على هامش التوراة
مارست الأسفار غير القانونية تأثيرًا كبيرًا على أفكار الفرقة الفريسية التي ظهرت خلال القرن الأول قبل الميلاد، وتبنَّت أفكارًا جديدة على الفكر التوراتي مثل خلود الروح والثواب والعقاب والجنة والنار. كما أثَّرت بعمق على الفكر التلمودي والرباني الذي تبلور خلال القرن الثاني بعد الميلاد. ولكن الأهم من هذا كله هو أنَّ الاتجاه الأكثر راديكالية وتحررًا في هذه الحركة قد مهَّد لظهور المسيحية. هذا الاتجاه الراديكالي هو الذي سيكون موضع اهتمامنا فيما تبقى من هذا الفصل قبل أن نستعرض نماذج منتقاة من الفكر المنحول لا بد لنا من وقفة قصيرة نستعرض خلالها أهم الأفكار الجديدة التي قدَّمها هذا الفكر إلى الأيديولوجيا الدينية التوراتية.
-
(١)
مشكلة الشر ومفهوم الشيطان الكوني: إنَّ نقطة الانقلاب المحورية في الفكر المنحول، هي ابتداؤه بمعالجة مسألة الشر وسلطته في هذا العالم، وانتقاله من التأمُّل في هذه المشكلة إلى صياغة لاهوتٍ عن الشيطان الكوني ودوره في صيرورة التاريخ ومآله.
-
(٢)
مشكلة الأخلاق: أعاد الفكر المنحول النظر جذريًّا في مشكلة الأخلاق العائمة في الأيديولوجيا التوراتية، وأكَّد على مسئولية الإنسان الخُلُقية وعلى أخلاقية الإله وعدالته، كما جعل الأخلاق نِدًا للطقوس والشريعة.
-
(٣)
مسألة التوحيد: سار الفكر المنحول بمفهوم التوحيد الذي بشَّرت به أسفار الأنبياء إلى صيغته التامة، وأخذ الإله التوراتي يكتسب ملامح وخصائص «الله». فهو إله كوني وشمولي ورب للبشرية جمعاء بأجناسها وأعراقها كافة، رغم عنايته الخاصة ببني إسرائيل. وهو معنيٌ بخلاص هذه البشرية وملتزم بتحريرها من شقاء التاريخ ومن ربقة الموت.
-
(٤)
التاريخ الدينامي والارتقاء بالوجود: لقد قاد حل المشكلات الثلاث السابقة إلى صياغة مفهوم دينامي للتاريخ، فحركة التاريخ تقوم على جدلية الخير والشر، وهي تئول إلى نقطة مستقبلية ينتصر عندها الخير نهائيًّا. ومع انتصار الخير ينتهي التاريخ مثلما ينتهي الزمن الدنيوي أيضًا، ويتم دخول الكون والإنسانية في الأبدية.
-
(٥)
الآخروية والمسيانية: جلبت فكرة نهاية الزمن والارتقاء بالوجود، معها، عددًا آخر من التصورات الآخروية، وعلى رأسها القيامة العامة للموتى والحساب الأخير والجنة والنار. كما أعاد الفكر المنحول طرح موضوع المسيح المنتظر بطريقة أكثر وضوحًا واتساقًا ممَّا رأيناه في الأسفار القانونية.
-
(٦)
مفهوم الإنسانية: لم يتوصَّل الفكر المنحول إلى مفهومٍ مجرد وشامل عن الإنسانية ودورها في حركة التاريخ وتحرير الكون. ولكن لهجة الخطاب الشوفيني التوراتي قد خفت حدتها في معظم الأسفار غير القانونية، وظهرت في العديد منها فكرة مساواة الأمم والشعوب أمام الله. بينما ركَّز الاتجاه الراديكالي على فكرة تفضيل الله لأمم وشعوب أخرى على إسرائيل، لأنَّها تفعل مشيئته وتستمع لكلمته أكثر من شعبه المختار.
(١) سفر أخنوخ الأول٢
تم العثور على مقاطع من هذا السفر باللغة الآرامية، ضمن مخطوطات البحر الميت «نصوص قمران»، وأرجع الاختصاصيون تاريخها إلى أواخر القرن الثاني قبل الميلاد. كما عُثر على مقاطع متفاوتة الطول من هذا السفر باللغتين اليونانية واللاتينية، وهي أحدث عهدًا من شذرات قمران. أمَّا النص الكامل فمتوفر فقط باللغة الإثيوبية وفي أكثر من مخطوط، ويُعزى هذا العدد من المخطوطات الكاملة إلى أنَّ سفر أخنوخ قد تم تبنيه من قبل الكنيسة الإثيوبية كجزء من العهد القديم.
ينتمي السفر إلى جنس الأدب الديني الرؤيوي، الذي يتميَّز بأسلوب خيالي غرائبي يصف الكاتب من خلاله مواجهات مع شخصيات ما ورائية تمده بوحي سماوي يكشف له مستقبل الأيام وماضي الخليقة، أو تصعد به إلى السماوات العُلى وتطلعه على أسرارها. وغالبًا ما يكون الموضوع الأساسي للرؤيا نهاية الزمن والقيامة العامة والحياة الثانية. ويُعطينا سفر دانيال في العهد القديم ورؤيا يوحنا في العهد الجديد، إضافة إلى مقاطع رؤيوية من أسفار حزقيال وأشعيا وزكريا وميخا التوراتية، نماذج كلاسيكية عن مثل هذا الأدب.
يضع كاتب السفر رؤياه على لسان أخنوخ بن يارد، وهو السلف السادس بعد آدم من سلالة ابنه شيت، والذي يقول عنه سفر التكوين إنَّه رُفع حيًّا إلى السماء (٥: ٢١–٢٤). ويبتدئ بالمقدمة الآتية:
تعطف هذه القصة على قصة أبناء الله الذين دخلوا على بنات الناس وأنجبوا منهنَّ أولادًا مِمَّا يرويه سِفر التكوين: «وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات، أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنَّهنَّ حسنات، فاتخذوا لأنفسهم نساءً من كل ما اختاروا … وبعد ذلك أيضًا إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادًا، هؤلاء هم الجبابرة الذين منهم منذ الدهر ذوو اسم. ورأى الرب أنَّ شر الإنسان قد كثر على الأرض، وأنَّ كل تصور أفكار قلبه إنَّما هو شرير كل يوم» ٦: ١–٥. يفسر كاتب السفر هذه القصة فيجد فيها تعليلًا لوجود الشر في العالم، ثم يُعيد روايتها على الطريقة الآتية:
ويُتابع الكاتب فيقول لنا بأنَّ هؤلاء الرؤساء وتابعيهم، قد اتخذوا لأنفسهم زوجات من بين الناس، فولدت الزوجات لهم عمالقة طول الواحد منهم: ثلاثمائة ذراع. وعلَّم الملائكة الساقطون البشر كيفية استخراج المعادن واستخدامها في صناعة السيوف والتروس والدروع، وكيفية صناعة الأساور والحُلي وكحل العيون وأدوات الزينة، وكذلك الإفادة من النباتات، والتنجيم، وإشارات السماء والأرض، ولكن شر العمالقة كَثُر على الأرض وأكلوا الأخضر واليابس، وعندما لم يبقَ ما يكفي لطعامهم راحوا يلتهمون البشر أيضًا. فصعد صراخ البشر إلى السماوات، عند ذلك نظر الملائكة ميخائيل وسورافيل وجبرائيل من الأعالي، ورأوا ما يجري على الأرض من شر وعنف، فمضوا إلى الرب وأطلعوه على الأمر. بعث الرب مع الملائكة إلى أخنوخ يأمره أن يذهب إلى الساقطين وينقل لهم قضاء السماء بشأنهم، فهم سيشهدون ذبح أولادهم العمالقة، وبعد ذلك سيُقيَّدون في ثنايا الأرض لسبعين جيلًا حتى يوم الدينونة، عندها سيُقادون إلى هوة النار وإلى العذاب الأبدي. سمع الساقطون حكم الرب عليهم فارتاعوا وطلبوا من أخنوخ أن يشفع لهم عنده فيقبل استرحامهم واستغفارهم، فمضى أخنوخ وجلس عند ضفة النهر حيث قرأ استرحام الساقطين، وكرَّر ذلك حتى وقع عليه سباتٌ، وهنا تبدأ رؤيا أخنوخ التي يصفها في المقطع الآتي:
«دعتني رياحٌ وناداني غمام، وهُرعت بي بروق ومسارات نجوم، وحملتني في الرؤيا رياح وطارت بي نحو السماء، ارتفعتُ حتى اقتربت من جدار مصنوع من الكريستال وتُحيط به ألسنة اللهب، تملَّكني الخوف، ولكني تقدمت حتى اجتزت ألسنة اللهب ووصلت قصرًا عظيمًا مبنيًّا من حبات بَرَدٍ كريستالية، كانت جدرانه وأرضياته كشبه أرض مبلَّطة بالكريستال، أمَّا سقفه فكان من بروق ومن مسارات النجوم، وبينها ملائكة الكروبيم النارية، والسماء من خلف ذلك بنقاوة الماء. وكانت نار تتوقد حول الجدران والبوابات وتتوهج، ولجتُ القصر فكان ساخنًا مثل النار وباردًا مثل الثلج، ولا أثر لحياة فيه … فغمرني الخوف وأخذتني الرجفة ووقعت على وجهي، ورأيت رؤيا ثانية.»
«كان هنالك قصرٌ آخر أعظم من الأول تجلُّ مهابته عن الوصف، قصرٌ من جمر أرضه وسقفه من نار فوقها البروق ومسارات النجوم، كانت بواباته مفتوحة أمامي فنظرت ورأيت عرشًا مرتفعًا له مظهر الكريستال وعجلاته تبدو مثل قرص الشمس آنا ومثل ملائكة الكروبيم آنا آخر. ومن تحت العرش تخرج أنهارٌ من نارٍ متقدة لم أستطع إدامة النظر إليها. هناك يجلس المجد الأعظم. عباءته أكثر بريقًا من الشمس وأكثر نصوعًا من الثلج، لا تستطيع الملائكة دخولًا أو دُنوًّا من مجده وعظمته، ولا يستطيع كائن من لحم ودم رفع البصر إليه. نارٌ من أمامه ومن خلفه فلا يقدر أحد منه اقترابًا. في حضرته مئات الآلاف من الملائكة وأكثرهم قداسة يقفون أمامه في كل آنٍ، ولكنه لا يحتاج إلى مشير.»
بعد ذلك يأخذ الملائكة أخنوخ في جولة تكشف له أسرار السماء، ويستغرق وصف هذه الجولة بقية الجزء الأول من سفر أخنوخ، والوصف طويل ومفصَّل بحيث لا نستطيع هنا سوى إعطاء لمحة موجزة عن أهم ما رآه. فقد رأى خزانات الرياح، وخزانات البروق والرعود، وخزانات الغيوم والثلوج، ورأى منابع أنهار الأرض كلها ومنبع البحر، ورأى الملائكة التي تُحرِّك عجلات القمر والشمس وبقية الأجرام السماوية، والملائكة التي تسند قبة السماء عند نهايات الأرض حيث بوابة السماء التي تخرج منها النجوم في مواعيدها، وبوابات الرياح الأربع، وبوابات الثلج والبَرَد والضباب والندى. ورأى مكان سجن النجوم العاصية التي لا تطلع في مواعيدها، وجحيم الملائكة الساقطين، وجنة الأبرار وجحيم الكفار، ورأى مكان المطهر، وهو عبارة عن أربعة كهوف عظيمة محفورة في جبل هائل الحجم، معدة لأرواح الموتى في انتظار يوم الحساب الأخير. ثلاثة من هذه الكهوف مظلمة وواحد منير، فأمَّا المظلمة فهي لإيواء أرواح الخاطئين وفق درجة خطيئتهم، وأمَّا الكهف المنير فمعد لأرواح الصالحين.
(١-١) مبدأ الأيام وابن الإنسان
«هناك رأيت الذي رأسه مبدأ الأيام (= الرب). كان شعره مشتعلًا بياضًا مثل الصوف، ومعه كائن آخر له مظهر الإنسان ووجهه ممتلئ نعمةً كملاك قديس. فسألت الملاك المرافق أن يكشف لي سر ابن الإنسان، مَن هو ومِن أين أتى ولماذا يُرافق مبدأ الأيام. فقال لي: هو ابن الإنسان الممتلئ بالخير والذي به يحيا الخير والذي به تنكشف الكنوز الخبيئة، لأنَّ رب الأرواح اختاره، وقدره خيرٌ كله أمام رب الأرواح إلى الأبد. إنَّ ابن الإنسان الذي رأيت، سيرمي الملوك والجبابرة والأقوياء عن عروشها وكراسيها، لأنَّهم لم يسبحوا بحمده ولم يُمجدوه ولم يعترفوا بمصدر مُلكهم وسلطانهم، سوف يخلع قلوب الأقوياء ويكسر أسنان الخطأة ويخفض وجوه العتاة ويمرغها بالعار، فيجعل الظلمة مسكنهم والديدان سريرهم. هناك يضطجعون ولا يقومون.»
نُلاحظ هنا أنَّ الفكر المنحول قد تحوَّل من فكرة مسيح آخر الأزمنة إلى فكرة «الحقيقة المسيحانية» القائمة مع الله قبل خلق العالم. فالمسيح هو حقيقة كونية سوف تتجسَّد في إنسان عندما يأتي الزمن والتاريخ إلى نهايتهما. وهذا ما تُعالجه الرؤيا التالية بشكل أكثر وضوحًا.
(١-٢) ابن الإنسان سابق الأيام
(١-٣) القيامة والبعث
«في تلك الأيام سوف تُعيد الأرض أمانتها، وتلفظ الهاوية ما أخذته إليها، ويسدد الجحيم دينه. في تلك الأيام سيقوم المصطفى ويختار من بين الأموات المبعوثين، الأبرار منهم والقديسين، لأنَّ يوم خلاصهم قد حان. في تلك الأيام سيجلس المصطفى على العرش وينطق فمه بأسرار الحكمة والموعظة الحسنة، لأنَّ رب الأرواح قد منحه إياها ومجَّده. في تلك الأيام سوف تقفز الجبال مثل كباش فرحة، وتنط التلال مثل حملان رويت حليبًا، يومئذٍ ستشع وجوه الملائكة حبورًا وتبتهج الأرض بالأخبار والمختارين وهم يمشون عليها، ورب الأرواح يحكم فوقهم. سوف يأكلون مع ابن الإنسان، وينامون ويستيقظون في كل يوم إلى أبد الآبدين، سيرفعون قاماتهم على الأرض ولا يخفضون رءوسهم أبدًا. عليهم عباءاتُ مجدٍ، عباءاتُ الحياة من رب الأرواح، عباءاتٌ لا تبلى مع الزمن، ولا يبلى مجدهم أمام رب الأرواح.»
هذا وتحتوي الأجزاء ٣ و٤ و٥ من السفر على عدد متنوع جدًّا من المواضيع، أهمها بالنسبة لموضوعنا هنا هو الإشارات المتفرقة إلى القيامة والحساب والمعاد. فمن علامات اقتراب القيامة انتشار الظلم وغياب العدالة، وشح المطر ومحل الأرض، واضطراب مسارات الأجرام السماوية وتغيير القمر مواعيد طلوعه. وعندما تحل الساعة يحدث من الأهوال ما يجعل كل مرضعة تغفل عن رضيعها وترميه عن صدرها، عندها يُبعث مَن في القبور وكل الذين هلكوا بدون دفن ومُحِقت آثارهم، كل الذين قضوا في الصحراء أو غرقوا في الماء وابتلعتهم الأسماك، أو افترستهم الكواسر، ويقفون للحساب أمام رب الأرواح. ثم تُفتح بوابة الجحيم، وهي هاوية عميقة لا يُسبر غورها ومهما وفد إليها من الناس لا تمتلئ، فيها ملائكة العذاب يُجهِّزون أدوات العقاب من سلاسل وقضبان وما إليها، وفي قعرها نار تتضرم، نار أبدية يُلقى فيها المجرمون. في ذلك الوقت يُعلن الملوك والمتنفذون ندمهم أمام ملائكة العذاب ويطلبون فسحة من الوقت ليرجعوا عن آثامهم ويتوبوا أمام الرب ويعبدوه، ولكن طلبهم يُرفض ويصدر بحقهم حكم أبدي على مدى أجيال الدهور.
(٢) سفر عزرا الرابع
يبتدئ السفر بمقدمة تسرد نسب عزرا، الشخصية التوراتية التي يضع السفر كلامه على لسانها، ثم يُفتتح السفر بقول عزرا: «وكانت كلمة الرب إليَّ قائلًا: اذهب وأعلن لشعبي عن شرورهم ولأولادهم عن خطاياهم التي اقترفوها أمامي.» بعد ذلك يُتابع الرب تعداد نعمه التي أنعم على بني إسرائيل وكيف قابلوه بالجحود والنكران وأداروا ظهورهم لشريعته. وينتهي إلى القول بأنَّه سيترك شعبه الذي اختاره إلى شعوبٍ وأممٍ أخرى: «سوف ألتفت إلى شعوب أخرى فأعطيها اسمي وتعمل شرائعي، لقد تركتموني وأنا أيضًا سوف أترككم. عندما تستجدون رحمتي أحجبها عنكم، وعندما تبسطون أيديكم إليَّ أصرف سمعي عنكم. أيديكم ملآنة دمًا وأرجلكم سريعة لاقتراف الجريمة. والحق فإنَّكم ما تركتموني وإنَّما تركتم أنفسكم، يقول الرب: ألم أعطف عليكم كما يعطف الأب على أولاده والأم على فلذات كبدها، لتكونوا لي شعبًا ولأكون لكم إلهًا، وتكونوا لي أولادًا وأكون لكم أبًا؟ لقد جمعتكم كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحها، ولكن ماذا أفعل لكم الآن؟ سأنبذكم من أمامي وأدير وجهي عن تقدماتكم. رءوس شهوركم، وأعيادكم، وختان الجسم، بغضتها نفسي. أرسلت إليكم خدمي الأنبياء ولكنكم قتلتموهم ومزقتم أجسادهم، وها أنا ذا أطلب دماءهم منكم، يقول الرب.»
«هو ذا بيتكم خرابًا، تُخرجون منه فأذروكم كما تفعل الريح بالقش … وأُعطي مساكنكم لشعب يأتي، شعب يؤمن بي ولم يسمعني، يفعل مشيئتي ولم أُظهر له آية، يترك طرقه القديمة ولم أبعث له أنبياء، يوقنون بأقوالي ولم يروني رؤية العين بل رؤية الروح. انظر يا عزرا باعتزاز الشعب الآتي من الشرق، له سوف أُعطي إبراهيم وإسحاق ويعقوب قادةً، وأُعطي هوشع وعاموس وميخا ويوئيل … (إلخ) أنبياء. لقد أخرجتُ هذا الشعب من الأسر وأعطيتهم وصاياي عن طريق الأنبياء، ولكنَّهم لم يصغوا إليها بل راحت هباءً … فليتفرقوا بين الأمم وليُمحَ اسمهم وذكرهم عن وجه الأرض، لأنَّهم رذلوا عهدي … هكذا يقول الرب لعزرا: قل لشعبي «الجديد» بأني سأهبهم مملكة أورشليم التي أعددتها لإسرائيل، وأسحب منها مجدها، سأهبهم سكنًا أبديًّا أعدَّدته لإسرائيل، فيه شجرة الحياة تعطيهم عطرها فواحًا، وفيه لا يتعبون ولا يشقون.»
بعد ذلك تُعرضُ لعزرا رؤًى سبعٌ متتابعة، وهو في مدينة بابل التي سيق إليها مسببو يهوذا. في الرؤيا الأولى يُناجي عزرا ربه ويطرح عددًا من التساؤلات التي تدور حول أصل الشر في العالم ومصير إسرائيل والبشرية. فمنذ البداية فرض الرب على آدم وصية واحدة فقط، ومع ذلك لم يكن أهلًا للاضطلاع بها فأخطأ إلى الرب وحُكم عليه وعلى ذريته بالموت. وعن آدم نشأت شعوبٌ وأممٌ كثيرة جميعها مشى وراء أفكاره وترك الرب، فأهلكهم الرب بطوفان عظيم وأنجى نوحًا ومن معه، ولكن أمم ما بعد الطوفان لم تكُن بأحسن حالًا من سابقتها، بل لقد فجرت وضلت أكثر منها … ولذا فقد اختار الرب إسرائيل شعبًا خاصًّا وأعطاه الشريعة، ولكن إسرائيل ضل عن السبيل لأنَّ الرب لم يطهِّر قلبه من الإثم الإنساني فعاشت بذرة الخطيئة التي زُرعت في قلب آدم مع الشريعة جنبًا إلى جنب، ثم ذهب الخير واستقرَّ الشر في القلوب فآلت إسرائيل إلى الدمار والخراب.
ثم ينظر عزرا حواليه ويرى أنَّ خطيئة بابل ليست أقل من خطيئة إسرائيل، وإثم الأمم ليس أقل من إثم نسل يعقوب. فلماذا حُمَّ القضاء على إسرائيل وحدها بينما ترتع بقية الأمم الضَّالة بالثراء والدعة، وتُكافأ على شرها فيُضاعف رزقها أضعافًا. هنا يتدخَّل الملاك المدعو أوريئيل محاورًا عزرا، ويقول له بأنَّ فهمه قد قصر عن استيعاب ما يجري في هذا العالم، لأنَّ أسباب ما يجري تقع وراء الظاهر، وطرق الله خفية على الإنسان، ثم يكشف له عن مجيء ساعة قريبة يحصد فيها من زرع بذرة الشر محصوله، ويحصد فيها من زرع بذرة الخير محصوله، وهذه الساعة تأتي في ميعاد دقيق محسوب عند رب العالمين. فكما أنَّ رحم المرأة لا يستطيع الاحتفاظ بالجنين في آخر الشهر التاسع عندما يأتي المخاض، كذلك الأرض التي أُتخمت بالموتى منذ بدء الخليقة، فهي لن تلفظهم قبل مجيء ساعة مخاضها في اليوم الأخير.
ولكن للساعة علاماتها، ففي ذلك الوقت يتملَّك الناس ذعر عظيم، وتغيب سبل الحق ويُفقَد الإيمان في الأرض. الشمس تُشرق في الليل، والقمر يطلع في النهار، والدم ينبثق من الأشجار، الصخر يتكلم ويُسمع صوته، والنجوم تُغيِّر مجراها وتتساقط على الأرض، قوة غير معروفة تبسط سلطانها، وصوت مجهول يُسمع في الليل من قبل الجميع، تتشقَّق الأرض عبر المساحات الواسعة، وتندلع نيران لا تنطفئ، تترك الطيور أعشاشها وتفر، والكواسر تهجر مقراتها، والبحر يلفظ أحياءه، تحمل النساء مسوخًا، وابن السنة يتكلَّم، والحوامل تضع في ثلاثة أو أربعة أشهر، وهؤلاء يعيشون ويرقصون، تجف الحقول وتفرغ الإهراءات، ويختلط ماء الأرض الحلو بمائها المالح، يقوم الأصدقاء والإخوة ضد بعضهم ويتقاتلون بضراوة، يُفقد الرشد والتفكير السليم، وتنسحب الحكمة إلى مخبئها فلا يجدها أحد، عمل الناس لا يُعطي ثمارًا، وكدهم يذهب هباءً.
تتابع رؤى عزرا بعد الرؤيا الأولى، وفي نهاية كل رؤيا كان عزرا يصوم ويصلي مدة سبعة أيام قبل أن تأتيه رؤيا أخرى. في الرؤيا الثانية يُتابع عزرا حواره مع الرب من خلال الملاك أوريئيل الذي يُجيبه عن كل سؤال، ويدور الحوار حول مصير إسرائيل والأزمنة الأخيرة. وفي النهاية يُلخِّص الملاك أجوبته بالمقطع الآتي الذي نفهم منه أنَّ كل ما كان وما هو كائن وما سيكون، إنَّما يجري وفق مخطط دقيق وضعه الرب قبل خلق العالم، عندما رسم دائرة على وجه المياه الأولى فحدَّد بها موقع الكون في المكان اللامتناهي:
«عندما رسم دائرة الأرض، وقبل أن يُرسي دعائم الكون، قبل أن تتحرك مجامع الرياح، قبل أن يهدر صوت الرعد، قبل أن يلتمع ومض البرق، قبل أن توضع أساسات الفردوس، قبل أن يُرى بصرٌ ورودًا نضرة، قبل أن تُطلق قوى الزلزال … قبل أن ينتظم حشد الملائكة … قبل أن تُرفع الأجواء عاليًا، وتُسمَّى بروج السماء، قبل تشكيل مدرجات جبل صهيون، قبل أن يوضع حساب السنين، قبل أن يجنح خيال الخطأة بهم نحو الخطيئة، ويُختم على جباه أهل كنوز الإيمان، قبل هذه جميعًا وضعتُ مخطط كل شيء وجميعها صنعتها أنا ولا أحد آخر، مثلما سأصنع نهايتها أنا ولا أحد آخر.»
عقب ذلك يقول عزرا للملاك إنَّ الفئة الناجية هم قلة والهالكين كُثر؛ لأنَّ الشر المزروع في النفس الإنسانية قد حرف جُلَّ البشر عن طرق الله، فيجيبه الملاك بأنَّ الحصى في الأرض أكثر من الرصاص، والرصاص أكثر من الحديد، والحديد أكثر من النحاس، والنحاس أكثر من الفضة، والفضة أكثر من الذهب. فالثمين في الأرض هو القليل والنادر، وهذا ينطبق على طبقات وأنواع البشر. لقد خلق هذا العالم من أجل الكثيرين، ولكن قلة معدة للخلاص ولوراثة العالم القادم.
في الرؤيا الرابعة يجد عزرا امرأة في حُلَّة الحِداد، تندب وتبكي ابنها الوحيد الذي اختطفه الموت في ليلة عرسه، وبينما عزرا يُعزيها ويخفف من أحزانها، أضاء وجهها ببريق عجيب وأطلقت صرخة عالية اختفت على أثرها، وظهرت في مكانها مدينة مشيدة وضاءة هي أورشليم في يوم الخلاص.
في الرؤيا الخامسة يصعد إلى كبد السماء نسر جبار يبسط جناحيه على العالم ويتحكم به، ولكن مخلوقًا يشبه الأسد يظهر من الغابة ويتصدى له، فيحترق النسر ويتهاوى على الأرض. يُمثِّل النسر في هذه الرؤيا الإمبراطورية الرومانية، ويُمثِّل الأسد مسیح الرب الذي سيسحق هذه الإمبراطورية. وفي الرؤيا السادسة نجد مسيح الرب هذا طالعًا من وسط البحر:
«بعد سبعة أيام عرضت لي رؤيا جديدة وأنا نائم في الليل، هبت من البحر ريح عاصفة دفعت أمامها كل أمواجه، فنظرت ورأيت من قلب الريح شكل إنسان يطلع من وسط البحر، ثم نظرت ورأيت ذلك الإنسان يطير مع الغيوم في الأعالي، وأينما أدار وجهه حدثت رجة ورجفة، وكلما هدر صوته ذاب سامعوه مثلما يذوب الشمع الساخن، ثم رأيت حشودًا تهب من جهات الرياح الأربع لتُقاتل الرجل الطالع من البحر، ولكنه اقتطع جبلًا عظيمًا بيديه وقذفه عليهم، فتملَّك الذعر تلك الحشود التي تجمَّعت للقتال، ولكنَّها عزمت على الهجوم. فلما رأى اقترابها منه لم يرفع يدًا ولم يمسك حربة أو سلاحًا، ولكنه أطلق من فمه زفيرًا ناريًّا ومن لسانه عاصفة من الشرار، فامتزج الاثنان في تيار ملتهب انصبَّ على الحشود المهاجمة، فأتت عليهم جميعًا ولم يبقَ في مكان تجمعاتهم سوى الغبار والرماد وروائح الدخان، دهشتُ لذلك كله، ثم رأيت الرجل يهبط من الجبل ويدعو إليه حشدًا آخر هادئًا ومسالمًا، فتقاطر إليه أناس بعضهم فرح وبعضهم حزين وبعضهم يرسف في الأغلال.»
يطلب عزرا تفسير رؤياه فيأتيه الجواب: «إنَّ الرجل الذي رأيته طالعًا من البحر هو الذي أخفاه العلي عصورًا عديدة، والذي به سيُخلِّص خليقته ويقود مَن بقي منها. أمَّا عن التيار الناري الذي يخرج من فمه، وعدم حمله لحربة أو سلاح، وتدميره مع ذلك للحشود التي تجمَّعت لقتاله، فإليك بيان ذلك: سوف يأتي يوم أعدَّه العلي لتخليص سكان الأرض، ولكن سكان الأرض يتبلبلون ويقومون لقتال بعضهم، مدينة ضد مدينة، وقُطر ضد قُطر، وشعب ضد شعب، عندما يحصل ذلك وتظهر العلامات التي أخبرتك بها سابقًا، سيظهر ابني، مثلما رأيته، في هيئة رجل يخرج من البحر، عندها سيترك الجميع قتال بعضهم ويتجمَّعون لقتاله، ولكنه سوف يقف على ذروة جبل صهيون ويوبخ الأمم المحتشدة على سوء فعالها، فتأتي كلماته على شكل تيار ناري ويعذبهم بما يستحقون، ثم يدمرهم بلا جهد بواسطة الشريعة التي هي مثل النار. أمَّا الحشد المسالم الذي رأيت الرجل يدعوه ويجمعه إليه، فإنَّهم الأسباط العشرة التي سُبيت وأُخرجت من ديارها من قبل الملك الآشوري شلمنصر، في أيام ملكها هوشع.» بعد ذلك يسأل عزرا عن مغزى طلوع الرجل من البحر فيأتيه جواب العلي: «كما أنَّه لا أحد يستطيع أن يكتنه ما في أعماق البحر، كذلك لا أحد على الأرض يستطيع رؤية ابني ومن برفقته إلا عندما يأتي وقته ويومه.»
(٢-١) كتاب اليوبيليات
اليوبيليات، أو الخمسينيات، هو كتاب منحول مطول، يُعيد سرد سفر التكوين والأجزاء الأولى من سفر الخروج بأسلوب مختلف، فهو يُكثِّف ويختصر في بعض المواضع، ويُسهب في أخرى بداعي الشرح والتوضيح، ويُضيف أحيانًا، أو يُعيد صياغة بعض الأحداث صياغة جديدة. أمَّا عن تاريخ التأليف واللغة الأصلية للكتاب، فإنَّ العثور على جزء منه بين نصوص قمران باللغة العبرية يُرجِّح أنَّ لغته الأصلية هي العبرية، وأنَّه كُتب في القرن الأول قبل الميلاد على ما يدل عليه نوع الخط العبري المُستخدم في كتابته. لدينا أجزاء لا بأس بها من هذا الكتاب مُترجمة إلى اللاتينية، ولكن النص الكامل متوفر باللغة الإثيوبية التي نُقل إليها بين القرن الرابع والقرن السادس الميلاديين، أي خلال الفترة التي تمت خلالها ترجمة أسفار التوراة إلى تلك اللغة، والكنيسة الإثيوبية هي الوحيدة التي تعترف بقانونية هذا السفر. أمَّا عن تسمية الكتاب فمستمدَّة من تقسيم الزمن في النص إلى وحدات خمسينية تتألف كل وحدة من ٤٩ سنة، وذلك منذ اليوم الأول للتكوين وحتى يوم الدينونة الذي سيأتي بعد ٤٩٠٠ سنة، أي ١٠ خمسينية مضروبة ﺑ ٤٩ سنة.
وعندما أخذ البشر يتكاثرون على وجه الأرض ووُلِد لهم بنات، رأى فريق من الملائكة الساهرين أنَّ بنات الناس حسنات، فرغبوا بهنَّ وتخلوا عن طبيعتهم الروحانية واتخذوا لهم زوجات من البشر، فأنجبت النساء أولادًا عمالقة أفسدوا في الأرض حتى عمَّ الشر كل الكائنات الحية من الإنسان إلى الحيوان وكل ما يمشي على الأرض. وبذلك يحل مؤلف الكتاب مشكلة وجود الشر في العالم بطريقة تختلف عن مؤلف سفر عزرا الرابع. فالشر عند عزرا ينبع من الإنسان لا من قوة خارجة عنه، أمَّا في اليوبيليات فإنَّ الشر يأتي من قوة ما ورائية طاغية، وما الإنسان إلَّا ضحية لهذه القوة بسبب ضعفه في مواجهتها. لقد تحوَّل فريق من أهل السماء المقدسين إلى شياطين ملعونين، وأخذوا يستخدمون قواهم الأصلية لدفع الإنسان في طُرق الغي والضلال، بعد أن أدار العلي وجهه عنهم وتحوَّل بريقهم الملائكي إلى سوادٍ وظلمة.
«في الأسبوع الثالث من تلك الخمسينية، أخذ الشياطين المتمردون بتضليل نسل نوح ودفعهم للرذالات وإهلاكهم، فجاء أولاد نوح إلى أبيهم وحدَّثوه بأمر الشياطين التي تُعمي وتُضل وتُهلك أحفاده، فصلى نوح إلى الرب إلهه وقال: يا إله الأرواح التي تُقيم في كل جسد. أنت الذي رحمني وأنقذني مع أولادي من مياه الطوفان فلم أهلك مع أبناء اللعنة، لأنَّ نعمتك عليَّ كانت عظيمة ورحمتك واسعة على روحي. أسبغ نعمتك على أولادي ولا تدع للأرواح الشريرة عليهم سلطانًا فيبيدونهم عن وجه الأرض. باركني وبارك أولادي لنكثر ونتزايد ونملأ الأرض. أنت تعلم ما فعله ملائكتك الساهرون آباء هذه الأرواح في أيامي «قبل الطوفان»، وما فعله من بقي من هذه الأرواح «بعد حملتك عليهم». فلتوقع بهم وتقودهم إلى مكان الحساب، ولا تتركهم يعيثون فسادًا بین أبناء خادمك، لأنَّهم يا إلهي قساة وقد خُلقوا لكي يدمروا، ولا تدع لهم سلطانًا على نفوس الأحياء.» يستجيب الرب لصلاة نوح ويأمر فريقًا من الملائكة بمطاردة الشياطين وتقييدهم، ولكن الإبليس مستيما رئيس الأرواح الشريرة يتوسَّط لدى الرب، ويطلب منه ألَّا يُهلك الشياطين جميعًا بل يترك له قسمًا منهم لكي يستطيع متابعة مهامه الشريرة، فيوافق الرب ويمهل مستيما ومن بقي معه من الشياطين إلى يوم الحساب الأخير:
«ولقد انتصب الرئيس مستيما أمامك يا موسى وحاول تسليمك ليد فرعون، كما أنَّه ساعد سحرة مصر الذين مارسوا سحرهم أمامك، ولكن الرب ضربهم بقروح رديئة، ومنعناهم عن إتيان معجزة واحدة، ولكن الرئيس مستيما لم ينخذل بل استجمع قواه وأهاب بالمصريين أن يلاحقوك بكل جيوشهم وبكل عرباتهم وخيلهم وأهل مصر، ولكنِّي حلت بين المصريين وإسرائيل وخلَّصنا إسرائيل من فرعون وشعبه. وفي الأيام الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر، كان الرئيس مستيما مقيدًا ومحجوزًا خلف أبناء إسرائيل لكيلا يلاحقهم ويوقع بهم. وفي اليوم الثامن عشر حللنا قيوده مع أتباعه لكي يساعد المصريين في ملاحقة إسرائيل فشدَّد عزيمة المصريين وقوَّاهم، ثمَّ قيَّدناهم مجددًا … إلخ.»
إذا قارنا هذه الفقرة أعلاه بمقابلها في سفر الخروج، وجدنا أنَّ يهوه في اليوبيليات قد أحلَّ إبليس محلَّه في التشديد من عزيمة المصريين ودفعهم إلى مطاردة بني إسرائيل. نقرأ في سفر الخروج، ١٤: ٨–٩: «وشدَّد الرب قلب فرعون ملك مصر حتى سعى وراء بني إسرائيل، فسعى المصريون وراءهم وأدركوهم.» بينما نقرأ في اليوبيليات: «ولكن الرئيس مستيما أهاب بالمصريين أن يلاحقوك بكل جيوشهم، فشدَّد عزيمة المصريين وقوَّاهم.» وفي تعديل مُشابه يقلب الأدوار بين يهوه وشيطانه، نقرأ في اليوبيليات: «ثمَّ عدت يا موسى من مديان إلى مصر في الأسبوع الثاني من السنة الثانية للخمسينية الخامسة، وأنت تعرف ما قيل لك على جبل سيناء، وتعرف كيف رغب مستيما بقتلك بكل ما أُوتي من قوة لكي ينقذ المصريين من يدك، لأنَّه رأى أنك قد أُرسلت لتنفيذ الحكم بهم.» أمَّا في الموضع المقابل من سفر الخروج فإنَّ يهوه هو الذي ظهر لموسى في الطريق وأراد قتلة لأنَّ صفورة زوجته قد تردَّدت في ختان ابنها: «فأخذ موسى امرأته وبنيه ورجع إلى مصر، وحدث في الطريق، في المنزل، أنَّ الرب التقاه وطلب أن يقتله. فأخذت صفورة صوانة وقطعت غُرلة ابنها هو ومست رجليه. فقالت إنَّك عريس دمٍ لي، فانفك عنه» (الخروج، ٤: ٢٤–٢٦).
ورغم أنَّ يهوه في اليوبيليات يستخدم الشيطان على هواه، فيُقيِّده آنًا ويطلقه آنًا آخر، أو يُحسِّن صورته من خلاله بأن يعزو إليه أفعالًا معينة كان قد قام بها هو نفسه في النص التوراتي، فإنَّ الشيطان من ناحيته كان يُوقِّع يهوه في أحابيله ويُظهر مقدرته على خداعه. ومثال ذلك ما وقع بين يهوه وإبراهيم في قصة تضحية إبراهيم بابنه الواردة في التكوين، ٢٢: «وحدث بعد هذه الأمور أنَّ الله امتحن إبراهيم، فقال خذ ابنك وحيدك الذي تُحبُّه إسحاق، واذهب إلى أرض المريَّا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك. فبكَّر إبراهيم صباحًا وشد على حماره وأخذ اثنين من غلمانه معه وإسحاق ابنه، وقام وذهب إلى الموضع، فلمَّا أتيا إلى الموضع الذي قال له الله، بنى هناك مذبحًا ورتَّب الحطب وربط إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب، ثمَّ مدَّ إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه، فناداه ملاك الرب من السماء، فقال لا تمد يدك إلى الغلام لأني الآن علمت أنَّك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني» (٢٢: ١–١٢).
أمَّا محرر اليوبيليات فقد أدخل تعديلًا جوهريًّا على هذه القصة، يوضح مدی سلطة الشيطان ومقدرته حتى على خداع يهوه. فلقد تحدَّث أهل السماء عن مدى إخلاص إبراهيم للرب، وعن مدى حبه لابنه إسحاق الذي كان يفضله على كل ما في الدنيا، فجاء الشيطان إلى الرب وشكَّكه بإخلاص إبراهيم ثمَّ أقنعه أن يُخضعه للتجربة والامتحان، وذلك بأن يأمره التضحية بابنه الوحيد ليرى ويتأكَّد فيما إذا كان الرب أحبَّ إليه من أي شيء آخر. فأخذ الرب بمشورة الشيطان رغم أنَّ سيرة حياة إبراهيم قد أكَّدت في كل مناسبة مدى محبته للرب وإخلاصه له، وعندما نفَّذ إبراهيم الأمر وهمَّ بذبح ابنه، تأكَّد الرب من مدى خشيته له وسمع إبراهيم صوتًا من السماء: لا ترفع يدك على الغلام لأني عرفت الآن أنَّك تخشى الرب فلم تضنَّ عليه بابنك البكر، فاخزِ الشيطان مستيما.
قبل أن نغادر كتاب اليوبيليات، لا بد من الإشارة إلى أنَّ المؤلف، رغم تجديداته اللاهوتية الجذرية، فقد بقي أسيرًا للنزعة الشوفينية التوراتية، بل لقد زاد عليها. فالصراع بين الخير والشر يتجلَّى في العالم والتاريخ بشكل رئيسي في الصراع بين إسرائيل وأعدائها من بقية شعوب العالم، فإسرائيل رغم كل خطاياه يُجسِّد الخير في العالم، والشعوب الأخرى هي حصة الشر والشيطان. لقد اختار يهوه إسرائيل شعبًا له قبل خلق العالم، وهو مُلتزم بتطهير هذا الشعب في النهاية وتخليصه وحده من بين الشعوب، وما التاريخ إلَّا التجلِّي العملي لخطة يهوه هذه. نقرأ في المقاطع الأولى من اليوبيليات أنَّ الرب قد اختار إسرائيل شعبًا له في اليوم السادس من أيام التكوين، وذلك على عكس ما ورد في النص الرسمي الذي يقول لنا إنَّ اختيار يهوه لشعبه يبتدئ مع عهده لإبراهيم ولنسله من بعده: «وأكمل في اليوم السادس كل عمله، كل ما في السماوات وما في الأرض، لقد أعطانا آية عظيمة هي يوم السبت الذي نرتاح فيه بعد عمل ستة أيام، وقال لنا، نحن ملائكة الوجه وملائكة التقديس، المرتبتان العاليتان، أن نحتفل بالسبت معه في السماء وعلى الأرض. وقال لنا أيضًا: سوف أفرز لنفسي شعبًا من بين كل الشعوب، فيحتفل بالسبت وأكرسه لنفسي وأباركه، مثلما كرَّست السبت وباركته، سيكون شعبًا لي وأكون إلهه. لقد اخترت بذرة يعقوب من كل ما رأت عيني، وأسميتها ابني البكر الذي خصَّصته لنفسي إلى الأبد.»
(٢-٢) وصايا الأسباط الاثني عشر
عندما حضرت المنيَّة يعقوب، دعا أولاده الاثني عشر فأوصاهم وتنبأ لهم بما سوف يُصيبهم وأوصى بمكان وطريقة دفنه. نقرأ في التكوين، ٤٩: ١–٣٣: «ودعا يعقوب بنيه وقال اجتمعوا لأنبئكم بما يُصيبكم في آخر الأيام. اجتمعوا واسمعوا يا بني يعقوب وأصغوا إلى إسرائيل أبيكم. رأوبين أنت بكري قوتي وأول قدرتي … إلخ. شمعون ولاوي أخوان، آلاتُ ظلم سيوفهما … إلخ. يهوذا إياك يحمد إخوتك … إلخ. هؤلاء هم أسباط إسرائيل الاثنا عشر، وهذا ما كلمهم به أبوهم وباركهم، وأوصاهم وقال … ادفنوني عند آبائي في المغارة التي في حقل عفرون الحثي … إلخ. ولمَّا فرغ يعقوب من توصية بنيه ضم رجليه إلى السرير وأسلم الروح.»
تنسج وصايا الأسباط الاثني عشر على منوال وصية يعقوب، فكل وصية تحتوي على نصائح للأولاد المجتمعين عند سرير الأب، وسرد لمراحل حياته الماضية والدروس المستقاة منها، وأخيرًا تنبؤات حول مستقبل إسرائيل، والأيام الأخيرة في نهاية الزمن. إنَّ العثور على مقاطع من هذه الوصايا بين نصوص قمران «أواسط القرن الأول الميلادي» باللغتين الآرامية والعبرية، يدل على قِدم هذا النص وأرجحية وضعه في القرن الأول قبل الميلاد، وربما أبكر من ذلك، إلَّا أنَّ النص الكامل للوصايا غير متوفر في نسخة عبرية، وإنَّما في نسخة يونانية متأخرة، يقول صاحبها إنَّه قد ترجمها عن العبرية. هذا ويُشكك بعض الدارسين بمصداقية الترجمة لأنَّهم يلمحون تأثيرات هيلنستية واضحة في هذا العمل، إضافة إلى تأثيرات مسيحية.
هنالك ثلاثة محاور مشتركة بين الوصايا ذات صلة بموضوعنا وهي: (١) دور الشيطان ووظيفته في العالم. (٢) مجيء المُخلِّص. (٣) يوم الدينونة ونهاية التاريخ. مما سنتتبعه فيما يأتي:
لا تحفل الوصايا بتقديم تاريخ للشيطان، بل تُركِّز على سلطته على نفوس الناس ونشاطه الدائب في دفع الإنسان إلى ارتكاب الشرور والمعاصي. وهي تدعوه بالاسم بُلعار، وتصفه بالمُضلِّل وبرئيس الضلال وبروح الضلال، وتتحدَّث عن معاونيه من أرواح الشر التي تُعمي البصيرة وتُلبس الحق بالباطل والباطل بالحق، ثم تؤكِّد أنَّه سيئول إلى الخزي وإلى الدمار في نهاية الزمن.
في وصية أشير لدينا مقطع على جانب كبير من الأهمية، فهو ينطلق من الفكرة الزرادشتية عن صراع الروحين البدئيين، ليجد مُعادل هذا الصراع ومنعكساته في النفس الإنسانية، ففي عمق النفس هنالك نازعان واحدًا نحو الخير وآخر نحو الشر، وهذان النازعان يقودان إلى دربين ويصنعان سلوكين ونهايتين، واحد يرضى عنه بُلعار وواحد يرضى عنه الرب:
هذا وتتعاون نصوص الوصايا على رسم صورة للشيطان بُلعار ولطريقة عمله، فهو يُعمي بصيرة الإنسان ويُعتِّم على ذكائه وحسن تمييزه. نقرأ في وصية شمعون: «في أيام صباي كنت غيورًا من أخي يوسف لأنَّ أبي أحبه أكثر منَّا جميعًا، فعزمت في سرِّي على إهلاكه، لأنَّ أمير الخطيئة «بُلعار» أعمى بصيرتي فلم أعد أرى فيه أخًا ولم أصفح لأبي «تفضيله له»، ولكن إله آبائنا بعث رسوله فأنقذه من يدي، لقد قيَّد الرب يديَّ ورجليَّ وحال بيني وبين إتيان ذلك العمل، ولمدة سبعة أيام بقيت يدي اليمنى مشلولة تقريبًا، ولقد عرفت أنَّ ما حصل لي كان بسبب يوسف، لهذا فقد ندمت واستغفرت وتُبت باكيًا. لقد كان يوسف وسيمًا طلق المحيا لأن قلبه لم ينطوِ على أي شر، فالوجه مرآة اضطراب النفس، لذلك يا أولادي اجعلوا قلوبكم فاضلة أمام الرب، وطُرقكم مستقيمة أمام الناس، وستلقون على الدوام نعمة في عين الرب والناس. احفظوا أنفسكم من الفسق الجنسي لأنَّه أُمُّ الرذائل، وهو الذي يبعد عن الله ويقود إلى بُلعار …»
وبُلعار يستخدم عاطفة الغضب عند الإنسان ليدفعه إلى العنف والظلم. نقرأ وصية دان: «الغضب سيِّئٌ يا أولادي، يُعكر الروح ويتملَّك جسد الغضوب، فينقل إليه قوته الخاصة ليجعله يرتكب كل أنواع الظلم، والإنسان الذي يغضب، حتى ولو كان ضعيفًا، يكتسب أضعاف قوته العادية، لأنَّ الغضب يُعينه دائمًا على الظلم، الغضب سيِّئ يا أولادي، لأنَّه يغدو القوة المُحرِّكة للنفس، وهذه القوة تستولي على النفس وتمد الجسد بقدرات خاصة فيغدو قادرًا على إتيان أحط الأعمال. إنَّ روح الغضب تمشي دائمًا مع روح الكذب إلى يمين الشيطان، لكي يُتمَّ أعماله بالوحشية والخداع. فاحفظوا وصايا الرب يا أبنائي. تفادوا الغضب واكرهوا الكذب، ليسكن الرب بينكم، وليهرب بُلعار بعيدًا عنكم.»
والجشع والكلام الباطل إرادته. نقرأ في وصية نفتالي: «لا تُعجِّلوا بإفساد أعمالكم بالجشع، ولا تُضلِّلوا نفوسكم بالكلام الباطل، لأنَّ من يلتزم الصمت في نقاوة الفؤاد يحفظ مشيئة الله وينبذ مشيئة بُلعار.» وفاعلو الشر هم أداة الشيطان بهم ينفذ مآربه. نقرأ في وصية نفتالي أيضًا: «فإذا سعيتم في الخير يا أولادي يُبارككم الناس والملائكة ويهرب الشيطان عنكم. ومن يَسعَ في الشر يلعنه الناس والملائكة، ويتملكَّه الشيطان فيجعله أداةً له.» وبُلعار سيد عالم الظلمات: «فإنَّ الرب سيكون في النور معكم وبُلعار سيكون في الظلام» وصية لاوي. وأيضًا: «إنَّ الأمر بيدكم أنتم لاختيار النور أو الظلمات، شريعة الرب أو أعمال بُلعار» وصية يوسف.
ويُقدِّم يساكر في وصيته الوصفة الأخلاقية التي لا تترك لبُلعار سلطة على الأبرار: «لقد بلغت من العمر مائة واثنين وعشرين سنة ولم أقترف خطيئة، لم أعرف امرأة غير زوجتي ولم أفسق بنظرة شبقة، لم أشرب الخمر حتى الثمالة، لم أطمع بممتلكات جاري، لم يكُن ثمة غش في قلبي، لم يجرِ الكذب على لساني، بكيت وتألمت مع كل إنسان مقهور، شاركت الفقراء خبزي، ولم آكل وحدي، كنت ورعًا ومستقيمًا كل حياتي، أحببت الرب بكل قوتي، وأحببت كل إنسان كحبي لأولادي. فافعلوا هذا يا أولادي وسيهرب كل روحٍ لبُلعار بعيدًا عنكم، ولن يكون لشر مخلوق سلطان عليكم.»
وفي وصية لاوي نقرأ عن المسيح الذي سيأتي من نسل لاوي، وذلك في خطاب الرب إليه في الرؤيا: «… ثم غلبني النوم، فرأيت جبلًا عاليًا ورأيت نفسي على ذروته، والسماوات انفتحت وملاك من عند الرب تكلم معي وقال: لاوي، ادخل. فعرجت إلى السماء الأولى حيث رأيت مياه الأعالي مُعلَّقة، ثم عرجت إلى السماء الثانية فرأيتها أشدُّ لمعانًا وأكثر بريقًا ولم يكُن لارتفاعها من نهاية. فقلت للملاك: لماذا هي على هذه الحال؟ فقال لي: لا تعجب لما رأيت، لأنَّك سترى سماوات بعدها أشد منها لمعانًا وأكثر بريقًا، وعندما ترتقي إلى هناك فإنَّك ستقف قريبًا من الرب، وتكون كاهنًا له، وستنبَئ بأسراره البشر، ستُعلن لهم عن الذي يوشك على تحرير إسرائيل. فمن خلالك وخلال يهوذا سيتراءى الرب للبشر، ويُخلِّص بنفسه كل أعراق البشر.» وأيضًا: «نجمه سيسطع في السماء مثل ملك، فيشعل نار المعرفة مثلما تضيء الشمس النهار، ويُمجِّده العالم أجمع، سيشع مثل الشمس على الأرض، وسيمحو الظلمات كلها تحت السماء، فيحل السلام على الأرض، وتتهلل السماء في أيامه وتبتهج الأرض، سيفتح بوابات الفردوس، ويُزيل السيف الذي يحرسه منذ خروج آدم. سيُعطي الأبرار ليأكلوا من شجرة الحياة، ويُحِلُّ عليهم روح القداسة، سيُقيِّد بُلعار بالأغلال ويُعطي لأبنائه السلطة على وطء الأرواح الشريرة بأقدامهم، وسيفرح الرب بأبنائه إلى الأبد. والآن يا أبنائي، بعد أن سمعتم كل ما قلت، لكم أن تختاروا بين النور أو الظلمة، بين شريعة الرب أو أعمال بُلعار.»
وفي وصية يهوذا نقرأ تعليمًا عن ثنوية الخير والشر في النفس الإنسانية مُشابهًا لما قرأناه في وصية أشير: «فافهموا يا أبنائي أنَّ هنالك روحين مُسخَّرين للبشر، روح الحق وروح الضلال، وبينهما الوعي الصاحي الذي يميل وفق إرادته إلى هذا أو إلى ذاك. إنَّ أعمال الحق وأعمال الضلال مُسجَّلة في ضمير الإنسان والرب يعلم بها، ما من لحظة تخفى فيها أعمال الإنسان لأنَّها مكتوبة على القلب ومكشوفة أمام الرب، كما أنَّ روح الحق يشهد على كل شيء، ويوجه الاتهامات بحق المخطئ الذي ينهشه ضميره فلا يجرؤ على رفع بصره إلى قاضيه.»
ونقرأ في وصية زبولون: «بعد ذلك سوف يتجلَّى لكم الرب نفسه، نور العدل، وفي جناحيه الشفاء والرحمة، فيحرِّر من بُلعار أبناء البشر الأسرى ويطأ كل أرواح الضلال، ويهدي كل الأمم فتخلص له. سترون الرب في هيئة إنسان يختاره الرب ويُظهر اسمه في أورشليم.»
ونقرأ في وصية دان: «… لهذا عندما تفيئون إلى الرب يرحمكم ويقودكم إلى مقدسه ويحل سكينته عليكم، ومن يهوذا ولاوي سيظهر لكم خلاص الرب. سوف يحارب بُلعار ويتيح نصر النقمة والعقاب، سوف يستعيد من بُلعار أرواح القديسين الأسيرة، ويهدي قلوب العصاة إلى الرب ويهب السلام الأبدي للذين يدعونه. القديسون سوف يرتاحون في عدن، والأبرار ينعمون بأورشليم الجديدة التي ستُخصَّص إلى الأبد لتمجيد الرب. لن تقع أورشليم ثانية فريسة للخراب، ولن تُقاد إسرائيل ثانية إلى المنفى، لأنَّ الرب سيكون بين ظهرانيها يُقيم مع الناس، ويحكمهم بالتواضع والفقر. سيعلو اسمه في كل مكان من إسرائيل وتعرفه الأمم والشعوب باسم المُخلِّص.»
ونقرأ في وصية نفتالي: «مروا أولادكم أن يتحدوا بيهوذا ولاوي، لأنَّه من يهوذا سوف يظهر خلاص إسرائيل، وبه سيُبارك يعقوب. من خلال قوة ملوكيته سيظهر الرب ويُقيم على الأرض بين الناس، فيُخلِّص نسل إسرائيل ويجمع إليه الأبرار من بين الأمم.»
ونقرأ في وصية يوسف: «ورأيت أنَّه من يهوذا قد حبلَت عذراء ترتدي ثوبًا من الكتان، ومنها وُلِد حَمَلٌ لا شية فيه، عن يساره وقف كائن يُشبه الأسد، هجمت عليه الحيوانات المتوحشة كلها، ولكن الحَمَل هزمها جميعًا ووطأها بقدمه، فابتهجت به الملائكة والأرض والبشرية. هذه الأمور ستحصل أوقاتها في الأزمنة الأخيرة. وأمَّا أنتم يا أبنائي، فاحفظوا وصايا الرب وبجِّلوا لاوي ويهوذا، لأنَّه من صُلبهما سيأتي حَمَل الرب الذي سيمحو خطايا العالم ويُخلِّص الأمم كلها ويُخلِّص إسرائيل، لأنَّ مُلكه يكون مُلكًا أبديًّا لا ينقضي.»
(٢-٣) نصوص قُمْران
نصوص قُمْران، أو مخطوطات البحر الميت، هي مجموعة لفائف عُثر عليها تباعًا منذ عام ١٩٤٧، في عدد من المغاور الواقعة في المنطقة الصخرية الوعرة المنحدرة نحو الشاطئ الغربي الأعلى للبحر الميت، ويبدو أنَّ هذه اللفائف قد خُبِّئت هُنا حفظًا لها من الضياع خلال الحملة الرومانية على أورشليم عام ٧٠ ميلادية، وهي الحملة التي أدَّت إلى تدمير الهيكل تدميرًا كاملًا، ويُمكن تقسيم هذه اللفائف إلى ثلاثة أنواع حسب موضوعاتها: فلدينا أولًا نصوص توراتية بعضها كامل تقريبًا مثل سفر إشعيا وبعضها مجتزأ بسبب تلف اللفيفة. ولدينا ثانيًا شذرات من النصوص المنحولة. ولدينا ثالثًا نصوص قُمْرانية خاصة بهذا الموقع. وقد أرجع الباحثون تاريخ اللفائف إلى الفترة الواقعة بين أواخر القرن الثاني قبل الميلاد وأواسط القرن الأول الميلادي.
لا تنتمي نصوص قُمْران إلى الاتجاه الراديكالي في الفكر المنحول، لأنَّها بقيت تراوح عند التصوُّرات التوراتية الرسمية التي تجعل من نهاية الأزمنة عصر انتصار لإسرائيل على أعدائها من الأمم جميعها دون استثناء، وترى في خلاص الرب خلاصًا لبني إسرائيل وحدهم، ولكن هذه النصوص قد قدَّمت مساهمتين رئيسيتين في موضوعات الفكر المنحول: أولاهما فكرة ثُنائية الخير والشر المتأصلة في صميم خلق الله. والثانية حرب الأزمنة الأخيرة بين المؤمنين والكفار. والمؤمنون هُنا هم حصرًا بنو إسرائيل المدعوون بأبناء النور، أمَّا الكفار فهم حصرًا بقية الأمم أبناء الظلام وأتباع الشيطان بليعال.
«وأعد للإنسان روحين ليمشي فيهما إلى يوم الافتقاد هما روح الحق وروح الضلال. في ينبوع النور أهل الحق وفي ينبوع الظلمة أهل الضلال. في يد أمير الأنوار سيادة على جميع أبناء البر فهم في طريق النور يسيرون، وفي يد ملاك الظلمة سيادة على جميع أبناء الضلال فهم في طريق الظلمة يسيرون، (ولكن) بسبب ملاك الظلمة يضلُّ أبناء البر (أيضًا)، فكل آثامهم وخطاياهم ومعاصيهم هي نتيجة سيادته، حسب أسرار الرب حتى الزمن المحدد، وكل الضربات التي تُصيبهم وكل أوقات ضيقهم هي نتيجة سيادة بُغضه، كما أنَّ الأرواح كلها والتي هي من نصيبه (= الشياطين) تجعل أبناء النور يعثرون، لكن إله إسرائيل وملاك حقه يعينون أبناء النور.»
«أجل. هو الذي خلق الروحين، روح النور وروح الظلمة، وعلى هذين الروحين أسَّس كل عمله، وعلى مشورتيهما كل خدمة، وعلى طريقيهما كل افتقاد. واحد منهما يُحبِّه الرب مدى الأجيال ويرتضي بعمله إلى الأبد، والآخر يمقت مشورته وإلى الأبد يبغض طُرقه جميعها، وهاكم طُرق هذين الروحين في العالم. روح الحق هو الذي يُنير قلب الإنسان ويُمهِّد أمامه كل طُرق البر الحقيقي ويجعل في قلبه مخافة أحكام الرب … أمَّا روح الضلال فقيه الطمع والتهرب من البر وفيه الكذب والكبرياء …»
«في هذين الروحين تمضي جميع أجيال بني البشر، وفي هاتين الطبقتين تتوزَّع جيوشهما من جيل إلى جيل وتسير. كل جزاء أعمالهم يتم بهاتين الطبقتين بحسب ما قُسم لكل واحد، أكان كثيرًا أم قليلًا على مرِّ العصور. ذلك أنَّ الرب قد رتَّب هذين الروحين في أجزاء متساوية إلى الحد الأخير، وجعل بُغضًا أبديًّا بين طبقتيهما، فحميَّة القتال تجعل الواحد يُعارض الآخر في جميع أوامرهما لأنَّهما لا يسيران معًا.»
«أمَّا الرب، وفي أسرار عقله ومجد حكمته، فقد وضع حدًّا لوجود الضلال، وهو سيزيله بشكل كامل في ساعة الافتقاد، وحينئذٍ يظهر الحق بشكل نهائي في العالم، حينئذٍ يُنظف الرب بحقه أعمال كل فرد، ويُنقي جسد كل إنسان فيُزيل روح الضلال كله من أعضائه، ويطهره بروح قداسته من أعمال الكفر، ويفيض عليه روح الحق مثل ماء التطهير، وهكذا تنتهي كل أرجاس الكذب وينتهي كل تنجيس بروح النجاسة …»
«حتى الزمن الحاضر يتحارب روحا الحق والضلال في قلب كل إنسان، والناس يسيرون في الحكمة والجهالة، كل منهم يبغض الضلال بقدر قسمته في الحق والبر، أو يمقت الحق بقدر ميراثه في حصة الضلال. فالرب قد رتَّب هذين الروحين في قسمين متساويين حتى الحد الحاسم، حد «أو ميعاد» التجدد، وهو يعرف جزاء أعمال هذين الروحين على مدى الأزمنة، وقد وزعهما بين أبناء البشر لكي يعرفوا الخير ويعرفوا الشر، وهكذا تُعطى قسمة كل حي بحسب روحه حتى يوم الدينونة والافتقاد.»
في المخطوطة الأخرى التي اخترنا عرضها هنا وهي مخطوطة «نظام الحرب» أو «حرب أبناء النور ضد أبناء الظلام»، نجد أنَّ الصراع بين روح الشر بليعال وروح الخير ميخائيل رئيس الملائكة، يدوم إلى أن يحين يوم الفصل العظيم بين الخير والشر. في ذلك اليوم يجتمع المؤمنون، وهم حصرًا بنو إسرائيل، في حشد واحد لشن الهجوم على الكفار من أتباع بليعال، وهم بقية أمم الأرض، وتحدث المعركة النهائية الفاصلة. وفيما يأتي مقتطفات من هذه المخطوطة:
«لقد بدأ تسلُّط أبناء النور على حزب أبناء الظلام، على جيش بليعال، على زمرة آدوم ومؤاب وبني عمون، وجمهور أبناء المشرق وفلسطيا، وضد زمرة كتیم، على آشور وشعبهم الذين جاءوا لمعونة الكفار الذين تجاوزوا العهد. إنَّ أبناء لاوي وأبناء يهوذا وأبناء بنيامين والمنفيين في البرية يُقاتلون ضدهم» «… تُهيأ الحرب خلال ست سنوات، وكل الجماعة تُهيئها معًا. وتكون الحرب على مراحل تمتد على السنوات التسع والعشرين الباقية. في السنة الأولى يقاتلون آرام نهاريم. في السنة الثانية أبناء لود. في الثالثة يُقاتلون ما تبقَّى من آرام وعوص وتوجر ومشا الذين في عبر الفرات … إلخ.»
«وتعسكر كل فرق المقاتلين تجاه ملك كتيم، وتجاه كل جيش بليعال المجتمع لديه ليوم الفناء بسيف الرب، ويقف رئيس الكهنة ويقرأ على مسامعهم صلاة زمن الحرب ويبدأ كلامه قائلًا: تقووا، تشجعوا … لا ترتدوا أمامهم لأنَّهم جماعة كفر وكل أعمالهم هي في الظلمة … اليوم موعد الحرب من قِبل الرب على كل مجموعة بليعال، وموعد غضبٍ على كل بشر. فإله إسرائيل يرفع يده القديرة العجيبة ضد كل أرواح الكفر، وكل جبابرة الآلهة يشدون أحقاءهم للحرب، وتشكيلات القديسين تجتمع ليوم الرب، إلى أن يزول كل المكرسين لبليعال، لأنَّ إله إسرائيل قد دعا السيف ضد جميع الأمم، وهو يبسط قوته بواسطة قديسي الشعب.»
بعد وصف مطوَّل لتشكيلات القتال وأساليب الكر والفر، يتم القضاء على جيوش الأمم ويرفع المنتصرون صلاة شكر هذه خاتمتها: «افرحي جدًّا يا صهيون، وابتهجي يا كل مدن يهوذا وافتحي أبوابك على الدوام لتدخل إليك ثروات الأمم، وليخدمك ملوكها ويسجد أمامك كل جلاديك ويلحسوا تراب قدميك. يا بنات شعبي اهتفن هتاف الفرح، وتزيَّن بزينة المجد، وتسلطن على ممالك الشعوب. هكذا يكون المُلك للرب ولإسرائيل مملكة أبدية.»
(٣) سفر أسرار أخنوخ
يُدعى هذا الكتاب أيضًا بسفر أخنوخ الثاني، وهو يتميَّز عن سفر أخنوخ الأول بتركيزه على الموضوعات اللاهوتية المتعلقة بالبدايات، في مقابل تركيز أخنوخ الأول على موضوعات التاريخ، وهو يتوسَّع بشكل خاص في مسألة سقوط إبليس وتحوُّله إلى روحٍ متمردةٍ شريرة، بعد أن كان رئيسًا لطبقة عليا من الملائكة. كما يتوسَّع في مسألة خلق الإنسان الأول وسقوطه، ودور إبليس في تزيين المعصية له، وهنالك وصف لأحوال السماوات السبع ولأهوال الجحيم ومتع النعيم. النص متوفر فقط باللغة السلافية، ويبدو من أسلوبه أنَّ هذه النسخة السلافية هي ترجمة مباشرة عن اليونانية. أمَّا عن زمن تدوينه فإنَّ الباحثين مختلفون في ذلك، فبينما يُرجِّح بعضهم أنَّ تدوينه قد تمَّ في زمن ما من القرن الأول قبل الميلاد على يد يهودي هلنستي من الإسكندرية، فإنَّ البعض الآخر يرى فيه نتاجًا لعملية تحريرية طويلة أدخلت على النص القديم تعديلات وإضافات خلال بضعة قرون.
ينتمي النص إلى جنس الأدب الديني الرؤيوي، وفيه يتحدَّث أخنوخ بن یارد، السلف السادس بعد آدم من سلالة ابنه شيت، عن رؤيا نبوية عرجت به إلى السماوات وصولًا إلى عرش الرب، وهناك استمع من فمه مباشرة إلى قصة الخلق والتكوين:
بعد ذلك يرفع الملاكان أخنوخ على أجنحتهما ويرقيان به إلى السماء الأولى، وهناك يقوده الملاك المُتصرِّف بشئون النظام النجمي فيُريه مسالك النجوم ومداراتها ومعابرها، ويُريه هنالك بحرًا واسعًا أكبر من بحار الأرض، ومئات من الملائكة ترف فوقه بأجنحتها، ويُريه مخازن السحب والبَرَد والثلج والندى وعليها ملائكة يحرسونها، ثم يعود إليه الملاكان فيرقيان به إلى السماء الثانية، وهنالك يرى ظُلمةً مترامية في أعماقها ملائكة سود مقيدون بسلاسل وهم ينتحبون، فيسأل عنهم وعن سبب تعذيبهم، فيجيبه الملاكان بأنَّهم الملائكة العصاة الذين ساروا وراء كبيرهم، وهم الآن في انتظار الحساب الأخير. في السماء الثالثة يلج الملاكان بأخنوخ إلى جنةٍ غناء يقوم على حراستها ثلاثمائة ملاك، فيها من كل شجر وثمر، وما لم تره عين ولا يستطيع كائن بشري وصفه. وفي وسط الجنة شجرة الحياة ونبعان يفيض منهما نهران من لبن وعسل، ثم يتفرَّعان إلى أربعة روافد من زيت وخمر. إنَّها الميراث الأبدي للأبرار الذين ساروا في حياتهم أمام الرب بدون خطيئة، وطهَّروا أرواحهم من الشر، وأطعموا الجائع وألبسوا العريان، وأعانوا الأرملة واليتيم. في الجهة الأخرى من السماء الثالثة يقف الملاكان بأخنوخ على عتبة مكان مُظلم مخيف تتأجَّج فيه نيران أبدية، ويقوم عليه ملائكة مخيفو الهيئة يحملون أدوات تعذيب مرعبة. إنَّه الميراث الأبدي للخطأة الذين اختاروا طريق الشر وعاكسوا إرادة الرب فسرقوا وقتلوا وحسدوا، وكدَّسوا الثروات على حساب الفقراء، وأجاعوا المسكين وظلموا الأرملة واليتيم.
في السماء الرابعة يرى أخنوخ الشمس والقمر ومساريهما، والنجوم الأربعة التي تُرافق الشمس، وتحت كل واحد منها ألف نجم تابع له، وهنالك عشرات الألوف من الملائكة المُعيَّنين بشئونها، ومن وسط هذه السماء الرابعة تناهى إلى سمعه صوت جوقات الملائكة تُسبح بحمد خالقها وتنشد على إيقاع المزامير والصنوج. في السماء الخامسة يرى أخنوخ الملائكة الساقطين المدعوين بالعمالقة، وهم أول زمرة من الملائكة تمرَّدت على الرب وتبعت رئيسها المدعو «ساتانا إيل»، فأدارت وجهها عن نور الرب ثم أغوت بقية الملائكة الساقطين الذين رآهم في السماء الثانية، وكانوا في كربٍ عظيم وحزنٍ عميق صامتين إلى نهاية الأزمنة عندما يحين يوم عقاب الرب. في السماء السادسة يرى سبع زمر من الملائكة هم الرؤساء الموكلون بشئون الأرض، فما مِن ظاهرة من ظواهر الطبيعة إلَّا وعليها ملاك حارس منهم، وبينهم من يُسجل ويُحصي أعمال البشر على الأرض، السيئة منها والحسنة، وكل هؤلاء يُسبِّح بأنغام عذبة تتردد دومًا تحت قدمي الرب الجالس في السماء السابعة.
عندما يصل أخنوخ إلى السماء السابعة، يرى العرش من بعيد وحوله طبقات الملائكة العليا من الكروبيم والسيرافيم وهم منشغلون بالإنشاد والتسبيح. هنا يقول له الملاكان بأنَّ مهمتهما قد انتهت ويتركانه وحيدا، يسقط أخنوخ على وجهه لهول المشهد، ولكن الملاك جبرائيل يتقدَّم نحوه ويناديه قائلًا: تقدَّم یا أخنوخ ولا تخف. قُمْ معي إلى سُدة العرش العظيم. ثمَّ يتقدَّم إليه فيرفعه عن الأرض كورقة شجر عصف بها الريح ويضعه أمام وجه الرب. يأمر الرب أن يؤتى لأخنوخ بقرطاس وورق ومداد ليكتب كل ما رآه وكل ما سيسمعه من فم الرب، ليُبلِّغه إلى أرواح البشر المعدَّة للأبدية من قبل أن يُخلق العالم، ثم يقص عليه قصة الخلق والتكوين.
تتطابق قصة الخلق في سفر أخنوخ الثاني مع قصة الخلق التوراتية في خطوطها العامة، ولكنَّها تُضيف إليها عنصرين جديدين: الأول هو خلق الملائكة في اليوم الثاني من أيام التكوين، والثاني عصيان الملاك الرئيس ساتانا-إيل وتمرُّده على ربه وتحوُّله إلى إبليس ورئيس للشياطين، إضافة إلى بعض تفاصيل خلق الإنسان الأول في اليوم السادس. فلقد خلق الرب الملائكة من جوهر النار، وجعلهم في عشر طبقات لكل طبقة رئيس، ثم إنَّ أحد رؤساء هذه الطبقات قد تصوَّر في قلبه خطة مستحيلة، وهي أن يعلو فيُصبح ندًّا للرب في القوة، فتمرَّد هذا الرئيس على خالقه ثم أغوى من تحته من الملائكة وزيَّن لهم العصيان، ولكن الرب رماه من الأعالي مع ملائكته، ففقدوا بريقهم الإلهي وصاروا أرواحًا متمردةً شريرة تهيم فوق وجه الهاوية السفلى.
«فحلَّت لعنتي على الجهل، أمَّا ما باركته سابقًا فلم ألعنه، لا الإنسان ولا الأرض ولا بقية المخلوقات، وإنَّما أعمال الإنسان الشريرة. وقلت له إنَّك من ترابٍ وإلى تراب الأرض التي أخذتك منها تعود. لن أُهلكك وإنَّما سأُبعدك عن المكان الذي أسكنتك فيه، ولسوف أضمك إليَّ في مجيئي الثاني. ثم باركتُ جميع مخلوقاتي المرئية منها وغير المرئية. وكانت فترة إقامة آدم في الجنة خمس ساعات ونصف. وباركت يوم السبت الذي فيه استرحت من جميع أعمالي، وجعلت اليوم الثامن رأس الأيام المخلوقة التي تلت أعمالي، وجعلت بعده سبعة آلاف سنة بعدد الأيام السبعة الأولى، وفي بداية الألف الثامن جعلت موعدًا للأبدية، لزمانٍ لا يُقاس بالسنوات والشهور والأسابيع والأيام والساعات.»
بعد ذلك يأمر الرب أخنوخ أن يعود إلى الأرض ويُخبر بما رآه عبر رحلته من السماء الأولى وإلى العرش العظيم، ويعطيهم ما سطَّره في كتابه ليتناقلوه من جيل إلى جيل. فيرجع أخنوخ ويُبشِّر بين الناس ويعظهم بالحياة الأخلاقية السويَّة، لأنَّهم سوف يجدون أعمالهم الحسنة تنتظرهم يوم الحساب الأخير. وبعد أن ينتهي من مُهمته يُرسل الرب ظُلمةً على الأرض ويرفع أخنوخ إليه ليعيش خالدًا في السماء. وعندما تنقشع الظلمة يتلفت الناس حولهم فلا يرون أخنوخ، وفي الموضع الذي كان واقفًا فيه يرون لفافة كُتب عليها: الله الخفي.
- (١)
لا يُدعى الإله هنا بإله إسرائيل لأنَّه إله شمولي عالمي.
- (٢)
لا يوجد ذكر للشعب المختار ولا لإسقاطات مستقبلية على تاريخ بني إسرائيل.
- (٣)
لا يؤكِّد الرب في وصاياه لأخنوخ على الشريعة، بل على السلوك الأخلاقي القويم. وفي الحقيقة فإنَّ مفهوم الشريعة غائب تمامًا عن ذهن مؤلف النص.
- (٤)
جميع أرواح البشر معدة للخلاص وللأبدية قبل خلق العالم.
- (٥)
خُلق الإنسان حرًّا، وبيَّن له الخالق منذ البداية طريق الخير وطريق الشر. كما أنَّ عصيان الملاك الرئيس وبطانته يدل على أنَّ الملائكة قد خُلِقت حرة من البداية أيضًا.
- (٦)
لا ينبع شرُّ الإنسان من رغبته في إتيان الشر، بل من جهله؛ ولهذا لم يَلعن الربُّ الإنسانَ ولا الأرضَ مثلما لعنهما في سِفر التكوين، بل لعَنَ الجهل وأعمال الإنسان الشريرة، ثم بارك جميع مخلوقاته.
- (٧)
لا يؤسس يوم الدينونة لملكوت الرب على الأرض ولا لدولة إسرائيل الأبدية، بل هو يوم حساب لجميع بني البشر.
(٤) كتاب حياة آدم عندما امتنع إبليس عن السجود
«بعد طردهما من الفردوس صنعا لنفسيهما خيمة وجلسا ينوحان مدة سبعة أيام ويبكيان بأسى عظيم. بعد اليوم السابع أخذا يشعران بالجوع فراحا يُفتشان حولهما عن شيء يأكلانه ولم يجدا. فقالت حواء لآدم: كم أنا جائعة يا سيدي. هلَّا ابتعدت وفتَّشت لنا عمَّا يسد الرمق. ربما يشفق الرب علينا ويُعيدنا إلى حيث كنَّا سابقًا، فنهض آدم وراح يجول مدة سبعة أيام في الأرض، ولكنَّه لم يجد طعامًا كالذي تناولاه في الفردوس، فقالت حواء لآدم: سيدي، هلا قتلتني لعل الرب إذا متُّ يعيدك إلى الفردوس، فأنا السبب في نقمته وغضبه عليك. فأجابها آدم: لا تتفوهي بمثل هذا الكلام لئلا نتلقَّى مزيدًا من لعنات الرب، وكيف لي أن أتخلَّى عن جزء من لحمي ودمي؟ من الأفضل لنا أن ننهض ونتابع البحث عن وسيلة للعيش ولا نتخاذل.»
«مشى الاثنان مدة تسعة أيام يبحثان عن طعام، ولكنَّهما لم يجدا طعامًا يُشبه ما كانا يأكلانه في الفردوس، بل طعامًا ممَّا تأكله حيوانات الأرض. فقال آدم لحواء: لقد جعل الرب هذا الطعام نصيبًا للحيوانات، بينما كنَّا نتناول هناك طعام الملائكة. من الأفضل لنا أن نبكي أمام الرب خالقنا ونُعلن الندم والتوبة ونستغفر، لعله يُسامحنا ويرأف بنا ويزودنا بأسباب الحياة. فقالت حواء: قل لي يا سيدي، ما هو الندم وكيف أستغفر، لكيلا يأتينا عكس مرادنا ويُدير الرب وجهه عنَّا ولا يُعير أذنًا صاغية لصلاتنا. سيدي كم من الوقت يستغرقه استغفارك؟ فأنا من جلب عليك التعب والمشقة. فقال آدم: لن يكون بمقدورك القيام بما سأقوم به، بل ابذلي قدر استطاعتك. سوف أصوم لمدة أربعين يومًا، أمَّا أنتِ فامضي إلى نهر الدجلة وخذي لك حجرًا قفي عليه في وسط الماء واغطسي إلى الرقبة فالبثي مدة سبعة وثلاثين يومًا، بينما أغطس أنا في نهر الأردن أربعين. والزمي الصمت لأنَّ شفاهنا التي تنجَّست بالأكل من الشجرة المحرمة غير جديرة بالتوسل إلى الرب. لعله بعملنا هذا يرحمنا ويرأف بنا.»
«مضت حواء إلى نهر الدجلة وفعلت مثلما قال لها آدم، بينما مشى آدم إلى نهر الأردن وأخذ لنفسه حجرًا وقف عليه في الماء الذي غمره إلى رقبته، ثم خاطب آدم نهر الأردن قائلًا: هلا بكيت معي يا ماء الأردن، وجمعت مخلوقاتك السابحة حولي لتبكي معي، لتندبني لا لتندب نفسها، فأنا الذي أخطأ من دون مخلوقات الأرض، فهبَّت لفورها مخلوقات النهر وأحاطت بآدم وتوقَّف تيار الماء عن الجريان.»
«بعد ثمانية عشر يومًا وهما على هذه الحال، ثارت ثائرة الشيطان فاتخذ شكل ملاك وضَّاء، وجاء إلى نهر الدجلة بينما كانت حواء تبكي فوقف عندها وتظاهر بمشاركتها البكاء ثم قال: اصعدي من الماء وتوقَّفي عن البكاء، دعي عنك الحزن والتنهد. ما الذي يُقلقك أنتِ وزوجك؟ لقد سمع الرب دعاءكما وقَبِل توبتكما، وكل الملائكة تشفَّعت عنده لكما، ولقد أرسلني لكي أُصعِدك من الماء وأُقدِّم لكِ طعام أهل الفردوس مِمَّا كنتِ تطلبينه، فهلمي معي إلى حيث الطعام مُعد من أجلك. سمعَت حواء كلام الشيطان وصدقَّته، فصعدت من الماء ولكنَّها سقطت أرضًا لدى ملامستها الضفة، فأقامها الشيطان وقادها إلى آدم. فلما رآهما قادمين صرخ وانتحب وناداها قائلًا: أين ذهب ندمكِ واستغفاركِ؟ وكيف وقعتِ ثانية تحت غواية عدونا الذي حرمنا مسكننا الفردوسي ومُتعنا الروحانية؟ لسماعها نداء آدم انتبهت حواء إلى خديعة الشيطان، فسقطت على وجهها في التراب وتضاعف عويلها ونواحها وصرخت في وجه مرافقها: الويل لك أيُّها الشيطان، لماذا تهاجمنا دون سبب؟ ما الذي فعلناه حتى تلاحقنا دومًا بالمكر والخديعة؟ …»
«فتنهَّد الشيطان وقال: إنَّ كل عدائي وحسدي بسببك أنتَ يا آدم، بسببك أنتَ طُردتُ وحُرمتُ من مجدي في السماء بين الملائكة، بسببك، أنتَ رُميتُ من الأعالي إلى الأسافل. قال آدم: ما الذي فعلته لك، وفي أي أمر لومُك لي؟ لماذا تُلاحقنا ولم نسبب لك ضرًّا ولا أذى؟ فأجاب الشيطان: عن أي شيء تتحدَّث يا آدم؟ بسببك أنتَ أُخرجت من هنالك، وبعد خلقك أنتَ أُبعدتُ من حضرة الرب وصحبة الملائكة. فعندما نفخ الرب في أنفك نسمة الحياة وتشكَّلت هيئتك على صورته، دعانا ميخائيل لكي نسجد لك في حضرة الرب الذي خاطبك بقوله: انظر يا آدم لقد صنعتك على صورتنا وشبهنا. ولقد دعا ميخائيل جمع الملائكة وقال لهم: اسجدوا لصورة الرب حسبما أمر، وكان ميخائيل أول الساجدين ثم دعاني إلى السجود قائلًا: اسجد لصورة الرب يهوه. فأجبته: أنا لا أسجد لآدم. وعندما حثَّني على السجود قلت: لن أسجد لمَن هو أدنى مني مرتبة، لقد خُلقت قبله وعليه هو أن يسجد لي. ولمَّا سمع الملائكة التابعون لي قولي، رفضوا السجود أيضًا. ولكن ميخائيل تابع حثنا وقال: إذا لم تسجدوا سوف يصب الرب جام غضبه عليكم. فقلت له: إذا غضب الرب عليَّ سوف أرفع لنفسي كرسيًّا فوق نجوم السماء وأُصبح ندًّا للعلي. فلمَّا سمع الرب قولي ثار غضبه عليَّ وأنزلني من مرتبة المجد مع أتباعي، وطردنا من مقرنا الأعلى إلى الأرض، حيث لبثنا في حزن وأسى نندب مجدنا الضائع، وقد آلمنا أن نراك تنعم هنالك بالبركة والسرور، لذا فقد جئت زوجتك بالخديعة وأغويتها فجعلتها سبب فقدانك أفراح النعيم، مثلما فقدتُ بسببك مجدي العظيم.»
يتابع النص بعد ذلك سرد أخبار أسرة آدم وما جرى بين قابيل وهابيل وما جرى لبقية أولاد آدم إلى حين وفاته، وينتهي النص بمشهد موت آدم وتلقِّيه رحمة ربه ومغفرته:
«ولسبعة أيام أظلمت الشمس وأظلم القمر والنجوم. وكان شيت يحتضن جسد أبيه، وحواء تُشبك ذراعيها فوق رأسها المنكس والمستند على ركبتيها، وكل الأولاد يبكون بحرقة. وبينما هم على هذه الحال ظهر الملاك ميخائيل واقفًا عند رأس آدم وخاطب شيت قائلًا: انهض عن جسد أبيك وتعال إليَّ فأُريك ماذا أعدَّ الرب له، فلقد رَحِم الرب مخلوقه وتاب عليه، وعزف كل الملائكة بأبواقهم وأنشدوا: مباركٌ أنت أيُّها الرب الذي أشفق على مخلوقه. عندها رأى شيت ذراع الرب تمتد فتحمل آدم وتُسلِّمه إلى ميخائيل وسمعه يقول: ليكن آدم في حرزٍ لديك إلى يوم الدينونة في آخر الأزمان، عندما سأحوِّل حزنه فرحًا وأجعله يتربَّع على عرش من غلبه (= الشيطان).»
(٥) الهاجاده
نشأت على هامش التلمود «وهو المصدر الثاني للشريعة بعد التوراة» خلال القرون الأولى للميلاد مجموعة الأدبيات الدينية المعروفة باسم الهاجاده، أي رواية القصص. والاسم مُستمَّد من أسلوب المؤلفين الذين استخدموا القصص المُشبَّعة بالميثولوجيا، وذلك من أجل تقريب المعتقدات التلمودية إلى ذهن عامة الناس. فالهاجاده بالنسبة إلى التلمود تُعادل الأسفار المنحولة بالنسبة إلى التوراة.
في البدء أوجد الرب سبعة أشياء قبل أن يخلق العالم وهي: (١) التوراة مسطرة بنار سوداء على نار بيضاء، ومستقرة في حضن الخالق. (٢) العرش الإلهي. (٣) الفردوس عن يمين العرش. (٤) الجحيم عن يسار العرش. (٥) الهيكل المقدس أمام العرش. (٦) مذبح الهيكل. (٧) جوهرة على مذبح الهيكل، محفور عليها اسم المسيا المُخلِّص، وصوت يهدر قائلًا: عودوا يا أبناء البشر. عندما أراد الرب خلق العالم تشاور مع التوراة بهذا الخصوص، أبدت التوراة شكَّها من جدوى خلق العالم الأرضي، لأنَّ الناس سوف يشيحون فيه بوجوههم عن تعاليمها ويقعون في المعصية. ولكنَّ الرب بدَّد شكوكها بقوله إنَّه قد أعدَّ للبشر التوبة والغفران قبل خلقهم، وهيَّأ لهم سُبل تصحيح سلوكهم، كما وأنَّه قد أعدَّ الفردوس والجحيم لأجل الثواب والعقاب، وسمَّى المسيَّا من أجل تقديم الخلاص لجميع الخطأة.
تتابع بعد ذلك أعمال الخلق والتكوين وفق ترتيبها في سفر التكوين التوراتي، ولكن مع توسع وإسهاب وإدخال عناصر جديدة على القصة الأصلية. فالسماوات سبعًا طباقًا تتدرَّج من السماء الأولى التي تستند إلى الأرض عند الجهات الأربع، وحتى السماء السابعة التي تتَّصل بيدي الخالق. والأرضين سبعًا طباقًا أيضًا، يفصل كل أرض عن الأخرى خمس طبقات فرعية. ثم جعل الرب الجحيم في الجهة الشمالية من الأرض وقسَّمه إلى سبع درجات لكل درجة حصتها من الخطاة وفق ذنوبهم. وقسَّم الدرجة إلى سبع درجات لكل درجة حصتها من الخطاة وفق ذنوبهم. وقسَّم الدرجة إلى سبعة أجنحة، والجناح إلى سبعة آلاف كهف، والكهف إلى سبعة آلاف حجرة، وفي كل حجرة سبعة آلاف عقرب، لكل عقرب منها ثلاثمائة شوكة، في كل شوكة سبعة آلاف جراب، ومن كل جراب يجري سبعة أنهار من السم، إذا مسَّت قطرة منه جسم إنسان تفجَّرت أشلاؤه. وهناك أنهارٌ من حمم تجري في كل مكان، وأنهارٌ من قطران وإسفلتٌ تغلي وتضطرم. وهناك خمسة أنواعٍ من النيران وقودها قطعٌ من الفحم بحجم الجبال، وهناك ملائكة العقاب موزعون في كل مكان.
وجعل الفردوس في الجهة الشرقية من الأرض، وقسَّمه إلى سبع درجات لكل درجة حصتها من الصالحين وفق صلاحهم. وجعل له بوابتين عليهما ألوف من ملائكة الرحمة. فإذا وصل واحد من أهل الجنة إلى البوابة، تقدَّم منه الملائكة فَنَضَوا عنه حُلة القبر وألبسوه عباءة من سحاب المجد، ووضعوا على رأسه إكليلًا من لآلئ وأحجار كريمة، وفي يده سبعة أغصان تفوح بأطيب روائح الجنة، ثم اقتادوه إلى مكان ربيع دائم وأنهار جارية من لبن وخمر وعسل. هناك شجرة الحياة التي تُثمر سبعة عشر نوعًا لكل نوع مذاقٌ ورائحةٌ خاصة، وتهب على الشجرة نسائم تحمل عبقها إلى أنحاء الفردوس جميعها، والتي يتوزَّع فيها ملائكة يُغنون بأعذب الأصوات، وليس في المكان نورٌ يأتيه من خارجه، لأنَّ نوره مُستمَدٌّ من ضياء وجوه المؤمنين الذين تحوَّلت هيئاتهم فصار أقبحهم يُضاهي يوسف الحسن والجمال. وفي كل يوم يمرُّ أهل الفردوس بأربعة تحوُّلات، في الصباح يستيقظ واحدهم طفلًا ليصير يافعًا عند الضحى فرجلًا ناضجًا عند الظهيرة ليعود شيخًا مع المغيب، وبذلك يتمتَّع ساكن الجنة بما يقدمه للإنسان كل طور من أطوار الحياة من متع وبما له من خصائص إيجابية.
بعد أن انتهى الرب من خلق السماوات وملائكتها والأرض وكائناتها، جاء دور الإنسان. وهنا يستطلع الرب رأي رؤساء الملائكة فيما هو مُقدم عليه، فتأتي مشورتهم في غير صالح الإنسان، ورغم أنَّ الرب لم يُطلعهم إلا على نذر يسير مما وصل إليه علمه بشأن طبيعة المخلوق الجديد، فقد تنبَّأ بعضهم أنَّه سيكون ممتلئًا بالغش والخداع ميالًا إلى النزاع والقتال. ثم ينتهي الحوار بقول الرب لملائكته: ما نفعُ وليمةٍ مُعدَّة بعناية فيها كل الطيبات وما من ضيف يتمتَّع بها؟ فيجيب الملائكة ليكُن اسمك ممجدًا في الأرض كلها ولتأتِ مشيئتك بما تراه مناسبًا.
مدَّ الرب يده واغترف من جهات الأرض الأربع أربع قبضات من التراب فعجنها وسواها إنسانًا. فجاء آدم صنعة يد الخالق على عكس بقية المخلوقات ومظاهر الكون والطبيعة التي ظهرت بكلمة فمه، وذلك تكريمًا له وإعلاءً لشأنه، ثم نفخ الرب في أنف آدم من روحه الأزلية فصار نفسًا حيَّة. وبذلك غدا الإنسان أول خلق الرب في ترتيب الظهور بدل أن يكون الأخير، باعتبار ما لروحه من قِدَمٍ هو قِدَم الروح الإلهية. ومع خلق روح آدم خلق الرب أرواح البشر المتسلسلين من صلبه إلى آخِر الأزمان، وحفظها في مكان خاص من السماء السابعة، فمن مكانها سوف تهبط لتحل في الأجسام المخلوقة في الأرحام. وسيكون إذا حملت امرأة من نساء الأرض، جاءها ملاك الليل فأتي بحَمْلها الذي لم تدب فيه الروح بعد إلى حضرة الرب ليُقرِّر للكائن الجديد كل صفاته وخصائصه، عدا تلك المُتعلِّقة بالخير والشر والتي تُترك لخياره الحر في المستقبل، ثم يأمر بعد ذلك خازن الأرواح أن يأتيه بالروح التي اسمها كذا، فيأتيه بها وتُؤمر أن تدخل في الحَمْل. ولكن الروح تسجد لخالقها وتتوسَّل إليه أن يتركها في حال القداسة الذي تعيش ويعفيها من النزول إلى الأرض. فيجيبها ربها إنَّ المكان الذي ستمضي إليه أفضل من مكانها هذا، فتُذعن الروح. بعد ذلك يأخذها ملاكٌ فيطوف بها ويطلعها على الفردوس ويقول لها إنَّ مأواها سيكون هنا إذا عملت صالحًا، ثمَّ يُطلعها على الجحيم ويقول لها إنَّ مأواها سيكون هنا إذا أساءت، ثمَّ يجول بها أرجاء الأرض فيُريها أين ستولد وأين ستعيش وأين ستموت وتدفن، بعد ذلك يُعيدها إلى الرحم. وبعد تسعة أشهر يأتيها الملاك نفسه ليقول إنَّ وقت خروجها قد حان، فتتمنَّع الروح وتقاوم، فيقول لها: لم يكن لكِ خيار في خلقك، ولن يكون لكِ خيار في ولادتكِ ولا في موتكِ ثم مثولكِ أمام الملك القدوس لتحاسبي على ما قدمت يداكِ. وعندما تمعن الروح في المقاومة ينقف الملاك الجنين على أنفه ويدفع به خارجًا وقد نسي ما رأته روحه وما تعلَّمته.
لقد خرج آدم من يد الخالق إنسانًا تام التكوين في العشرين من عمره، كاملًا في مواصفاته الجسدية والخلقية، فأسكنه الرب في الجنة التي غرسها في عدن شرقًا ليحفظها ويرعاها، لا بواسطة عمله الجسدي، بل من خلال دراسته للتوراة والتزامه وصايا ربه الأخلاقية، ولكي يثبت الرب لملائكته تفوق آدم عليهم، فقد جمع حيوانات الأرض وعرضها عليهم زوجًا زوجًا، لينبئوه بأسمائها ولكنَّهم عجزوا، ثم عرضها على آدم بعد أن علَّمه أسماءها وحيًا، فسمَّاها آدم بأسمائها. فلقد كان آدم نبيًّا وحكمته من حكمة الأنبياء. ونُلاحظ هنا الإضافة المتميزة التي قدَّمها كاتب النص، والتي تتمثَّل في عنصرين: الأول تحدي الرب للملائكة أن ينبئوه بأسماء كائنات الأرض، والثاني تعليمه الأسماء لآدم وحيًا قبل أن يدعوه إلى عرض علمه على الملائكة وإثبات تفوقه عليهم. وهذان العنصران غائبان عن القصة التوراتية، حيث نقرأ في سفر التكوين، ٢: ١٩–٢٠: «وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها. فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية.»
عقب ذلك أمر الرب كل الملائكة أن يسجدوا لآدم فعلوا وعلى رأسهم ميخائيل، الذي كان أول الساجدين لكي يضرب مثلًا للآخرين في الطاعة والخضوع للأمر الإلهي. ولكن الملاك الرئيس ساتان الذي أضمر الغيرة والحسد لآدم، رفض السجود قائلًا: لقد خلقتنا من ألَقِك وبهائك فكيف تأمرنا أن ننطرح أمام من خلقته من تراب الأرض. فأجابه الرب: ومع ذلك فإنَّ تراب الأرض هذا يفوقك حكمةً وفهمًا. وهنا تدخَّل ميخائيل وحثَّ ساتان على الانصياع قائلًا: إذا لم تُبجِّل آدم وتخضع له، عليك أن تتحمَّل عواقب غضب الرب. فأجابه ساتان: إذا صبَّ غضبه عليَّ سأرفع عرشي فوق نجوم السماء وأغدو ندًّا للعلي. لمَّا سمع الرب ذلك منه أمسك به ورماه خارج دائرة السماء فهوى باتجاه الأرض، وتبعه حشد كبير من الملائكة الذين شجعهم تمرده على إظهار ما كتموه في أنفسهم من حسدٍ لآدم ورفضٍ لسموه عليهم، ومنذ تلك اللحظة صارت عداوة بين الشيطان والإنسان.
يتابع الرب خطته في خلق الجنس البشري، فقد رمى سُباتًا على آدم وأخذ من أضلاعه واحدًا صنع منه المرأة حواء. وكان لآدم وجهان قبل خلق المرأة فأعطى الرب واحدًا للمرأة وترك له الآخر، ثم قال لهما أن يأكلا من كل شجر الجنة عدا شجرة المعرفة لأنَّهما يوم يأكلان منها أو حتى يمسانها يموتان. وكانت شجرة المعرفة تحجب الطريق إلى شجرة الحياة القائمة في وسط الفردوس. وكان الأفعوان، أمير حيوانات البرية، صاحب حيلةٍ وذكاءٍ ودهاء وكان يمشي على ساقين منتصب القامة مثل الإنسان، ويُماثله في كثير من خصائصه وصفاته. فحسد الأفعوان الإنسان وتمنَّى موته، فتسلَّل إلى الجنة واقترب من المرأة التي كانت تتمشَّى عند شجرة المعرفة وقال لها: أحقًّا قال الرب لا تأكلا من هذه الشجرة ولا تمساها كي لا تموتا؟ فقالت: نعم. فدفعها الأفعوان إلى جذع الشجرة فتمسَّكت به، وقال: لقد مسست الشجرة ولم يصبكِ ضرٌّ كذلك الأكل منها، لقد أكل الرب من ثمر هذه الشجرة قبل أن يخلق العالم، ولذا قد حرَّمها عليكما حتى لا تعمدا إلى خلق عوالم أخرى وتصيرا مثل الآلهة، ثم مدَّ يده وأكل وأعطى المرأة فأكلت ثم مضت إلى زوجها فأطعمته وهو لا يدري أنَّه قد تناول من الشجرة المحرمة.
يتابع النص بعد ذلك سرد تنويعاته الخاصة على خاتمة القصة التوراتية، التي تتضمَّن عقاب الإنسان وطرده إلى الأرض التي جُبِل منها ليتعب فيها ويكد ويأكل بعرق جبينه، حتى يحين موعد اليوم الذي يُقدِّم فيه كشفًا كاملًا بأعماله أمام خالقه. وقد جرى طرد آدم من الفردوس بعد اثنتي عشرة ساعة من خلقه، في الساعة الأولى من النهار السادس عزم الرب على خلق الإنسان. وفي الثانية تشاور مع ملائكته في الأمر. وفي الثالثة قبض أربع قبضات من تراب الأرض. وفي الرابعة عجن الطين وشكَّله جسدًا. وفي الخامسة كسا الجسد جلدًا، وفي السادسة اكتمل آدم جسدًا بلا روح. وفي السابعة نفخ في أنفه من روحه. وفي الثامنة أسكنه الجنة. وفي التاسعة أمره ألَّا يقرب الشجرة. وفي العاشرة عصى أمر ربه. وفي الحادية عشرة حاكمه. وفي الثانية عشرة طرده إلى الأرض.
خلاصة
لقد میَّز الفكر المنحول نفسه عن الأيديولوجيا التقليدية عندما أدخل فكرة الشيطان الكوني على الرؤيا التوراتية للتاريخ. ذلك أنَّ الشيطان المُجسِّد لمبدأ الشر هو الذي يُعطي الإله الأوحد صفة الخير المحض، والخير المحض لا يُمكن أن يُنتج الشر أو يكون مسئولًا عن وجوده. فالاتجاه الراديكالي في الفكر الجديد ينسج على منوال الفكر الزرادشتي في تصوُّره للشر على أنَّه نتاج للحرية التي زرعها الله في خلقه من الملائكة والناس، فلقد قادت الحرية إلى عصيان إبليس عن سابق قصد وتصميم ومعرفة بعواقب العصيان، كما قادت الإنسان الأول إلى الخطأ عن غفلة منه وسذاجة. ولسوف يُتابع إبليس عصيانه المتعمَّد إلى آخر الأزمان، ويُمتحن الإنسان في عالم تتداوله قوة الشيطان المدمرة ويد الرحمن الممدودة دومًا للرحمة والخلاص.
هذه الجدلية بين الرحمن والشيطان على مستوى الكون، وما يتصل بها من جدلية الخير والشر في النفوس الواعية، ما إن تتأسَّس في الأيديولوجيا الدينية حتى تنتقل بها من مفهوم التاريخ المفتوح إلى مفهوم التاريخ الدينامي. فالرحمن الذي سمح بوجود الشر لأنَّه أراد الحرية لخلقه، لن يكون راضيًا عنه بل سيجهد للقضاء عليه ضمن مخططه الأصلي القائم على الحرية. سوف يُتابع الشيطان خياره البدئي دون تدخُّل من الرحمن القادر على محقه متى شاء، أمَّا الإنسان فسيُتابع مسيرته الحرة دون خيار بدئي، لأنَّه لا يُخطئ عن عمد وقصد في معارضة المشيئة الإلهية مثلما فعل الشيطان، بل عن جهل منه وحسن نية، وهو قادر دومًا على إتيان الخير ومقاومة الشر. هذا الصراع على المستوى الميتافيزيكي وعلى مستوى الحياة النفسية والمجتمعية، سوف يقود الزمن إلى نهايته التي ستشهد اندحار الشيطان بعد أن تطغى عناصر الخير على عناصر الشر عبر الفترة الوسيطة من التاريخ، ويعود الوجود المادي والإنسان إلى حالة الكمال الأولى. إنَّ المُخلِّص المنتظر ليس إلَّا صورة عن ضمير الجماعة الإنسانية بأسرها، وليس انتصاره على الشيطان في آخر الأزمان إلَّا تعبيرًا عن نجاح الإنسانية في تنقية نفسها واستعادة صورة آدم قبل سقوطه وانقياده للشيطان. إنَّ ظهور الرب نفسه كمُخلِّص على هيئة إنسان، أو إرساله للمسيَّا الذي أعدَّه للمهمة منذ البدء، في هيئة إنسان، هو دلالة رمزية سيكولوجية تفيض بالرغبة في انتصار الروح الإنسانية وبلوغها كمال البدايات. لهذا يُدعى المسيَّا المُخلِّص بابن الإنسان مثلما يُدعى بابن الله أيضًا، فهو الإنسان الكامل، والمثال الآدمي الأسمى الذي بقي أمينًا لجوهره كأعلى المخلوقات مرتبة. وبنوته لله مثل بنوة آدم، كلاهما من روح الخالق. ولكن بينما ترتَّب على آدم أن يُعاني وطأة التاريخ وجوره ليُطهِّر نفسه من عناصر الشر، فإنَّ نموذجه الكامل قد بقي مع الله في كمال البدايات، في انتظار الساعة التي يصل فيها الزمن إلى النهايات.
لم يُحدث الفكر المنحول انقلابًا جوهريًّا في الفكر اليهودي الذي تابع مسيرته التلمودية غير آبهٍ لما يجري حوله، ولكن هذا الفكر قد قدَّم الخميرة التي ستتفاعل في عجينة الفكر المسيحي خلال القرون الأولى للميلاد، والذي سيتجاوز الفكر التلمودي والفكر المنحول على حد سواء نحو آفاق إنسانية رحبة، لم يكن الأول مؤهَّلًا لارتيادها بسبب تركته التوراتية الثقيلة، مثلما لم يكن الثاني بسبب تقصيره عن تقديم بديل إيديولوجي متسق ومتكامل.
قبل أن ننتقل إلى معالجة المفهوم المسيحي للثنوية وللتاريخ، سوف نتوقَّف في الفصل القادم عند الفكر الغنوصي، الذي قدَّم خلال القرون الأولى للميلاد أهم نقد جذري للمعتقد التوراتي، معتبرًا إياه جملة وتفصيلًا من نواتج عبادة الشيطان الذي هو يهوه بالذات، إله اليهود.
وإلى ترجمة R. H. Charles لمقاطع من السفر في: The Other Bible.
والمرجع أعلاه لا يعطينا معلومات عن تاريخ إعداد هاتين الترجمتين ولا عن اللغة التي تمت ترجمتها عنها. ولكني أرجح أنهما ترجمتا في الأندلس على يد بعض أحبار اليهود.
The Old Testament Pseudepigrapha, Vol. 2, p. 35 ff.
The Old Testament Pseudepigrapha: vol. 1, p. 782 ff.
وهناك ترجمة جيدة عن الفرنسية يمكن للقارئ الاطلاع عليها وهي ترجمة موسى ديب الخوري لكتاب أندريه دوبون سومر: «التوراة: كتابات ما بين العهدين»، إصدار دار الطليعة الجديدة، دمشق، ١٩٩٨.
The Old Testament Pseudepigrapha.