نابوليون وأهوال الحرب
يحقُّ للقارئ أن يسأل هنا: إذا كان نابوليون رقيق الشعور طيب القلب، فلماذا جدَّد معامع الحروب العديدة ولم يفرغ جهده في سبيل تعزيز السلم بين فرنسا وسائر الدول؟
إن الجواب الوافي على هذا السؤال يقتضي تفصيل ما جرى من المُفاوضات في عهد نابوليون، فحسبنا أن نقول بشهادة المجموعات الرسمية أن نابوليون نوى يومًا نيَّة صادقة أن يُسالم النمسا، ونوى مرة أخرى أن يُسالم روسيا، ومرَّة ثالثة أن يُصالح إنكلترا، ولكن الوزير الإنكليزي ويليام بت والوزير النمسوي مترنيخ كانا يضمران عداوة راسخة كالرواسي لنابوليون، وأقنعا الحكومات الأوروبية بأن العالم لا يستريح ما دام نابوليون جالسًا على عرش فرنسا، ولما عظمت ديون إنكلترا لكثرة ما أرسلته من الأموال إلى النمسا وروسيا لتساعدهما على قتال نابوليون، مالت حكومتها إلى الصلح، ولكنها ما لبثت أن عادت إلى سياسة الوزير ويليام بت، وجدَّدت التحالف على نابوليون.
وإذا أراد القارئ بُرهانًا على حقيقة شعور نابوليون وهو بين أهوال الحروب، فليُطالع ما كتبه بعد معركة أوسترليتز الشهيرة في نشرة الجيش الأعظم «لقب لجيشه» قال: «إني لم أرَ ساحة من ساحات القتال أشد هولًا وفظاعة من أوسترليتز، فنحن نسمع من وسط البحيرات الواسعة صراخ ألوف من الرجال ولا نستطيع مُساعدتهم … آه إن قلبي يقطر دمًا!»
وكتب إلى الإمبراطورة بعد معركة إيلو: «إن الأرض مملوءة بالقتلى والجرحى، وإني أتألم وأشعر بانقباض في صدري لرؤية تلك الضحايا.»
وروى دوق روفيجو أن «الإمبراطور نابوليون امتطى جواده بعد معركة وجرام وأخذ يتفقد ساحة القتال جريًا على عادته، وكانت سنابل القمح عالية جدًّا، فلم يكن في وسع الباحثين عن الجرحى أن يروا الجندي الطريح، فأخذ كثيرون من الجرحى المساكين يربطون مناديلهم برءوس البنادق ليدلُّوا الباحثين على مواضعهم، وكان الإمبراطور يذهب بنفسه إلى حيث كانت المناديل ويُحادث الجرحى ويُطيِّب نفوسهم، ولم يعد من ساحة القتال إلا بعد أن نقلوا آخر جريح.»
وقال ولتر سكوت، وهو من أعداء نابوليون أنه — يعني نابوليون — «كان يمرُّ في ساحة الحرب ويظهر شعورًا رقيقًا وعطفًا شديدًا عند رؤيته للجرحى، وما كان هذا بالأمر الغريب؛ لأن نابوليون لم يكن يستطيع النظر إلى إنسان يتألم بدون أن يظهر عطفًا عليه.»
فنابوليون إذن كان ينظر إلى أهوال الحروب بالعين التي ينظر بها كل قائد يشعر ويتألَّم، ولكن عقله لم يكن تحت سلطان قلبه، والعوامل المُتباينة كانت تدفعه إلى معامع الحروب، ولولا خوف أوروبا منه لتمكَّن في أواخر عهده من البقاء مخلدًا إلى السكون، وليس يدلنا على رغبته في الهدوء بعد أن اتَّسع سلطانه وشبع من ثمار المجد الطيبة التي جناها في الشرق والغرب مثل الرسائل التي كتبها وأشرنا إلى بعضها.