ميلاد الشيطان
(١) مقدمة تاريخية
منذ مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، أخذت الشعوب المعروفة تاريخيًّا باسم الشعوب الهندو-آرية بالانسياح من مواطنها الأصلية في السهوب الأوراسية، نحو آسيا الصغرى وأوروبا والهند وإيران، وقد وصلت طلائع الهندو-آريين إلى الهضبة الإيرانية خلال أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، ثم أخذت بالاستقرار تدريجيًّا في ثلاث مناطق رئيسية، حسب عشائرها، وهي منطقة ميديا ومنطقة فارس ومنطقة بارثيا. في مطلع الألف الأول قبل الميلاد حكمت ميديا سُلالة ملكية بدأت بتوحيد الممالك الإيرانية الصغيرة منذ القرن الثامن ق.م. ثم أفلحت في بسط سلطتها على كامل إيران عقب تحالفها مع بابل وتدميرهما آشور خلال عامي ٦١٤–٦١٢ق.م. دام سلطان الميديين قرابة قرن من الزمان، إلى أن قام قورش ملك فارس بالتمرُّد على حميه ملك ميديا عام ٥٤٩ق.م. وأخضع ميديا وبقية المناطق الإيرانية، وأسَّس لحكم أسرة قوية عُرفت باسم الأسرة الأخمينية. بعد أن استتبَّت له الأمور في إيران، أخذ قورش بالضغط على الحدود الشرقية للإمبراطورية البابلية، إلى أن سقطت بابل العاصمة في يده عام ٥٣٩ق.م. وانفتحت أمامه بوابة آسيا الغربية، فتابع مسيرته غربًا حتى استولى على مناطق النفوذ البابلية في بلاد الشام وآسيا الصغرى جميعها، ثم أكمل ابنه قمبيز ضم مصر بعد ذلك بقليل. وبذلك ابتدأ عصر جديد في منطقة الشرق القديم هو عصر الإمبراطورية الفارسية، التي حكمت أصقاعًا مترامية تمتد من البنجاب في الهند شرقًا إلى حدود اليونان القارية وحدود الصحراء الغربية في مصر غربًا. دامت هذه الإمبراطورية قرابة قرنين من الزمان، إلى أن انتهت على يد الإسكندر المقدوني عام ٣٣١ق.م.
في عام ٢٨٠ق.م. قامت في مملكة بارثيا ثورة على حكم السلوقيين السوريين من خلفاء الإسكندر، بقيادة الزعيم أرشق الذي حرَّر بارثيا أولًا ثم بقية المناطق الإيرانية، وأسَّس لحكم أول أسرة بارثية. بعد وفاة أرشق قام خلفاؤه بمتابعة الضغط على القوات السلوقية، حتى دفعوا بها إلى ما وراء نهر الدجلة. وفي عهد الملك ميتراديس الأول وخليفته ميتراديس الثاني، تمَّ إجلاء السلوقيين إلى ما وراء نهر الفرات، وامتدَّت الإمبراطورية البارثية من حدود الهند شرقًا إلى الفرات غربًا. امتدَّ العمر بهذه الإمبراطورية أمدًا طويلًا، وذلك من أواسط القرن الثاني ق.م. إلى أوائل القرن الثالث الميلادي عندما عادت السلطة مجددًا إلى فارس، فقد قام حاكم منطقة فارس المدعو بابك بالثورة على البارثيين وأعلن فارس مملكة مستقلة، ثم وليه ابنه أردشير الأول الذي التقى بآخر ملوك البارثيين في معركة فاصلة وقتله عام ٢٢٦ ميلادية. وأردشير الأول هو مؤسس الأسرة الساسانية التي حكمت الإمبراطورية الفارسية قرابة أربعة قرون. من أشهر ملوك الساسانيين خسرو أنوشروان، المعروف لدى العرب بكسرى أنوشروان، وقد ارتقى هذا العاهل الكبير العرش عام ٥٣١م، وحكم قرابة خمسين عامًا، وبعد وفاته شهدت البلاد فترة من الاضطرابات توالى خلالها على العرش عدد من الملوك الضعفاء انتهوا بالخلع أو القتل، إلى أن ولي العرش يزدجرد الثالث عام ٦٣٢م. وقد استطاع هذا العاهل القوي ضبط الأمور بيدٍ من حديد، وسار بالبلاد نحو عهد من الطمأنينة والاستقرار، إلَّا أنَّ العرب الذين ظهروا على المسرح الدولي في ذلك الوقت، ما لبثوا أن غنموا سورية عام ٦٣٦م، ثم توجَّهوا لقتال يزدجرد في معركة القادسية الحاسمة، وبعد معركتين تاليتين شقَّ العرب طريقهم نحو الهضبة الإيرانية، ومع حلول عام ٦٥٢ كانت سيطرتهم على إيران تامة تقريبًا.
(٢) زرادشت
يُعتبر زرادشت واحدًا من أهم الشخصيات الدينية التي أثَّرت على مجرى الحياة الروحية عبر تاريخ الحضارة، ولا تكمن أهمية هذا النبي والمعلم الأخلاقي الكبير في مدى الانتشار الجغرافي والزماني للديانة الزرادشتية التي قامت على وحيه وتعاليمه، بقدر ما تكمن في مدى تأثير أفكاره على الديانات العالمية اللاحقة.
لا يوجد بين أيدينا مصادر تاريخية مباشرة تُعيننا على رسم سيرة حياة كاملة لزرادشت، ولكنَّنا نستطيع رسم ملامح عامة لها اعتمادًا على المصادر الإغريقية التي تعود إلى القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، وعلى المصادر الزرادشتية ذاتها، وأهمها مجموعة الأناشيد التي وضعها زرادشت نفسه والمدعوة بالغاثا، ومجموعتين من الأدبيات الزرادشتية معروفتين باسم الأفيستا والأفيستا الصغرى، وتحتويان على تعاليم زرادشت وأحاديثه الشفوية التي تم تناقلها عبر الأجيال، وعلى شروحات وتعليقات اللاهوتيين الزرادشتيين، وقد تمَّ تدوين هاتين المجموعتين خلال الفترة الساسانية بعد قرون طويلة من التداول الشفهي.
رغم أنَّنا نفهم من الأفيستا الصغرى أن زرادشت قد عاش وبشَّر برسالته قبل عصر الإسكندر بثلاثة قرون، أي فيما بين أواخر القرن السابع وأوائل القرن السادس قبل الميلاد، إلَّا أنَّ الباحثين في تاريخ الزرادشتية مختلفون في تاريخ ميلاد المعلم، فبينما يرجع به فريق من الباحثين إلى أواسط الألف الثاني قبل الميلاد استنادًا إلى التحليل الفيولوجي للهجة أناشيد الغاثا التي تشف عن بنى لغوية مغرقة في القدم، فإنَّ فريقًا ثانيًا يقبل بالمعلومة الأفيستية ويضع ميلاده في أوائل القرن السادس قبل الميلاد، ويُطابق بين اسم الملك فيشتاسبا الذي يتكرَّر في أناشيد الغاثا واسم والد الملك قورش المدعو هيستابس، وهنالك فريق ثالث يضع مولد زرادشت في مطلع الألف الأول قبل الميلاد، وحوالي عام ٩٠٠ تقريبًا، وحجة هذا الفريق قِدم لهجة أناشيد الغاثا من جهة، وعدم تعرضها ولو بالإشارة العابرة إلى ذكر مملكة الميديين أو الأخمينيين من جهة ثانية، يُضاف إلى ذلك ما تكشف عنه الدراسة المدقَّقة للأناشيد من وجود نظام سياسي كان سائدًا خلال حياة الكاتب، يقوم على الإمارات الصغيرة التي لا تخضع لسلطة سياسية مركزية، ومثل هذا النظام لم يكُن ممكنًا بعد عام ٩٠٠ق.م. هذا التاريخ المتوسط لميلاد نبي الزرادشتية يلقى الآن تأييد معظم الباحثين. أمَّا عن المنطقة التي وُلِد فيها المعلم وعاش سنوات يفاعته إلى أن جاءه وحي النبوة، فإنَّ الآراء تتفق على وقوعها في المناطق الشرقية المتطرفة والبعيدة عن المراكز الحضرية، والتي كانت تعيش على الرعي وتربية الماشية.
عندما وُلِد زرادشت، على ما تقصه الأدبيات الزرادشتية اللاحقة، احتفلت كل مظاهر الطبيعة، وحدثت سلسلة من المعجزات التي رافقت ذلك الحدث المهم في تاريخ الكون وتاريخ الإنسانية. أمَّا الشيطان فقد هرب واختفى من وجه الأرض، ثم ما لبث أن أرسل زبانيته لإهلاك الرضيع، فلمَّا اقتربوا منه تكلم في المهد ونطق صلاة للرب طردت الشياطين، وعندما شبَّ عن الطوق جاءه الشيطان لكي يجربه ووضع في يده سلطان الأرض كلها مقابل تخليه عن مهمته القادمة، ولكن زرادشت نهره وأبعده عنه. هذه المواجهة بين المُخلِّص والشيطان نجدها أيضًا في الأدبيات الدينية البوذية والمسيحية. فعندما كان البوذا في جلسة التأمُّل الأخيرة التي قادته إلى المعرفة المطلقة، أرسل رئيس العفاريت الشريرة مارا زبانيته الذين أحاطوا بالشجرة التي يجلس تحتها المُعلم، وحاولوا إخافته وبث الرعب في قلبه بكل الوسائل، ولكنه بقي هادئًا مستغرقًا في تأمُّله الباطني، ثم هبط مارا بنفسه ورماه بكل أسلحته، ولكنَّها تحولت إلى براعم زهور معلقة حول رأسه في الهواء، وما إن حلَّ الصباح حتى استنارت جنبات البوذا بالعرفان واخترق بعقله وروحه جوهر الحقيقة. وفي إنجيل متَّى نقرأ أنَّ إبليس أخذ يسوع إلى البرية بعد أن هبط عليه الروح القدس ليجربه، وبعد أربعين يومًا: «أخذه إلى جبل عالٍ جدًّا وأراه ممالك العالم ومجدها، وقال له: أعطيك هذه جميعًا إن خررت وسجدت لي. حينئذٍ قال يسوع: اذهب يا شيطان، لأنَّه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه تعبد» (متَّى: ٤).
بعد تلقيه الرسالة، انطلق زرادشت يُبشِّر بها في موطنه وبين قومه مدة عشر سنوات، ولكنَّه لم يستطع استمالة الكثيرين إلى الدين الجديد، فلقد وقف منه الناس العاديون موقف الشك والريبة بسبب ادعائه النبوة وتلقي وحي السماء، بينما اتخذ منه النبلاء موقفًا معاديًا بسبب تهديده لهم بعذاب الآخرة، ووعده للبسطاء بإمكانية حصولهم على الخلود الذي كان وقفًا على النخبة في المعتقد التقليدي. ولما يئس النبي من قومه وعشيرته عزم على الهجرة من موطنه، فتوجَّه إلى مملكة خوارزم القريبة حيث أحسن ملكها فيستاشبا استقباله، ثم اعتنق هو وزوجته الزرادشتية وعمل على نشرها في بلاده، ولكن ملوك المناطق المجاورة طالبوا فيستاشبا بنبذ الزرادشتية والرجوع إلى دينهم التليد، وانتهزوا الفرصة للإغارة على حدود بلاده، فدخل معهم في حروب طاحنة خرج منها منتصرًا، وبذلك تم فتح الطريق أمام الزرادشتية للانتشار التدريجي.
عاش زرادشت عمرًا مديدًا، ووجد الوقت الكافي لنشر رسالته والعمل على تبسيط تعاليمه الأولى التي أوردها في الأناشيد، وذلك بلغة تُقرِّبها إلى عامة الناس وتستميلهم إليها. تزوج ثلاث مرات وأنجب ثلاثة ذكور وثلاث بنات، وكانت ثالث زيجاته من ابنة الوزير الأول لمملكة خوارزم. بعد وفاة الملك فيستاشبا سادت الفوضى في المملكة وفقد زرادشت سنده وحاميه، فكان عليه أن يُكافح ويصمد بقواه الخاصة، وهي مهمة حقَّقها بنجاح بعد نضالٍ شاقٍّ وطويل. إلى هذه الفترة العصيبة يرجع قانون العقيدة الزرادشتي الذي يتوجَّب على المؤمن فهمه وإعلانه لدى دخوله في الدين الجديد، وفي مقدمته الشهادة التي تقول: «أشهد أني عابد للإله أهورا مزدا، مؤمن بزرادشت، كافر بالشيطان، معتنقٌ للعقيدة الزرادشتية، أُمجِّد الإميشا سبينتا الستة، وأعزو لأهورا مزدا كل ما هو خيرٌ.» لدى نطقه بهذه الشهادة يكون الفرد قد انسلخ عن الدين القديم وصار عضوًا في جماعة المؤمنين.
ذاعت شهرة زرادشت في العالم القديم فاعتبره الإغريق سيدًا للحكمة والمعارف السِّرانية، وعزا إليه الفيثاغوريون تأثيرًا مباشرًا على معلمهم فيثاغورث، ونظر إليه فلاسفة الأكاديميا بإكبار وإجلال باعتباره مؤسسًا لفلسفة الثنوية، ثم رأت فيه المسيحية المبكرة مبشرًا بقدوم السيد المسيح بسبب تعاليمه حول المُخلِّص المنتظر الذي سيأتي في آخِر الأزمان، ولم تكُن النجمة التي ظهرت في الشرق وقادت المجوس الثلاثة إلى مهد يسوع في بيت لحم، إلَّا إشارة إلى تحقيق نبوءة زرادشت (انظر إنجيل متَّى، الإصحاح الثاني). وعندما ظهرت المدارس الغنوصية في سورية ومصر خلال القرون الأولى للميلاد، وجدت في زرادشت واحدًا من مُعلميها الكبار، ثم جاء ماني المُعلم الثاني لمعتقد الثنوية، فاعتبر زرادشت ثالث الأنبياء العظام الذين سبقوه إضافة إلى موسى ويسوع. وفي العصور الحديثة أصبح زرادشت موضع اهتمام الأوروبيين منذ عصر النهضة، وكان الفيلسوف الألماني نيتشه من أكثر الفلاسفة المُحْدثين إعجابًا به، واستعار اسمه لحكيم كتابه: هكذا تكلم زرادشت.
(٣) المعتقد الزرادشتي
يتميَّز المعتقد الزرادشتي بابتكاره لمفهوم الوحدانية الثنوية، وصفة الثنوية هنا لا تلغي صفة الوحدانية، لأنَّ مفهوم الثنوية الزرادشتي يقف في تعارض مع مفهوم التعددية، ولكنَّه لا يتعارض مع الوحدانية بل يتلازم معها، ذلك أنَّه يُقدِّم أكثر التفسيرات منطقية لوجود الشر في العالم. أهورا مزدا واحد ولا ثاني له في الألوهة، خالق كل ما هو طيب وحسن، ولكنه ليس مسئولًا عن وجود الشر في العالم، ولم يكن ليرتضي وجوده منذ البداية، بل لقد سعى إلى مكافحته بكل السبل والوسائل، ولسوف ينتصر عليه في معركة تمتد على مدى تاريخ الكون والإنسان، وستشهد نهاية هذا التاريخ غلبة جند الحق على جند البهتان واختفاء الشيطان وأعماله إلى الأبد.
(٣-١) خلق العالم الروحاني
في البدء، لم يكن سوى الله، أهورا مزدا، وجود كامل وتام وألوهة قائمة بذاتها مكتفية بنفسها، ولكن هذه الألوهة اختارت أن تخرج من كمونها وتُظهر ما عداها إلى الوجود، فكان أول خلقها روحين توءمين هما سبينتا ماينو وأنجرا ماينو، ولكي يكون لهذين الروحين وجود حقيقي مستقل عن خالقهما، فقد منحهما الله خصيصة الحرية التي استخدماها منذ صدورهما عنه، فاختار سبيتنا ماينو الخير ودُعي بالروح القدس، واختار أنجرا ماينو الشر ودعي بالروح الخبيث، ثم راح يتحفَّز للانقضاض على خلق الله القادم ويقاوم كل عمل حسن له.
هذا الخيار البدئي كان بمثابة النموذج الأسبق لكل خيار أخلاقي لاحق يقوم به الإنسان، دونما جبرية أو قدرية من أي نوع، لأنَّ الإنسان سوف يُخلق حرًّا أيضًا، والحرية ستقوده إلى الاختيار، والاختيار هو جوهر الأخلاق، وبذلك يقوم المعتقد الزرادشتي على ثلاثة عناصر رئيسية هي: الحرية والاختيار والمسئولية الأخلاقية. إنَّ صيرورة الوجود بكامله سوف تعتمد على كيفية استخدام الذوات الواعية من أهل السماء والأرض لهذه المعطيات. يقول زرادشت في أحد أناشيد الغاثا:
«الحق أقول لكم، إن هناك توءمين يتنافسان منذ البداية، اثنان مختلفان في الفكر وفي العمل: روح خبيث اختار البهتان وثابر على فعل الشر، وروح طيِّب اختار الحق وثابر على فعل الخير ومرضاة أهورا مزدا. وعندما تجابه الاثنان لأول مرة أبدعا الحياة ونقيضها، ولكن عندما تحين النهاية فإنَّ من اتبع البهتان سوف يُردُّ إلى أسوأ مقام، ومن اتبع الحق فسوف يُردُّ إلى أسمى مقام.»
بعد الخيار الأخلاقي للتوءمين، كان لا بد من تعارضهما وتصادمهما ودخولهما في صراع مفتوح. ورغم أنَّ الله كان قادرًا منذ البداية على سحق أنجرا ماينو ومحو الشر في مهده، إلَّا أنَّه قرَّر عدم التناقض مع نفسه بالقضاء على مبدأ الحرية الذي أقره وأقام عليه خليقته، وآثر السير بخطته التي تقوم على مقاومة الشر استنادًا إلى المبدأ ذاته الذي أنتج الشر وهو الحرية. وهنا عمد بمعونة الروح القدس سبينتا ماينو إلى إظهار ستة كائنات نورانية قدسية إلى الوجود، شكَّلت بطانته الخاصة التي تُحيط به على الدوام، ويُدعون بالأميشا سبينتا، أي الخالدون المقدسون، وقد أوجدهم الله من روحه كمن يشعل الشموع من مشعلٍ متقد، على حد تعبير أحد مقاطع الأفيستا، وتدل أسماؤهم على أنَّهم ليسوا إلَّا خصائص مجسدة للإله، فهم: فوهو مانا الفكر الحسن، وآشا فاهيستا الحقيقة الناصعة، وكشاترا فايرا الملكوت القادم، وسبينتا أرمايتي الإخلاص، وهورفات الكمال، وإيرميتي الخلود. وقد شارك هؤلاء الخالق فيما تلا من أعمال الخلق والتكوين، وصاروا حافظين لخلق الله ووسطاء بينه وبين الناس وجميع مظاهر الوجود، ثم إنَّ الأميشا سبينتا خلقوا عددًا من الكائنات القدسية الطيبة تُدعى بالأهورا، فعهد إليهم أهورا مزدا بمهامهم وأوكلهم بمكافحة الشر كلٌّ في مجاله. وبالمقابل فإن إنجرا ماينو قد استنهض عددًا من الكائنات المتفوقة تُدعى بالديفا وعمد إلى ضلالتهم فانحازوا إلى جانبه وراحوا يتهيَّئون للانقضاض على كل عمل طيب يصدر عن الله، وبذلك تمَّ تكوين عالم الملائكة وعالم الشياطين قبل أن يظهر العالم المادي.
بعد أن تأسَّس الشر على المستوى الروحاني عرف أهورا مزدا أنَّ القضاء على الشيطان وأتباعه لن يتيسَّر قبل خلق العالم المادي، لأنَّ عالم المادة سيكون المسرح المناسب للصراع بين جند الحق وجند البهتان، ولسوف يعمد أنجرا ماينو إلى مهاجمة خَلْق الله بكل ما أوتي من قوة، لأنَّه خَلْقٌ طيب وحسن، ولكن هذا الهجوم سوف يفتُّ في عضده تدريجيًّا، حتى يفقد قوته وسلطانه في آخر الأمر، ويُحسم الصراع لصالح الخير في نهاية التاريخ. عندها يتم تخليص الكون إلى الأبد من شوائب الشر ليعود كونًا حسنًا وطيبًا إلى الأبد.
(٣-٢) الزمن الكوزموغوني
سار خلق الله للكون على درجتين: الأولى تُدعى مينوغ، وهي حالة من الوجود المثالي غير المتحقق في شكل مادي، والثانية تُدعى جيتينغ، وهي حالة الوجود المادي المتحقق في أشكال ذات قوام وخواص. والحالة الثانية خيرٌ من الحالة الأولى، لأنَّها انتقلت بالكون من الحالة الهلامية إلى حالة الصلابة والثبات والنظام. وهذا ما يُميِّز خلق الله عن خلق الشيطان، وقدرة الله عن قدرة الشيطان الذي لا يستطيع منح ما يخلقه القوام والمادة، ويخرج به إلى حيز الوجود الفعلي. ونحن هنا أمام رؤية فلسفية جديدة لا ترى في المادة حالة دنيا من أحوال الوجود، بل ترى فيها أنبل وأسمى أشكال الوجود. أمَّا ما يبدو لنا من قصور وشواش في صيرورة العالم المادي، فليس إلَّا نتيجة لامتزاجه بعناصر الشر التي جاءت من الشيطان، وهي عناصر مؤقتة التأثير سوف يتخلَّص منها العالم إنْ عاجلًا أم آجلًا. وتنعكس هذه الرؤية للعلاقة بين المادة والروح على نظرة الزرادشتية إلى الإنسان في روحه وجسده، فروح الإنسان ليست أسمى من جسده، والجسد ليس منبعًا للشرور ولا رداءً مؤقتًا نسعى إلى التخلُّص منه من أجل الالتحاق بالعوالم الروحانية، بل هو الشرط الأمثل الذي يحقق للروح حياةً ذات معنى، لذا فإنَّ الأرواح عندما تنفك عن أجسادها بالموت، فإنَّها تبقى في حالة انتظار تحن إلى الاتحاد بأجسادها من جديد في يوم البعث الأخير. من هنا تستبعد الزرادشتية كل ممارسات الزهد والتقشف الهادفة إلى تعذيب الجسد طمعًا في تخليص الروح من آثامه، لأنَّ على الإنسان أن يكافح الشر بروحه وجسده معًا، وأن يُبقيهما في أفضل حالة تمكنهما من أداء هذه المهمة على أفضل وجه.
ولقد انتقل العالم من درجة المينوغ إلى درجة الجيتينغ على ستة مراحل زمنية. في البداية خلق الله السماء من صخر كريستالي، ثم خلق الماء فالأرض فالحياة النباتية فالحياة الحيوانية، وأخيرًا خلق الإنسان الأول. وفيما يتعلق بالأرض، وهي بؤرة الكون، فقد أقام الله حولها سلسلة جبال شاهقة تتصل بشروش تحتية بجبل يقع في مركز الأرض يُدعى جبل هارا، ومنه تنطلق أرواح الموتى في رحلتها إلى السماء، ثم قسَّم الأرض إلى سبعة أقاليم، جميعها أراضٍ سهلية لا التواء فيها ولا وهاد ولا تلال. أول هذه الأقاليم يُدعى خافي نيراينا وهو الوحيد المأهول بالسكان، وحوله تتوزَّع الأقاليم الستة الأخرى، وصنع بحرًا يُغطِّي الأرض لجهة جنوبها وفي وسطه جبل مصنوع من جبلة السماء، ومن البحر فجر نبعين غزيرين فشكلا نهرين كبيرين هما دايتا ودانها، اللذان يحدان الجهة الشرقية والجهة الغربية للإقليم المسكون، وزرع في البحر شجرة تحتوي على البذور المعروفة بأنواعها تُدعى شجرة كل البذور، وشجرة أخرى تُدعى شجرة الشفاء والحياة الأبدية.
بعد انتهاء أهورا مزدا من صنع الكون، قام أنجرا ماينو لفوره بالانقضاض عليه، لأنَّ حالة الوجود المتحقق جيتنغ أكثر عرضة للتخريب والبعثرة والإفساد من الحالة غير المتحقِّقة مينوغ. اقتحم أنجرا ماينو الجزء الأسفل من قبة السماء فشوهها، ثم انتصب مثل الحية وقفز نحو تجمعات النجوم فشتتها وأحلَّ الاضطراب في نظام السماء، ثم غطس في البحر فأفسد ماءه بالملح، وتوجَّه نحو الينابيع فجفَّفها، وإلى السهول الخضراء فأذبل مزروعاتها، ونشر فيها الصحارى، وبثَّ فيها الأفاعي والعقارب وكل دابة مؤذية، وانقض على النار فلوَّثها بالدخان وعلى الإنسان الأول فذبحه، وهكذا زرع الشيطان الموت والفساد في خلق الله. ورغم أنَّ الأميشا سبينتا قد تصدَّت للهجوم وباشرت بإصلاح ما خرَّبه الشيطان، إلَّا أنَّ العالم لن يعود إلى سابق عهده من النقاء والطيبة لأنَّ الفساد قد عشعش فيه. لقد أخذ الأميشا سبينتا نبات الأرض اليابس فطحنوه ثم نثروه فحملته الرياح إلى الجهات الأربع، ثم دفع الأميشا الرياح فحملت الغيوم وأنزلت المطر، فنبتت من بذور الزرع اليابس حياة جديدة، ثم أخذوا بذور الإنسان الأول القتيل فطهَّروها بضوء الشمس وزرعوها في التربة، فخرجت منها نبتة انطوت أوراقها على الزوجين البشريين الأولين ماشيا وماشيو، وعندما افترقت عنهما الأوراق كانا ملتصقين في وضعية العناق لا يتبيَّن منهما الذكر من الأنثى، فنفخ فيهما الله روحًا فانتصبا أمامه بشرًا سويًّا، وقال لهما: أنتما الإنسان، وأنتما سلف العالم، خُلقتما كاملين، فحافظا على الفكر الحسن والكلمة الحسنة والعمل الحسن، ولا تخضعا للشيطان، ثم جاء الملائكة وعلَّموهما إشعال النار واستخدامها وألبسوهما ثيابًا من جلد، كما علَّموهما استخراج المعادن وصُنع السكاكين والأدوات، وغير ذلك من التقنيات اللازمة لحياة الإنسان.
بعد ذلك التفت الأميشا سبينتا إلى بقية مظاهر الطبيعة التي زُرعت فيها سموم الشر لترميمها، ولكن أنجرا ماينو لم يترك لهم فرصة لإتمام عملهم على أحسنه، فراح يُهاجم العالم بكل قواه بمعونة بقية جند الظلام، فجلبوا الأمراض والآلام على الكائنات الحية وصنعوا كل نقيصة مادية، ثم دخلوا في عقل ماشيا وماشيو فزرعوا بذور كل نقيصة أخلاقية. تصدى لهم الأميشا وجندهم، واستمر الصراع بين الفريقين بلا هوادة وبلا توقف، وهذا الصراع لن يكون له نتائج إيجابية إلَّا بعون الإنسان الذي يتوجَّب عليه أن يعي مسئولياته الخلقية في هذه الحياة، ويدعم قوى الخير بفكره وقوله وفعله، وبدون عون الإنسان لن يتم حسم هذا الصراع الكوني ودفع التاريخ إلى مرحلته الأخيرة، عندما يتم تنقية الوجود المادي والروحاني مما داخلهما من خبث.
(٣-٣) مراحل التاريخ وظهور المُخلِّص
لقد عرف أهورا مزدا، الذي يطال علمه البدايات والنهايات، أنَّ آخرة الشر قادمة لا ريب فيها، فوضع خطة للقضاء عليه تتدرج على ثلاث مراحل، يؤشِّر كل منها لطور من أطوار الزمن. فلقد خلق أهورا مزدا العالم في أكمل وأطيب صورة ممكنة، واستمرَّ على هذه الحالة ردحًا من الزمن كان الشيطان خلالها نائما، وهذه هي المرحلة الأولى، مرحلة الخلق الكامل. في المرحلة الثانية يُهاجم الشيطان خلق الله ويبث فيه سمومه فيختلط الخير بالشر، وهذه هي مرحلة الامتزاج. في المرحلة الثالثة تبدأ عملية الفصل بين الخير والشر، والتي تنتهي بدحر الشيطان ورهطه ليعود الكون كاملًا وطيبًا إلى الأبد، ويأتي التاريخ إلى نهايته ليعقبه زمن سرمدي لا تتناوبه التناقضات والمتعارضات، وينتفي منه المرض والألم والحزن والموت. ولقد ابتدأت المرحلة الثالثة بميلاد زرادشت وتأتي إلى خاتمتها بميلاد المُخلِّص المدعو ساوشنياط «أو شوشانز»، وهو الذي يقود المعركة الأخيرة الفاصلة بين قوى النور وقوى الظلام. سوف يولد المُخلِّص من عذراء تحمل به عندما تنزل للاستحمام في بحيرة كانا سافا، فتتسرب إلى رحمها بذور زرادشت التي حفظها الملائكة هناك إلى اليوم الموعود، وبذلك تُفتَتَح فترة التاريخ الأخير بزرادشت وتُختَتَم بمخلِّص أو مهدي من نسله تحمله أمه بشكل إعجازي، ورغم المعجزة الإلهية التي قادت إلى ولادة هذا المهدي، فإنَّه يبقى إنسانًا مولودًا من أبوين بشريين، لأنَّ خلاص العالم في النهاية هو مسئولية الإنسان ويقوده ابن الإنسان الذي سيُعلِن عن نفسه في الوقت المناسب، فيُلقي الرعب في قلوب جند الظلام ويطاردهم في كل مكان ويمحو عن الأرض أثرهم.
تعود فكرة المُخلِّص إلى أناشيد زرادشت القديمة. فلقد بشَّر بقرب انتهاء مرحلة التمازج، وحلول مرحلة الفصل الأخيرة، وقرن ذلك بقدوم المُخلِّص، وألمح في أكثر من موضع في مجموعة الغاثا إلى أنَّه سيأتي من بعده ليحل الحق ويدحر البهتان، ودخلت هذه الفكرة في صلب العقيدة الزرادشتية منذ بداياتها، ولكن الفكرة قد أخذت أشكالًا جديدة خلال الفترات اللاحقة. ففي العصر الأخميني قال اللاهوتيون بظهور ثلاثة مُخلِّصين، وذلك في نهاية كل ألفية من الألفيات الأخيرة من عمر الزمن الأرضي. في نهاية الألفية الأولى يظهر المُخلِّص المدعو أوخشتاتريتا، وفي نهاية الألفية الثانية يظهر المدعو أو خشياتنيما، وفي نهاية الألفية الثالثة يظهر المُخلِّص ساوشنياط نسل زرادشت من عذراء البحيرة، ولكن هذه التصورات اللاهوتية اللاحقة لم تتأصَّل في صمیم المعتقد الشعبي، وبقي الناس مثبتين قلوبهم على المخلص الأخير منتظرين ظهوره.
(٣-٤) التصورات الآخروية
يرتبط معتقد نهاية التاريخ ارتباطًا وثيقًا بمعتقد البعث والحساب والحياة الثانية، فبعد أن دخل الموت في نسيج الحياة خلال فترة التمازج بين الخير والشر، صار الموت نصيب كل كائن حي، وبوابة عبور من حالة الجيتنغ المادية إلى حالة المينوغ الروحانية الهلامية القاصرة. فالأرواح بعد مغادرة الأجساد عقب الموت، تبقى في برزخ المينوغ تنتظر يوم القيامة بشوق وترقُّب لكي تلتقي بأجسادها التي تُبعث من التراب. يُحدِّثنا زرادشت في أناشيد الغاثا عن مصير الروح بعد الموت وأحوالها إلى زمن البعث والنشور. فبعد مفارقتها للجسد تمْثُل الروح أمام ميترا قاضي العالم الآخر (وهو رئيس فريق الأهورا الذين يشكلون مع الأميشا سبينتا الرهط السماوي المقدس) الذي يحاسبها على ما قدَّمته في الحياة الدنيا من أجل خير البشرية وخير العالم، ويقف إلى يمين ويسار ميترا مساعداه سرواشا وراشنو اللذان يقومان بوزن أعمال الميت بميزان الحساب، فيضعان حسناته في إحدى الكفتين وسيئاته في الأخرى. وهنا لا تشفع للمرء قرابينه وطقوسه وعباداته الشكلانية، بل أفكاره وأقواله وأفعاله الطيبة، فمن رجحت كفة خيره كان مآله الفردوس، ومن رجحت كفة شره كان مثواه هاوية الجحيم. بعد ذلك تتَّجه الروح لتعبر صراط المصير، وهو عبارة عن جسر يتسع أمام الروح الطيبة فتسير الهوينى فوقه إلى الجهة الأخرى نحو بوابة الفردوس، ولكنَّه يضيق أمام الروح الخبيثة فتتعثر وتسقط لتتلقفها نار جهنم، وهناك أنجرا ماينو نفسه يسوم المذنبين سوء العذاب. أمَّا من تساوت سيئاته وحسناته فيعبر الصراط إلى مكان وسط بين النعيم والجحيم، حيث يستمر في وجود باهت كظلٍّ شبحي بلا إحساس.
هذا وتُقدِّم شروحات اللاهوتيين الزرادشتيين مزيدًا من التفاصيل حول هذه القيامة الفردية. فبعد أن يُودِّع الميت مثواه الأخير، تمكث روحه عند رأسه ثلاث ليالٍ تتأمَّل في حسناتها وسيئاتها، وخلال ذلك يزورها ملائكة الرحمة إن كانت من الصالحين فيواسونها، أو شياطين العذاب إن كانت من الكافرين، فيسومونها سوء العذاب. وفي اليوم الرابع تُساق الروح إلى جلسة الحساب، وبعد اجتياز الميزان الذي يقرِّر مكانها تتجه إلى الصراط، وهو عبارة عن جسر يُشبه السيف، فإذا كان العابر روحًا خبيثة فإن السيف يستدير بطرفه الحاد نحو الأعلى، فتخطو الروح عليه ثلاث خطوات هي الفكر السيئ والقول السيئ والعمل السيئ، وعندما تحاول الخطوة الرابعة تنزلق إلى مهاوي جهنم. أمَّا إذا كان العابر روحًا طيبة فإنَّ السيف يستدير بطرفه العريض لتعبره الروح إلى الطرف الآخَر بسلام. وفي رواية أخرى، نجد أنَّ الصالح بعد خطوته الأولى على الصراط تهب عليه روائح عطرة آتية من الجنة، وعند منتصف الصراط تظهر له فتاة في ريعان الصبا لم تقع العين في الحياة الدنيا على أجمل منها. فيسألها: من أنتِ؟ فتقول: أنا عملك الطيب، ثم تأخذ بيده إلى الجنة، وأمَّا الإنسان الطالح فبعد خطوته الأولى على الصراط تهب عليه ريح نتنة من أعماق الجحيم، وعند منتصف الصراط تظهر له عجوز شمطاء نتنة لم تقع العين على أقبح منها. فيسألها: من أنتِ؟ فتقول: أنا عملك السيئ، ثم تُقبل عليه وتعانقه فيهويان معًا إلى الجحيم.
يتألَّف الجحيم من عدة طبقات يقع أسفلها في مركز الأرض، حيث يتكاثف الظلام حتى يُمكن إمساكه باليد، وحيث يتصاعد نتنٌ لا تُطيقه نفس بشرية أو شيطانية، فتستقبل كلُّ طبقة أهلها حسب فداحة ذنوبهم، وتُقدِّم لهم من صنوف العذاب ما يوازيها. أمَّا السماء فتتصاعد على ثلاث درجات تُقابل الفكر الحسن والقول الحسن والعمل الحسن. فالدرجة الأولى عند خط النجوم، والثانية عند خط القمر، والثالثة عند خط الشمس. فتصعد الروح هذه الدرجات تباعًا وصولًا إلى السماء العليا غارو-ديمانا، أو مسكن الغناء، وهناك تُقيم في بركة وسلام إلى يوم الحساب الأخير.
مع ظهور المُخلِّص ساوشنياط، تحلُّ الأيام الأخيرة وتقترب الساعة. يوم تلفظ الأرض ما اتُّخمت به من عظام الموتى خلال مراحل التاريخ الثلاثة، ويُفرغ الجحيم والفردوس من سكانهما ليعودوا إلى الحشر العظيم. هناك يلتقي من مات منذ آلاف السنين بمَن بقي حيًّا إلى يوم الدينونة، ليأتي الجميع إلى الحساب الأخير. في ذلك اليوم، يُسلِّط الملائكة نارًا على الأرض تُذيب معادن الجبال وتُشكِّل نهرًا من السائل الناري ما من أحد إلا وارده. فأمَّا الأخيار فيعبرونه كمَن يخوض في نهر حليب دافئ، وأمَّا الأشرار فينجرفون في التيار الذي يفتيهم ويمحو عن الأرض أثرهم بعد عذاب أليم، ويكون جند الظلام قد اندحروا في المعركة الفاصلة مع جند النور، واستؤصلت شأفتهم، فيغوص نهر النار إلى أعماق الجحيم حيث لجأ أنجرا ماينو ومن بقي معه، فيلتهمهم جميعًا ويتم التخلُّص من آخِر بقايا الشر. كما أنَّ الجحيم نفسه يتطهَّر مثلما تطهَّرت بقية أجزاء الكون، ويغدو إقليمًا من أقاليم الأرض الزاهرة، عند ذلك يعيش الذين عبروا نهر النار سالمين في أرضٍ جديدة وتحت سماء، هي الأرض نفسها، والسماء نفسها وقد تطهرتا وصارتا نقيتين إلى الأبد، ثم يقوم أهورا مزدا بإسقاء هؤلاء الأخيار شراب الخلود الذي يجعل أرواحهم وأجسادهم في اتحاد أبدي، ويغدون خالدين في جنة وسعها السماوات والأرض كل بقعة فيها ربيع أخضر دائم، وتحتوي على كل شجر وثمر وزهر.
(٣-٥) الأخلاق والعبادات
الواجب الخلقي
يقف الإنسان على قدم المساواة مع الأميشا سبينتا وبقية الكائنات القدسية في مسئوليته عن مكافحة الشر في العالم، وعليه بالدرجة الأولى أن يُعنى بأخيه الإنسان وببقية مخلوقات الأرض، لأنَّهم جميعًا صنعة الله الواحد. كما عليه أن يرعى جسده وروحه معًا، وتتحقَّق رعاية الجسد من اتباع الفرد لقواعد النظافة والصحة العامة، والاعتدال في الأكل والمشرب وتجنب الإفراط في كل شيء. أمَّا رعاية الروح فتتحقَّق من اتباع النظام الأخلاقي السليم الذي اختطه النبي، والذي رغم تشعبه يتلخص في ثلاثة عناصر، هي: الفكر الحسن، فلا يتداول الفرد في عقله إلَّا الأفكار الطيبة ويبعد عنه الأفكار الخبيثة. والقول الحسن، فلا يصدر عنه سوى الكلام الطيب. والعمل الحسن، الذي يُفيد به نفسه وعائلته ومجتمعه، ولا يُبادر إلى ما فيه أذية مخلوق قط. فالإنسان هو أنبل خلق الله، وعليه أن يستخدم ما وهبه الله من وعي وذكاء لأجل الارتقاء بالعالم نحو المستوى الماجد والجليل الذي ينتظره في آخر الزمان. كما أنَّ الخلاص الذي يسعى إليه الإنسان ليس فقط خلاصًا فرديًّا من ربقة المواد إلى دار الخلود، ولا حتى خلاصًا جمعيًّا للإنسانية طرًّا، بل هو خلاص للعالم بأسره، لأنَّ الإنسانية تتخذ مكان المركز في خلق الله، وعليها وحدها تقع مسئولية تحرير هذا الخلق بكامله من سلطة الشيطان.
الطقوس والعبادات
كانت الديانة الأصلية التي أسَّس لها زرادشت ديانة بسيطة لا تعتمد إلَّا القليل من الطقوس والشكليات الدينية، وفيما عدا الأساطير القليلة الأساسية المتعلقة بنشأة عالم الخير وعالم الشر، وتلك المتعلقة بالمُخلِّص ونهاية الزمن لم يكُن للميثولوجيا دور في المعتقد الزرادشتي، وحتى هذه الموضوعات الأسطورية الأساسية لم تُعالج في أناشيد الغاثا بأسلوب القص الميثولوجي، وإنَّما بالإشارات الموجزة والصور الشعرية البالغة التأثير، الأمر الذي ترك شخصياتها أقرب إلى المفاهيم المجردة منها إلى الشخصيات المجسَّدة.
دعا زرادشت المؤمنين إلى خمس صلوات في اليوم، تُقام عند الفجر والظهيرة والعصر والمغرب ومنتصف الليل، وتتخذ صلاتا الظهيرة ومنتصف الليل أهمية خاصة، لأنَّ منتصف النهار هو الوقت الذي تكون فيه قوى النور في ذروة سيطرتها على العالم، الذي يُشبه عندها ما كان عليه في كمال البدايات. أمَّا منتصف الليل فهو الوقت الذي تكون فيه قوى الظلام في ذروة فعالياتها، فيقوم المؤمنون لإيقاد النار دعمًا لقوى النور ولترتيل الصلوات. وتسبق الصلاة عملية الوضوء التي تتضمن غسل الوجه واليدين والقدمين، بعد ذلك يقف المصلي منتصبًا مسبل الذراعين في حضرة أهورا مزدا، ويتلو في صلاته مقاطع خاصة من أناشيد الغاثا، كان زرادشت نفسه يتلوها في صلاته، ولكن بمرور الوقت وغياب لهجة الغاثا القديمة عن الاستخدام اليومي، عمد الكهنة إلى إضافة نشيد طقسي منظوم بلهجة أكثر حداثة يُدعى الياسنا، ويتألَّف من فصول قصيرة تُحاكي في بنيتها أسلوب الغاثا. وبينما تكون عينا المصلي مثبتتين على النار المقدسة أمامه، يقوم بحل شاله ويمسك به بكلتا يديه، وفي نهاية الصلاة يقوم المصلي بإعادة الشال إلى وسطه فيلفه ثلاث مرات، ثم يعقده من الأمام ومن الخلف، إشارة إلى عناصر الأخلاق الزرادشتية الثلاثة. وهذا الشال هو الشارة التي يُميِّز بها الزرادشتيون أنفسهم، كما أنَّ حَلَّه وإعادة ربطه هو عمل طقسي يرمز إلى تمسك المؤمن بتعاليم النبي وتذكُّرها على الدوام.
تتجلَّى بساطة الديانة الأصلية التي بشَّر بها زرادشت في غياب الهياكل والمعابد والمذابح. فلقد منع زرادشت تشييد المعابد، لأنَّ الله موجود في كل مكان، ويُمكن التوجُّه إليه بالصلاة في أي مكان طاهر، كما منع النبي صنع الصور والمنحوتات لأهورا مزدا ولبقية الكائنات القدسية السماوية، لذا قد خلت المراكز الحضرية للمملكة الأخمينية من المعابد الضخمة التي عرفتها بقية ممالك المنطقة المشرقية، كما سار الملوك الأخمينيون الأوائل على خطى المُعلم في تحريمهم للتماثيل والصور، فكانت الصلوات تُقام في البيوت أو في أماكن مفرزة للعبادة الهواء في الطلق ومزودة بموقد للنار المقدسة. وقد ذكر المؤرخ الإغريقي هيرودوتس (٤٨٥–٤٢٥ق.م.) أنَّ الفرس كانوا يحتقرون المعابد ويرون فيها خطيئة، لأنَّ الله الذي لا تسعه السماوات والأرض لا يسكن في بيت مصنوع بيد الإنسان. ويصف الجغرافي والمؤرخ الإغريقي سترابو (٦٤ق.م.–٢٣م) بقايا معبد أقامه الملك قورش (٥٥٧–٥٢٨ق.م.)، فيقول بأنَّه كان عبارة عن تلة في الهواء الطلق، مُحاطة بجدار يصعدها المؤمنون للصلاة. ولكن أردشير الثاني (٤٠١–٣٥٩ق.م.)، الذي جاء بعد قورش بنحو قرن ونصف القرن، خرج على هذه التقاليد، وكان أول من بنى المعابد الضخمة على الطريقة البابلية، وصنع صورًا للكائنات السماوية، وهذا ما تُبيِّنه لنا آثار العاصمة الفارسية القديمة.
استطاع أردشير الثاني استمالة فريق من الكهنة إلى معابده، فراحوا يقودون فيها الصلوات، إلَّا أنَّ فريقًا آخَر عارض ذلك ورأى فيه انتهاكًا للمعتقدات التقليدية. وقد بدأ الكهنة المعارضون، وبدعم من الجماهير المؤمنة، يردون على هذا الإجراء بإقامة معابد لهم تتصدرها شعلة النار المقدسة بدلًا من تماثيل الآلهة، وبذلك ظهرت لأول مرة معابد النار في إيران، وشيئًا فشيئًا أخذت نار المعبد تكتسب قدسية خاصة بها، بعد أن كانت مجرد رمز للألوهة الخافية، وأخذ أهل الديانات الأخرى يصفون الزرادشتيين بأنَّهم عبدة النار، ومثل هذا الوصف لم يرد في كتابات المؤرخين الذين تحدثوا عن إجلال الإيرانيين للنار دون أن يصلوا حد القول بعبادتها. لقد قاد نشوء معابد النار إلى إحداث تغييرات عميقة في الديانة الزرادشتية، فبعد البساطة التي ميَّزت الممارسات الدينية في السابق، انتشرت المعابد الدينية الضخمة والباذخة، ونشأت طبقة جديدة من الكهنة المتفرغين لطقوس النار، التي زادت تعقيدًا مع الزمن وبُعدًا عن بساطة الطقوس الأصلية، وقد عُرفت هذه الطبقة من كهنة النار تاريخيًّا باسم ماجي، وباليونانية ماجوس، وبالعربية مجوس.
طقوس الموت
شغلت طقوس الموت حيزًا هامًّا من الطقوس الزرادشتية بعد عصر النبي، وهي تقوم على نظرة زرادشت إلى الموت على أنَّه ناتج من نواتج فعاليات الشيطان في العالم. فأجساد الأحياء تنتمي إلى عالم أهورا مزدا، أمَّا جثث الموتى فإلى عالم أنجرا ماينو، فهي خبيثة ونجسة، لا فرق بين جثة إنسان وجيفة حيوان، ولا بين جثة إنسان صالح وجثة إنسان شرير. إنَّ لمس أيَّة جثة هو مصدر للنجاسة، وعلى من احتكَّ بها أن يُطهِّر نفسه بالماء، كما أنَّ أي جزء مقتطع من جسم الحي مثل قصاصات الشعر والأظافر هو جزءٌ ميت، ويجب عدم الاحتكاك به، وبالمثل أيضًا فإنَّ نَفَس الزفير الذي يُطلقه الكائن الحي من رئتَيه هو هواء ملوث بالموت، على عكس نفس الشهيق الذي يحمل الحياة، لهذا كان كهنة النار يضعون كمامات قماشية على أفواههم عندما يقتربون من الشعلة المقدسة. وجميع الحيوانات التي تتغذى على الجثث، مثل النمل والذباب والكلاب والضباع وما إليها هي حيوانات نجسة يجب قتلها أينما وُجِدَت لأنَّها وكلاء للشيطان. وقد قاد تابو الموت هذا إلى إفراز جماعة من الاختصاصيين بشئون التخلُّص من الجثث، وهم الذي يقومون بطقوس الجنازات ويعرفون كيف يُطهِّرون أنفسهم عقبها. أمَّا عن الدفن، فإنَّ صرامة تابو الموت كانت تحظر وضع الموتى على تراب الأرض مباشرة كي لا تلوثه، فكانت الجثة تُسجى على مصطبة حجرية في سفح جبل أو في منطقة نائية مهجورة، حيث تُترك مكشوفة في العراء حتى تتحلَّل بتأثير العوامل الطبيعية أو انقضاض الجوارح عليها، وبعد فترة كافية لتحلُّل الجسد تُدفن العظام تحت التراب في انتظار يوم النشور.
قواعد الطهارة
لم تضاهِ الزرادشتية قبلها ملَّة في الحفاظ على طهارة الجسم واللبس والمأكل، ويأتي حرص الزرادشتي المبالغ به على النظافة من اعتقاده بأنَّ الفساد والتحلُّل والعفونة وكل أنواع القذارة هي من عمل أنجرا ماينو. من هنا فإنَّ النظافة والبعد عن الاحتكاك بكل ما هو قذر وملوث شأن يُعادل الصلاة والعمل الطيب، لأنَّ في التزام قواعد الطهارة محاربة لقوى الشيطان ووقوفًا إلى جانب الرحمن، وبذلك يستطيع الإنسان المساهمة في محاربة الشر الكوني من خلال أدائه لأصغر واجباته اليومية.
لا يمكن سرد قواعد النظافة جميعها التي راكمتها الشريعة الزرادشتية عبر العصور، وإنَّما يفي بالغرض التعرض لأهمها، وهي المتعلقة بالطعام والماء والنار والدم، فالطعام ينبغي أن يُحضَّر وفق قواعد صارمة تمنع احتكاكه بأي مصدر للقذارة، كما ينبغي أن يؤكل في خشوع مثلما تُؤدَّى الطقوس الدينية، لأنَّ كل مكوناته هي بشكل أو آخر من مخلوقات الله الأخرى. وأمَّا الماء فيجب التأكد من كونه نظيفًا وطاهرًا، وأنَّه قد نُضح من مصدر غير ملوث قبل استهلاكه في الشرب والطبخ والاغتسال. وفيما يتعلَّق بالنار المنزلية أو النار الطقسية، فإنَّ وقودها يجب أن يقتصر على القش والعيدان والحطب، وألَّا يُحرق فيها الرَّوَث والقمامة وما إليها، وبدلًا من حرق فضلات المنازل، فإنَّها تُنقل إلى أماكن بعيدة خاصة، حيث تجري معاملتها بالسوائل الحمضية. ويُشكِّل الدم مصدرًا للنجاسة في حال سيلانه من الجسم، لأنَّ هذا السيلان هو شكل من أشكال اختلال الحالة الفيزيولوجية السليمة للكائن الحي، وعَرَضٌ من أعراض اقتحام قوى المرض والموت، وعلى المتلوِّث تطهير نفسه بوسائل شتی تختلف باختلاف كمية الدم ومكان الجرح وملابسات الإصابة، كما أنَّ على النساء في فترة الطمث عدم ممارسة الطبخ والأعمال المنزلية، ومراعاة عدد من قواعد الغُسل والطهارة.
وبما أنَّه يصعب على المرء تجنب الاحتكاك بمصادر النجاسة تجنبًا مطلقًا، فقد وضع فقهاء الشريعة أصولًا معينة للتطهير بما يتناسب مع درجة التلوث، وغالبًا ما يُوصَى المتنجس بالاغتسال بالماء من رأسه إلى أخمص قدميه، غير أنَّ بعض درجات التلوث تستدعي الاستعانة بالكاهن الذي يقوم بتلاوة الآيات المقدَّسة، ويسير بالمتنجس عبر مراحل تطهيرية متعددة قد تستمر بضعة أيام، وتشغل هذه الإجراءات التطهيرية وكيفية تطبيقها حيزًا من برامج إعداد وتدريب الكهنة الذين يتوجب عليهم أنفسهم مراعاة أدق وأصعب قواعد النظافة والطهارة.
(٣-٦) التطور التاريخي
بعد وفاة زرادشت بقيت تعاليمه الأصلية التي بثَّها في أناشيد الغاثا، بمثابة الإنجيل الذي يحفظ جوهر الدين ويجمع المؤمنين حول العقيدة والأخلاقيات والشعائر الزرادشتية. ونستدل من لهجة الغاثا المغرقة في القدم، أنَّها قد حُفظت في شكلها الأصلي، دون أن يمسها تعديل جوهري عبر التداول الشفهي الطويل الذي سبق عصر التدوين، ولكنَّ الشكل الأدبي الرفيع الذي صيغت به الأناشيد وأسلوبها المختصر البليغ، قد دعا الكهنة إلى التوسُّط من أجل شرحها وبسط وتطوير أفكارها للناس العاديين، وقد تراكمت هذه الشروحات تدريجيًّا حتى شكَّلت مصدرًا آخر من مصادر الدين الزرادشتي، وبذلك وُلِدت مجموعة الأفيستا والأفيستا الصغرى، اللتين اتخذتا شكلهما شبه التام نحو نهايات الفترة الأخمينية، ثم تطلبت الأفيستا بدورها الشرح والتفسير، فنشأ على هامشها كتاب الزند، أو الزند أفيستا (أي شروحات وتعليقات على الأفيستا). لم تدوَّن هذه الأدبيات الدينية خلال الفترة الأخمينية بسبب عزوف الكهنة عن استخدام الكتابة لحفظ النصوص المقدسة، لأنَّهم رأوا في الكتابة شأنًا دنيويًّا واعتبروها تدنيسًا للنص، ولكن الأفيستا صارت مُهدَّدة بالضياع عقب غزو الإسكندر المقدوني وما تلاه من فترة النفوذ السلوقية، فأمر الملك البارثي فلاكش (حوالي عام ٦٠ق.م.) بجمع أسفارها من شتى المناطق ومقارنتها من أجل تثبيتها كتابةً في صيغتها النهائية المعتمدة، غير أنَّ هذه المهمة لم تُنْجز كاملة إلَّا في عصر الملك الساساني كسرى أنو شروان، عندما تمَّ تدوين الأفيستا في واحد وعشرين جزءًا يتصدرها الجزء الخاص بأناشيد الغاثا.
ولقد لعب كهنة الماجي، أو المجوس، دورًا مهمًّا في تحرير وتطوير الأفيستا، وهؤلاء المجوس ينتمون إلى قبيلة ماجي، وهي قبيلة متخصصة في الشئون الدينية، يَغلب أنَّها من أصول ميدية، ويُرجِّح بعض الباحثين أنَّ المجوس كانوا على الديانة الإيرانية التقليدية ثم تحوَّلوا إلى الزرادشتية حتى لا يخسروا مكانتهم الاجتماعية، وبثوا فيها الكثير من معتقداتهم وأفكارهم وطقوسهم القديمة، لهذا السبب عُرفوا في العالم القديم في استقلال عن الدين الزرادشتي باعتبارهم حكماء متضلعين بالسحر والتنجيم والمعارف السرانية. لقد أدخل المجوس العديد من آلهة الديانة الهندو-إيرانية القديمة إلى المعتقد الزرادشتي، كما تبنوا بعضًا من آلهة البانثيون الرافدي، وعلى رأسها عشتار، التي اتُّخذت في إيران اسم أناهيتا أي البتول، وأخذت عبادة أناهيتا بالانتشار منذ عهد الملك الأخميني أردشير الثاني، الذي كان أول من بنى المعابد وصنع صورًا للكائنات القدسية. كما وسَّع المجوس مفهوم زرادشت عن قوى النور وقوى الظلام وبنوا حوله لاهوتًا متكاملًا عن مجمع الملائكة ومجمع الشياطين، فصارت الملائكة التي تعمل تحت إمرة الأميشا سبينتا تُعدُّ بالآلاف، وكذلك الشياطين التي تعمل تحت إمرة أنجرا ماينو، وتحوَّل الأميشا سبينتا من قوى مجردة غير مشخصة إلى كائنات إلهية لكل منها وظيفة محددة في نظام الكون والطبيعة، وصارت فروض العبادة والتقديس تُقدَّم إليها بما هي كذلك. ومن أهم التحريفات التي أدخلها المجوس على العقيدة الزرادشتية، أنَّهم جعلوا أنجرا ماينو على قدم المساواة مع أهورا مزدا، ونظروا إليهما كخصمين متصارعين منذ البداية. وبذلك تحوَّل أهورا مزدا من إله يسمو فوق الروحين المتنافسين اللذين صدرا عنه، إلى طرف مباشر في الثنوية الكونية.
وفي عقيدة الزورفانية، التي طوَّرها فريق من المجوس، صار أهورا مزدا وأنجرا ماينو، الذي اتَّخذ اسم أهريمان، ابنين توءمين للإله زورفان وهو الزمان. وقد عهد زورفان إلى أهورا مزدا بمهمة خلق العالم ليغدو مسرحًا للصراع المكشوف بين قوى الخير وقوى الشر، وحدَّد لصراعهما فترة محددة تنتهي بغلبة أهورا مزدا على خصمه أهريمان. وبقي زورفان بمثابة العلة الأولى والإطار الذي تجري ضمنه أحداث الكون. وقد انتقلت هذه العقيدة من هرطقة تعيش على هامش زرادشتية الأفيستا إلى دين رسمي للدولة في عهد الساسانيين الذين حوَّلوا الزرادشتية من ديانة عالمية تتوجه لجميع بني البشر، إلى ديانة قومية خاصة بإيران، وهذا ما أضعف موقف الزرادشتية تجاه الديانات العالمية اللاحقة وخصوصًا المانوية ثم المسيحية فالإسلام.
(٣-٧) خلاصة: ميراث الزرادشتية
رغم امتلاك الزرادشتية لكل مقومات الديانة الشمولية العالمية، إلا أنَّها لم تُمارِس نشاطًا تبشيريًّا خارج إيران بعد موت مُعلمها، ورغم ذلك فقد انتشرت الأفكار الزرادشتية شرقًا وغربًا ودخلت في نسيج الديانات اللاحقة لها، حتى وصلت تأثيراتها إلى بوذية المهايانا في الصين. أمَّا تأثيراتها المشرقية فتعزى بالدرجة الأولى إلى عودة المُهجَّرين اليهود الذي سباهم ملوك آشور وكلدان. فلقد طالت سياسة التهجير كل المناطق الواقعة تحت سيطرة آشور من إيران والخليج العربي صعودًا إلى جبال طوروس فهبوطًا نحو الساحل الفينيقي وصولًا إلى حدود مصر. وقد وصَلَنا حتى الآن ١٥٠ نصًّا آشوريًّا تذكر عمليات ترحيل واسعة النطاق، والشعوب التي طالتها هذه العمليات، والمناطق التي تم تهجيرها إليها، ومنها نعرف أنَّ الجزء الأكبر من عمليات الترحيل كان باتجاه مناطق آشور الرئيسية في مدن العاصمة آشور وكالح ونينوى ودور شاروكين. وعندما دمَّر الكلدانيون آشور تابعوا سياسة السبي والتهجير ولكن على نطاق أقل بكثير، ثم ورث الفرس الأخمينيون الإمبراطورية الكلدانية، وأعلن الملك قورش من بابل بيانه المشهور الذي يتضمَّن السماح للشعوب المسبية بالعودة إلى مواطنها وبينها سبي يهوذا، ولكن هذه العودة لم تتم بين ليلة وضحاها بل استغرقت أكثر من قرن من الزمان، وهي فترة كافية لاحتكاك المسبيين بالفرس عن قرب والتأثر بأفكارهم الدينية.
- (١) التاريخ الدينامي: حيث يسعى الزمن بين بداية محددة هي زمن الخلق والتكوين، ونهاية محددة يعقبها تحويل كامل للوجود بأسره إلى مستوى ماجد وجليل يليق بخلق الله. ففي مقابل مفهوم التاريخ المفتوح للديانات الشرق أوسطية، والتاريخ الدائري المغلق للديانات الهندية والشرق أقصوية، قدَّم زرادشت مفهومًا عن تاريخ ذي معنى يسعى أبدأ نحو غاية مثلى يُحقِّقها الكون والطبيعة والمجتمع الإنساني من خلال عملية تطوير وتطهير دائبة ومتصاعدة.
- (٢) الطبيعة الأخلاقية للوجود: فالإله الأعلى إله أخلاقي، والعلاقة بين الله والإنسان علاقة أخلاقية بالدرجة الأولى، أمَّا الطقوس والعبادات فليست وسيلةً لإظهار الخضوع للخالق، بل هي تنقيةٌ للنفس من شوائب الشر وتقويتها على قاومته، ثم إنَّ الأخلاق تتجاوز علاقة الله بالإنسان وعلاقة الإنسان بأخيه، لتغدو مبدأً مزروعًا في صميم الخليقة بأكملها، فالكون ذو معنى أخلاقي وصيرورة الوجود قد اكتسبت طابعًا أخلاقيًّا منذ البداية.
- (٣) تعاون الله والإنسانية: الإنسان شريك لله في المشروع الكوني الرامي إلى مكافحة الشيطان واستعادة كمال البدايات. إنَّ أقصى ما يصبو إليه الإنسان في ديانات الشرق القديم هو اكتناه مشيئة الآلهة والتطابق معها، خلال حياة لا معنى لها ولا غاية وزمن مفتوح على اللانهاية، كما أنَّ أقصى ما يصبو إليه الإنسان في ديانات الشرق الأقصى هو فهم العالم وليس إصلاحه، فالعالم غير قابل للإصلاح، وهو يسير وفق قوانين أزلية ثابتة في دورة تكرارية أزلية أبدية. أمَّا الزرادشتية فترى أنَّ العالم قابل للإصلاح والتغيير بشكل جذري، ومسئولية هذا الإصلاح تقع على عاتق الإنسان بالدرجة الأولى.
- (٤) وحدانية الإله: رغم وجود اتجاهات توحيدية واضحة في الديانات السابقة على الزرادشتية، سواء في مصر أم سورية وبلاد الرافدين، إلَّا أنَّ زرادشت كان أول من قدَّم مفهومًا صافيًا عن التوحيد وصاغه في أيديولوجيا متماسكة ومتكاملة.
- (٥) أصل الشر وفكرة الشيطان: رغم وجود الكائنات الما ورائية الشريرة في المعتقدات الدينية عبر التاريخ، إلَّا أنَّ زرادشت كان أول مَن تصوَّر وجود مبدأ كوني للشر، هو عِلَّة الفساد والنموذج البدئي لكل الشرور المتبدية في العالم، وجسَّد هذا المبدأ في شخصية ما ورائية كبرى، وبذلك قدَّمت الزرادشتية أول تفسير مقبول لوجود الشر في العالم، وعلى الرغم من قوة الشيطان ومنازعته للرحمن السلطة على العالم، إلَّا أنَّه ليس إلهًا أزليًّا ولا خالدًا ولسوف يئول إلى الخسران أخيرًا، وبذلك يكون المعتقد الزرادشتي ثنويًّا في نظرته إلى العالم في حالته الراهنة التي تمتزج فيها عناصر الخير بعناصر الشر، وتوحيديًّا صافيًا في نظرته إلى جوهر الكون وحقيقته ومآله.
- (٦) حرية الإنسان: عندما خلق الله الكائنات السماوية والكائنات البشرية، وهبها الخاصية الأساسية التي تُميِّز الوعي عن المادة الجامدة، وهي الحرية، لأنَّ الوعي بدون الحرية ليس إلا شكلًا آخَر من أشكال وجود الجمادات. فالإنسان مُخيَّر في حياته ولا يخضع لأيَّة جبرية، وحريته هذه تستدعي مسئوليته، كما تستدعي في النهاية محاسبته، لأنَّ كل مسئول مُحاسَب، ولا حساب حيث لا مسئولية.
- (٧) مفهوم الإنسانية: لأول مرة في تاريخ الفكر الإنساني، يظهر في الزرادشتية مفهوم واضح عن «الإنسانية»، فالإنسانية ليست تجمعًا لأفراد يُعنى كل منهم بمصيره ويسعى لخلاص خاص به، بل هي مجتمع موحَّد بجميع فئاته وقومياته وأقاليمه، يلعب دورًا واحدًا في حركة التاريخ ومآله.
- (٨) المسيانية: يتوَّج كفاح الإنسانية ضد الشر بظهور المخلِّص، وهذا المخلِّص رغم تفوُّقه وكماله، إلَّا أنَّه إنسان حقيقي ومن أبوين بشريين رغم ميلاده الإعجازي من بذور زرادشت المحفوظة في البحيرة. إنَّه بشكل ما نموذج الإنسان الأسمى الذي أنتجته الإنسانية عبر مخاضها الطويل لكي يتوِّج مهمتها. هذه التصورات الدينية المتعلقة بالمخلِّص المنتظَر، دُعيت لاحقًا بالمسيانية نسبة إلى كلمة ميسيَّا، وهي كلمة آرامية-عبرانية تعني المسيح المنتظر في آخِر الدهر.٣
- (٩) مصير الروح: تشبه التصورات الزرادشتية حول مصير الروح إلى حدٍّ بعيد التصورات الأوزيرية في الديانة المصرية، فأرواح الموتى تُغادر أجسادها بعد الموت لتتجه إلى مكان الحساب، حيث توزن حسناتها وسيئاتها، فإمَّا إلى نعيم وإمَّا إلى جحيم، ولكن الأوزيرية لم تربط مسألة الثواب والعقاب بتصوُّر واضح عن حركة التاريخ، لأنَّها رأت في الزمن سيالة مفتوحة على اللانهاية شأنها في ذلك شأن بقية معتقدات الشرق الأوسطية. أمَّا الزرادشتية فقد وضعت فكرة الثواب والعقاب في سياقٍ مفهومٍ ومتسق عن تاريخ دينامي ذي معنى وغاية، وربطتها بمفهوم الحرية والمسئولية، كما ربطت مسألة الخلود بالتصوُّرات الآخروية عن نهاية الزمن وتجديد العالم.
- (١٠) نهاية الزمن وتجديد العالم: ليست فكرة فناء العالم القديم وتجديده بالفكرة الغريبة تمامًا في تاريخ الدين، ففي العديد من ميثولوجيات العالم القديم نجد أنَّ العالم يفنى، إمَّا بطوفانٍ شامل أو بنارٍ سماوية، ثم يعود سيرته الأولى. وفي الهندوسية يتم تدمير العالم وإعادة خلقه عقب كل دورة كونية كبرى، ولكن جديد الزرادشتية هو تقديمها لأول مرة مفهومًا عن نهاية العالم مرتبطًا بنهاية الزمن ونهاية التاريخ. فالعالم لا يفنى لكي يعود سيرته الأولى ضمن الزمن الخطي نفسه أو الزمن الدوري التناوبي، لأنَّ نهاية العالم تعني في الزرادشتية تغييره جذريًّا، والخروج به من الزمن ومن التاريخ إلى السرمدية، يُضاف إلى ذلك أنَّ تجديد العالم يترافق مع البعث العام للأجساد وعودة الأرواح للقاء أجسادها والاتحاد بها اتحادًا أبديًّا لا ينفصم، وهي فكرة جديدة كليًّا على تاريخ الدين.
هذا هو ميراث الزرادشتية الذي يجعل منها نقطة علام بارزة في تاريخ الدين الإنساني، وإلى درجة يُمكن معها تقسيم هذا التاريخ إلى ما قبل الزرادشتية وما بعدها.
مراجع المادة المعلوماتية المستخدمة في هذا الفصل
-
(1)
Mary Boyce, Zoroastrians, Rotledge, London 1985.
-
(2)
R. C. Zaehner: The Dawn and Twilight of Zaroastrianism, Panta’s Sons, London 1961.
-
(3)
J. B. Noss, Man’s Religions, McMillan, London 1974, p. 336 ff.
-
(4)
Joseph Campbell, Occidental Mythology, Penguin, London 1977, p. 189 ff.
-
(5)
Gerardo Gonoli, Zoroastrianism. In: Encyclopedia of Religion, McMillan: London 1987, vol. 15.
-
(6)
The New Encyclopedia Britanica: 15th Edition.