في سبيل المجد
وفي تلك الأيام كانت نيران الثورة كامنة تحت رماد السياسة في باريس، والأفكار قلقة مُضطربة، وسبب هذا الاضطراب أنَّ كثيرين من الفرنسويين لم يكونوا راضين بالدستور المعروف بدستور السنة الثالثة، فاغتنم الملكيون فرصة استيائهم وهبُّوا لتعضيدهم، وفي ١٢ فندميير (الشهر الأول من سنة الجمهورية التي ألغي حسابها) حدث شغب في باريس، فأخرجت حكومة الكونفانسيون الجيش لتفريق المُتجمهرين بقيادة الجنرال مينو، فلم يُفلح في مهمته، بل اتفق مع الخوارج اتفاقًا لا يُؤيد سطوة الحكومة، وترك الثَّائرين في مواقعهم، فما طار هذا الخبر إلى حكومة الكونفاسيون حتى اهتزَّت أركانها وأمرت بالقبض على الجنرال مينو وبعزل الجنرال ديبريير والجنرال ديبور وغيرهما، وأخذت تبحث عن قائد آخر صحيح العزيمة وطيد الأمانة؛ لأن موت الكونفانسيون وحياتها كانا متوقفين على نجاح الثوار وفشلهم، وبعد المفاوضة الطويلة والمد والجزر اتَّفق رجال الكونفانسيون على تسليم القيادة إلى واحد منهم خوفًا من الخيانة، فعينوا باراس قائدًا أكبر للجيش.
على أنَّ باراس كان يُحب الترف والنعيم، وهذا لا يتفق مع الواجب العظيم الذي نيط به، فارتبكت أفكاره لدى ذاك الخلل الذي أصاب الجيش نفسه، وأوقف صديقه الموسيو كارنو على أمره، فنصح له الموسيو كارنو بأن يطلب مساعدة أحد القواد، وذكر له ثلاثة ومنهم الجنرال بونابارت، ثم عرضت أسماء قواد آخرين، فقال باراس: «إنَّا نحتاج إلى جنرال عالم بأمور المدفعية»، فألحَّ المسيو فريرون في وجوب اختيار نابوليون، ثمَّ ذهب وأتى به، فقال له باراس: «أتريد أن تكون قائدًا ثانيًا لجيش الكونفانسيون؟» فسكت نابوليون فقال له باراس: «أعطيك ثلاث دقائق فقط للتفكير.»
ففي تلك الدقائق الثلاث تقرَّر حظ نابوليون وفرنسا وأوروبا، ولما فكَّر نابوليون في واجبه بدا له أن واجب كل محب لفرنسا كان يقضي بإسقاط حكومة الكونفانسيون التي نشرت الهول والرُّعب وضمَّت إليها كثيرين من أهل الجهل والخلل، ولكنه نظر من جهة أخرى فتصور خمسين ألف نمسوي على أبواب ستراسبورغ وأربعين بارجة إنكليزية أمام برست، فقال في نفسه أن صد العدو الخارجي هو رأس الواجبات، واختار ما جعله كل فرنسوي أساس وطنيته، وما نراه في الحرب العظيمة الناشبة في هذا الوقت، وهو أنَّ «تعضيد كل حكومة واجب على كل وطني في وقت الخطر الخارجي.»
على أنَّ نابوليون لم يقبل ذاك المركز الصعب إلا بشرط، وهو «أن لا يُغمد الحسام قبل إعادة النظام» فقبل باراس شرطه، وكان هذا الاتفاق نحو الساعة الواحدة بعد نصف الليل؛ أي ليل ١٣ فندميير، وما جاء مساء ١٤ منه حتى تغلب نابوليون على الثوار، وفي اليوم ذاته صدر الأمر بترقيته إلى رُتبة قائد فرقة (فريق)، ولما اجتمع أعضاء الكونفانسيون قال لهم فريرون الذي قدَّمه لباراس: «لا تنسوا أن الجنرال نابوليون الذي عُيِّنَ في ليل ١٢-١٣ لم يكن لديه إلا صباح ذاك اليوم لاتخاذ الوسائل التي رأيتم نتائجها»، ثم وقف باراس بعد فريزون فذكر الخدمة الجليلة التي أداها نابوليون، وطلب تثبيته في منصب قائد ثان للجيش الداخلي.
ثمَّ انتقل اسم نابوليون من الكونفانسيون إلى الجرائد، وتداولته الألسنة بعد الأقلام، وفي ٢٦ أكتوبر من تلك السنة عُيِّن قائدًا عامًّا للجيش الداخلي، وأقام في المُعسكر العام الذي كان وقتئذٍ في شارع الكبوشيين، وعُيِّن الجنرال دوفينيو رئيسًا لأركان حربه، ثمَّ ضم نابوليون إليه جونو ومارمون وغيرهما ممن كان لهم شأن وسمعة طيبة في حروبه.