العاطفة الأبوية عند نابوليون
لم يكن سلوك جوزفين الماضي مؤثرًا في حب نابوليون لابنها أوجين؛ فإنَّه كان يُريد خير هذا الفتى ويُعد خير أب له، بدليل ما كان يسديه من النصائح إليه، فقد كتب أيام حملة مصر يقول له: «سر دائمًا مع الجنود ونم تحت الخيمة، ولا تركن إلى العرب، وأكتب إليَّ في كل فرصة، أنا أحبك.» وكتب إليه كذلك: «لا تنم مكشوف العينين في مهب الهواء … أقبِّلك.» وكان أوجين يشعر بذاك الحنو ويُقابله بالإكرام والإخلاص بدليل ما قال نابوليون نفسه: «إن أوجين كان إذا سمع صوت مدفع أسرع ليرى ما جرى، وإذا كان أمامنا حفرة فهو الذي يمد يده إليَّ.» وكان نابوليون يقول: «إن أوجين يستحق أن يكون قدوة لجميع الشبان الذين في سنه.»
على أن هذا الحنوَّ لم يكن يمنع نابوليون من إرشاد أوجين بكلمات شديدة إذا اقتضت الخدمة، ولكنه كان يختم كلامه على الغالب بعبارة تُخَفِّفُ من تلك الشدة، ولما عيَّنه في إيطاليا كتب إليه: «إنَّ قلبي لا يعرف أحدًا أحب إليه منك»، وكتب أيضًا: «يا بُنيَّ إني مُرسلٌ إليك سيفًا كنت أتقلده في حرب إيطاليا، فعسى أن يكون طالعه حسنًا عليك.»
ولما أراد نابوليون أن يعقد قران أوجين وابنة ملك بافاريا بذل كل هِمَّةٍ في إزالة المصاعب من سبيله وتبنَّاه على وجه رسمي، وبعد عقد الزواج قال نابوليون للعروس: «لا شيء من المشاغل التي تُحيق بي أحبَّ إليَّ مما يضمن سعادة ولديَّ، فكوني واثقة يا أوغستا أنَّ لك في قلبي من الحنوِّ ما في قلب الأب لابنته، لا تغفلي مدراة صحتك في السفر؛ لأنِّي لا أُريد أن أراك مريضة، عليكما منِّي البركة الأبوية.»
وكتب إليها بعد أن صارت حاملًا: «يا ابنتي إنك على صواب في اعتمادك على حبِّي وعطفي، فلا تهملي مُراعاة حالتك الحاضرة، وابذلي جهدك حتى لا تأتينا ببنت، ويمكنني أن أصف لك الدواء الذي ينفعك ولكنك لا تصدقيني، إنَّ الدواء هو أن تشربي كل يوم قليلًا من الخمرة الصافية.»
ولما ولدت بنتًا كتب إلى أوجين يقول: «إذا كانت أوغستا مكدَّرة الصفاء؛ لأنها ولدت بنتًا، فقل لها إن التي تبدأ ببنت تلد اثني عشر ولدًا.» ولو شئنا أن نذكر المكاتيب التي من هذا الطراز لاستغرقت عشرات الصفحات، فحسبنا ما تقدم دليلًا على شعور نابوليون وحُبِّه لابن جوزفين. وإن المرء ليدهش من اهتمام نابوليون بأكثر أمور أهله وذويه ومن بقاء فكره مُطلقًا حرًّا، مع أن بعض أشغاله في ذاك الوقت كان يستغرق أوقات أعلى الرجال هِمَّة وأمضاهم عزيمة وأسدَّهم رأيًّا.
وكان نابوليون في ذاك الوقت إمبراطورًا للفرنسويين، ونجم سعده يتلالأ في سماء العالم، وجوزفين ممتعة بمجده على ذاك العرش الأسني، إلا أنها تجاوزت حدَّ الصواب والحكمة في بذل المال، وكثيرًا ما شكا الإمبراطور نابوليون من إسرافها.
قالت الآنسة أفريلون التي كانت في حاشيتها: «إنَّ الإمبراطور كان ينحي باللائمة على الإمبراطورة؛ لأنها لم تكن تحسب حسابًا للمال، ولم تكن تجد من الشجاعة ما يساعدها على رفض أي تاجر يعرض عليها بضاعته.»
وقال كونستان في مذكراته: «إنَّ تبذير الإمبراطورة جوزفين كان في كلِّ آنٍ مدعاة لتكدير صفاء الإمبراطور.»
وحدث يومًا أن الإمبراطور علم بوجود عجز مالي قدره مليون فرنك في ميزانية جُوزفين فغضب قائلًا: «هذا كله لقصاصات من الأقمشة! … لتركها النصابين المحتالين يبتزُّون الأموال! … إنه لمن الواجب أن أقفل بابي دون كل تاجر.»
ولقد أثرت أعمال جوزفين في أحكام نابوليون من وجه عام على السيِّدات بدليل قوله يومًا في مجلس الدولة: «إن النساء لا يشتغلن إلا بالملاهي والملابس، أفليس من الواجب أن يُضاف على القانون أنَّ المرأة لا يحق لها أن تقابل من لا يريده زوجها؟»
وليس في وسعنا أن ننبئ بما كان ممكن الحدوث لو اجتنبت جوزفين قِلَّة الاكتراث ثم تنزهت عن ارتكاب الهفوات والفضائح وسارت على النهج القويم في نفقتها، فقد كان من الممكن المحتمل أن تتوثق عرى الحب بينها وبين نابوليون، وألا ينقلب ذاك الحب إلى صداقة ذات شكل خاص ليس بينه وبين الحب الحقيقي مُضارعة أو مُشاكلة، ولكن شاء حظ جوزفين وحظ نابوليون الذي كان يحلم بالعيشة البيتية الخالصة أن يجري ما جرى، فيصبح قلب ذاك البطل هدفًا لحبٍّ آخر، وإن إمبراطورًا عظيمًا وفاتحًا ملأ ذكره البلدان وسجد له أرباب التيجان لا يعدم فتيات من الحسان يتزلَّفن إليه ويضعن جمالهنَّ بين يديه، ومما لا ريب فيه أنه لقي فتيات من هذا الطراز فأحبهن واتَّخذ بعضهن خليلات، وربما أراد — كما قال أحد المؤرخين — أن يخبر نفسه في فتح القلوب كما خبرها في فتح البلدان، ولكن هناك أمرًا يدلنا على أثر تربيته في حضن أسرته، وهو أنه لم يفعل كما فعل هنري الرابع، أو فرنسوا الأول، أو لويس الرابع عشر، أو لويس الخامس عشر، الذين وضعوا الخليلات تحت أنظار الحليلات، بل كان يفرغ الجهد في إخفاء علاقته بهنَّ عن امرأته الشرعية وحاشيته والسواد الأعظم من الفرنسويين، وكانت تتعالى نفسه عن قبول أي توسط من أية امرأة سواء كان في السياسة أو توزيع الوظائف والمكافآت.
وكانت جوزفين تشتدُّ غيرةً عليه وحبًّا له كلما زاد مجده وسعد جدُّه، فكأنما صوت سري كان يصرخ في آذانها ويحذرها نتيجة سلوكها الماضي، ولقد أظهرت أشدَّ الغيرة على نابوليون حين رأته يومًا يُلاطف مُغنية من الأوبرا اسمها مدام برانشو، مع أنها كانت عاطلة من الجمال ليس لها من ضروب الجاذبية إلا صوتها المطرب البديع.
وقيل إن قلبه مال إلى فتاة أخرى بارعة الجمال لطيفة الحديث كثيرة اللطائف اسمها «مدموازيل جورج»، إحدى الممثلات في مسرح «الكوميدي فرنسيز»، وأنه التفت بعدئذٍ إلى سيدات الشرف والقارئات الخصيصات في القصر الإمبراطوري كمدام فاندي وكانت جميلة ظريفة، على أنَّ حب نابوليون لها كان قصير الأمد، ثم مدام جازاني ولم تستمر علاقته بها أكثر من سنة.
ولما سافر نابوليون إلى بولونيا وفتحها سنة ١٨٠٧ استولى القلق الشديد على جوزفين؛ لأن شهرة الجمال البولوني كانت تملأ فرنسا في ذاك الوقت؛ ولأنها كانت تعلم أن قلب زوجها لم يكن كما عَهِدته في أوائل عهدهما، فأخذت تكتب إلى نابوليون وتطلب إليه بإلحاح أن يأذن لها في السفر إليه، فسبحان من يُغيِّر ولا يتغيَّر!
إن تلك المرأة التي كانت تختلق ألف حيلة لتبقى في باريس أيام كان زوجها يحرز النصر تلو النصر في إيطاليا أصبحت تلح على ذاك الزوج وتتضرع إليه أن يسمح لها بالسفر إليه، وروت الدوقة أبرانتيز أن «جوزفين كانت تستطلع بختها في ورق اللعب لترى هل يدل الورق على السفر أو عدمه.»
أما نابوليون فقد كان في بولونيا كما خافت جوزفين يُغازل البولونيات الجميلات ولا يرتاح إلى قدومها، وكان يحاول تخفيف غيرتها وإزالة قلقها بإرسال الكتب اللطيفة الدَّالة على الوداد والحب، ثم يُقدِّم لها أسبابًا عديدة ليحول دون قدومها إليه، ومما كتبه إليها قوله: «إنَّه كلما عظم المرء زال استقلال إرادته وبات أسير الحوادث والأحوال»، ومنه: «أنتنَّ النساء لا تعرفن حواجز ولا موانع، فكل ما تتطلبنه يجب أن يتم، أما أنا فخاضع لطبيعة الأمور»، وقِس على هذا القول كثيرًا من طرازه.
فلو كانت جوزفين تسمع مثل هذا التعلل من نابوليون سنة ١٧٩٦ لطفح قلبها سرورًا وفرحًا؛ لأن كل ما كانت ترجوه وتصبو إليه أن يتركها بعيدة عنه تتمتع بعظمته ومجده في محافل باريس، وتُغازل من يميل إليه قلبها من الشُّبان، أما في سنة ١٨٠٦ فإن تلك الأعذار كانت تزيد شكوكها وتُضرم نار غيرتها، فتتصور نابوليون في صدور المحافل والأنظار شاخصة إليه والحسان مُتزلفَّات بين يديه. والواقع أن نابوليون لم يعرف لذَّة الحب الصافي المُتبادل إلا في بولونيا حيث قضى مدة من أطيب أيام حياته مع مدام واليسكا، وحكايته مع هذه البولونية الجميلة أن أشراف بولونيا أقاموا له مرقصًا كبيرًا حضرته زهرة الشبيبة من أكابر بولونيا، فلحظ نابوليون إبان المرقص فتاة جميلة ذات قوام معتدل وبياض ناصع ووجه صبوح تظهر عليه مسحة خفيفة من الحزن الداخلي، وشعر أشقر يسترسل كخيوط من ذهب، ولقد وصفها نابوليون نفسه بعد معرفتها بأنها مَلَكٌ يُضارع جمال نفسها جمال جسمها.
وفي اليوم التالي لذاك المرقص الكبير كان نابوليون مُضطربًا — كما قال كونستان في مذكراته — تارة يقعد وتارة يمشي، ثم دعا رجلًا من كبار حاشيته، ورغب إليه أن يذهب في مهمة إلى مدام واليسكا، فرفضت أولًا أن تقبل ما عرضه عليها إمَّا تَكَبُّرًا وأنفة، وإما دلالًا واعتزازًا كما تفعل ذوات الحسن والجمال في مثل تلك الحال.
على أنَّ نابوليون لم يقنط بل واصل الإلحاح وتمكَّن بعد قليل من إقناعها بالمجيء، فوعدته بالحضور فيما بين الساعة العاشرة والحادية عشرة مساء.
قال كونستان في «مذكراته»: «إن نابوليون كان قُبيل تلك الساعة كتلميذ ضرب أول ميعاد لحبيبته، فأخذ قلبه يخفق وصبره ينفد، وكان يسأل دائمًا عن الساعة، وإنه لعلى تلك الحال إذا بالمحبوبة البولونية قادمة إليه صفراء صامتة مُبَلَّلة الجفون بالدموع»، فصرفت الليلة الأولى — على رواية كونستان — في كشف أسرارها القلبية وأكدارها البيتية. ويظهر أن أهلها زفُّوها إلى رجلٍ من الأشراف طاعن في السن شديد الغيرة مُصِرٌّ على سُنَّة التضييق في عاداته وتقاليده، ولا ريب في أنها ما أفاضت في هذا الموضوع إلا لتظهر وجوه عذرها في طلب العزاء بين ذراعي الحبيب، ونحو الساعة الثانية بعد نصف الليل تركت نابوليون وعيناها تذرفان الدموع، ثم بقيت تُوالي زياراتها إلى أن سافر الإمبراطور لاحقًا بجيشه وعازمًا على غزو روسيا.
وفي تلك الأيام تعدَّدت مكاتيب جوزفين في طلب السماح بالسفر إلى مركز نابوليون، فكان يُجيبها ناصحًا بالعدول عن هذا الغرض، ويحاول إقناعها بأسباب أخصها بُعد المسافة وسوء حالة الجو والمرور ببلدان معادية له وما شاكلها، ولكن تلك الأقوال لم تُخَفِّف من رغبة جوزفين في السفر، بل كانت على العكس تفطر قلبها وتحرج صدرها، وكثيرًا ما كانت تردد الزفرات، وتذرف العبرات حتى بلغ نابوليون خبر حُزنها فكتب إليها يقول: «أطلب منك مشددًا أن تُظهري القوة والحزم، لقد أخبروني أنك تبكين على الدوام فأفٍّ أفٍّ! … ما أقبح عملك! إن الإمبراطورة يجب عليها أن تكون ذات قلب شديد … أنا لا أريد أن تبكي أو تحزني وتقلقي، بل أود أن تكوني على الدوام لطيفة سعيدة، فعودي إلى باريس وابقي فيها طلقة المحيا باسمة الثغر.»
أما قولك: «إنِّي اتخذتُ لي زوجًا لأكون معه»، فقد أضحكني جدا؛ لأني أظن — على جهلي — أن المرأة لرجلها والرجل للوطن والمجد …
تلك حالة نابوليون في عهد الهفوات الزوجية، على أنَّه إذا كان يحق لجوزفين أن تشكو وتتألم كزوجة، فإنها تجد كإمبراطورة ما يعزيها في تاريخ ملكات فرنسا، وحسبنا ما فعله لويس الخامس عشر من إعلاء مراتب الحظيَّات في القصر الملكي نفسه وما أتاه من الفضائح، أجل إن خيانة إنسان لا تسوغ خيانة آخر، ولكن للطبيعة البشرية سُلطانًا قويا في كثير من الأحيان، وهو يعظم ويقوى كلما شعر المرء بحاجة إلى السلوان والعزاء لهمٍّ أصابه في بيته وخيبةٍ نالته من محبوبه، وأفضل ما قيل عن نابوليون في أمر الحب أنه أخطأ، ولكنه كان من أشد المخطئين ميلًا إلى التستر والمداراة والرغبة في تخفيف ألم تلك التي جرحها هذا الخطأ.
ولقد ثبت بالبراهين الدامغة أنَّ حب مدام واليسكا لنابوليون استمرَّ بعد سفره إلى مُعسكر الجيش، وأنها لم تُزعج نابوليون سحابة ملكه بشيء، بل كانت ترعى جانبه وتختار العُزلة والتستُّر، وما كان سرور نابوليون بها من أجل جمالها فقط، بل كان هناك سبب آخر أحدث تأثيرًا عظيمًا في الطلاق، وهو أنها حملت من نابوليون، فاقتنع حينئذٍ بأنَّه قادر على الاستيلاد بعد أن كان يشك في هذا الأمر، ولا يدري أكان سبب العقم منه أم من جوزفين.
ولما اعتزل نابوليون في جزيرة ألب ذهبت مدام واليسكا إلى الجزيرة لتُعزِّيه وتروِّح قلبه، في حين أنَّ العالم كان يعتقد أن نجم نابوليون مال إلى الأفول، فلا عجب إذا قال فيها البطل الكورسيكي أنها مَلَكٌ كريمٌ لا يُشبه جمال نفسها إلَّا جمال جسمها.