الزمن في الأبدية.
(٣-٥) في الحديث الشريف
الموت وعذاب القبر
أشراط الساعة
حروب آخر الزمان
المسيح والمسيح الدجال
الدجال في الحديث الشريف، رجلٌ من بني آدم، ضخم الجثة، أكرد الشعر، أعور العين اليمنى، وعينه اليسرى شديدة الضوء كأنَّها كوكب دري، مكتوب على جبهته كافر. يأتي الدجال من المشرق فيدَّعي الصلاح، ثم يدَّعي النبوة ويقول إنَّه المسيح، ثم يدَّعي الألوهية. يدخل كل ديار الإسلام عدا مكة والمدينة فهما محرمتان عليه. يُجري الحق سبحانه وتعالى على يديه معجزات باهرة، لأنَّ الله جعله فتنة للناس يبتلي بها العباد. من معجزاته إحياء الموتى وإظهار خصب الأرض الجرداء بدعوته، وإمحال الأرض الخضراء بمشيئته، وإسقاط المطر بإشارته، ومعه صورة جنة ونار يُريهما لمن يشاء. يُنادي على الصحراء أن تُخرج كنوزها فتتبعه كنوز الأرض جميعًا، فيهلك من يتبعه من المرتابين والمنافقين، وينجو من يُكذِّبه ويُبطل حِيَلَهُ من المؤمنين. يلبث في الأرض أربعين يومًا، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كأسبوع، وبقية أيامه مثل أيام الناس.
كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٠