الرسالة السادسة
لما ثبتت قدم موسى بن نصير في ولايته على طنجة، أرسل طريفًا مولاه ومعه ثلاثمائة رجل من العرب، فنزل بالمكان الذي تَسمَّى باسمه في الجنوب الغربي من الجزيرة، فغزوا البلاد القريبة من الشاطئ، ورجع غانمًا من غير أن يعترضه أحد من الإسبانيين، وسهل على ابن نصير أمر الفتح، فأمر مولاه طارقًا سنة ٩٢ﻫ بالجواز إلى بلاد الأندلس، فركب البحر لوقته ومعه ثلاثمائة من العرب، وتبعهم عشرة آلاف من البربر، وطلع على لسان الجبل الذي تَسمَّى باسمه، وزحف على الأندلس، فقابله الملك لذريق بجيوش القوط، فهزمهم طارق في واقعة شريش، ومات لذريق بها من جراحه، وما زال طارق يتقدم في الفتح حتى وصل إلى طليطلة، وكتب إلى مولاه موسى بذلك، فاجتاز هو أيضًا لوقته بجيش من البربر، وطلع على الجبل الذي تَسمَّى باسمه (جبل موسى) بجوار الجزيرة الخضراء ولحق بطارق، وما زال يتقدم في فتوحاته حتى وصل إلى برشلونة، ثم رجع إلى المغرب ومعه طارق بعد أن رتب أمور البلاد وعيَّن حاميتها على ثغورها، وجعل ابنه عبد العزيز واليًا عليها تابعًا لولاية المغرب، وجعل مركزه قرطبة، وكانت ولاية المغرب تابعة لولاية مصر.
وجبل طارق هو تلك الصخرة التي تمتد إلى البحر في جنوب أوربا الغربي، وطولها ٤٥٠٠ متر، وعرضها ١٤٠٠ متر، وتكوِّن مع اللسان الذي يمتد من الشمال الغربي لأفريقيا خليج الزقاق الذي اشتهر أيضًا بمضيق جبل طارق، وهو يفصل ما بين البحر الأبيض المتوسط والأقيانوس الأطلنطي، ومسافته فيما بين سَبْتة وجبل طارق ٢١ كيلومترًا، وهي التي عبر منها طارق إلى إسبانيا.
وترى على الدوام تيارًا شديدًا يدخل من المحيط إلى البحر الأبيض، وفي غالب أيام السنة يتكاثف في جوه الضباب الذي هو من لوازم هذا الأقيانوس بحيث لا تمر فيه المراكب إلا على حذر شديد، ويكاد صفيرها لا ينقطع خوفًا من مصادمتها بما عسى أن يكون أمامها من مراكب أخرى، ولقد ركبت هذا الأقيانوس في سفري إلى بلاد الإنجليز من طريق البحر غير مرة، وكثيرًا ما كان يخيم الضباب على مركبنا، حتى كنت إذا مددت يدي إلى عيني لا أرى منها إلا خيالًا أشبه شيء بأثر أشعة رنتجن، وهنالك تحقَّقَ لي معنى المثل المشهور «ظلام لا ترى كفك فيه»، وقوله تعالى ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا، وخطر ببالي أن هذا هو علة تسمية العرب للأقيانوس الأطلنطي ببحر الظلمات، وقد يستمر هذا الضباب أيامًا متوالية، وهناك يكون الخطر على المراكب التي تقطع البحر إلى أمريكا، وحسبك أنه كان سبب غرق السفينة تيتانيك قبيل الحرب العالمية، وهي تلك السفينة الهائلة التاريخية التي يُعَدُّ غرقها من أكبر الخسائر على الإنسانية، بما كانت تحمل من رجال علم وعمل، وما كان في جوفها من الأموال والتحف التي تقدر بملايين الملايين.
ومن ذلك ترى ما عاناه طارق في جوازه مع رجاله خليج الزقاق، ومعهم خيلهم وأداة حربهم ومؤنتهم، خصوصًا أنهم كانوا يجوزون إلى عدوهم في فُلك لم تكن موافقة ولا واقية، ولكن الله تعالى وقاهم شر البحر والبر لبسالتهم وقوة عزائمهم وحسن يقينهم، سبحانه يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
من يقول إن شرذمة قليلة من العرب تقطع البحر من أفريقيا إلى أوربا سنة ٧١١، وتستولي على الأندلس، ثم على إسبانيا والبرتغال، وتجتاز جبال (البرينيه) على مناعتها وما فيها من قمم عاليات ومفاوز وهاويات، ومثالج ومعارج لا يقطعها غير العارفين بمساربها ومنافذها، ثم يدخلون أرض فرنسا ويكتسحونها إلى بواتييه، وهي على بعد ٣٣٠ كيلومترًا من الجنوب الغربي لباريس، وكل ذلك في عشرين سنة؟!
ولولا أنهم شُغِلوا في ذلك الوقت بما نالت أيديهم من الغنائم والأسلاب، وما وقع في حوزتهم من الأموال التي ناءت بها كواهلهم؛ ما هزمهم شارل مارتيل الذي نادى في أوربا بالحرب الصليبية سنة ٧٣٢ في هذه الواقعة التي مزقت جيوشهم في فرنسا، وألجأتهم إلى العودة إلى إسبانيا، فأناخوا بها وجعلوها وطنًا جديدًا، وأنشَئوا فيها ملكًا مجيدًا بقي أكثر من ثمانية قرون انتهت بخلافهم على الملك، واستنصار بعضهم بعدوهم على بعض! حتى خارت قواهم وضعفت عزائمهم وأصبحوا من المستضعفين! وانتهى أمرهم بأن طردهم الإفرنج من جزيرة الأندلس، ومزقوهم كل ممزق!
وإذا كان للأفراد جراثيم مرض تدخل جسومهم فتقودها إلى الموت، فالخلاف هو جرثومة فساد الأمم، إذا دخلها قادها إلى الضعف، ثم إلى الفناء. وأظن أننا جربنا ذلك في أنفسنا أخيرًا حتى كادت تُمحَى به صحيفة قوميتنا من عالم الوجود. والأمم على كل حال فريسة ضحية اختلاف الرؤساء في كل وقت وفي كل حين! وليست للتاريخ من عبرة ولا للأيام من موعظة، بل التاريخ يعيد نفسه، وغدك أشبه شيء بيومك، ويومك أشبه الأيام بأمسك، سُنة الله في خلقه، ولن تجد لسُنة الله تبديلًا.
ومن باب زيادة الفائدة أقول لك شيئًا عن تاريخ جبل طارق الذي تمتد عليه الآن الاستحكامات الإنجليزية في طول ثلاثة كيلومترات، ثم تنتهي بمنطقة حرة قدرها ٥٠٠ متر قبل اتصالها بأراضي إسبانيا، ومن دون هذه الاستحكامات مدينة جبل طارق التي بناها وشيد حصونها عبد المؤمن بن علي أمير الموحدين سنة ٥٥٥، وعدد أهلها الآن ٢٠ ألف نفس، وأبنيتها متدرجة على البحر وعلى مسافة ٨٠٠ متر من الشمال الغربي للاستحكامات الإنجليزية، وأهل المدينة غالبهم من الإسبان، ومنهم كثير من اليهود، وهي كثيرة الحرارة في الصيف بما لا يقل عن ٤٠ درجة سنتجراد؛ لذلك ترى أهلها يُكثِرون من شراب الليمون، كما يُكثِر أهل مدن إسبانيا عامة من شراب البرتقال ويسمونه نارنجًا.
وهذه المدينة علي الدوام مغطاة بالضباب وفي حالة حصار، وهي في يد الإنجليز من سنة ١٧٠٤م، حين استولى عليها السير جورج روك الذي كان يقود الأساطيل الإنجليزية من غير أن يطلق عليها طلقًا واحدًا، وكان ذلك بإشارة الرئيس كرامويل الذي كان يرى حصانة هذا الموقع وتحكمه في البحرين. وفي سنة ١٧٨٣ حاصرت فرنسا وإسبانيا جبل طارق، ولكن الإنجليز تغلبوا على جنودهما وطردوهم من هذه المنطقة، وهم من ذلك الوقت متسلطون على البحرين، بل على سواحل القارات الثلاث مما يلي البحر الأبيض المتوسط.
ولهذه المدينة ذكرى مؤلمة في نفس كل مصري منذ نفى الإنجليز إليها المغفور له سعد زغلول باشا زعيم الحركة القومية في مصر، لغير سبب، اللهم إلا قيامه للدفاع عن حقوق وطنه.
(١) للعبرة والتاريخ
ولم تقف نقمة سليمان عند شخص موسى، بل تعدته إلى ولده عبد العزيز والي الأندلس، فقد دس عليه من قتله في شوارع قرطبة، على ما كان فيه من دين، وعلم، وشجاعة، وبُعْد نظر، وحسن إدارة؛ وذلك خشية إثْآره لوالده، بل تعدتهما نكبة سليمان إلى كل بني نصير!
وبالجملة قد كان قيام موسى بهذا الواجب سببًا في نزوله من سماء المجد والعز إلى حضيض الذلة والهوان، وما كان أحراه لو كان أطاع سليمان أن يكون خائنًا لمولاه مخالفًا لأمر الله، بائعًا مَحْمَدَةَ يومه بمَنْقَصَة غده، ولو كان موسى يعرف غير الطاعة في حقيقتها، لكان أمكنه أن يعتذر بأيِّ عذر عن السير إلى المشرق، ولو وصل بُعْد نظره إلى ما آل إليه أمره، لكان أعلن استقلاله بالبلاد التي افتتحها بسيفه، وهو في أمنٍ من نقمة الخليفة لبعد الشُّقة وصعوبة المواصلات، ولكن إذا كان سليمان بن عبد الملك قد ظلم موسى في نكبته إياه ظلمًا لا يغتفره له التاريخ، فهل أنصف موسى مولاه طارقًا بعد فتحه للأندلس؟ أم نكبه هو أيضًا حتى خفي أثره وانقطع خبره؛ لحسده له على ما آتاه الله من فتح مبين ظهرت فيه مواهبه السامية، وعبقريته النادرة، وبلاؤه الحسن، مما سجلته له الأيام، ونقشت اسمه بمادة الجلال والفخار على صفحة ذلك الجبل الذي يشرف شمالًا وجنوبًا على القارتين أوربا وأفريقيا، وشرقًا وغربًا على البحرين الأبيض والأطلنطي.
هوامش
ولقد كان سليمان في نكبته لأعاظم دولته مثالًا رديئًا للخلفاء من بعده، فقد قتل يزيدُ بن عبد الملك يزيدَ بن المهلب، ونكب الوليد بن يزيد خالد بن عبد الله القسري، وكل هؤلاء من الأفذاذ الذين لم تنجب أمهات العرب أمثالهم، وهم الذين لهم اليد الطولى في فتوحات الأمويين وتوطيد دعائهم ملكهم، وبموتهم ماتت الدولة الأموية في الشرق ولم تقم لها بعدهم قائمة.
وقد حذا العباسيون حذو الأمويين في محنتهم للرؤساء وأعاظم القواد، فعمل السفاح لقتل أبي سلمة الخلال، وقتل المنصور أبا مسلم الخرساني بعد أن قامت على رأسيهما وبأيديهما الدولة العباسية، ثم نكب يزيد بن هبيرة بعد أمانه له، ونكب المهدي وزيره يعقوب بن داود، ونكب الرشيد البرامكة، ونكب المعتصم وزيره الفضل بن مروان، ونكب المتوكل الوزير ابن الزيات، ونكب الراضي وزيره ابن مقلة، وكلهم من خيرة رجال الدولة العباسية الذين كان على أيديهم رقيها وعظمتها.