الرسالة الخامسة
قام القطار من إشبيلية الساعة العاشرة صباحًا، واتجه إلى الجنوب الشرقي في أرض تكثر فيها المزارع وغابات الزيتون والكافور ومروج الخضر، تتخللها أشجار الفاكهة من برتقال ونارنج وتين وليمون، وقد يكثر على حافتي الطريق التين الشوكي والصبار ونبات الخلة وشوك القرطم، وعلى كل حالٍ الزراعة هنا شتوية أكثر منها صيفية، أعني أنها تنحصر في القمح والفول وما إليهما، وهي بوجه عام أشبه شيء بزراعة الحيضان عندنا قبل أن يدخل عليها النظام الصيفي، وتربة هذه الجهة جيدة، وأرضها مسطحة، ولا بد أنه كان فيها مدة العرب نظام للري أُهمِل بعدهم، وبقيت زراعتها لا تُسقَى إلا مرة واحدة قبيل الزرع، وهي أشبه بما يسمُّونَه عندنا الزراعة البعلية. ويختلف أمامك معدن الأرض، فطورًا تراه حديديًّا ويزرعون فيه كروم العنب، وطورًا تراه طفليًّا ويزرعون فيه الفاكهة، وكلما قربت إلى الشرق كثرت أنواعها من مشمش وكمثرى ورمان وخوخ وتفاح، وترى معدنها أسود، ويزرعون فيه الخضر، والبطيخ والقاوون، وهما من أحلى شيء في نوعهما.
والسفر من إشبيلية إلى غرناطة صعب جدًّا بالسكة الحديدية من كل وجه؛ لأن عرباتها قديمة، وهي أشبه شيء بعربات خطوط الشركات الضيقة عندنا، ومع أن المسافة بينهما ٢٨٨ كيلومترًا يقطعها القطار في أكثر من عشر ساعات، وليس فيه عربة للأكل، وقد يقف القطار كثيرًا في بعض المحطات انتظارًا لقطار ثانٍ آتٍ من طريقه أو من طريق آخر، ولا ترى في المحطات إلا باعة الماء في الغالب، وكلما اتجهت إلى الشرق وجدت من يبيع شيئًا من الفاكهة خارج سياج المحطة، وبالجملة الماء هنا هو أول شيء يحتاج إليه الإنسان في كل وقت لشدة الحرارة، وقد كنت أحسبني قليل الشرب جدًّا حتى في مدة الصيف، ولكني هنا أراني أُكثِر من الشرب في كل وقت مدفوعًا بشدة العطش. وقد تُحدِث شدة الحرارة هنا تهيجًا في الحلق والحنجرة، فترى الناس يبصقون كثيرًا في الطريق وغير الطريق من غير مبالاة، مما لا تراه إلا نادرًا في البلاد المتمدينة، بل قد يكون سببًا في تهيج الشُّعَب فيكثر السعال.
وما زلنا سائرين حتى إذا كُنَّا على بعد ساعة من غرناطة ابتدأت الزراعة تكسو أرض الوادي كله، وبدت لنا جداول الماء تظهر بكثرة، بعضها مبني وبعضها محفور، يغذيها نهر شنيل من اليمين، ونهر دارو (حَدَارُّه كما كانت تسميه العرب) من اليسار، بحيث لا تقع العين إلا على مروج ناضرة ورياض زاهرة، ترى فيها الذُّرة والبنجر والخضر وأشجار الفاكهة والدخان الهافاني بشكله الجميل، وهو رخيص جدًّا في هذه البلاد، وهنا خطر ببالي كيف أن الحكومة المصرية الدستورية لا تزال تحجر على حرية الناس بمصر في زراعة الدخان، فإن قيل إن زراعته تقلل من إيراد المكوس (الجمارك) قلنا بإمكان فرض ضريبة على زراعته تعوض على الحكومة ما تخسره من عدم وروده من الخارج، وتعود على الأهالي — وخصوصًا أصحاب الجزائر التي لا تصلح إلا لزراعته — بالفائدة التي لا يزالون يرجونها من إنتاجه. وفي الساعة الثامنة مساء وصل القطار إلى غرناطة.
(١) غرناطة
هي مدينة واقعة في الشمال الغربي من جبل شلير أحد حلقات جبال سيرا نوفادا، وعدد أهلها الآن ٨٠ ألف نفس، ويقطعها نهر دارو الذي ساقه إليها العرب من هذا الجبل، وفي جنوبها نهر شنيل الذي يروي ما دونها من الأراضي الواسعة الجميلة التي يسمونها بالمرج، وذلك بواسطة الترع التي سيَّرتها بها العرب، ونظام الري الذي أنشَئُوه فيها، وهو قائم إلى الآن بوظيفته في هذه الجهة التي لا تزال من أخصب بلاد إسبانيا، وأبنية المدينة القديمة على الشكل القوطي في شوارعها الضيقة، أما شوارعها الكبرى فقد دخل عليها مسحة من نظام البناء الإفرنجي، ويظهر أن سبب ذلك هو أن درجة الحرارة فيها أقل منها في إشبيلية وقرطبة كثيرًا؛ وذلك لكثرة ما يتخللها من مجاري المياه، ويحيط بها من كثير الغابات والمزارع ومراقد الثلوج المستديمة التي تراها على قمم سيرا نوفادا، ومع هذا ترى شوارع المدينة غير نظيفة ويكثر فيها التراب، وبالجملة ليس فيها ما هو جدير بأن أحدِّثك عنه؛ لأنها ليست بالشرقية ولا بالغربية، اللهم إلا تلك الجهة الواقعة على منحدر الجبل إلى القصر ويسمونها قسم البيازين، وهذا القسم هو الباقي من مدة العرب، وهو الذي ترى عليه صورة عربية جافة تكثر فيها المنافذ، وليس فيها شيء من الفن ولا من جمال الشكل، ويظهر أن حركة التجارة والصناعة في المدينة حركة لا بأس بها، وخصوصًا في تجارة المحصولات الزراعية.
ولقد كانت هذه المدينة مدة العرب غاية في الجمال والجلال والفخامة، وكان سكانها مدة بني الأحمر لا يَقِلُّونَ عن نصف مليون من النفوس؛ لأن سواد البلاد الإسلامية بالأندلس هرع إليها بعد سقوطها في يد الإسبان، وكان منهم عدد كبير من اليهود، وكان العرب يسمونها دمشق لكثرة مائها ومزارعها، وكان فيها كثير من البساتين بحيث كان للغني بالله وحده بها مائة بستان، وفيها يقول لسان الدين بن الخطيب:
وكان يحيط بها مدة بني الأحمر سور فيه ألف وثلاثون برجًا للمقاتلة، وكان داخل السور مائة وثلاثون طاحونة لطحن الغلال بقوة التيارات المائية.
والآن أذكر كلمتي عن القصر، وهو كل شيء في المدينة.
(٢) القصر
وقد قام على منحدرات هذا الجبل المتعرجة سور مرتفع طوله ٧٢٦ مترًا، فيه ٢٤ برجًا على طوله حول قصر الحمراء، وفي الزاوية الغربية من بناء القصر يميل إلى الجنوب القصبة، وهي القلعة العظيمة التي هي أقدم بناء في هذه الدائرة، بناها محمد بن الأحمر الأول، وأهم هذه الأبراج برج فالا، وارتفاعه ٢٦ مترًا، وفي أقصى القصبة منارة وُضِع في أعلاها جرس زنته ١٢٠٠ كيلوجرام يضرب كل ساعات الليل في أيام السنة كلها، وفي يوم ٢ يناير — وهو اليوم الذي استولى فيه القوط على غرناطة من العرب — يضرب هذا الجرس باستمرار ٢٤ ساعة احتفاء بهذا اليوم الذي هو من أكبر أعيادهم، إن لم يكن أكبرها.
دخلت إلى هذا البستان من باب كبير وهو من بناء العرب، وُضِع عليه من جهتيه كرة من الحجر على شكل الرمانة، وهي إشارة لطيفة لاسم المدينة، ولقد أصلح هذا الباب الملك شارلكان ووضع عليه (رنكه). وما زلنا سائرين في طريق صاعد وسط هذا البستان الجميل إلى أن وصلنا إلى بناء على جهتيه، هو فندق واشنجتون، ويقال إنها بُنِيت على المقبرة الإسلامية لملوك غرناطة. وما زلنا صاعدين وإلى يسارنا سور عالٍ من الطوب الأحمر، هو سور قصر الحمراء، حتى وصلنا إلى باب قصر جنراليف.
وهذا القصر يتدرج بستانه إلى ثلاث مناطق، كل واحدة فوق الأخرى ببضعة أمتار، يُصعَد إليها بوساطة سلالم من الرخام، وكل بستان منها زهرية مستطيلة في وسطها بحيرة كبيرة مستطيلة وهي من الرخام، وفي جوانبها نافورات الماء التي إذا فُتِحت ينفجر منها الماء على هيئة أقواس من البلُّور، تنتهي إلى وسط البحيرة بنغمات مشجية، وإذا انعكست فيها أشعة الشمس رأيت أقواس قزح هنا وهناك على البحيرة بشكل بديع جدًّا. وينتهي البستان الأول إلى إيوان جميل فيه شيء كبير من الفن، ويشرف من جهة الشمال على قسم البيازين (المدينة القديمة)، ومن جهة الغرب على قصر الحمراء، أما البستان العالي فيتصل بقصر الحرم، وأما الوسط فبينه وبين الإيوان، وفي هذا البستان شجرة من الأرز يسمونها أرزة الملكة، ويقولون إن عمرها يرجع إلى سنة ١٤٠٠ ميلادية.
وبالجملة هذا القصر في وضعه ونظامه ونضارة جنانه آية في الإبداع وكمال الذوق، مما لا يتيسر وصفه إلا لشاعر أو مصور، وهنا أرجو حضرات القراء أن يسمحوا لي بأن أحدثهم بكلمة عن قصر الحمراء.
(٣) قصر الحمراء١
وهنا نبدأ بشرح ما بقي من الآثار العربية التي تتصل بحال مباشرة أو غير مباشرة من جهتها القبلية بقصر شارلكان، الذي ليس فيه شيء من الجمال، وإن كان شكله الداخلي لا يخلو من العظمة والفخامة.
وأبنية هذا القصر ليست لشخص واحد من بني الأحمر، بل هي لجملة منهم.
وأول ما يشاهد الإنسان منها مسجدها الخارجي، وهو على صغره غاية في الفخامة، ونقوشه في منتهى الجمال، وقد حوَّله القوم إلى كنيسة مدة شارلكان، ولكن من غير أن يبدلوا شيئًا من نقوشه ولا من الكتابة التي على حوائطه، وهذا المسجد من بناء محمد الثاني، وقال بعض المؤرخين إنه كان بحائط محرابه أحجار ياقوت مرصعة في جملة ما نُمِّقَ به من الذهب والفضة، ومحرابه من العاج والأبنوس (ولكني لم أرَ شيئًا من ذلك).
أما قاعة الحكم أو قاعة العدل فقد بناها السلطان يوسف الأول في أواخر القرن الرابع عشر، وهي مربعة الشكل، طول كل طلع منها ١٥ مترًا، وارتفاعها عشرون مترًا ونصف متر، وحوائطها جميعًا منقوشة بنقوش جصية بديعة جدًّا، وفيها صورة يد مرفوعة إلى السماء وبجوارها مفتاح؛ إشارةً إلى أن العدل مفتاح السعادة في الدنيا والآخرة، وفيها كتابات عربية يكثر فيها «عز لمولانا أبي عبد الله»، «لا غالب إلا الله»، ومن خارجها بهو طويل، من جهته اليسرى أعمدة رخامية على طوله، وبه من النقوش العربية شيء يدهش الأنظار ويأخذ بالأبصار، وقد وضع فيه القوم أخيرًا كلمة بالإسبانية على قطعة من الرخام تشير إلى استيلائهم على غرناطة.
وهذه القاعة مربعة، طول كل ضلع منها ٦٫٢٥ أمتار، وفي وسطها بركة من الرخام، وحوائطها كلها بالنقوش الغريبة، عليها كتابات عربية من أعلاها إلى أدناها، وسقفها قطعة واحدة من المقرنصات الهائلة، من دونها ١٦ منارًا تحملها مقرنصات تنزل بميل حتى تتصل بالحائط على طول مترين ونصف متر، وفيها من النقوش ما هو غاية في الإبداع مما لا يمكن أن يصفه البراع، ويقال إن المقرنصات التي بها فيها أكثر من خمسة آلاف شكل لا يشبه بعضها الآخر.
أما القاعة التي تجاهها فتسمى بقاعة الأختين، وهي على شكل قاعة بني سراج في صناعتها وبهجتها، إلا أن هذه تتصل بها من داخلها قاعة جميلة في صناعتها وهيئتها تسمى قاعة الملكة، وتشرف من جهتها الشمالية على بستان واطئ عنها ببضعة أمتار، يسمونه بستان الملكة، ويقولون إن تسميتها بقاعة الأختين لأن فيها رخامتين كبيرتين شكلهما واحد، وهي تسمية سخيفة، لا أظنها تتفق مع أبهة المكان، ولعها كانت لأختين لأحد ملوك بني الأحمر.
ومن دون حوش الريحان إلى الجنوب الشرقي الحمام، وهو شيء من الإعجاب بمكان، وهو على النظام الروماني، يُدخَل إليه أولًا من غرفة جميلة، فيها مصطبتان رخاميتان للاستراحة، إحداهما قبالة الأخرى، واحدة للملك والثانية للملكة، وفي وسطها بركة رخامة يحيط بها أربعة أعمدة من المرمر، يرتكز عليها سقف يحيط به أطناف من طبقته العليا، ويقال إنه كان مكان الغواني اللواتي كُنَّ يضربن الموسيقى وقت استحمام الملك، وعلى كل حال إن النقوش التي بهذا المكان من جصية وذهبية تتناسب مع جلال الملكية. ومن داخل هذا المكان الحمام، وفيه قبة من الجص فيها فتحات للنور ثبتت عليها قطع زجاجية، وفيه حوضان يسير إليها الماء بتدبير في أقنية تتصل بالجبل، وليس في غرفة الحمام الداخلية شيء من الجمال وخصوصًا القبة؛ فإن خشونة منظرها لا تتفق مع جمال المكان الخارجي (بيت أول)، ولعل القبة هُدِمت فيما هُدِم من الحمامات والمساجد أيام شارلكان، ثم أقاموا هذه في مكانها. وفي وسط الحنايا التي من جهة الشمال من حوش الريحان مسجد القصر الخصوصي، وقد نُقِشت حوائطه بنقوش بديعة يتخللها كتابات كثيرة بالخط العربي الجميل في طولها، وقد قرأت منها مما يلي باب المسجد هذين البيتين، وربما كانا أول القصيدة:
ومكتوب فوقها «عز لمولانا السلطان عبد الله»، والداخل إلى المسجد يرى على يمينه ويساره فتحة في الحائط طولها نحو ثلاثين سنتيمترًا، وعرضها أربعون سنتيمترًا ويقولون إنها مكان لنعال الملك وقت دخوله إلى المسجد، ولكن ما يحيط بهذه الفتحة من تكرار اسم الجلالة يمنعنا من تصديق القوم، ونضيفها إلى حلي الصناعة التي فيه، أو أنها مكان كان يوضع فيه شيء من الورود والأزهار والرياحين. وهذا المسجد قاعة فيها محراب كان فيه المصحف العثماني الذي أهداه بنو الأحمر إلى السلطان يوسف بن يعقوب المريني سنة ٦٩٢ﻫ، وهذا المحراب آية في نقوشه التي تتخللها كتابات عربية تبتدئ بهذه الألفاظ: «بسم الله»، «القدرة لله»، «العزة لله»، «الملك لله»، «ولا غالب إلا الله» … إلخ. ووجهة المسجد من الشمال كلها مكونة من مقاصر قامت على أعمدة رخامية صغيرة، وهي تشرف على قسم البيازين.
وعلى كل حال إن قصر الحمراء آية الآيات في الإعجاب والإغراب في كل باب من أبواب العظمة الفنية والجلال الهندسي، مما لا يمكن إنسانًا وصفه، وإني أتصور أنك لو جئت بألف واصف لكان وَصْفُ كلِّ واحد مخالفًا لوصف الآخر؛ ذلك لأن عواطف كل شخص منهم تتغلب عليه بمؤثرات كثيرة متغايرة، فهذا يصفها من حيث جلالها، والآخر يصفها من حيث جمالها، والثالث من حيث ما فيها من العظمة الفنية، والرابع من الجهة التاريخية، والخامس من الهيئة الطبيعية، والسادس من العبرة الزمانية، وهكذا. ولا أحسبني في شيء من هذا كله؛ لأن شدة إعجابي بهذا المكان قد طاش معها الجَنان وجمد البيان، خصوصًا بعد أن تجلَّت أمامي تلك الصحيفة التاريخية الرائعة التي انتهى بها حكم بني الأحمر في غرناطة، أو بعبارة أخرى حكم العرب بالأندلس، تلك الصحيفة التي كُتِبت بدماء قلوب المسلمين التي أسالتها عوامل الظلم ومعاول النكبات التي سقطت عليهم من قساوسة النصرانية وملوكها بإسبانيا، وكأني كنت إذا نظرت من أعلى القصر إلى قسم البيازين سمعت أنين المقتولين، وصراخ المصلوبين، وعويل المشردين من النساء والشيوخ والأطفال! والملك لله وحده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وهنا أرجو القارئ أن يعذرني إذا قصَّرت في وصف هذا القصر الذي لم أفهم منه شيئًا غير دهشتي لفخامته؛ ذلك لأن جلال هذا المكان الحقيقي في صنعته الفنية، ولم يحدثنا مؤرخو العرب عنها بشيء، بل كان وصفهم له يحوم حول فخامة البنيان وما يحيط به من ذهب برَّاق وثروة واسعة هي نتيجة لازمة لضخامة الملك وعظمته. وما تراه في كتب الإفرنج لا يخرج عن ذلك، سوى ما فيه من الأغلاط التاريخية التي أساسها الجهل والتعصب الديني والجنسي؛ لذلك أطلب إلى حكومتنا الموقرة أن توفد إلى إسبانيا بعثة من رجال الفن العربي بمصر، ممن يلتحقون بدار الآثار العربية على الخصوص، وهذه بعثاتها قد جاوزت الحد ممن يشتغل بالمهم وغير المهم، فهل نراها تبخل على العلم والفن والتاريخ ببعثة كهذه تزيح اللثام عن شيء يتحدث جميع الناس قديمًا وحديثًا بجلاله وجماله، وهم لا يعرفون شيئًا مما فيه من الفن العربي العجيب، والذي كله آيات بيِّنات مدهشات، وخاصة هذا الفن قد انمحى أثره من الشرق، فليس منه شيء في بغداد، والبقية الصالحة التي كانت منه بدمشق قد أحرقها الفرنسيون أخيرًا بإطلاقهم النيران على بيت العظم الذي انتهت إليه عظمة الفن العربي في الشام وسورية!
وفي إسبانيا الآن رجال يعملون في الصناعة الخشبية الدقيقة بالتنزيل والتطعيم على أشكال مختلفة، فيها رسوم جميلة من آثار الصناعة القديمة، وكذلك عندهم رجال يعملون في النقوش الجصية التي يستعيرونها من الأشكال القديمة، ويدخلونها في مبانيهم الحديثة الفخمة، وقد ترى ذلك مجتمعًا في ذلك المعرض الذي يقيمونه في إشبيلية لسنة ١٩٢٨، وقد مر بك ذكره، وفيه أحسن صناعاتهم هنا. وفي إشبيلية وقرطبة على الخصوص صناعة القاشاني العجيبة اللطيفة الشكل الكثيرة الألوان، ولا شك أنها من أثر الصناعة القديمة، وإن كانت لا تصل إليها في جودتها وجمال منظرها.
(٤) للعبرة والتاريخ
(٤-١) بنو الأحمر
بنو الأحمر من العرب الذين أجازوا إلى الأندلس ويُسمَّون بني نصر، وأصلهم يتصل بسعد بن عبادة الأنصاري الصحابي سيد الخزرج، وكانوا من جند أرجونة «من حصون قرطبة»، وكان كبيرهم لآخر دولة الموحدين محمد بن يوسف بن نصر، ويُعرَف بالشيخ، فلمَّا ضعف أمر الموحدين وكثر الثوار بالأندلس، وقام منهم محمد بن هود بمرسية واستولى على شرق الأندلس تصدى له محمد بن الأحمر، وانتهى أمره بأن تغلَّب على غرناطة سنة ٦٣٥، وما زال حتى غلب عليه الأذيفونش، فاستصرخ يعقوب بن عبد الحق سلطان المغرب من بني مرين، فأجاز له جيشًا دفع به عدوه، ومات محمد بن يوسف سنة ٦٧١، وقام بالأمر بعده ابنه محمد، وكان يُعْرَف بالفقيه، فاستولى على جنوب إسبانيا إلى الجزيرة الخضراء، وأصبح له السلطان فيها حتى مات سنة ٧٠١، وكان من خيرة بني الأحمر سياسة وكياسة وهمة، وتولى بعده ابنه محمد الملقب بالمخلوع، ثم أخوه أبو الجيوش نصر، ولم تطُلْ مدة حكمهما، وأتى بعدهما أبو الوليد بن أبي سعيد بن إسماعيل بن نصر، وكان من أحسن ملوكهم سيرة، وأبعدهم همة، وأكبرهم قوة، وأعظمهم سلطانًا، ومات سنة ٧٢٧، قتله أحد قرابته غدرًا في داره، وتولى بعده محمد بن أبي سعيد، ومات مقتولًا سنة ٧٣٢، فولي الأمر بعده أخوه أبو الحجاج يوسف الذي مات قتيلًا سنة ٧٥٥، بطعنة رجل من السوقة، وكان من خيرة بني نصر، فقام بالأمر بعده ابنه محمد، فاستبد به حاجبه رضوان، وحجبه عن الناس، فثار أخوه إسماعيل بن يوسف وقتل رضوان، وتولى الملك سنة ٧٦٠ بعد أن نفى أخاه محمدًا إلى المغرب، فقام أبو يحيى من ولد عمومته وقتله واستولى على الملك، ولكنه لم يلبث أن عاد إليه محمد بن يوسف بمساعدة بني مرين باتفاقهم مع ملك قَشتالة وتلقَّب بالغني بالله، ولم يلبث أن قويت شوكته وتوطدت دعائم سلطته؛ لاختلاف ملوك الإسبان بعضهم مع بعض، ولم يُضِعْ الغني بالله هذه الفرصة، بل عمل بحسن سياسته على استرداد كثير من البلاد التي استولى عليها الإسبان مدة أسلافه، وهو الذي استوزر لسان الدين بن الخطيب الذي أبلى في خدمته بلاء عظيمًا، وصحبه في نفيه إلى المغرب، وانتهى أمر الغني بالله بأن قتله لوشاية به.
وقد وفد ابن خلدون على الغني بالله سنة ٧٦٣ﻫ وأقام في خدمته، وكثيرًا ما كان يستخدمه في السفارة بينه وبين ملك الإسبان بإشبيلية، وكان النجاح مصاحبًا له في سفاراته، ولكنه بعد أن أقام في خدمته ثلاث سنوات استقال؛ خوفًا من السعايات والوشايات التي راجت سوقها في البلاد، وسافر إلى بجاية، ومنها إلى المغرب، ثم إلى مصر زمن الظاهر برقوق، الذي ولَّاه قضاء المالكية، ثم استقال من هذه الوظيفة واشتغل بالتدريس والتأليف حتى مات بالقاهرة سنة ٨٠٨.
ولقد أطلق الإسبان أبا عبد الله من أسرهم لمناوأة عمه الزغل، فأخذ يشن عليه الغارة بمساعدتهم، وكانوا ينتهزون فرصة اشتغال المسلمين بأنفسهم ويستولون على أطراف البلاد، وفي هذه الأثناء استولوا على كثير من البلاد الحصينة المهمة مثل مالقة والمرية، وانتهى أمر المسلمين بأن عرضوا على الزغل وابن أخيه أن يقتسما ما بقي لهم في البلاد حتى لا يكون خلافهما سببًا في نكاية العدو بالمسلمين، فخرج الزغل إلى وادي آش، واستولى أبو عبد الله حليف القشتاليين على غرناطة، وكان الإسبانيون يرسلون إلى الزغل من يزيد في الفتنة بينه وبين ابن أخيه صاحب غرناطة، حتى سار معهم لحربه؛ لأن فرديناند غضب عليه إذ لم يقبل أن يسلمه حصن الحمراء. وبعد أن استولى القشتاليون على أغلب الحصون التي حول غرناطة سلطوا على الزغل رجلًا من بني الأحمر اسمه يحيى كان قد تنصر، وكان يعيش في إشبيلية، فأخذ يخوف الزغل من الإسبان، ويحسن له أن يتنازل عن وادي آش لفرديناند إزاء مبلغ كبير من المال، ثم يجيز إلى بلاد المغرب حتى يكون في أمن منهم، فعمل الزغل بنصحه أو بخديعته، وأجاز إلى فاس بأموال جمة، ولكن سلطانها نقم منه مؤازرته للنصارى على المسلمين، بما كان سببًا في خذلانهم وضعفهم وضياع ملكهم، فصادره في ماله وسمل عينيه، وما زال في سجنه حتى مات في أشنع حالات البؤس. أما أبو عبد الله محمد (والإسبان يسمونه «بوباديل») فإنه ما زال يدفع جيوش النصرانية عن غرناطة حتى صارحه أهلها بأنهم أصبحوا لا قدرة لهم على الدفاع، وأنهم يقبلون شروط الصلح التي أرسل بها إليهم الملك فرديناند، هنالك سلَّم أبو عبد الله مفاتيح غرناطة إلى فرديناند في ٢ ربيع الأول سنة ٨٩٧! ثم هاجر إلى المغرب واستوطن فاسًا كأحد أفراد الناس حتى مات بها سنة ٩٤٠ﻫ، وبقي نسله فيها إلى سنة ١٠٣٧ يعيشون من أوقاف المسلمين المرصودة على الفقراء والمنقطعين! نعوذ بالله من شر نقمته.
ومن هذا تعلم أن مُلْك بني الأحمر بعد القرن السابع للهجرة كان مضطربًا لفساد الأخلاق، ولشيوع السعايات والوشايات بين طبقات الناس، وخصوصًا الطبقة العالية منهم؛ مما كان سببًا لكثرة نكبة الملوك لوزرائهم لأية ريبة، ولكثرة الأيدي التي كانت تعتدي على الملوك من ذوي قرابتهم في الغالب طمعًا في الملك، ورغبة في التمتع بتلك الشهوات واللذائذ التي استسلم لها بنو الأحمر في آخر أيامهم، خاصة مدة يوسف بن الغني بالله، لضعف رأيه وسوء سيرته، وعلى الأخص لخلافهم على الملك، ذلك الخلاف الذي كان يجر إلى حروبهم بعضهم لبعض، واستنصارهم بعدوهم الذي كان ينتهز فرصة هذه الحروب الداخلية فيستولي على بلادهم وحصونهم واحدًا بعد الآخر.
وما زالت هذه الفوضى تنتاب كيان البلاد بما أصبح له فساد القلوب عامًّا بين العظماء والرؤساء، والناس فيما بينهم كالقطيع لا عقل يقوده ولا رأي يدبره، حتى إذا ضرب الدهر ضربته كان تأثيرها شديدًا، بحيث انهار لها في ساعة واحدة هذا البنيان الشامخ الذي أقامه العرب في ثمانية قرون!
ولقد كانت محنة مسلمي غرناطة في مدة السلطان بايزيد الثاني العثماني، فاتفق مع السلطان قايتباي ملك مصر على مساعدتهم، بأن يرسل بايزيد أسطولًا إلى أراضي إسبانيا، وأن يرسل قايتباي جيشًا من جهة إفريقية، إلا أن بايزيد شُغِل بفتنة أولاده كركود وأحمد وسليم، ووقوع الحرب فيما بينهم، حتى آلَ الأمر بتنازله عن الملك لولده سليم. أما ملك مصر فإن فرديناند وإيزابلا أرسلا إليه (المسيو بطره مارتير) سفيرًا، فأبدى من المهارة ما أقنع به قايتباي بأن الإسبانيين إنما يدافعون عن أنفسهم هؤلاء العرب الذين غصبوا ديارهم، ونهبوا أموالهم، وعاثوا في أرضهم فسادًا؛ وبذلك اكتفى كل من بايزيد وقايتباي بأن أرسلا كتبًا إلى فرديناند وإيزابلا، وإلى البابا، وإلى ملك نابولي، بعدم إرهاق مسلمي الأندلس، ولكن صوتهما لم يعمل عملًا؛ لأن الذي يُسمع في مثل هذه الأحوال إنما هو صوت المَدافِع وصلصلة السيوف.
ولقد كانت ملوك الأندلس كلما وجدوا من الإسبانيين ضغطًا عليهم طلبوا معونة ملوك العدوة، فيرسلون إليهم بالغزاة من الرجال والفرسان على أساطيلهم، فيكشفون عنهم ما نزل بهم، كما كان من المرابطين والموحدين الذين آل إليهم ملك الأندلس، حتى إذا ضعف الموحدون استولى ملوك الإسبان على أغلب حصون البلاد ومدنها الشهيرة في القرن السابع الهجري الذي كان شؤمًا على مسلمي الأندلس، فاستولوا على لَوْشَة ومارِدَة وبَطَلْيُوس سنة ٦٢٢، وعلى جزيرة مَيُورْقة سنة ٦٢٧، وعلى قرطبة سنة ٦٣٣، وعلى شاطبة سنة ٦٣٥، وعلى بلنسية سنة ٦٣٦، وعلى مُرْسية وإشبيلية سنة ٦٤٥، وعلى شِلْب وطَلَبِيرة سنة ٦٥٩، ولم يبقَ في يد مسلمي الجزيرة غير غرناطة وضواحيها تحت سلطان بني الأحمر.
بعد ذلك ضربت ملوك النصرانية الجزية على مسلمي الجزيرة، وما زالوا حتى آنسوا من ملوك المغرب وقوع الشقاق بينهم وشيوع الثورات في داخليتهم، واشتغالهم بأنفسهم، وشبوب نيران الفتنة بينهم وبين بني حفص ملوك تونس، فخاطب الإسبانيون البابا في طرد المسلمين من غرناطة، فأقرهم على ذلك، وهنالك فكروا في الحيلولة بين مسلمي المغرب والأندلس، وذلك باحتلالهم ثغور العدوة، فاستولى البرتغاليون على سَبْتة في سنة ٨١٨، واستولى الإسبانيون على جبل طارق في سنة ٨٦٩، ثم على مدينة بونة سنة ٨٦٧، وأعقب ذلك استيلاء البرتغاليين على قصر المجاز في سنة ٨٦٢، وعلى طنجة في سنة ٨٦٩، وعلى أصيلة في سنة ٨٧٦ﻫ.
وكانت حالة المغرب في هذه الآونة في شدة الاضطراب لاستمرار الحروب بين أفخاذ بني مرين، وعلى الخصوص أيام السلطان عبد الحق بن سعيد؛ فإنه لضعفه وصل اليهود في زمنه إلى منصة الوزارة وأصبحت لهم الكلمة النافذة، فأرهقوا المسلمين وأوقعوا عليهم كثيرًا من المظالم والمغارم، وحسَّنُوا لابن سعيد الوقيعة ببني وطاس، وهم فرع من بني مرين، وكان منهم وزراؤه وعظماء دولته، فقبض عليهم وقتلهم، وفر منهم الشيخ محمد الوطاسي إلى الصحراء، فالتفَّت به قبائل البربر وساروا إلى فاس، فاستولى عليها سنة ٨٧٦، وبقي سلطانًا على المغرب الأقصى إلى أن مات في سنة ٩٦٠، وفي مدته وفد عليه السلطان أبو عبد الله بن الأحمر مع أسرته بعد تسليمه غرناطة، فأكرم وفادته وأحسن مثواه.
ومن هذا تعلم أن استيلاء الإسبانيين على ثغور المغرب جعل مسلمي الأندلس في عزلة عن كل معِين، وأصبحت دولة غرناطة محصورة بأساطيل العدو من جهة الجنوب والشرق، وبجيوشه البرية من جهة الشمال والغرب، وما زالوا يضيقون عليه دائرة الحصار حتى استولوا على غرناطة سنة ٨٩٧.
ولقد كان عقلاء المسلمين بغرناطة قبل سقوطها بأكثر من قرن يتوقعون لها هذا المصير، فإن ابن خلدون كان يتوقع سقوطها من يوم إلى آخر في يد العدو؛ لفساد أخلاق أهلها، ولتقاطع الرؤساء وتنابذ الأمراء، وكان ابن الخطيب يقول لأولاده إنها أصبحت دار غربة، ويوصيهم بعدم التوسع في شراء العقار بها.
وكان بعض شعرائهم ينصحون لهم بالهجرة من الأندلس؛ لتوقُّع نكبة الإسبان لهم فيها، ومن قولهم في ذلك:
ولقد تحققت نبوَّتهم، ولما استولى ملوك الإسبان على غرناطة أوقعوا بالمسلمين، ثم ما زالوا حتى طردوهم من ديارهم، وأصبحوا ينطبق عليهم قول عمرو بن الحارث شيخ جرهم:
ولما استولى الإسبانيون على غرناطة، ووافق هذا الوقت استكشاف كولمب لأمريكا، اهتموا بقوتهم البحرية، وعُنوا عناية شديدة بإنشاء الأساطيل وتعزيزها بالرجال الذين لهم دراية بالحرب، وأخذت بحريتهم مدة شارلكان تخرج من جنوة ومن ثغور إسبانيا الشرقية والجنوبية، وتقطع الطريق على مراكب المسلمين التجارية، وفي سنة ٩٢٠ استولت على بجاية ووهران ومدينة الجزائر، وأنشأ الإسبان على سواحل المغرب حصونًا ومعاقل كثيرة.
وبارباروس هذا هو الذي تَسمَّى أخيرًا باسم خير الدين باشا الذي ولاه السلطان سليمان القانوني رياسة البحرية العثمانية، واشتهرت في مدته بحروبها وانتصاراتها على أساطيل أوربا المتحدة، ولولاه لكانت إسبانيا تغلبت على جميع ممالك الغرب مدة الملك شارلكان الذي جمع كلمة أوربا على حرب المسلمين برًّا وبحرًا، فانتصر عليهم السلطان سليمان في الأولى، وخير الدين في الثانية، وأعقب ذلك استيلاء العثمانيين على طرابلس سنة ٩٥٠، ثم على تونس في سنة ٩٨١ﻫ، ولم يزل العثمانيون مستولين عليها حتى تم استيلاء فرنسا على الجزائر سنة ١٢٥٤ﻫ، ثم احتلت جيوشها تونس سنة ١٢٩٨، وأعقب ذلك استيلاء إيطاليا على طرابلس في سنة ١٩١٢م، والله تعالى يرث الأرض ومن عليها، بيده الأمر، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
هوامش
ولكن إذا عرفت أن هذا البستان بستان رياحين كما وصفناه لك، وأنه يتدرج إلى ثلاث مناطق، وأنه كله مكشوف إلى عين الناظر، وخصوصًا من منافذ القصر الذي يشرف عليه، عرفت أنها رواية سقيمة لا أثر لها من الصحة ولا وجود لها البتة في التواريخ العربية، وهذه القصة أشبه شيء بقصة العباسة أخت الرشيد مع جعفر البرمكي، مما ينسب القصاصون إليها نكبة الرشيد للبرامكة، في حين أن نكبته لهم إنما كانت خوفًا على ملكه منهم؛ لِما كان لهم من عظيم السلطان، خصوصًا في بلاد فارس؛ لأن أصلهم منها.
وحقيقة بني سراج كما يؤخذ من كتاب ترجمة العالِم الكاتب الكبير الأمير شكيب أرسلان (آخِر بني سراج، تأليف الفيكونت دو شاتوبريان الكاتب الفرنسي الشهير) أنهم كانوا وزراء لبني الأحمر، وكانوا من شيعة محمد بن يوسف الشهير بالأعسر، ونصروه على ابن أخيه محمد الصغير، فلما تولى هذا الملك في نحو سنة ١٤٢٧م نكبهم وأخذ يفتك بهم، ففر بعضهم إلى ملك قَشتالة وأقاموا في خدمته.
وآخر ما ذكر عن بني سراج أن محمد بن يوسف بن سراج كان قائدًا لحصن قبيل والذي بجواره، فحاصرهما ملك الإسبان بمدافعه الجديدة ذات المرمى البعيد، وأخذ يرسل عليهما نيرانها الشديدة، فرأى ابن سراج أن لا فائدة في المقاومة، وسلم الحصنين على شرط الخروج إلى غرناطة، وذلك في زمن أبي عبد الله بن الأحمر، وربما كان تسليمه الحصنين سببًا في نكبته؛ لاتهامه بأن ذلك كان لممالأته للعدو.