ولادة ملك روما
وليس في وسع قلم أن يصف ما داخل نابوليون من السرور حين علم بعد ثلاثة أشهر لزواجه أنَّ الإمبراطورة تشعر بدلائل الحمل، ولقد طفحت كأس حبوره وابتهاجه حين ولدت له ولدًا ذكرًا.
فيا لله! ما أعظم ذاك الحلم وما أجمل تحقيقه! إن ذاك الطالب الذي تعلم على نفقة الحكومة وذاك الضابط الذي كان يحرم نفسه من الجلوس في القهوة ليُساعد أمه وإخوته، سيكون له سلالة لحكم أعظم إمبراطورية!
ولكن يد الدهر ظهرت كأنها تُنازع نابوليون السعادة في تلك الساعة؛ لأن ولادة ابنه كانت صعبة أليمة حتى خاف الدكتور ديبوا «الطبيب المولد» على حياة الأم أو حياة الولد، وسأل حينئذٍ نابوليون: «بحياة أيهما نُضَحِّي إذا قضت الضرورة؟» فأجابه نابوليون بلا تردد: «لا تُفكِّر إلا في الأم.»
فلو كان الطمع الأشعبي يضرب على قلب نابوليون غشاوة كثيفة — كما قال بعض خصومه — لفضل حياة ابنه وولي عهده على حياة ماري لويز، ولكن قلب الزوج تغلب على قلب الإمبراطور في ذاك الموقف الحرج، فوضع حياة زوجته فوق حياة ابنه وفلذة كبده.
ولما ذهب نابوليون إلى غرفة التوليد ورأى عذاب الإمبراطورة أخذ بيدها وصار يُشجعها، ولكن ظهور الطفل معترضًا اقتضى عملية صعبة، ولشدة التأثر الذي أصاب نابوليون ساعة العملية ترك يد الإمبراطورة ودخل غرفة أخرى ووجهه ممتقع أصفر وفكره حائر مُضطرب، ونحو الساعة الثامنة صباحًا من ٢٠ مارس سنة ١٨١١ طارت البُشرى إلى نابوليون بنجاة الأم، فأسرع يقبلها ويضمها إلى قلبه، ثم التفت إلى الولد فإذا هو جامد لا يُبدي حراكًا، فألقى عليه نظرة الآسف الكاسف وعاد يهتم بصحة الإمبراطورة، ولكن الطفل ما لبث أن صرخ صرخة اهتزَّ لها قلب أبيه فأسرع إليه وأخذ يقبل خديه وعينيه، وكان جمهور عظيم من الباريسيين مُجتمعًا في حديقة التويلري ينتظر خبر نجاة الإمبراطورة، وصدر الأمر بإطلاق واحد وعشرين مدفعًا إذا رزق نابوليون بنتًا ومائة مدفع إذا رُزق ولدًا، فما دوى المدفع الثاني والعشرين حتى هتف الجمهور هتافًا شقَّ عنان السماء، فوقف نابوليون وراء ستار وأخذ يمتع نظره برؤية ذاك الجمع السكران بخمرة الطرب، وسالت دموع الفرح على خديه وهو لا يدري أن الدهر نوى أن لا يسمح له بعد ذاك اليوم أن يذرف دموع الفرح، وأنه قام يُريه مُقدِّمات الزوبعة الهائلة التي قذفت به إلى ما وراء الأوقيانس، حيث لفظ الروح في جزيرة جرداء محرومًا من رُؤية زوجه وابنه ومن السلطة والحرية.
أما تأثير ولادة «ملك روما» في سائر أنحاء أوروبا فقد كان عظيمًا جدًّا، وأخذ الشعراء على اختلاف الطبقات يتغنون بوصف ذاك الحادث الخطير ويهنئون نابوليون، فكانت القصائد تُنشر بكل لغة حتى اللغة اليونانية واللاتينية.
أما حياة نابوليون في بيته بعد ولادة ابنه فقد زادت رونقًا وسناء، قال منيفال في «مذكراته»: «إن نابوليون أصدر أمرًا مُطلقًا بمنع الدخول إلى مكتبه، ورجا من الإمبراطورة نفسها أن تدخل عليه بابنه بدلًا من المرضع، وكان ينتظرها عند الباب فيتناول منها ابنه وينهال عليه بالقبلات … وإذا أراد أن يُوقع تلغرافًا هامًّا مما يجب عليه أن يزن كل كلمة من كلماته، وضع ابنه على ركبتيه أو ضمه إلى صدره، وكان يتفق له أن يدع التفكير في الأمور الخطيرة وينطرح على الأرض بجانب ابنه العزيز يعمل ما يسره ويجتنب ما يُعاكسه ويلعب معه …»
وقال كونستان في «مذكراته»: «إن الإمبراطور نابوليون كان يحب ابنه أشد حب، فلا يراه مرَّة حتى يأخذه بين ذراعيه أو ينهض به من الأرض ثم يعيده إليها، وكان يسر أبلغ سرور حين يراه ضاحكًا مبتهجًا، وكثيرًا ما كان يُعاكسه ويقف به أمام مرآة ثم يُكشِّر له ويبدي من الإشارات والحركات ما كان يجعل الطفل يغرب في الضحك حتى يذرف دموع السرور، وإذا جلس لتناول الطعام أجلسه على ركبتيه وغمس أصبعه بالمرق ولطخ به وجهه.»
آمل أن تخبريني في وقت قريب بظهور أسنانه الأربع الأخيرة، أما المرضع فقد منحتها كل ما طلبت …
ولما تلقى رسم ابنه قُبيل معركة موسكوفا أظهر ارتياحًا كبيرًا إلى وصوله وشكر للإمبراطورة إرساله، ثم وقف به عند باب سرادقه، فأخذ يتأمله والجنود تهتف له، ولكن غيمة من القلق ما لبثت أن بدت في سماء فكره، فدفع الرسم إلى سكرتيره قائلًا: «اذهب به فإنه يرى ميدان القتال قبل الأوان …»
فأنت ترى أنَّ قيادة الجيش الأكبر الذي كان تحت إمرته في تلك الحملة التاريخية على روسيا، ومشاغل الخطة الصعبة التي كان يضعها، والمفاوضات السياسية التي كانت جارية، كل ذلك لم يكن يصرف فكره عن ابنه الحبيب وعزيزته «لويز».
ولعلَّ القارئ يقول مُسائلًا: إنَّ نابوليون كان يهتم بملك روما وماري لويز وهو في شرفة العز والمجد، فكيف صارت حاله عندما بدت دلائل الشُّؤم إبان تلك الحملة؟
إن حاله مع ابنه وزوجته لم تتغير؛ فقد بقي يفكر فيهما وينتبه لأصغر شئونهما ويُعنَى براحتهما مع كل المصائب الفادحة التي كانت تدور به من كل صوب، وهاك بعض ما كتبه لكامباسريس المُستشار الإمبراطوري الأكبر سنة ١٩١٣؛ أي بعد نزول نازلة روسيا على رأسه: «يجب على الوزراء ألا يخبروا الإمبراطورة بما يُحدث لها قلقًا أو حزنًا.»
وكتب إلى مربية ابنه بعد معركة درسد: «يسرُّني أن ابني ما برح يزداد نموًّا فيزيدنا آمالًا، ولا يسعني إلا إظهار الرِّضى والارتياح إلى عنايتك به.»
وكان شوق نابوليون إلى رُؤية زوجته أيام تلك الحرب الهائلة شديدًا حارًّا، فرغب إليها أن تُلاقيه في مدينة مايانس، فسافرت إليها في ٢٦ يوليو من ذاك العام، وذكر كولنكور تلاقيهما فقال: «إنَّ نابوليون حدثني عن هذا التلاقي، فاظهر تحمس الشباب، وبرقت أسرته فلم أعد أرى عليه ما ظهر لي في أوائل الحديث من دلائل الهم والقلق والتأثر.»
ولما خاب أمل نابوليون بالسلام، وعقدت دول أوروبا العُظمى تحالفًا آخر لمقاتلته بعد الحرب الروسية بقي يهتم بأقل الأشياء المُتعلقة بماري لويز، وممَّا كتبه يومًا: «لقد ساءنى أنَّ ترتيب حفلة ١٥ أغسطس كان مُختلًّا، وأن الإمبراطورة بقيت حينًا طويلًا وهي تسمع موسيقى تمجها الآذان.»
ولمَّا قامت بعدئذٍ المعارك الشهيرة المعروفة ﺑ «حرب فرنسا» وظهر نبوغ نابوليون في أعظم مظاهره فقاوم أوروبا كلها بثلاثين ألف رجل، كان نابوليون مع ذاك الموقف الهائل يُفكِّر في عزيزته «لويز» فقد كتب يقول: «نزِّهوا خاطر الإمبراطورة فهي تذوب كمدًا …»
ثم كتب بعد أن ساء طالعه: «لا تدَعوا الإمبراطورة وملك روما يقعان في قبضة العدو، فأنا أفضِّل أن يُذبح ابني على أن يُربَّى في بلاط النمسا كأمير نمسوي، وأظن أن الإمبراطورة على هذا الرأي.»
وكان نابوليون يضع راحته البيتية وكرامته الشخصية فوق كل شيء، بدليل ما كتبه في إبَّان تلك الحوادث الجُلَّى قال: «إياكم والأقوال التي يُؤخذ منها أني أطلب حماية الإمبراطورة أو حماية أبيها، فإنها تكدر صفاء راحتها وتُفسد جميل خلقها …»
وبعد أن استنفذ نابوليون كل مواهبه ومعارفه الحربية في قتال عدو كان أضعاف أضعاف رجاله، وبعد أن خذله جماعة من كبار قواده فاضطر إلى التنازل في مونتبلو، لم يبقَ له من تعزية إلا التفكير في زوجته وابنه، وعند سفره إلى جزيرة ألب قال لأمينه: «يمكنني أن أعيش سعيدًا مع ابني وزوجتي في تلك الجزيرة.» وعلى أثر توديعه للحرس ذاك التوديع المشهور الخالد، كتب إلى ماري لويز يقول: «أيتها الصديقة، إنِّي سأقضي الليل في بريار ثم أسافر غدًا إلى سان تروبيز، فآمل أن تساعدك صحتك على الصبر والتجلُّد وأن تتمكَّني من المجيء إليَّ … أودعك أيتها العزيزة ويمكنك أن تعتمدي دائمًا على زوجك وشجاعته وسكون جأشه وصداقته لك.»