كيف كان مع أعدائه؟
لم يكن نابوليون يحملُ الحقد ولا يود الانتقام، وحسبنا دليلًا سلوكه مع أعدائه المُجاهرين والمتنكرين، ونحن نضرب للقارئ هنا بعض الأمثال: ما ارتقى نابوليون إلى عرش الإمبراطورية حتى وقف كارنو أحد رجال الديركتوار في صفوف الحزب المُعارض، فلو كان نابوليون إمبراطورًا غشومًا كما زعم بعض خصومه لقُذِف به إلى وهدة العدم، ولكن نابوليون كان إمبراطورًا ذا طابع خاص، فصبر عليه، ثم اتفق يومًا أن كارنو وقع في ضائقة مالية وأُبلغ أمره إلى نابوليون — كما جاء في كتاب لنابوليون نفسه مؤرخ في ١٧ يونيو سنة ١٨٠٩ — فاهتم به وأبى مُراعاةً لكرامته أن ينفحه بشيءٍ على سبيل التعطف والتكرم، بل أمر بأن يُدفع له متأخر راتبه كجنرال في الجيش، ثم عين له مرتبًا قدره عشرة آلاف فرنك بحجة أنه كان وزيرًا قديمًا.
ولما كان نابوليون قائدًا أكبر لجيش إيطاليا في عهد حكومة الديركتوار، أرسلت هذه الحكومة الجنرال كلارك إلى ساحة القتال ليُراقب سلوك نابوليون سرًّا ويتجسَّس عليه — كما ذكر أرنول في «مذكراته» — فعلم نابوليون بأمره ساعة وصوله ولكنه تعالى عن الإضرار به، ولما غضب ولاة الأمور في باريس على هذا الجنرال، هبَّ نابوليون للدفاع عنه، وكتب إلى وزير الخارجية يقول: «لا أريد أن أبحث لأعلم هل أرسل هذا الجنرال في البدء ليكون جاسوسًا عليَّ أو لا، وهبْ أن هذا الخبر صحيح، فأنا وحدي يحق لي أن أستاء منه، وأنا أجاهر بأني أسامحه.» وبعد مدة أعاد نابوليون هذا الجنرال إلى وظيفته السابقة، ثم عينه سفيرًا ثم حاكمًا لفينا فبرلين، ثمَّ وزيرًا للحربية، ولما تزوجت ابنته حباها الإمبراطور بمبلغ من المال.
ولما كان نابوليون بمصر اتضح له أن القائد الشهير دافو كان مواليًا لخصومه، فأبى نابوليون أن يُلحق به ضررًا، ثم أغدق عليه الألقاب والمواهب.
ولمَّا أُعلن ارتقاء نابوليون إلى عرش الإمبراطورية أرادت جنود الكولونل موتون أن تهتف للإمبراطور فصاح فيهم الكولونل: «اصمتوا!» فعلم نابوليون وغفر له.
وكان الكولونل «فوا» في مقدمة الذين أبوا الموافقة على الإمبراطورية ومن المتهمين في بعض المؤامرات، ولكن هذا كله لم يحلْ دون العفو عنه وترقيته بعد مدة إلى رتبة جنرال، وإعطائه عشرين ألف فرنك مكافأة على خدمته في البورتغال.
وكان جوزيف شانيه يسلق نابوليون بألسنة حداد في مقالاته، فعفَّ نابوليون عن ضربه حتى رجع إلى نفسه، فعينه مفتشًا عامًّا في الجامعة الإمبراطورية ودفع عنه ديونه وعيَّن له مُرَتَّبًا.
وروى كثيرون من المُعاصرين لنابوليون في مذكراتهم كشاتوبريان وفوشيه وتيبودو أن برنادوت اشترك في جميع المؤامرات والمكايد على نابوليون، ومع ذاك كله فإن نابوليون جعله مرشالًا أكبر ولقبه بأمير بونت كورفو وحباه بمواهب جمَّة، وانتهى الأمر بأن جلس برنادوت على عرش أسوج، فلو كان نابوليون لم ينظر إلا مصلحته الخاصة ولم يشأ أن يبعد عنه قائدًا بارعًا كما قيل، لاكتفى بأن يبقى برنادوت في درجة لا يتعداها، وربما كان الأولى به وبمصلحة فرنسا أن ينهج مثل هذا النهج، فإنه لو فعل لكفى أمَّته عار زحفه مع أعداء فرنسا بعد مدة.
وقِس على من ذكرنا كثيرين ممن لم نذكر، أما قول بعض النُّقاد أن نابوليون كان يخشى عاقبة التشديد على خُصومه، فهو قول واهن؛ لأن نابوليون رأى أوقاتًا كان فيها التخلص من أعدائه أسهل عليه من قتل الذبابة، وما كان بالرجل الرعديد ليخشى الفتك، فإن تعنيفه لبعض القواد وطرده لبعضهم وضربه على أيدي أناس من أهل السطوة، كل ذلك دليل كاف على أنه كان قديرًا على فعل ما شاء، ولكن طبعه كان يصرفه عن ارتكاب الفظائع في رجاله ويحمله على إصلاحهم حيث كان يرجو الإصلاح والصلاح، ولقد ذهب بعض المؤرخين المدققين إلى أنَّ تطرُّفه في التسامح وتماديه في الصفح كانا أحد أسباب فشله. وقال أرتور ليفي بعد أن طالع مذكرات أصدقاء نابوليون ومذكرات خصومه أنَّ «العيب الأكبر في خُلُق نابوليون والسبب التالي إن لم نقل الأول لأكبر فشل أصابه هو أنه لم يظهر إرادة راسخة للمقربين إليه، ولم يضرب بكفٍّ من حديد، فيبيد كل مقاومة ظاهرة أو خفية أبداها أولئك الذين أغدق عليهم الثروة وأسبغ عليهم ألقاب الشرف، ولكن نابوليون سلك مع قواده السبيل الذي اتبعه مع إخوته، فكان يُضَحِّي بأعلى المصالح شأنًا وخُطورة على مذبح المبدأ الأدبي … والواقع أن ذكر خدمةٍ في إيطاليا أو غيرها كان يكفي ليصرف نابوليون عن القسوة، كما جرى للقائد فيكتور حين أراد إبعاده عن الجيش.»