تقرير الطلاق
رأينا فيما تقدَّم كيف بَدَت فكرة الطلاق لنابوليون في جهة العريش، بعد وُرُود الأخبار الفاضحة عن سلوك جوزفين، ونحن مُظهرون هنا كيف قويت ونفذت تلك الفكرة بقوة الحوادث نفسها.
إنَّ أمر الطلاق بين نابوليون وجوزفين صدر بعد إنشاء حكومة «القنصلية» وبعد تعيين نابوليون قُنصلًا أول سحابة العمر وبعد ارتقائه إلى العرش الإمبراطوري وسؤدده العظيم. فليفكِّر القارئ في إمبراطور رفع رايته فوق ثلاثين عاصمة — كما قال الشاعر — وأحرز النصر في كل قطر، ورأى ذوي التيجان يتزلَّفون إليه في كل مكان، وأبصر نفسه قادرًا على إحداث ولي عهد! ألا يميل به الطمع الإنساني الغلَّاب إلى حفظ ذُريته؟
وزد على ما تقدم أنَّ السواد الأعظم من الأمة الفرنسوية كان يخاف رجوع الفظائع الداخلية والأخطار الخارجية بعد نابوليون، ويطلب دوام سلالته حتى لا يقوم النِّزاع على الملك يوم يلفظ تلك الروح الكبيرة، وكان جوزيف نفسه أخو نابوليون يحضُّه على الطلاق وعقد زواج آخر لأجل فرنسا.
ومع ذاك كله فإنَّ نابوليون قاوم فكرة الطلاق عدَّة سنين، وكانت جُوزفين تدسُّ الدسائس لدى جُوزيف لحمله على إقناع نابوليون بالعدول نهائيًّا عن الطلاق، وقد قالت له يومًا: «إن تقرير نظام الإرث يحمل نابوليون على الطلاق والزواج مرة أُخرى ليُرزق ولدًا، والطلاق لا يُبقي لك أملًا بالصعود إلى عرش فرنسا»، ولكن جوزيف لم يقتنع.
وفي سنة ١٨٠٤ كان نابوليون نفسه لا يزال مُتردِّدًا في الأمر بدليل؛ قوله حين ألحُّوا عليه في طلب الطلاق أنَّه «ليس من العدل أن أطلق، نعم لقد يكون من مصلحتي ومصلحة النظام أن أتزوج مرة أخرى، ولكن كيف تريدون أن أترك تلك المرأة — يعني جوزفين — طلبًا للعظمة؟! لا لا! إن الأمر فوق طاقتي، وإن ضلوعي لتنطوي على قلب إنسان، وإنَّ أُمي ليست نَمِرة، فلا أريد أن أقذف بزوجتي إلى الشقاء والبؤس.»
وأظهر نابوليون هذا الشعور الشريف وأقام عليه خمس سنوات توالت فيها المؤثرات حتى اقتنع بوجوب الطلاق وقرَّره في ١٥ ديسمبر سنة ١٨٠٩.
ولمَّا صحَّت عزيمة نابوليون على الطلاق واقتنع بوجوبه، أراد أن يبلغ خبره الأليم إلى جوزفين على يد الكونت لافاليت زوج حفيدتها، فقال له: «أنا لا أُؤمل أن أُرزق ولدًا منها ولم أبلغ من العمر ما يحول دون حصولي على ولد، وإنَّ راحة فرنسا لتقتضي أن أتَّخِذ لي زوجة أُخري، فأنت زوج حفيدتها وهي تُجِلُّك وتحترمك، فهل لك أن تُعِدَّ فكرها لقبول الحالة الجديدة التي أوجبتها المقادير؟»
فاعتذر الكونت والتمس من الإمبراطور أن يُنيط تلك المهمة بغيره، وبعد التفكير رأى نابوليون أن يتدرج في إبلاغها الخبر الأليم بلسانه، فأخذ أولًا يوضح لها الضرورات التي تُحيق به، قال كونستان في «مذكراته»: «إن الإمبراطور توسَّل إلي غرضه بألطف الوسائل، وبالغ في مُداراتها ومراعاتها حتى أفضى بها إلى قبول تلك التضحية الأليمة»، ولقد تباينت أقوال الخصوم المُتحاملين على نابوليون في شأن هذا الطلاق، فقال بعضهم إن جوزفين خاصمت نابوليون عليه. ولكن الشهود العدول وواضعي المذكرات الخاصة لم يذكروا ما يدلُّ على تفاقم النزاع بينهما في هذا الموضوع. وزعم آخرون أن نابوليون استعمل الشِّدَّة والقسوة حتى اضطرها إلى قبول الطلاق. على أن بقاء جوزفين في العاصمة والعلاقة الحسنة التي بقيت بينها وبين نابوليون تنفي هذا الزعم؛ إذ لو نال جوزفين من الإهانة والقسوة ما عزوه إلى نابوليون لابتعدت عن المكان الذي وقعت فيه إهانتها، ولسافرت على الأقل إلى روما حيث كان ابنها أوجين، أو إلى هولاندا حيث كانت بنتها هورتنس، فجلُّ ما يُقال أنَّ الاتفاق الذي تَمَّ بين نابوليون وجوزفين كان مُوجعًا لقلبها محرجًا لصدرها، ولكنه تمَّ أخيرًا بالتراضي وبإبقاء جوزفين عزيزة مُقيمة في منزلٍ فخم وحاصلة على مودة الإمبراطور لدى الجمهور، ومما يُؤيد هذا القول أنَّ جوزفين — نعم جوزفين نفسها — أخذت بعد شهر تهتم هي وابنتها هورتنس بأمر زواج نابوليون، وفاتحت زوجة البرنس دي مترنيخ النمسوي في أمر الأرشيدوقة ابنة إمبرطور النمسا، وليس في هذا النبأ ريب ولا شبه ريب؛ لأنه مثبت في الأوراق الرسمية التي أرسلها مترنيخ من فينا إلى سفير النمسا في باريس، ومما كتبه مترنيخ إلى السفير قوله: «إن الإمبراطورة جوزفين وملكة هولندا — أي ابنة جوزفين — خَاطَبَا مدام مترنيخ مُخاطبة صريحة في الأمر، وصاحب الجلالة الإمبراطورية — يعني إمبراطور النمسا — يودُّ أن تبقى المسألة جارية في مجرى غير رسمي، حتى يتمكن من إبلاغ مقاصده إلى الإمبراطور نابوليون بلا تزويق ولا تنميق.»
ولا نخال أحدًا يعتقد أنَّ جوزفين كانت مُجبرة على القيام بمثل ذاك المسعى، وأن قيامها به لا يدل على التراضي الذي أشرنا إليه، كما يدلُّ على اقتناعها بأن نابوليون لم يطلقها إلا رغبة منه في ولي عهد يرجوه من زواج آخر كما قال كولنكور، وهو سفير فرنسا في بطرسبورج الذي كان يسعى ليعقد زواج نابوليون مع أميرة روسية.
على أن اقتناع جوزفين وموافقتها على الطلاق لم تحل دون اضطرابها الشديد وتشنج أعصابها ساعة أبلغها نابوليون — بعد ذاك الاتفاق — أن توقيع عقد الطلاق الرسمي يتم في ١٥ ديسمبر سنة ١٨٠٩؛ قال دي بوسيه الذي حضر ذاك المشهد: «تناول الإمبراطور فنجان القهوة بعد العشاء وأبدى لنا إشارة تُفيد أنه يريد البقاء وحده مع الإمبراطورة، فخرجنا ثم سمعنا الإمبراطورة تصرخ صرخات شديدة في الردهة، فظنَّ الحاجب أنها أصيبت بضر وحاول أن يفتح الباب، فمنعته وقلت له: إن الإمبراطور لا يلبث أن يدعونا إذا رأى حاجة، وكنت ساعتئذٍ عند الباب، فتقدَّم نابوليون وفتحه بيده وقال لي: «ادخل يا بوسيه وأقفل الباب»، فدخلت فإذا الإمبراطورة مُنطرحة على السجادة وهي تشكو وتقول: «لا، لا يمكنني أن أعيش بعد هذا»، فقال لي نابوليون: «أعندك قوة تُمكِّنك من نقل الإمبراطورة إلى طبقتها الخاصَّة من طريق السلم الداخلي لنبذل لها ما تقتضيه حالتها من العناية والاهتمام؟» فحملت الإمبراطورة بمساعدة الإمبراطور بين ذراعيَّ وحمل هو مصباحًا وفتح الباب بيده، ولما وصلت إلى أوائل درجات السلم قلت للإمبراطور: «إنها ضيقة، فلا يمكنني أن أنزل بلا خطر من الوقوع»، فدعا الإمبراطور أحد الخدم ودفع إليه المصباح وحمل معي الإمبراطورة من ساقيها بكل عناية ومداراة، وحدث أنِّي خفت تلك الساعة من السقوط، فشددت بيدي على الإمبراطورة، فقالت لي بصوت خفيف: «أنت تضغطني كثيرًا …» فأدركت حينئذٍ ألا خوف على صحتها وأنها لم تفقد رُشدها دقيقة واحدة. ا.ﻫ.»
أما الإمبراطور فقد كان اضطرابه وقلقه عظيمين، وكلماته متقطعة، وعيناه مغرورقتين بالدموع، على أن هذا المشهد لم يبق أكثر من ثماني دقائق، وقد أرسل الإمبراطور يدعو طبيب القصر والملكة هورتنس — ابنة جوزفين — وكامباسريس مُستشار الإمبراطورية، ثم ذهب بنفسه ليرى حالتها فوجدها مائلة إلى الهدوء والتَّجَلُّد، وما جاء يوم ٢١ ديسمبر حتى عادت جوزفين إلى حالتها المألوفة ورأست ناديها في قصر التويليري، وبعد ثلاثة أيام كانت تحمل الخطاب الذي طلبوا إليها تلاوته أمام الإمبراطور ساعة التوقيع الرسمي، وفي مساء ١٥ ديسمبر سنة ١٨٠٩ اجتمع أعضاء الأسرة الإمبراطورية وعظماء الدولة، فوقَّع نابوليون وجوزفين أمامهم العقد الذي ألغى زواجهما، وروى موليين أن «الدموع كانت ظاهرة في جفون نابوليون.»