نابوليون بعد الزواج
أيتها الصديقة المعبودة، إن كل دقيقة تمرُّ بي وأنا بعيد عنك تُضعف مقدرتي على احتمال هذا البعد، فأنت على الدوام نصب عين الفكر، ومُخَيِّلتي تفنى جهدًا ووصبًا لكي تتصور ما تصنعين، فإذا تصورتك حزينة تفطَّر فؤادي وتفاقم حزني، وإذا تصورتك طلقة المحيَّا لعوبًا مع الأصدقاء والصديقات ملتُ إلى تعنيفك؛ لأنك نسيت فراقنا الأليم منذ ثلاثة أيام … اكتبي وأسهبي لي أيتها الصديقة، وتقبلي ألف قبلة وقبلة ممن يحبك أصدق حب.
وقال مارمون: «إن الجنرال بونابارت مع اشتغاله بالعلاء والعظمة وبالمصالح الخطيرة التي فوضت حمايتها إليه ومع اهتمامه بمستقبله لم يكن ينسى امرأته، بل كان يُفكر فيها على الدوام ويتمنى قربها وينتظر قدومها بفروغ صبر، وكثيرًا ما كان يحدثني عنها وعن حبه لها، ويتألم من تأخرها عن السفر إليه، ويُظهر شيئًا من الغيرة والتطير.»
وحدث يومًا أن المرآة المُلحقة برسم صغير لجوزفين انكسرت في جيبه قضاءً وقدرًا، فاصفرَّ لون نابوليون اصفرارًا مُخيفًا وقال لمارمون: «إن امرأتي على أحد أمرين: فإما أن تكون مريضة، وإما أن تكون خائنة …» ولطالما تضرع نابوليون إلى جوزفين بعد أن أشرق طالع السعد عليه وأخذ يُحرِزُ النصر تلو النصر أن تحضر وتُخمد لهيب شوقه، ولكن جوزفين كانت تود قبل كل شيء أن تبقى حرَّة في باريس، لتتمتع برؤية التحمس العظيم الذي كانت تحدثه انتصارات زوجها في الجمهور الباريسي، وتجني أزهار المديح من جميع الطبقات، وتطلع مُرتفعة الرأس في المجالس والمحافل، وتبسم ابتسامات كلها أنفة وعزة للذين كانوا يهتفون لها ويلقبونها ﺑ «سيدة النصر»، فهي لم تكن تحب زوجها، بل كانت تحب منصبه وشهرته وتتخذهما سلمًا للصعود إلى حيث كانت تريد في المجتمع، وكانت إذا رأت نابوليون يلح في طلبها والتضرع إليها قالت بدلال: «إن نابوليون لمغرب مضحك …» وإذا أجابته فإن جوابها لا يتجاوز ثلاثة أسطر، وكانت تدَّعي تارة أنها مريضة، وطورًا أنَّ دلائل الحَبَل بادية عليها فلا قبل لها بالسفر.
على أن هذا العُذر كان يزيد شوقه وقلقه، وفي ١٥ يونيو كتب إليها كتابًا قال فيه: «صارت حياتي كلها أحلامًا مُخيفة، وصرت كأني لا أحيا، وفقدتُ ما هو أغلى من الحياة والسعادة والراحة، وكَادَ اليأس يتولاني … اكتبي لي عشر صفحات، فإن هذا هو الأمر الوحيد الذي يُعزِّيني بعض التعزية … قلتِ أنكِ مريضة، وأنك تحبينني، وأنني أحزنتك، وأنك حامل، فأنا أذنبت إليك ذنوبًا عديدة لا أدري كيف أكفر عنها، فاغتفريها لي واعذريها أيتها الصديقة؛ لأن حبك ذهب بعقلي فلن أرى إليه سبيلًا.»
«إنَّ ما بي من الدَّاء لا يقبل الشفاء، وما عندي من الأفكار السوداء بلغ حدًّا صرت أكتفي معه بأن أراك فأضمك ساعتين إلى قلبي ثم نموت معًا … ألا خبِّريني من يعتني بك؟ أظنك دعوت هورتنس إليك … إن حبِّي لهذه الفتاة اللطيفة زاد ألف ضعف منذ عرفت أنها تقدر على إنزال شيء من السلوان على قلبك … أما أنا فلا عزاء ولا راحة ولا أمل لي قبل أن يَرِد عليَّ كتاب طويل منك أعرف منه ما هو مرضك، فإذا كان منه خطر عليك، فإني أسرع إلى السفر نحوك … أيتها الصديقة، قولي لي أنك مقتنعة كل الاقتناع بأن حبي لك يتجاوز ما يستطيع الفكر أن يتصوره، وبأني لا أفكر في امرأة أخرى غيرك، وبأن كل النساء هن في نظري عاطلات من حلي اللطف والظرف والجمال والذكاء، وبأنك أنت وحدك تُعجبينني وتروقين ناظري، وبأن قواي وساعدي ومداركي كلها لك، وروحي مقيمة في جسمانك، فإذا متِّ متُّ أنا معك … وأنت تعلمين أني لا أستطيع أن أرى لك حبيبًا»، ثم ختم بقوله: «أيتها الصديقة المعبودة، أنا مريضٌ لمرضك، والحُمَّى تتسعَّر في جسمي، فلا تدعي البريد يتأخر أكثر من ست ساعات، بل أعيديه مسرعًا بجواب من سيدتي ومولاتي.»
فماذا كان جواب جوزفين على هذا الكتاب الذي تكاد حروفه تلتهب من نار شوقه إليها؟ إنها قالت عند وصوله: «إن نابوليون لمغرب مضحك.» أجل إن ذاك الزوج الذي خدعته الأيمان التي أقسمتها تلك المرأة أيام الخطبة، وذاك الجنرال الذي بَزَّ الأبطال، وأخذت فتيات الطليان تتزلف إليه في كل مكان فلم يعجبه غير امرأته من النساء الحسان، وذاك القائد الذي كان يصدر أوامره إلى أرباب التيجان وصاحب الفاتيكان، ثم يقف أمام تلك المرأة كخادم في حضرة سلطان، إن مثل هذا الإنسان لغريب في أفكاره مُضحك في أطواره.
قيل — وما أكثر ما قيل عن نابوليون — إن ذاك الإنشاء الممتلئ حرارة ليس بالدليل الدامغ على شدة لهيب الشوق بين ضلوعه؛ لأن من العادة المألوفة في إيطاليا — ولا سيما في ذاك العهد — أن يُبالغ المتحبب في كلامه وإن كان لا يصور حقيقة هيامه، على أن هناك برهانًا لا يُبقي ريبًا في خطأ هذا القول عن نابوليون، وهو بعض الكتب التي أرسلها في ذاك الوقت إلى كارنو أحد رجال الديركتوار وإلى أخيه جوزيف؛ فإن المُطَّلِع على تلك الكتب يرى بين تضاعيف سُطورها تلك الأشواق كما رآها في كتب نابوليون إلى جوزفين نفسها، ومما كتبه إلى كارنو قوله: «إني أشكر لكم العناية التي تصرفونها إلى قرينتي، فهي وطنية صادقة، وأنا مجنون بحبها …» ومما كتبه إلى أخيه جوزيف: «إنَّ اليأس تولَّاني منذ علمت بمرض امرأتي، فأضعت الصواب وتوالت عليَّ الأوهام المخيفة، فأسألك أن تبذل لها كل عناية … إنك بعدها الإنسان الوحيد الذي يهمني أمره فطمئنِّي وقل الصحيح … إنك لا تجهل مبلغ حبِّي الشديد، ولا يفوتك أن جُوزفين هي المرأة الأولى التي أعبدها، فمرضها يورثني اليأس، وإذا كانت حالتها جيدة فأنا أود من صميم الفؤاد أن تحضر؛ لأني مُحتاج إلى مرآها وضمها إلى قلبي … أنا أحبها أشد الحب، فلا يمكنني أن أبقى بعيدًا عنها، وإذا كانت هي لا تحبني فإنِّي لا أود بقائي في هذا العالم … أيها الصديق المحب، لا تدع البريد يتأخر أكثر من ست ساعات، بل سارع إلى إرساله ليُعيد إليَّ الحياة، أودعك وأدعو لك بالسعادة، أما أنا فقد شاء الدهر أن لا يُبقي لي إلا الظواهر اللامعة.»
•••
وبقي نابوليون يُرسل الكتاب تلو الكتاب على هذا المِنوال فيري من جُوزفين ضروبًا مُختلفة للتخلص من السفر، حتى علمت أن جونو مرسل من قبل نابوليون إلى باريس ليحمل الرايات والغنائم التي غنمها نابوليون من النمسويين، فخافت أن يُوقف نابوليون على حقيقة أمرها وسلمت بالسفر معه ومع مورات في ٢٢ يوليو سنة ١٧٩٦، ولكن صدرها كان مُنقبضًا وحزنها شديدًا لفراق باريس. قال أرنو في مذكراته: «لقد كان جزعها شديدًا عندما رأت أن السفر أمر لا مناص منه، يا لها من امرأة مسكينة! إنها كانت تذرف الدمع الغزير وتشهق كأنها سائرة إلى العذاب.»
ولما وصلت إلى تُورين أرسل نابوليون مارمون لملاقاتها، ثم عاد معها إلى ميلان حيث نزلت في قصر سرباوني، وهناك قابلها نابوليون بشوق وحنان مُتدفقين، وذكر مارمون تلك المُقابلة فقال: «إن الجنرال بونابارت سُرَّ بها أبلغ سرور؛ لأنه لم يكن يعيش إلا بها، وإني لم أرَ حبًّا تملك قلب رجل وكان أصدق مظهرًا وأشد صفاءً وأقوى اندفاعًا من حب نابوليون لجوزفين.»
أنا قلق الفكر، أود أن أعرف ماذا تصنعين … كنتُ في قرية فيرميل وجلست عند ضفة البحيرة على نور القمر الفضِّي، وكنت أذكر على الدوام جوزفين … إني أضعت علبة التبغ، فأرجو أن تختاري لي عُلبة أخرى مسطحة قليلًا، وأن تكتبي عليها كلمة جميلة من شعر رأسك … ألف قُبلة فيها من الضِّرام بقدر ما عندك من البرودة.
وكتب إليها: «لقد نال اليأس مني لظنك أنِّي أميل إلى امرأة سواك، فأنا مِلكٌ لك بحق الفتح الدائم الوطيد، ولا أدري لماذا تحدثيني في شأن مدام ت … مع أني لا أهتم بها ولا بغيرها من نساء برتشيا … وأنا أعدك بأني لا أفض مكاتيبك بعد الآن ما دام فتحها يكدِّرُ صفاءك، أما سفرك فليكن قبل اشتداد الحر، وسأحضر لملاقاتك.»
أنت ترى مما تقدم أن حبَّ نابوليون لم يضعف، ولكن شيئًا من القلق بات يُخَيِّمُ عليه، وأنه صار يستشعر الخيانة ولكنه لا يستطيع ولا يريد تصديقها، وأن مداراته لشعور زوجه المحبوبة بلغت به إلى حد أن وعدها بالعدول عن فتح مكاتيبها.
أما تظاهر جوزفين بالغيرة كما يُؤخذ من أحد كتبها فلم يكن إلا تحويلًا لأفكاره وتبديدًا لشكوكه.