المشاغل الحربية في ذاك الوقت
ليس من غرض هذا المؤلَّف أن نشرح المعارك والانتصارات التي خلَّدت ذكر البطل الكورسيكي، على أننا لا نرى بأسًا في إيراد موجز للمشاغل الحربية العظمى التي كانت تشغل نابوليون أيام بعث بتلك الكتب الغرامية ونظر في أموره العيلية؛ لأن إظهار تلك المشاغل يجعل العبرة أبلغ وأقوى، ويقرنها بفائدة تاريخية. قال القومندان كلود برجيه في تاريخه ما صفوته أنه لمَّا سافر نابوليون إلى إيطاليا ليستلم القيادة من الجنرال شرير — كما تقدم — كانت الحالة الخارجية تهدد فرنسا بالخطر، أجل إن جنود الجمهورية كانت تدافع عن حدودنا الشمالية دفاعًا جميلًا سنيًّا، ولكن فرنسا كانت ترى أمامها عدوتين شديدتين؛ أولاهما إنكلترا المعتصمة في جزرها، والثانية النمسا المُلتهبة شوقًا إلى طلب الثأر، وكان نُخبة القواد النمسويين يقولون ويكررون: «إن إيطاليا ستكون قبرًا للجنود الفرنسوية.»
ولما وصل نابوليون إلى مدينة نيس — حيث كان معسكر الجيش العام — رأى فيه القواد أوجيرو ولاهارب وبرتييه وماسينا وسرورييه، وكلهم من الذين قادوا الجحافل وخاضوا العجاج، فجعلوا ينظرون بعين الاستخفاف إلى الجنرال الضئيل النحيل الَّذي قَدِمَ ليتولَّى القيادة العامة، وكان عدد الجيش الفرنسوي لا يتجاوز ستة وثلاثين ألف رجل، وكانت ملابسه قديمة ورواتبه مُتأخرة، في حين أن الجنود النمسوية وحلفاءها أبناء بيومون كانوا أربعة وثمانين ألفًا مُسلحين بثلاث مائة مدفع ومعهم قوة كبيرة من الفرسان، فكان كل جندي فرنسوي مضطرًّا وهو على تلك الحال إلى مُقاومة ثلاثة من الأعداء الحاصلين على الغذاء والكساء.
يا جنود جيش إيطاليا، إنَّ الحكومة تُريد لكم خيرًا كثيرًا ولكنها لا تجد إليه سبيلًا، وإنَّ صبركم وشجاعتكم لمِمَّا يكسبكم الفخر ولكنهما لا يجلبان المنافع ولا يكسبان المجد، وها أنا أنزل بكم اليوم إلى أخصب سهول العالم فتجدون المدن العظيمة والأقاليم الغنية وتحرزون معها الفخر والمجد والغنى، فيا أيها الجنود هل تنقصكم البسالة فتتقاعدون؟
فما انتهى نابوليون حتى تفتحت له قلوب القواد والجنود قبل فتح تلك السهول.
ونحن نتساءل هنا: أصاحب هذا القول هو نفسه كاتب تلك المكاتيب التي قرأناها؟
وكان همُّ نابوليون في ذاك الوقت أن يشطر أعداءه شطرين ويضرب كل فريق منهما على حِدة، فأمر الكولونيل رامبون بأن يدخل حصن مونتجيو بقوة لا تزيد عن ١٢٠٠ رجل، وبأن يقطع طريق مونتلنوت على النمسويين، فأتى من الشجاعة عجبًا عُجابًا هو ورجاله، وصدوا حملات النمسويين ثلاث مرات، وفي إبَّان الهجمة الثانية التفت إلى رجاله قائلًا: «إن القائد العام يطلب إلينا الثبات حتى النهاية، فأقسموا أنكم تموتون ولا تتركون الحصن.» فصاحوا: «إنَّا لمقسمون …» وبفضل ذاك الدفاع العجيب تمكَّن نابوليون من التقدم ومن ضرب النمسويين ضربة مزَّقت شملهم. وكان القسم الآخر من الأعداء — أي جنود بيومون — إلى يسار نابوليون، فوكل إلى بعض قواده الإجهاز على القوات النمسوية التي عادت فتجمعت، والتفت هو إلى الجنرال كولي قائد جيش بيومون فشطره واضطره إلى التقهقر تاركًا بين أيدي الفرنسويين ٣٠٠٠ أسير أضافها إلى ٩٠٠٠ من النمسويين و٢١ راية و٣١ مدفعًا.
ولما بلغ ملك سردينيا خبر هذا النصر التمس هُدنة من الجنرال بونابارت، فدهشت أوروبا إذ علمت أنَّ جيشًا فرنسويًّا لا يزيد عن ثلث أعدائه اضطرهم إلى طلب المهادنة.
أما نابوليون فمنحه الهدنة بشرط أن يسلم الأعداء إلى الفرنسويين ثلاثة حصون كبيرة ومخازن المئونة، فقبل، وانتقل الجندي الفرنسوي من العسر إلى اليُسر بفضل بسالته وبراعة قائده في ميدان الجدال ومجال القتال.
وفي تلك الأثناء أرسل نابوليون مورات إلى باريس ليحمل إلى حكومة الديركتوار الإحدى والعشرين الراية التي غنمها من النمسويين — والتي من أجلها لقب الجمهور الباريسي جوزفين بسيدة النصر — فعقد الديركتوار جلسة حافلة وقرَّر «أن جيش إيطاليا استحق شكر الوطن» ثمَّ أُقيمت «حفلة النصر» في العاصمة.
أيها الجنود، إنكم لمُستحقون شكرًا جزيلًا من الوطن، وإن السلالات القادمة ستتداول أخبار انتصاراتكم، وسيبقى مجدكم خالدًا بما غيرتموه في أجمل شقة من أوروبا، وستمنح الأمة الفرنسوية الحرَّة والمُحترمة في العالم كله بلاد أوروبا سلمًا مجيدًا، وأنتم سترون مُواطنيكم يُشيرون إليكم بالبنان بعد رجوعكم إلى الأوطان، وسيقولون لأولادهم كلما رأوا أحدكم: «إنَّ هذا الشجاع كان في جيش إيطاليا.»
ولكن هذا النصر الجديد لم يكن كافيًا أيضًا؛ فإن جمهورية جنوى وجمهورية البندقية أصرَّتا على المقاومة، والجيش النمسوي تلقَّى نجدات أخرى رجاء أن «يقهر الجيش الفرنسوي الصغير» كما وصفوه مع فشلهم الفاضح، وكانت إنكلترا من جهة أُخرى تُرسل المبالغ العظيمة من الذهب إلى مندوبيها السِّريين بقصد أن تُثير الفلاحين اللومبارديين على الفرنسويين، فتمكن المندوبون من تدبير مكيدة عظيمة على جنود فرنسا، وقرروا أن يُباغتوهم ويذبحوهم في اليوم الثاني لعيد الفصح، ولكن عَيْنَ نابوليون كانت ساهرة على جنوده، فعرف بالمؤامرة واتَّخذ أشد الذرائع لإفسادها، وأحرق مدينة بافي ما عدا منازل سبالازاني وفولتا؛ لأنهم كانوا من أكابر العلماء، فكان لعمله تأثير جميل في نفوس محبِّي العلم والعلماء، ونقض كلمة ذاك الثائر الوحشي الذي قال للعالِم لافوازييه حين ساقه إلى الإعدام: «إنَّ الجمهورية غير محتاجة إلى علماء …»
ومما يذكر أن البابا بيوس السادس انضم وقتئذٍ إلى أعداء فرنسا، فأمر نابوليون القائد أوجرو بأن يكتسح أملاكه، وتقاضى منه ضريبة حربية قدرها واحد وعشرون مليون فرنك، وفي تلك الأثناء قدم الجيش النمسوي الجديد وعاجل الفرنسويين بهجوم شديد، فأخذ منهم مانتو، وجال في ظن الأهلين أن إيطاليا تملَّصت من الفرنسويين، ولكن نابوليون كان وحده أعظم من جيش كبير مع ذاك الجيش الصغير، فوضع خُطَّة أسفرت عن تغلب عشرين ألف فرنسوي على ستين ألف نمسوي، وعن سقوط عشرين ألف رجل من العدو بين قتيل وجريح، ثم زحف بأبطاله قاصدًا التيرول واحتلَّ أهم مدنها وقهر جيشًا نمسويًّا ثالثًا، ولكن النمسويين أصروا على عنادهم وأرسلوا جيشًا رابعًا مؤلَّفًا من خمسين ألف رجل فانضم إلى بقايا الجيوش الثلاثة.
وكان التعب إذ ذاك آخذًا مأخذًا كبيرًا من الجيش الفرنسوي؛ لأن خسارته كانت عظيمة، وبعض قواده سقطوا في ساحة المجد، فلم يكن له بدٌّ من فكرة جديدة سامية تلمع له من جانب قائده الأعظم، وما لبثت تلك الفكرة أن سطعت في إبَّان الشدة كما يسطع البرق وسط السحاب المتلبد القاتم؛ فإن نابوليون أمر جنوده بأن تعود فتجتاز نهر أدييج وتسير نحو ميلان ليُوهم الأعداء أنَّه عمد إلى التقهقر، فتوهم القائد النمسوي ألفنزي أن التقهقر أكيد، ورأى جيش نابوليون يحتل السدود الواقعة عند المستنقعات، فلم يدر في خلده أنه يجسر على إضرام نار القتال هناك، ولا سيما أن عدد جيشه نزل إلى ثلاثة عشر ألف رجل في حين أن النمسويين أضعاف هذا العدد، أما نابوليون فقال: «النصر أو الموت.» وقذف بجانب من جنوده إلى جسر أركول الشهير، وزحف قواده العظام لان ومسينا وأوجرو في طليعة الجنود، ولكن نيران الأعداء اشتدت إلى حدٍّ هائل ومنعت الجنود من اجتياز الجسر، فأخذ نابوليون عندئذٍ راية فرنسوية وصاح في الجنود: «ألستم الذين انتصروا في لودي؟ ألا فاتبعوا قائدكم»، فما أتمَّ كلامه حتى هجم الجنود كالأسود، ولكن النيران النمسوية صدَّتهم مرة أخرى وسقط نابوليون نفسه في مُستنقع، فأنقذه بعض جنود الغرنادييه بعد الجهد الشديد.
وقضى الفرنسويون ذاك الليل تحت السلاح، وفي اليوم التالي بذلوا جهدًا عظيمًا فاجتازوا النهر على جسر وقتي، وبينما كان النصر يتراوح بين الفريقين بدت لنابوليون فكرة أخرى سديدة، وهي أنه أمر ضابطًا في رُتبة مُلازم وثلاثين جنديًّا بأن يأخذوا ٢٥ طبلًا ويتقدموا نحو العدو ضاربين على الطبول بمُنتهى الشِّدَّة، فما تعالت أصوات الطبول حتى ظنَّ النمسويون أن نابوليون انقض عليهم بجيش آخر من ورائهم فلم يروا من وسيلة إلا طلب النجاة.
على هذا الوجه انتهت تلك المعركة التي بقي فيها نابوليون وقواده وجنوده ثلاثة أيام بلا راحة فكرية ولا جُسمانية، والتي تغلَّب فيها ثلاثة عشر ألف فرنسوي على أربعين ألف نمسوي واضطروهم إلى التقهقر، وما اكتفى نابوليون بالفوز العسكري، بل طلب معه فوزًا ديمقراطيًّا، فأنشأ جمهوريتين في شمالي إيطاليا وهما جمهورية سيبادان وجمهورية ترانسبادان.
وبعد أيام قليلة وصلت نجدة فرنسوية فصار عدد الجيش الفرنسوي عشرين ألفًا، ولكن الأعداء ما لبثوا أن صاروا ثلاثة أضعاف هذا العدد؛ لأن النمسا أرسلت جيشًا خامسًا، والبابا أرسل إليها نجدة عددها ستة آلاف رجل، فزحف القائد النمسوي بمجموع تلك القوات من أنجاد ريفولي حيث كان ينتظره نابوليون، وقبل أن يتمكن ذاك القائد من إعداد بطارياته عاجله نابوليون بالهجوم، واستمرَّ القتال دائرًا نحو اثنتي عشرة ساعة، ثم أسفر عن انتصار نابوليون وفشل النمسويين وحلفائهم فشلًا تامًّا وعن وقوع جميع مدافعهم غنيمة في أيدي الفرنسويين، وفي تلك المعركة التاريخية استُهدف نابوليون للمخاطر وقُتل تحته ثلاثة من الجياد، وفي ثمانية أيام خسر النمسويون ٣٥ ألف رجل و٦٠ مدفعًا وعشرات من الرَّايات.
ولكن النِّمسا لم تكف مع ذلك كله عن حشد الجنود، فأعدَّت جيشًا سادسًا تحت إمرة الأرشيدوق شارل نفسه، ولم تعتبر بأن أولئك الفرنسويين الذين لم يجمعوا في ستة أشهر كاملة أكثر من ٣٦ ألف رجل قهروا بهذه القوة وحدها ٢٦٠ ألف رجل، منهم ٢٠٠ ألف نمسوي، وقاتلوا في ستين معركة، فما وصل الجيش النمسوي الجديد حتى كسره نابوليون شر كسرة، ثم زحف إلى النمسا نفسها ليعاقبها، فدخل «فيِنَّا» واضطر الحكومة النمسوية إلى عقد الصلح والاعتراف بضمِّ البلدان التي قرر ضمها إلى الجمهورية الفرنسوية (معاهدة كامبو فورميو ١٧ أكتوبر سنة ١٨٩٧).
ثم عاد نابوليون إلى باريس حيث استُقبِلَ باحتفالٍ عظيمٍ باهرٍ، وسلَّم تلك المعاهدة إلى باراس رئيس الديركتوار.
فليفكر القارئ كيف كانت حال نابوليون وكم كانت مشاغله عظيمة أيام أرسل تلك الكتب الغرامية إلى جوزفين …