نابوليون في شاهق العظمة
بلغ نابوليون شاهق العظمة ومُنتهى الحول والسلطان سنة ١٨١٠، فإن الإمبراطورية الفرنسوية في ذاك العهد كادت تُضارع إمبراطورية شارلمان من حيث الهيبة وبسطة الملك، وكان نابوليون يلتفت وراءه فيرى أوسترليتز حيث صرع النمسا، وإيلو وفريدلاند حيث قهر روسيا، ويجد بولونيا خاضعة تحت جناح نسره، وإسبانيا مترعرعة تحت يده الفولاذية، ثم يرى وجرام حيث ضرب النمسا مرة أخرى، ويتمثل دخوله ميلان وما تقدمها من الانتصارات الباهرة كما يتمثل دخوله مدريد وبرلين وفرسوفيا وفينا (مرتين)، وإجهازه على السلطة البابوية الزمنية مع احترام سلطته الدينية، ومرور جُملة من ملوك أوروبا بين يديه في أرفور كأنهم يمرُّون أمام فاتح العالم، وكان إذا خرج في باريس وجد حديد المدافع التي غنمها يقوم عمودًا عظيمًا في إحدى ساحاتها، وكانت البلدان الموضوعة تحت سلطان فرنسا مُباشرة في تلك السنة مقسومة إلى ١٤٠ ولاية، وجُعلت جنيف وأنفرس وأكس لاشابيل وفلورانس وجنوى وأمستردام تحت إمرة مديرين من الفرنسويين، وهناك الممالك التي كانت تحت إشراف فرنسا أو مُنتمية إليها إمَّا لأن نابوليون كان واضع أساسها أو نظامها، وإمَّا لأن ملوكها من صنائعه وأقاربه مثل إيطاليا ومملكة نابولي وإسبانيا ووستفاليا، فإن ملوكها كانوا من إخوة نابوليون وأصهاره، ومثل بافاريا وورتمبرج وسكسونيا، فإنَّ نابوليون هو الذي رفعها إلى رتب الممالك المستقلة. كل ذلك من ثمار الانتصارات اللامعة الساطعة التي أدهشت العالم وغيَّرت خريطته.
أما تأثير تلك الانتصارات والانقلابات في الشعوب من الوجهة الفكرية فلم يكن أقل من تأثيرها في الوجهة المادية، وكل من يعلم أنَّ نابوليون هو ابن الثورة الفرنسوية، وأن أفكاره هي أفكار الذين قاموا بها سنة ١٧٨٩ وقواعده هي قواعدهم، وأن ارتقاءه إلى عرش الإمبراطورية كان طبقًا لإرادة الأمة وضربًا من ضروب المبايعة — لا يعجب من وجود الآثار الديمُقراطية في نفس تلك الإمبراطورية، ومن كونها تختلف اختلافًا كبيرًا من هذا الوجه عن الإمبراطورية الرُّوسية أو النمسوية في ذاك الوقت.
إنَّ الملوك المُستبدين كانوا يخافون من الآراء الحرَّة في عهد نابوليون بقدر ما كانوا يخافون سيفه البتار، أليس نابوليون هو الذي جعل موارت ابن الشعب صاحب تاج؟ أليس نابوليون الذي كان يقول: إنَّ قوتي هي من قوة الشعب، ويهز كتفيه لكل ملك أو سلطان كان يدَّعي أنَّه وكيل الله أو ظله على الأرض؟ أوليس نابوليون الذي كان يقول: «إن الشعب هو الذي يهمني لا أرباب الأموال ولا أصحاب القصور.»
وإليك حادثًا يدلك على شدة عنايته بعامة الأمة وطبقات العمال: حدث سنة ١٨١١ أن طلائع موسم القمح كانت سيئة، فأخذ نابوليون يشتغل آناء الليل وأطراف النهار ليُهيِّئ غذاء الشعب، ثم جرى حديث بينه وبين الموسيو مونتاليفيه الذي كان يشتغل معه، فقال مونتاليفيه: «سيكون الخبز موجودًا ولكنه سيكون غاليًا.» فما سمع نابوليون هذا الكلام حتى قفز من كرسيه سخطًا وحنقًا وقال له: «ماذا تقول؟ أتقول إن الخبز سيكون غاليًا؟ لمن نشتغل وبمن نهتم منذ شهرين؟ أتظنُّ أنَّا نهتم بالأغنياء؟ هؤلاء لا يهمونني؛ لأن من يملك مالًا يملك على الدوام خبزًا، فإنما همِّي أن يحصل الشعب على الخبز الرخيص الجيِّد الوافي، وأن يتمكن العامل من العيش هو وعيلته بأجرة يومه …»
وما انحصر تأثير الإمبراطورية البونابارتية، «إمبراطورية الثورة الفرنسية» كما لقبها أحد المؤرخين في الشئون السياسية، بل تناول مبدأ الحرية الدينية أحد مبادئ تلك الثورة، فإن الكاثوليك الألمانيين لم يكونوا قبل عهده متمتعين بحريتهم المذهبية التَّامَّة؛ لأنَّ الحكومة الألمانية وسائر أهل النفوذ من البروتستان كانوا يحرجونهم وينظرون إليهم بعين حمراء.
وصفوة القول أن تأثير حكم نابوليون في العالم كان عظيمًا من الوجوه الحربية والسياسية والأدبية والدينية، وأن الثورة الفرنسوية تمثلت في رجل بدل تمثلها في مئات من النواب، ولا شكَّ في أنَّ مبادئها الدستورية السامية لم تكن بمأمنٍ دائم؛ لأنَّ نابوليون كان إنسانًا قابلًا للموت، فلما رحل عاد الدستور إلى نظامه الطبيعي بعد التقلب والتراوح.