سلوك جوزفين في ميلان
وإذا نظرنا إلى جوزفين في قصر سرباوني، وجدناها تسلك المسلك الذي اتبعته في باريس ولم تتركه إلا كاسفة آسفة، فقد اتفقت أخبار الرواة على أنَّ جمهورًا من الضباط الشبان أخذوا يلتفون حولها منذ وصولها إلى ميلان ويُبالغون في إكرامها والتزلف إليها، وأن كتب الشوق والرجاء والتضرع التي أرسلها نابوليون كانت تصل إليها وهي في ذاك المُحيط بين ضروب الملذات وأفانين المسرات، وكانت تنتحل الأعذار التي ألفتها في باريس لتُؤجل سفرها إلى حيث كان نابوليون، وما تمكَّن نابوليون من استقدامها إلى برتشيا إلا بعد الجهد الكبير والرجاء الكثير.
كنتُ أُؤَمِّل أن أحصل على كتاب منك، فخاب الأمل وتولَّاني قلق مخيف؛ لأنك كنت منحرفة الصحة عند السفر، فأرجو منك أن لا تدعيني في مثل هذا القلق … كيف يُمكنك أن تنسي من يحبك ذلك الحب الشديد؟! آه! إن الفراق هائل والليالي طويلة تدعو إلى الملل … فكِّري فيَّ، ولا تعيشي لغيري، واقضي معظم أوقاتك مع من يحبك، فإني لا أخاف إلا مصيبة واحدة وهي أن لا تحبني جوزفين.
ولمَّا مضى يوم آخر ولم يرد عليه خبر كتب إليها: «إنِّي لم أرَ منك كتابًا فتولاني القلق الشديد … إنهم يُؤكدون لي أن صحتك جيدة وأنك تنزهت عند بحيرة كوم.»
وبعد أيام كتب إليها ينبئها بنصر باهر قال: «أيتها الصديقة العزيزة، لقد فشل العدو وخسر ثمانية عشر ألف أسير وترك بقية رجاله قتلى أو جرحى، وما أحرزنا قط مثل هذا النصر المُستمر؛ فإنَّ إيطاليا وفريول والتيرول أصبحت كلها في قبضة الجمهورية …» ثم ختم نبأ النصر بقوله: «إنَّا سنجتمع بعد أيام قليلة وسيكون اجتماعنا ألطف ثواب لي على ما قاسيت من التعب والجهد، ألف قبلة حارة من عاشق متيم.»
ولعل القارئ يسأل هُنَا: كيف كان جواب جوزفين بعد أن وضع ذاك البطل العاشق غنائمه الحربية بين أقدامها؟ هل باتت ترعى جانبه وتُداري عواطفه ما دامت لا تستطيع حبه، أو بقيت على حالتها المعروفة؟ إن الكتاب الذي بعث به إليها في ١٧ سبتمبر يدلُّ على حقيقة حالها، وهاك بعض ما قاله فيه: «كتبت إليك مرارًا أيتها الصديقة ولم تكتبي لي إلا قليلًا، فأنت شنيعة جدًّا! وشناعتك تضاهي خفتك وطيشك … بل أنت خدَّاعة، تخونين عاشقًا مُتيمًا، فهل أضاع يا ترى هذا العاشق حقوقه؛ لأنه بعيد مُثقل بالمتاعب والأشغال؟ ألا ماذا يبقى له في هذا العالم إذا خسر جُوزفين وأبت أن تُؤكِّد حبها له؟»
«نشبت أمس معركة شديدة كسرنا فيها العدو كسرة تامة وفجعناه بخسارة عدد كبير من الرجال واستولينا على ضواحي مانتو، أودِّعك أيتها المعبودة، وسترين بابك يُفتح في إحدى الساعات بلا ضجة ولا ضوضاء، فأدخل كما يدخل العاشق الغيور وأنطرح بين ذراعيك.»
فأنت ترى من هذا الكتاب أن الخوف من الخيانة بات يُساور قلب نابوليون، ولكنه مثله مثل كل عاشق أعماه الغرام، فكاد يظنُّ نفسه جانيًا لغيابه عن حبيبته، فما أعظم الفرق بين ضلالة فكره في معترك الغرام، وأصالة رأيه في معترك المدفع والحسام!
ثم كتب إليها أيضًا: «ماذا تعملين سحابة النهار؟ وأي شغل هامٍّ لا يدع لك وقتًا لمُكاتبة مُغرم طيب القلب؟ ألا أي حبيب جديد يستغرق كل أوقاتك ويقتل ساعات النهار فيمنعك من مُراسلة زوجك؟ حذار حذار يا جوزفين! فإني سأباغتك وأخلع الباب ذات ليلة … آمل أن أضمَّك بين ذراعيَّ في وقتٍ قريبٍ وأنهال عليك بقبلات حارة كجو خط الاستواء.»
إنِّي وصلت إلى ميلان وأسرعت إلى الطبقة المعدَّة لك في القصر تاركًا كل شيء لأراك وأضمك بين ذراعي فلم أجدك؛ لأنك تنتقلين من مدينة إلى أخرى في طلب الأفراح والملاحي ولا تهتمين «بنابوليونك العزيز»؛ لأن قلة الثبات ولَّدَت فيك قلة الاكتراث، فما كان حبك إلا هبَّة وقتية ما لبثت أن سكنت … على أنِّي رجلٌ ألِفْتُ المخاطر وعرفت دواء الضر والضجر اللذين يصيبان المرء في حياته، ولكن المصاب الذي نابني اليوم يفوت حد الوصف … أنا مقيم في ميلان إلى التاسع من هذا الشهر، فلا تُزعجي نفسك ولا تتركي المسرَّات والملذَّات؛ فإن السعادة لك وحدك، والعالم يعدُّ بنفسه سعيدًا إذا أعجبك، وسوء الحظ لزوجك دون سواه.
ثم كتب إليها أيضًا: «وصل بريد برتييه المُرسل من جنوى، وأدركتُ أنك لم تجدي وقتًا لمكاتبتي، فأنت بين الملاهي والملاذ، وحقُّك ألَّا تضحي بشيء من أجلي، وأنا لا أنوي أن أوقع خللًا في حسابك أو أحرمك شيئًا من الملاهي إذ لا أستحق مثل هذا التسامح منك، وإن رجلًا لا تحبينه لا يكون من حقه أن تهتمي بشقائه أو سعادته، فليس لحياتي غاية أو مقدور سوى أمر واحد، هو أن أحبك وأسعدك ولا آتي أمرًا يُخالفُ مشيئتك، وإنِّي لمُخطئٌ إذا كنت أتقاضى منك أن تحبيني بقدر حبي لك، ولو فعلتُ لكان مثلي مثل رجل يطلب أن يكون وزن القطن كوزن الذهب، على أنِّي إذا كنت لا أملك من الجاذبية ما يجذب فؤادك فإني أستحق الاحترام والإكرام من جوزفين، وإنَّ قلبي ليلتهب بنار حبها ولا يبغي بها بدلًا … أودِّعك أيتها المرأة المعبودة، أودِّعك يا جوزفين.»
أليس من العجب العُجاب سلوك تلك المرأة التي قدم إليها زوجها مع القلب المضطرم باقة من رايات النصر الباهر فلم تبدِّل من سلوكها ولم تكبح من هواها، بل استمرت على الخطة التي اتبعتها في باريس — أي طلب الابتعاد عن زوجها وطلب التمتع بشهرته ومجده — فكان لسان حالها يردد له: «أسعدك الله لأجلي وأبعدك عني …» وروى ستاندال في مؤلفه أنَّ الضباط الشبان الذين كانوا يحيطون بجوزفين في ميلان وجنوى جنُّوا بها تحمسًا وابتهاجًا وكانوا مستعدين استعدادًا عجيبًا لسبي العقول، وأخص من يُذكر منهم ضابط شاب اسمه هيبوليت شارل وهو من طبقة الشبان الذين يبالغون في العناية والاهتمام بأنفسهم وملابسهم، كان نحيف الجسم، أسمر اللون، أسود الشعر، يلبس زي الهوسار، ويُكثر من النكات واللطائف، ويروِّح نفوس الجلوس بأحاديثه وحكاياته، ويُقال بالإجمال إنه من الشبان الذين يُعدون خطرًا كبيرًا على الزوجات اللواتي لم يحببن أزواجهن، ولم يجدن مناصًا من الضجر، ولقد تملَّك قلب جوزفين على ما يظهر، وشاع خبر ميلها إليه بين رجال الجيش، حتى اضطر نابوليون إلى عزله وعزل ضباط آخرين من الذين تزلقوا إلى جوزفين في غياب رئيسهم وقائدهم الأكبر.
ولعل القارئ يسأل هنا: ماذا جرى لجوزفين بعد تلك الكُتب وتلك الحوادث؟
جرى أنَّ نظرةً واحدةً منها بعد رجوعه إلى ميلان خفَّفَت من حِدَّة نابوليون وكسرت من شوكته، فأضمر حزنه في أعماق صدره كما ذكر في كتاب ماضٍ، وغفر لها ذنبها، ولكن الخيبة ضربت أمله وأدمت فؤاده حين رأى قلب زوجه خاليًا منه، وكان نابوليون كمعظم الأزواج العاشقين ينتحل لها الأعذار في سرِّه ويعزو فعلتها إلى خفةٍ قليلة الشأن.
قالوا: إن خوفه من الرأي العام واحتفاظه بطيب السمعة لدى السُّفراء ورؤساء الدِّين الذين كان يُسمعهم كل يومٍ خبر نصر جديد، ورغبته في الظهور لدى أوروبا، كل ذلك حمله على اجتناب الفضيحة وستر الأمر. ولقد يكون هذا صحيحًا، ولكن هناك قولًا آخر لا ريب فيه وهو أنَّ حب نابوليون كان حائلًا كبيرًا دُون عقاب جوزفين، وأنَّ نابوليون كان من جهة أخرى يأبى الإضرار بها حتى بعد زوال الحب وبعد الطلاق، فإنَّ رسائله كلها تدل على أنَّ هذا الغرام تحوَّل إلى صداقة قديمة ساكنة، وأنَّ نفسه أبت عليه أن يتذكر حينئذٍ خيانتها وبرودتها في معاملته وقِلَّة اكتراثها لما أبداه من الرَّجاء والتضرع والتذلل.
وإليك حكاية صغيرة تدُلُّك على أنَّ ذاك الرجل الذي كان يُسيِّر ألوف الأبطال بكلمة لم يكن يستطيع أن يُخرج كلبًا صغيرًا من بيته؛ قال نابوليون يومًا لأرنو عندما رأى الكلب الصغير فورتينه يتسلق أحد المقاعد: «انظر إلى هذا السيد فهو نِدِّي ومُنافسي، ولما تزوجتُ جوزفين كان فراشها ملكًا له من قبلي، وقد أردتُ يومًا أن أُخرجه منه، فقيل لي: أنت بين أمرين؛ إما إن ترضى بالنوم معه وإما أن تنام في محل آخر، فاضطررت أن أقبله معي.» ثم أشار نابوليون إلى أثر عضة في فخذه، ويظهر أن هذا الكلب نفحه بها تلك الليلة، وهو ما جعل نابوليون يكتب إلى جوزفين بعد حين قائلًا: «ألف قبلة لك ولفورتينه وإن كان شريرًا …»
ولما توفي فورتينه جلبت جوزفين كلبًا آخر برغم نابوليون، فانظر إلى البطل الذي كان يسوق الجيوش أمامه كيف يعجز عن سوق كلب إلى خارج بيته، واعجب لبطل يفتح البلدان والعواصم ولا يجسر على فتح كتاب لامرأته!