الرسالة الثانية
ويتخلل هذه الصحراء بعض أراضٍ كانت مزروعة قمحًا بعد المطر، وقد حصدوه إذ ذاك، وهم يشتغلون بدرسه كحاله عندنا؛ فترى النَّوْرَج يدور على الكُدْس (الرمية)، إلا أن حيلانه (فلكاته) أقل ارتفاعًا. وقد ترى بجوار هذا الجرن آخر قد تم دِراسه، فيه المذرى بمُذْرَاةٍ كحاله عندنا تمامًا. وترى بجواره التبن وقد كدسوا بعضه على بعض مثل تكديسه في الصعيد، كأنه مقطوع من جهاته الأربع بمستوى أفقي.
ويتخلل هذا الوادي بعض أشجار من الجوز والبَقْس، وبعض حقول من العنب والزيتون، وكلما اقتربنا من مدريد قلت فيه المزارع ووحش منظره. وفي هذه الجهة ينزل الثلج مبكرًا، فيقصدها أهل مدريد للرياضة الشتوية والألعاب الثلجية (اسكيتنج). ومتوسط سير القطار السريع في هذا الوادي ٤٢ كيلومترًا؛ لأن المسافة بين سان سباستيان ومدريد ٦٣٠ كيلو، قطعها هذا القطار في ١٥ ساعة.
(١) مدريد
وعلى كل حال، إن جو المدينة غير صحي في الصيف لشدة حرارتها، وكثرة ذبابها وأتربتها التي تؤثر في الصدر، ولشدة جفاف هوائها الذي يؤثر في المزاج العصبي.
ويسير في وسطها نهر (ماندانار) وكان أحد سفراء ألمانيا يصفه من باب الفكاهة بأنه أحسن أنهار الدنيا؛ لأن الإنسان يقطعه ماشيًا أو راكبًا عربة أو دابة. وهو يشير بذلك إلى أن هناك نهرًا ولا ماء. ومن ألطف الإشارات التي من هذا القبيل أن مدريد أكثر عواصم أوربا ارتفاعًا؛ لأنها بُنِيت على جبل، وقد خرَّج القسوس من ذلك أن عرش ملوك إسبانيا بعد عرش الله (أعني في الارتفاع)، وبهذا أثروا في عقيدة الشعب، حتى إنه إلى الآن يُعتقَد أن عرش إسبانيا هو خير العروش بعد عرش السماء. وتكثر في هذه المدينة المراوح: فترى واجهات الدكاكين ممتلئة بها على أشكال مختلفة، وقد تراها في أيدي الناس عامة، ويندر ألَّا ترى سيدة جالسة أو ماشية أو راكبة إلا وفي يدها مروحة تحركها بلطف أخف من النسيم الذي تنشده. وعلى ذكر هذا الجنس اللطيف أقول إنه في هذه البلاد أكثر كمالًا منه في غيرها من مدن أوربا؛ فهن يتجملن غالبًا بالحشمة، ويُدْنِين عليهن من جلابيبهن (فساتينهن) إلى ما دون نصف الساق، وكثيرًا ما يضعن على رءوسهن — وخاصة أهل الأندلس — الشقة، وهي أشبه شيء بما يسمونه عندنا (الطرحة)، وهي إما أن تكون خفيفة من المخرم الأسود، أو من نسيج من الشاش السميك. وبعضهن يشتملن بملاءة كبيرة قد تصل إلى الركبة، وهؤلاء في الغالب من الراهبات. ونساء إسبانيا أقل صلة بالرجال الغرباء، ومع أنهن جميلات الوجه جدًّا قد تنقصهن رشاقة الجسم وخفة الحركة؛ وذلك لكثرة ملازمتهن منازلهن. وقد يكون ذلك لشدة حرارة الإقليم، أو أن هذا النوع من الحجاب موروث عن العرب. ويقال إن أحسن الجمال الإسباني في جهة بلنسية، ثم في غرناطة، ثم في برشلونة؛ ذلك لأن جمال طبيعة هذه البلاد أثَّر في أهلها، فأكسبهم من محاسن الخلقة ما لم يتيسر لغيرهم، وهو تعليل معقول.
وبالجملة إن نساء الإسبان في الغالب يكتفين بجمالهن الطبيعي الذي خُصَّ بهذه السمرة التي جمَّلتها يد الطبيعة بما ترى أثره الصناعي في وجوه الغانيات في كل جهة من جهات العالم المتمدين، ولكن هل يبلغ الظالع شأو الضليع؟ ومما يعجبني أن نساء الإسبان في الغالب لا يستعملن الأدهنة البيضاء في وجوههن، ولا الحمراء في شفاههن، ومن يستعملنها منهن فبخفة لا تظهر معها كلفة الصناعة؛ وبذلك أصبحن بعيدات عن التسمم الذي يحصل من كثرة استعمال هذه المحسِّنات الوقتية؛ لأنها كلها مركبات زرنيخية تؤثر على مر الأيام في بشرة الوجه بالذبول، وعضلة الشفة بالتقلص. وعلى كل حال إن هذا الجمال الصناعي — وإن أكسب المرأة رُوَاء مزيفًا في وقته — يتقدم بها إلى الشيخوخة قبل أوانها، بما لا تنفع معه عناية الطبيب ولا استعمال العقاقير.
(٢) الإسكوريال
هو البناء الذي أقامه فليب الثاني ملك إسبانيا في النصف الأخير من القرن السادس عشر على قمةٍ ترتفع عن البحر ألف متر، وتبعد عن مدريد بواحد وخمسين كيلومترًا، وهو يشمل الكنيسة، والقصر، والمقبرة الملكية، والدير ومدرسته. وإذا عرفت أنه يحتوي على ١٦ حوشًا، و١٧١٠ نافذة، و١٢٠٠ باب، و٨٦ سلمًا توصل إلى أمكنة مختلفة؛ عرفت مقدار أهمية هذا البناء العظيم الذي بُنِي جميعه من الجرانيت الأزرق الذي أَتَوا به من جبال وادي رامة بإسبانيا.
وبناء الكنيسة على النظام القوطي، وهي — على خلوها من التأنق — تشعر فيها بعظمة في النفس لا يصل إليها ذلك التأنق الذي تراه عادة في الكنائس الكاثوليكية الكبرى، وشكلها من الداخل مربع، طول كل ضلع منه خمسون مترًا، وفي وسطها أربعة أعمدة من البناء المربع، عرض كل ضلع من أضلاعها ثمانية أمتار، وعليها أقواس ترتفع عليها قبة الكنيسة التي قطرها ١٧ مترًا، وفي دائر الكنيسة ٤٢ مُصلَّى. ويرتفع على سطحها منارتان، ارتفاع كل واحدة نحو ثلاثة وسبعين مترًا، ويعلو القبة صليب تبعد قمته عن أرض الكنيسة بخمسة وتسعين مترًا، وبجوار الكنيسة حوش مربع، يحيط به بهو عظيم رُسِمتْ على حوائطه بالزيت صور كثيرة كنسية مكبَّرة، وفي وسط هذا البهو من كل جهة أبواب إلى غرف في بعضها ألواح ثمينة من رسم أشهر المصورين في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وبعضها يصعد منه إلى الدير، وهو محل مسكن القسوس القائمين بحركة العبادة في الكنيسة. وفيه مكتبة عظيمة فيها خمسة وأربعون ألف كتاب، منها مجموعة من الكتب الدينية والأغاني الكنسية من القطع الكبير جدًّا، وقد وُشِيتْ كتاباتها وجلودها بالذهب، وبعضها مكتوب على رَقِّ الغزال ومزين بالرسوم الجميلة والنقوش القيمة، ومنها مجموعة ثمينة من المخطوطات العربية لا تقل عن ألفي مجلد.
وفي الدير تبقى جثة الملك خمس سنين قبل دفنها (بالبنتيون)، وهو المقبرة الملكية المتصلة بالكنيسة، ويُنْزَل إليها بسلالم هي وحوائطها من المرمر الوردي الثمين، تنتهي إلى غرفة مثمنة قطرها عشرة أمتار، وحوائطها وأرضها من المرمر، وفي كل ضلع منها ردهة وُضِعَ فيها ستة توابيت فيها جثث ملوك إسبانيا بعضها فوق بعض. وفي القاعة دهليز يوصل إلى عدة غرف فيها قبور بعض أعضاء الأسرة الملكية، وبالجملة هذه المقبرة — مع عدم أناقتها وخلوها من الزينة الكاثوليكية — تتناسب عظمتها مع عظمة المدفونين فيها.
وهنا مر بخيالي مقبرة جنوة العامة، وكنت زرتها منذ سنتين، وكيف وصل بالقوم تأنقهم وتطاولهم في فخامة مقابرهم بها إلى درجة لا يماثلها شيء آخر من نوعها، فترى القبور بعضها بجوار بعض، وكلها أو جلها من المرمر، وقد رُسِمتْ أو نُقِشتْ أو مُثِّلَ عليها صورة الميت ومِن حوله الملائكة ترفرف بأجنحتها، وتمد يدها إليه لتقوده إلى جنات النعيم، أو بعبارة أصح إلى الجهة التي ينتظره عمله فيها، وبعض القبور تجدها قد جمعت إلى هذا مختصر تاريخ الميت، ومصابيحها مُسْرَجة على الدوام، وبالجملة قد وصل فيها الإبداع وفخامة المنظر وجمال الصناعة إلى حدٍّ لم أره في غيرها، ويحيط بهذه المقبرة رياض نضرة فيها كراسي خشبية ورخامية يجلس عليها زوَّار المقبرة. وهنا ذكرت (قطع المره) وما إليه من جبانة المجاورين والعفيفي وغيرهما مما أرجو أن يعيره أصحاب الشأن وأولو الأمر بعض عنايتهم؛ حرمةً للأموات ورحمةً بالأحياء.
(٣) قصر الملك
وهنا أرجو القارئ عفوًا إذا رجعت به معي — بعد أن شط بي القلم — إلى قصر الملك، وهو يتصل بالكنيسة اتصالًا تامًّا، فماذا ترى؟ ترى بهوًا طويلًا عريضًا مرتفعًا ارتفاعًا عظيمًا وفيه باب القصر، ويدخل منه إلى طابق أرضي فيه حجرة نوم الملك وحجرة نوم ابنته، وليس بهما شيء من المبالغة في التأنق. نترك هذا وما إليه إلى الطابق الثاني، وندخل إلى قاعة المائدة، ثم إلى قاعة السفراء، ثم إلى المكتب الخصوصي، فنجد بها من حسن الرونق وجمال الشكل وبديع الصور التي نُسِجَتْ على قطع كبيرة من الحرير، يتكون منها لوح على قدر كل حائط من حوائط هذه الغرف، فنرى الحائط كله مشتملًا على لوح واحد رُسِمتْ فيه بالنسيج صورة مكبرة من أصل معروف لأحد المشهورين في فن التصوير، نرى هذه الصورة في بروزها، وظلالها، وألوانها، ودقة صنعها، وكمال صوغها، وتمام إبداعها، تمثِّل لك واقعة حربية أو حادثة تاريخية، ويكاد لسان حالها يقول: «ليس في الإمكان أبدع مما كان». ولقد أعجبني من ذلك صورة محاصرة بني مرين مع الدون جوبان لمدينة طريف، وقائدها إذ ذاك غوزمان، فأتى جوبان بأحد أبناء هذا القائد وهدده بقتله إن لم يفتح له أبواب هذه المدينة، فكان جوابه أن رمى له غوزمان بسيفه ليقتله به، وهذه شجاعة وأمانة يُضرَب بها المثل، كما ضُرِب بشجاعة السموءل وأمانته من قبلُ.
(٤) قصر الأمراء
هو على بعد ثلاثمائة متر من قصر الملك، وهو بناء صغير في حديقة كبيرة معتنى بها كل الاعتناء. دخلت هذا القصر مع الداخلين، وكان الحارس يرشد القوم بلغته إلى ما فيه من أثر بما لم أفهم منه، لا كثيرًا ولا قليلًا، ولكني ماذا رأيت؟ رأيت صورًا من أبدع ما يرى الراءون، ألواحًا صغيرة من رسوم مختلفة وأشكال متغايرة غاية في الجمال، تمثِّل لك وقائع تاريخية شهيرة يعرفها أربابها، وبجوار هذه هنا وهناك قطع أثرية صُنِعَتْ من نحاس أو فضة أو عاج أو صدف، وهي تمثِّل مناظر بديعة جدًّا، تراها مع صغر حجمها كأنها واسعة شاسعة بما فيها من أشجار وأطيار وحيوان وإنسان، وكلها من قطعة واحدة، ولا يمكن أي واصف أن يصفها؛ لأنه إذا رآها وقف أمامها في حيرة عظيمة في حكمه عليها، أَمِنْ عمل الإنسان هي، أم من عمل الشيطان؟! ومن بين هذه الصور صورة للعذراء، وقد اشتملت بملاءة من المخرم (الدنتلا) تتصل حينًا بجسمها وتنفصل عنه أحيانًا كالوضع الطبيعي للجسم، وكل هذا من قطعة واحدة من العاج صُنِعَتْ مع سابقاتها في القرن الرابع عشر.
والآن نترك (الإسكوريال) إلى روما ونشاهد كنيسة القديس بطرس، ثم إلى باريس ونزور كنيسة نوتردام، ثم إلى لندره ونزور كنيسة القديس بولس، ثم نرجع إلى ما وراء التاريخ العصري ونزور (الأكروبول) في أثينا، ثم نعود إلى مصر ونذهب إلى أبعد من ذلك كله، وبعد مشاهدتنا أهرام الجيزة نزور هيكل الكرنك في الأقصر، ثم نتساءل: هل هذا كله من عمل الملوك من بني الإنسان، في زمن هو أبعد الأزمان عن العلوم والفنون، في وقت ليس فيه شيء من هذه الاختراعات الحديثة التي سهَّلت الصعاب، وفتحت من مختلف العلوم كل باب، وجعلت هذه الطبيعة القوية في يد الإنسان يحركها كيف يشاء؟ الجواب على كل حال إيجابي.
ثم إذا تساءلنا: وهل في قدرة الملوك في هذا الوقت إقامة هيكل من هذه، خصوصًا مع هذه الآلات الحديثة التي يعمل الإنسان الواحد بها في لحظة ما كان يعمله ألف شخص في أيام؟ فالجواب على كل حال سلبي.
وإذا نحن بحثنا عن السبب، عرفنا أن الأمم كانت مستعبَدة لإرادة أقيالها في الماضي البعيد، ومُسخَّرة لرغبات ملوكها ورؤسائها في الماضي القريب، حتى إذا قامت الثورة الفرنسية بعد منتصف القرن الثامن عشر، وعلى أثرها انتشرت الحرية بين الأمم الأوربية، ووقف الملوك في الدائرة التي رسمتها لهم دساتير بلادهم، وسارت الأمم في حدودها الشرعية أصبح الملك يعمل لبلاده، والناس يعملون لأنفسهم وُحْدَانًا ولبلادهم مجتمعين. وإذا كانت الملوك قد فقدت في هذا الطريق أيدي رعاياها فقد كسبت قلوبهم، وهذه الحال ولا شك من أجل نِعَم الله على الراعي والرعية.
(٥) للعبرة والتاريخ
مدريد هي عاصمة إسبانيا الآن، والبيئة الوحيدة التي يعيش في جوها علماء الإسبان، وتطلع في سمائه شموس عرفانهم وعلومهم وفنونهم. وهي مظهر مدنيتهم ومجلى حضارتهم التي لا شك أنها أثر مما تركه العرب في بلادهم: من علم جم، وفن راقٍ، ومدنية صادقة، وحضارة فائقة. ولقد كانت الفائدة منها تكون أعم، والنفع بها أتم، لو لم يكن في الإسبانيين ذلك التعصب الديني الشنيع، وبخاصة بعد أن وصلتهم بالعرب لحمة النسب، وامتزج دم الفاتحين بدم المغلوبين؛ فقد كانت فتوحاتهم بالأندلس موجِبة لوقوع كثير من أسيرات الإسبان في أيديهم، مما كان موجبًا لزواجهم منهن أو التسري بهن، حيث كن — في حكم الفاتحين — ملك يمين، وهي شرعة من شرائع الحروب البائدة، وفي هذه الحالة كانوا يسمونهن «أمهات أولاد».
ولقد كثر زواج ولاة الأندلس من العرب وأمرائهم بالإسبانيات، وأول من تزوَّجَ منهم عبد العزيز بن موسى بن نصير، فقد تزوج بالسيدة أيلونا أرملة لذريق ملك القوط، بعد أن مات إثر جروحه في واقعة شريش التي تغلَّب عليه فيها طارق بن زياد. وتزوج الأمير محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط بإسبانية اسمها مارية، ورُزِق منها بولده عبد الرحمن الناصر. وتزوج الحكم بن الناصر بالسيدة صبح البشكنسية، وأعقبت له هشامًا المؤيد. وتزوج المنصور بن أبي عامر بنت سانكو ملك نافاريا، وولدت له ابنه عبد الرحمن، وكانوا يسمونه سانكو الصغير لميله إلى ملاذِّه، وجرأته على الدين في سيرته الشخصية. وتزوج المأمون بن الناصر سلطان الموحدين إسبانية اسمها حباب، وخلَّف منها ابنه الرشيد. وتزوج السلطان محمد بن أبي الحسن بن الأحمر بالسيدة ثريا الإسبانية، وولدت له ابنه أبا عبد الله. وكانت أم عبد الحق بن أبي سعيد سلطان بني مرين إسبانيَّةً.
وقد فشا الزواج والتسري بالإسبانيات من القوط وغيرهم بين الأمراء والرؤساء من العرب، وكان لهذا العنصر الجميل شيء من التأثير فيهم، لم تكن تظهر نتائجه الخبيثة إلا عند ضعف الدولة، كما كان سببًا في استكانة هشام المؤيد إلى حاجبه ابن أبي عامر، تلك الاستكانة التي ساعدت عليها في أول الأمر أمه، فلما اختلفت مع المنصور بعد أن قويت شوكته، وظهرت عبقريته، وتوطدت دعائم سطوته، وقبض على مقاليد الحكم بيد من حديد، أخذت تضرم في قلب ولدها النار التي أطفأتها، وتثير في نفسه شيئًا من الحياة التي أماتتها، ولكنه كان في سن الأربعين؛ بحيث أصبح — والجبن ملء جسمانه — لا يهتم بشيء من أعمال الدولة، إلا ما كان يقوم بملاذِّه وشهواته!
ولم يقف الزواج أو التسري بالإسبانيات عند الولاة والأمراء في الأندلس، بل تعداهم إلى عامة العرب، وقد ذُكِر أبناؤهم منهن بالإضافة إلى أمهاتهم مما لم يكن في طبيعة العرب، فقالوا: ابن الرومية، وابن القوطية، وهكذا.
ويظهر أن هذا التلقيح الطبيعي قد أثَّر في طبيعة العرب ولا سيما البربر، فرقَّق من أخلاقهم، وقلل من حدتهم، وكان فيهم سببًا للتسامح الذي أحسنوا به عشرتهم مع مَن بقي في وسطهم من القوط وغيرهم، سواء أأسلموا أم بقوا على ديانتهم، فتركوا لهم كنائسهم وبِيَعَهم وحريتهم في مزاولة شرائعهم، هذا التسامح الذي أثَّر بسرعة في طباعهم بما جعلها مستعدة لهذا الرقي السريع الذي ظهرت به ثقافتهم في كل مرافق مدنيتهم الجديدة. وإنَّا إذا تركنا جانبًا ذلك الأثر السياسي الذي أرضعه الأمهات الإسبانيات أبناءَهن، وخصوصًا في الطبقة العالية مما جرَّأ كثيرًا منهم على التهاون في القواعد الدينية والعصبية، فإنا نراهُنَّ من جهة أخرى قد أثَّرْنَ بلطافة أخلاقهن، وجمال عشرتهن، وليونة ملمسهن في نساء العرب اللواتي ظهر منهن كثيرات في عالم الأدب، وكان ظهورهن في أفق هذه البلاد من الأسباب التي جرت بالرجال إلى ميادين العرفان في كل نوع من أنواع العلوم، وخاصة الأدب الذي كان لهم فيه القِدْح المُعَلَّى، حتى لقد كانت لهم في عواصم البلاد أندية كثيرة تجمع بين الجنسين لمذاكرة العلم والأدب والنظم من شعر ونثر، وهذا لعمري آية الآيات، ونهاية البراهين على علو القوم في مدنيتهم. ولا نزال نجد البرهان الوحيد على رقي الأمم نبوغ الجنس اللطيف فيها؛ فإن النساء خير موصل لحقائق الكون ودقائقه إلى أبنائهن وهم في نعومة أظفارهم، فينشَئون بعقول سليمة وأفئدة ذكية وبداهة فائقة، وهي الأسس التي ينبني عليها مجد الأمم وعظمتها.
ويحسن بنا هنا أن نذكر لك بعض من نَبَغْنَ بالأندلس من الجنس اللطيف في عالم الأدب وتبريزهن في الشعر والنثر، بحيث أصبحن في مقدمة أهله لطفًا وظرفًا وبديهة ومتانة، حتى تكون عندك فكرة مما كان عليه هذا الجنس اللطيف فيها.
فمنهن أم العلاء الحجازية، وقد كانت شاعرة أديبة، ومن قولها:
ومنهن أَمَة العزيز، ومن قولها:
ومنهن أم الكرام بنت المعتصم بن صمادح ملك المرية، ويقال إنها كانت تحب فتًى من عامة الناس، ومن قولها في ذلك:
ومنهن حفصة الركونية، وقد كتبت إلى عبد المؤمن بن علي سلطان الموحدين، وكان من عادتهم أن يبدءوا كتابتهم بقولهم «الحمد لله وحده»:
ومن قولها في نفسها:
وبلغت هذه الأبيات المقتفي أمير المؤمنين، فقال: اسألوا هل تصدق صفتُها قولَها؟ فقالوا: ما يكون أجمل منها. فقال: اسألوا عن عفافها؟ فقالوا: هي أعف الناس. فأرسل إليها مالًا جزيلًا لتستعين به على صيانة جمالها ورونق بهجتها.
ومنهن العبادية جارية المعتضد بن عباد، وكان المعتضد يحبها، وقد سهر ليلة بجوارها وهي نائمة فقال:
فأجابته بديهة بقولها:
ومنهن حمدونة، ويلقبونها بخنساء المغرب، ومن شعرها:
ومنهن عائشة بنت أحمد القرطبية، وكانت من عجائب زمانها، وكانت تحسن الخط وتكتب المصاحف، ودخلت على المظفر بن المنصور بن أبي عامر وبين يديه ولده، فارتجلت:
ومنهن مريم بنت يعقوب الأنصاري، ومن شعرها وقد كبرت:
ومنهن نزهون الغرناطية، وكانت تقرأ على أبي بكر المخزومي الأعمى، فدخل عليهما أبو بكر الكندي، فقال يخاطب المخزومي مستجيزًا:
فأفحم وأطال الفكر، وما وجد شيئًا يجيز به، فقالت نزهون:
ومنهن ولادة بنت الخليفة المستكفي حفيد الناصر الأموي، قال ابن بشكوال: كانت ولادة أديبة شاعرة جَزْلة القول حسنة الشِّعر، وكانت تناضل الشعراء، وتساجل الأدباء، وكانت في نهاية من الأدب والظرف … إلى أن قال: وكان مجلسها في قرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعبًا لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهافت أفراد الشعراء والكتَّاب على حلاوة عشرتها، وعلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب، وكرم أنساب، وطهارة أثواب، ولها مع ابن زيدون أخبار كثيرة (ومن قوله وقت فراقه إياها):
وكان منهن مَن تكتب للأمراء، مثل لبنى كاتبة الحكم بن عبد الرحمن، ومزينة كاتبة الأمير الناصر، وقد ذكر ابن فياض في تاريخه «أنه كان بالربض الشرقي في قرطبة مئة وسبعون امرأة، كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي»، فكم كان إذن في كل أرباضها التي بلغت ٢٨ ربضًا ممن كان لهن مثل هذه الصفة من هذا الجنس اللطيف؟
هذا ما اقتصرنا عليه من ذكر أديبات الأندلس.
والآن نذكر لك بعض مَن نبغ من رجاله الذين لا يحصيهم العد.
أما من ظهروا في عالم الأدب، فيكادون لا يُحصَون عدًّا، ويمكنك أن تطَّلع على بعضهم في قلائد العقيان وغيره من كتب الأدب والسير والطبقات والتاريخ، كالإحاطة ونفح الطيب، وإن كنت أرى أنهما إلى الأدب أقرب منهما إلى التاريخ. وقد برز من هؤلاء كثيرون، في مقدمتهم الوزير لسان الدين بن الخطيب، وابن عبد ربه صاحب العقد الفريد، والفتح بن خاقان صاحب قلائد العقيان، والشريشي شارح المقامات، والمنصور بن أبي عامر، وابن خفاجة، وابن هانئ، وابن زيدون، وابن عمار، والمظفر الأفطس ملك بطليوس الذي ألَّف كتابًا في الأدب في نحو مائة مجلد، والوزير ابن زمرك، وابن سِيدَهْ الذي ظهرت مواهبه في اللغة، وهو صاحب كتاب المخصص، وغيرهم وغيرهم ممن تحلَّتْ الطروس بسطورهم، والنفوس برائع كلماتهم وبديع آياتهم، مِن شعرٍ يأخذ بالألباب، ونثر يصل برقَّته إلى سويداء القلوب.
وكان عبد المجيد بن عبدون يحفظ جملة من كتب الأدب، ومنها كتاب الأغاني، وكان الخلفاء والأمراء يقترحون على الناس حفظ الكتاب الفلانيِّ ويقدِّرون لذلك جائزة لها قيمة، وكان هذا سببًا لشيوع الحفظ فيهم.
وكان الأمراء الأمويون أنفسهم في مقدمة رعيتهم فضلًا وعلمًا وأدبًا، ومنهم من كان له قدم عالية في الشعر، ومن قول الأمير عبد الله بن محمد، وهو غاية في الرقة وأظن أنه لم يسبقه غيره إلى هذا المعنى:
ومن الذين نبغوا في الجغرافية ولهم مؤلفات فيها: الإدريسي، والبكري صاحب المعجم، وابن جبير، والحجازي صاحب المسهب. أما الذين ظهروا في التاريخ فهم كثيرون، منهم: ابن خلدون (أصله من إشبيلية)، وابن حَيَّان، وابن بَشْكُوَال، وابن سعيد، وابن الخطيب.
وقد برز في علم الموسيقى ابن فتحون، وابن باجه، ويحيى الخدج، ولهم فيها مؤلفات كانت أصلًا لترتيب النغمات الإفرنكية وتقييدها في مذكرتها الحاضرة (نوتتها).
ومما مر ذِكْرُه ترى أن الذي كان ينبغ منهم في مادة لا يمنع نبوغه فيها تبريزه في مادة أو مواد أخرى، كابن رشد مثلًا، فإنه كان عالمًا دينيًّا، وأديبًا، وشاعرًا، وطبيبًا، وكاتبًا، وفيلسوفًا، وكذلك ابن باجه، فإنه كان مع هذا كله موسيقيًّا.
ولولا التطويل الذي لا تتسع له هذه الكلمة لأكثرنا لك من هذه الأمثلة التي يخجل أمامها هؤلاء الذين يدَّعون جلال العلم من غير ما علم، وقد أصبح هذا من علل الشرق بعد أن كان فيه من علمائه من ينحني رأس التاريخ أمام أسمائهم إعظامًا وإكبارًا.
هوامش
ومن ثم أخذ هذا الاختراع العجيب يزيد في صلاحيته حتى وصل إلى ما تراه الآن من نقل الركاب بين إنكلترا وفرنسا، وبين هذه وبلاد المغرب، ونقل البريد بين مصر وبغداد بطريقة منتظمة، ثم في قطع المسافات الشاسعة بين أوربا وأمريكا، وبينها وبين مصر والهند وأستراليا. ولا بد أن يأتي يوم تكون فيه حركة الطيارات في الهواء كحركة العربات على وجه الأرض.
وقد صنع الألمان أخيرًا منطادًا كبيرًا اسمه (جراف زبلن) تزيد مساحته عن مائة ألف قدم مكعب، وقد جُهِّزَ بخمسة محركات قوة، كل واحد منها ٥٥٠ حصانًا، وقطع المسافة بين ألمانيا ونيويورك ببضائع كثيرة وبثلاثين راكبًا بسرعة ١٣٥ كيلومترًا في الساعة.
والآن يعمل الإنجليز بالونًا يسع أكثر من مائة راكب، اسمه (ر١٠٠)، طوله ٧٢٤ قدمًا، وبه قاعات لنوم المسافرين، وفيه قاعة تسع خمسين نفسًا يجلسون فيها للطعام ولتمضية الوقت فيما يسليهم في سفرهم من قراءة وغيرها، وهو يقطع ١٨٠ ميلًا في الساعة.