فَتِّش عن المرأة
وفي تلك الأثناء صدر أمر «لجنة الخلاص العام» بأن يُعطى ضباط الجيش العامل قطعة من الجوخ كافية لصنع ردنجوت وصدرية وبنطلون، فذهب نابوليون إلى أمين مخزن الجيش وطلب قطعة الجوخ، فرفض أن يُعطيه إياها بحجة أن نابوليون لم يكن في الجيش العامل، فلجأ نابوليون إلى مدام تاليان فأعطته كتابًا إلى الموسيو ليفوف الموكل بذاك الأمر في الفرقة السابعة عشرة، فتكرَّم عليه بقطعة الجوخ، وما كان سعي نابوليون في هذا السبيل ناشئًا عن رغبته في الهندام والإتقان والترف، بل كان ناجمًا عن سبب آخر ذكره البارون فين، هو أن ملابسه خاضت معه العجاج ولقيت النار مرارًا فأخلقت جدتها.
وكانت السيدة تاليان معشوقة المسيو باراس صاحب الكلمة والحول، فصار كل امرئ يطمح إلى تعضيدٍ من باراس أو يلتمس منه عفوًا مضطرًّا في غالب الأحيان إلى زيارة مدام تاليان، حتى أصبحت ردهتها ملتقى المطامع والمطامح من نساء ورجال، وكان نابوليون من جملة الذين يختلفون إلى منزلها، فيرى فيه الزوَّار والزائرات يؤلفون لجانًا مُسترسلة إلى أحاديث فيها من كل شجرة ثمرة ومن كل ينبوع قطرة، وكثيرًا ما كانوا ينسون لدى تلك السيدة الجميلة خطر الحال في فرنسا. على أنَّ نابوليون كان أقلهم كلامًا وأقلهم مظهرًا، وإذا تكلم فلا تكلُّف ولا تصلُّف.
وحدث يومًا أنَّ نابوليون كان مُنشرح الصدر، حديد الفكر، فأخذ يد مدام تاليان يقرأ فيها ويُكثرُ من الفكاهات والسخافات ليزيد سرور الحضور، فبدا للعين منظر جدير بأن يصوره المصورون ويحفظوه على مرِّ القرون، فمن جهة سيدة بارعة الجمال، كثيرة الدلال، تكتنفها السراء، وتشملها النعماء، وتنصرف إليها الأنظار والأفكار، ومن جهة مخلوق ضئيل نحيل، أصفر اللون، معروق لحم الوجه، يلبس ثوبًا عسكريًّا لا يملأ العين، ويرسل شعرًا طويلًا عند السالفين.
وهناك سرب من النساء الجميلات جالسات ينظرن إليهما ويضحكن من منظرهما، وبينهن سيدة من ذوات الجمال الضارب إلى السُّمرة الخفيفة مُسترسلة بلا تكلف إلى ذاك المشهد المُضحك، اسمها جوزفين، أرملة بومارشيه التي صارت بعد خمسة أشهر قرينة ذاك الجنرال المُضحك، ثُمَّ صارت بعد ثلاث سنوات إمبراطورة الفرنسويين وتلقت إكليل الزواج من يد البابا، فهل كان نابوليون الذي حاول استطلاع طلع المستقبل للسيدة تاليان، هل كان يقرأ في يده ما أعدته يد الزمان، وهل قرأ في صفحة المستقبل أنه سيصير ملك الملوك وسيد أرباب التيجان؟