الرسالة السابعة
استولى العرب على إسبانيا وهم لا يملكون شيئًا، وكانت وجهتهم الفتح، وفكرتهم ممتلئة بعظمة الدين وفضيلته، ونفوسهم تترفع عن الدنايا، وأيديهم تعف عن أموال المغلوبين، وقلوبهم كلها رحمة بهم؛ لهذا كله كانت أقوى الجيوش لا يمكن أن تقف أمام قلوبهم الحديدية التي كانت متى اتجهت إلى شيء فتَّتَتْه مهما كانت قوته وصلابته، بل كانت البلاد تفتح لهم أبوابها لما عرفته فيهم من العدالة والابتعاد عن كل مظلَمة، ولأن الجزية التي كانوا يضربونها عليها كانت أقل من الضرائب التي كانت تأخذها ملوكهم منهم، ولما اتسعت فتوحاتهم، وعظم ملكهم، وضخمت ثروتهم، وضربوا بجرانهم في الأندلس (وكانوا يطلقونه على أملاكهم بإسبانيا والبرتغال) عنوا بكل أسباب الحضارة؛ فاهتموا بالزراعة، وشقوا الترع، وحفروا الخلجان، وغرسوا الأشجار، ومهدوا المزارع، ونظموا المروج، ورتبوا الرياض، وتسابقوا في تشييد الدور وتعلية القصور، حتى أصبحت هذه البلاد بهم جنةً قطوفها دانية وثمراتها جانية، وكان الناس على اختلاف طبقاتهم ينعمون في مهاد الثروة وما يحيط بها عادة من اللذائذ المتباينة، ووصلت الخلافة الأموية الغربية في ذلك الوقت إلى ما لم تكن تحلم به العرب من عظيم السلطان، وجسيم الثروة، ووافر الحرمة، وواسع العمران، وبارق الحضارة، إلى حد جعل العربي الذي وصلها وليس في وِفَاضه غير لقيمات من الشعير يسد بها جوعته، وعلى جسمه لباس خشن يستر عورته، أصبح يرفل في الدِّمَقْس والحرير، ويأكل الحلوى والفطير، ونسي ما كان يسمع عنه في الكتب من فالوذ الدولة الشرقية ﺑ (الألماسية) الغربية.
وقد بلغت عظمة السلطان في إسبانيا أوجها في مدة عبد الرحمن الناصر الأموي، وهو السابع من أمرائهم، وأول من سُمِّي بأمير المؤمنين في هذه البلاد، وكانوا يشبهونه بالرشيد؛ لضخامة ملكه، وفخامة دولته، وعظيم إرادته، وكبير سياسته، وواسع علمه وكرمه. كما كانوا يشبهون ولده الحكم بالمأمون؛ لما كان له من ذهن حاضر، وعلم وافر، ونظر ثاقب، ورأي ناضج، وعقل راسخ، ومجد باذخ، ولاهتمامه بالشئون العلمية وعنايته بنشرها في بلاده بإكثاره من معاهدها، واستقدامه لكتبها المختلفة من كل جهة من جهات الشرق، حتى كوَّن دار كتبه التي كان فيها مئات الألوف من الكتب الثمينة النادرة، وبحكمهما قامت العظمة الإسلامية في هذه البلاد بكل مظاهرها، من فتوحات موفقة، وثروة متدفقة، وعلوم جمة، وفنون مهمة، وأملاك شاسعة، وتجارة واسعة، وصناعة باهرة، وزراعة ناضرة، وحضارة ومدنية لم يُرَ مثلهما في الأندلس في أيامها السابقة ولا اللاحقة، وكانت ملوك الفرنجة المتاخمين لأرضهم يدفعون لهما الجزية عن يد وهم صاغرون.
ولقد كانت مدينة قرطبة عاصمة الأندلس زهرة البلدان في الغرب، كما كانت بغداد زهرتها في الشرق، وكانت شمسها تنبعث منها أشعة العلوم والعرفان والمدنية بجميع مظاهرها وظواهرها إلى كل نقطة من المسكونة شرقية أو غربية، وكانت بغداد ودمشق وخرسان والأستانة ومصر وغيرها من العواصم المشهورة تحمل إليها ما اكتمل من صناعاتها، ونادر كتبها، ومختلف تحفها، لبيعها في أسواقها الغنية التي كانت تكتظ بالأموال والهواة من النساء والرجال؛ لذلك كانت مدنية القوم تأخذ بطرف من مدنيات هذه البلاد، وهي إذا ظهرت لك شرقية من جهة، بانت عليها مسحة تتفق مع الذوق الأوربي من جهة أخرى، سواء أكان ذلك في صناعتها أم فيما فيها من فن ونقش ورسم وتصوير.
ولو نظرت إلى شعرائهم وكُتَّابهم، لوجدت لهم صيغًا خاصة بهم ألبسوها معاني جديدة جمعت بين حسن الصنيع ولطف البديع، ولو نظرت إلى علمائهم، لرأيتهم بعيدين عن الجمود الذي تراه في غيرهم، ولو نظرت إلى فلاسفتهم، لوجدتهم قد صاغوا من فلسفة أرسطو وأفلاطون ما كان أساسًا للفلسفة الجديدة التي بنى كانْت وديكارت وبيكون واسبنسر عليها فلسفتهم التي تتألق أشعتها الآن في أوربا، ولو نظرت إلى موسيقاها وأغانيها التي يسمونها بالأندلسيات، تراها تتملك اللُّب وتأخذ بالقلب وتستهوي العقول بنغماتها الشجية، وإذا سمعت نغماتها الحالية خصوصًا تلك القطعة التي يسمونها (ڨلنسيا) التي لها كبير التأثير حتى في عظماء علماء هذا الفن في أوربا، عرفت أنها أثر من تلك الأغاني العربية القديمة التي وضع قواعدها زرياب.
وكان زرياب من أعلام المغنين بالشرق، أخذ الغناء عن إسحاق الموصلي، وتفوق تفوقًا كبيرًا خاف على أثره من معلمه إسحاق؛ لقربه من الخليفة الرشيد، فهاجر إلى الأندلس سنة ١٣٦، ووصل إليها مدة عبد الرحمن بن الحكم، فبالغ في إكرامه وأفاض عليه من إنعامه، بما كان يُقدَّر دخله بأربعة آلاف دينار، وجعله عمدة المغنين. وقد رقى زرياب صناعة الغناء بالأندلس، واخترع للموسيقى نظامًا جديدًا، وأضاف إلى العود وترًا خامسًا، وكان قبله على أربعة أوتار فقط، ووضع طرقًا للغناء أصبحت علمًا خاصًّا اشتهرت به الأندلس لتفوقها فيه، ولا يزال أثره فيها إلى الآن.
والرقص الإسباني الحالي هو ذلك الرقص العربي، اتصلت به خفة الراقصات ورشاقتهن وتفننهن في حركاته، في جيئاته وروحاته. وبالجملة قد انتهى القرن العاشر المسيحي بعظمة الحكم الأموي بالأندلس، بعد أن استمر ثلاثة قرون مصدرًا لكل أنواع المدنية، ومظهرًا لعظمة الحضارة الأندلسية، في كل طرف من أطراف المسكونة، ولقد كانت المكاتب العمومية والخصوصية مدة حكمهم غاصة بنفائس الكتب، ولولا ما صادف كتب الأندلس من نكبات التحريق والتمزيق من العامة في أواخر الحكم الأموي، وخصوصًا مدة المرابطين والموحدين بدعوى أن فيها فروعًا تخالف الأصول في جوهرها، وأن ما فيها من قواعد الفلسفة يخالف قواعد الدين، لكان ما وصل إلينا منها أكبر برهان على أن القوم قد وصلوا إلى سنام مجد العرفان في ذلك الزمان. وأكبر النكبات التي صادفت الكتب في الغرب هي تحريق النصرانية لها بعد استيلائهم على غرناطة، فقد أُحْرِق في هذه المدينة وحدها بأمر الكاردينال أكشمنيس ٨٠ ألف مخطوط عربي، وهي نكبة أشبه شيء بنكبة الكتب في الشرق في منتصف القرن السابع الهجري، حيث أمر هولاكو بعد استيلائه على بغداد بأن يُعْمَل منها جسر في الدجلة لجواز جيوشه عليه من شاطئ إلى آخر.
وكانت المدارس في عهدهم عامرة بالتلاميذ، والمعاهد العلمية مكتظة بالطلبة من سائر الأقطار، وكم قد تخرَّج في هذه المعاهد من فحول علماء المسلمين في كل فن وفي كل علم، أمثال ابن رشد في الفلسفة، وابن زهر في الطب، وابن فرناس في الرياضيات، وابن زيدون في الأدب، وابن أبي عامر في الإنشاء، وابن حزم وابن باجه في الفقه، والشاطبي في القراءات، وغيرهم وغيرهم ممن يضيق المقام عن ذكرهم، ولا زلنا إلى اليوم نقرأ أسماء من انتسب منهم إلى مدينته كالقرطبي، والإشبيلي، والمالقي، والبطليوسي، والمجريطي، وغيرهم من العلماء الأعلام الذين لهم قَدَم صِدْق في الإسلام.
وكان البابا سلفستر الثاني وليون الثمين أحد ملوك الإسبان من خريجي جامعة قرطبة، وبالجملة كان أمر هذه المدرسة في الغرب كما كانت مدرسة الإسكندرية في الشرق وهي في إبان عظمتها، يؤمها الطلبة من كل فج حتى من الرومان واليونان، وكما هو الحال اليوم في مدارس أوربا التي يقصدها الناس من كل جهات العالم للتعلم فيها، تلك سنة الخليقة؛ يقلد الضعيف القويّ حتى في مأكله ومشربه ولباسه، وقد يذهب بعض من لا خُلق لهم إلى تقليده في الضار لا في النافع، ولله في خلقه شئون.
وكانت ملوك أوربا تستقدم الأطباء من العرب وتستشيرهم، سواء أكانوا من المسلمين أم من اليهود. والعرب أول من نظم البساتين لدراسة النبات في أوربا، وهم أول من وضع جامعة سالرن بإيطاليا، وهي أول جامعة نشأت بأوربا كما يعترف به العلامة الأمرليون كثياني المؤرخ الإيطالي، كما تُنْسَب إليهم جامعة مونبلييه الطبية بجنوب فرنسا، وهي لا تزال شهرتها معروفة في مصر، ويقصدها الآن كثير من الطلبة المصريين.
وقد بنى الخلفاء الأمويون قصور الزهراء خارج قرطبة، وكانت آية من آيات الزمان، بل جنة من جنات الخلد، وصل التأنق في مبانيها ونقوشها وفروشها وأثاثها ورِياشها إلى ما ذكره مؤرخو العرب بما يعسر على العقل تصوره، ومن عجيب ما كان فيها بحيرات من المرمر يتفجر ماؤها من أفواه طيور من الذهب، وكان يحيط بالبحيرات تماثيل أسود من الذهب، ينزل الماء من أفواهها إلى بساتينها التي كانت في نظامها تدهش الأبصار وتبهر الأنظار.
وكان في أبهائها الكبرى صور ورسوم كثيرة للجمال النسائي في جملة أوضاع تلفت الساجد وتفتن العابد، وإلى جانبها كثير من مناظر الصيد من حُمُر وَحْشٍ وسباع وغزلان وطيور في صور مختلفة، وبالجملة كانت الزهراء مما لا يتيسر لواصف وصفه، ولقد أتى الحريق على أغلب مبانيها زمن المهدي بن هشام بن الحكم، وقضى على باقيها الجهل، ثم القشتاليون بعد استيلائهم على المدينة، ولم يبقَ منها الآن غير أطلال تنعى ما كان فيها من عظمة وجلال، وما كان بين جدرانها من فخامة وجمال. ولقد بنى المنصور بن أبي عامر بقرطبة قصر الزاهرة، وكان آية في عظمته وحسنه، وقد محته يد الزمان، وسبحان من تفرد بالبقاء.
ولما تجاوزت الرفاهية فيهم حدودها، استسلم الخلفاء الأمويون في آخر أمرهم إلى ملاذِّهم، وأخذوا يحتجبون عن الناس في قصورهم، وكان إذا حضر المنشدون أو السفراء تكلموا من وراء حجاب، ويقف الحاجب من دون الستر فيكرر ما يقولونه، ثم يجيبهم بما يقول الخليفة.
ومن ذلك أن ابن مقانا الأشبوني ألقى قصيدة له على مسمع من الخليفة المحتجب إدريس بن يحيى الحمودي، قال في آخرها:
رفع الخليفة الستر، وقابل وجهه بوجهه، وأجازه جائزة حسنة.
ويظهر أن هذه الحالة بقيت مستمرة في ملوك المغرب إلى زمن قريب؛ سمعت أستاذنا المرحوم الإمام الشيخ محمد عبده يقول إنه في زيارته إلى تونس ذهب لمقابلة سمو الباي، فوقف بينهما ترجمان، فكان إذا قال الشيخ جملة كررها الترجمان إلى الباي، وإذا قال الباي شيئًا كرره الترجمان للشيخ، حتى انتهى الحديث بهذه الوساطة، وكل ذلك باللغة العربية، ومع أني لا أفهم معنى لوجود الترجمان هنا وهناك، قد تكون الحال في الأمرين ليست بواحدة؛ لأنه كان في عهد الخلفاء مظهرًا للضعف المبرقع، أما في هذا العهد فهو أثر من آثار الضغط الفرنسي الذي يقيد على البايات حريتهم، ويعد عليهم أنفاسهم، حتى في كلمات تخرج من أفواههم، خصوصًا مع الغرباء ولا سيما أمثال الشيخ عبده.
(١) للعبرة والتاريخ
كان أمراء العرب بالأندلس في أول أمرهم قائمين بأمر الفتح، فلما جاء الأمويون وكانت البلاد قد تمهدت لهم، وضعوا أساس الدولة، ونظموا داخليتها، ورتبوا أنظمتها، وجعلوها مصدر الحضارة الإسلامية الغربية، ومحل ازدهار المدنية الغربية، وكانت سياستهم مبنية على التسامح، بعيدة عن الجور والظلم، وبذلك انتشر الدين الإسلامي في مدتهم بين الإسبانيين من غير مبشِّرين ولا منذرين، بل كانت سماحة الشريعة الإسلامية هي السبب في انتشاره في أنحاء البلاد المفتوحة، فأسلم كثير من نصارى الإسبان واندمجوا في المسلمين، وتكلَّموا لغتهم وتأدبوا بأدبهم، حتى أصبح أبناؤهم ولا فرق بينهم وبين العرب في شيء، وظهر منهم كثيرون في الهيئات العلمية، ومنهم من بقي على اسم أبيه كابن بشكوال، وابن بونه، وابن برال، وابن سلبطور، وابن غرسية، بل وصل اندماج الغالبين بالمغلوبين إلى أن العرب كانوا يزيدون على أسمائهم نهايات لاتينية أو إفرنجية صرفة، فمنهم من أضاف إلى اسمه الواو والنون فقالوا: زيدون في زيد، وعمرون في عمرو، وخلدون، وبدرون، ووهبون، وحفصون، وزرقون، وعبدون، وهكذا. ومنهم من زاد في آخر الكلمة الواو والسين أو الياء والسين، فقالوا: عمروس، وعبدوس، وحيوس، وحمديس، وهكذا. (راجع كتاب السفر إلى المؤتمر للعلامة زكي باشا).
وربما أضافوا إلى أسمائهم اللقب الأجنبي، كما قالوا «إبراهيم الصانتو» يعنون ولي الله إبراهيم، الذي أبلى بلاء عظيمًا في حصار الإسبان لمالقة قبل فتح غرناطة، كما تقول النصارى: سانت بطرس، وسانت بولس.
وفي مدة الأمويين نهضت الأندلس في كل جميع شئونها، وازدهر فيها العلم، وانتشرت فنون الصناعة في كل جهاتها، وظهرت الثروة بين الأهلين، ولما أمر الناصر برسوم الخلافة في أواخر العقد الثاني من القرن الرابع، بعد أن رتب أمور دولته، ونظم جبايتها، وكثرت عليه الأموال من الضرائب والغنائم، رأى أن يبني له قصرًا يليق بجلال الخلافة، فأمر سنة ٣٢٥ بالزهراء، فبُنِيت على هضبة تبعد عن قرطبة غربًا بنحو أربعة أميال وثلثي ميل. ومما قاله مؤرخو العرب فيها: أنه كان بها ٤٣٠٠ سارية، وعدد أبوابها يزيد على خمسة عشر ألف باب، وأنه كان يعمل في عمارتها كل يوم من الخدم والفعلة عشرة آلاف رجل، ومن الدواب ألف وخمسمائة دابة، وجُلِب إليها الرخام الأبيض من المدينة، والمجزع من رَيَّة، والوردي والأخضر من إفريقية ومن سفَاقُس وقَرْطَاجَنة، والحوض المنقوش المذهب من القسطنطينية، وكان فيه نقوش وتماثيل وصور على صور الإنسان، فأمر الناصر بنصبه في وسط المجلس الشرقي المعروف بالمؤنس، ونصب عليه اثني عشر تمثالًا، ثم بنى فيها المجلس المسمى بقصر الخلافة، وكان سمكه من الرخام الغليظ الصافي في لونه، المتلونة أجناسه والموشى بالذهب، وجعلت في وسطه اليتيمة؟ التي أتحف الناصر بها ليون ملك القسطنطينية، وكانت قراميد هذا القصر من الذهب والفضة، وكان في كل جانب من هذا المجلس ثمانية أبواب قد انعقدت حنايا من العاج والآبنوس المرصع بالذهب وأصناف الجوهر، قامت على سوار من الرخام الملون والبلور الصافي. وكانت الشمس تدخل على هذه الأبواب فيضرب شعاعها في صدر المجلس وحيطانه، فيصير من ذلك نور يأخذ بالأبصار، وأحاط هذا القصر بالبساتين، وأجرى إليه المياه من جبال قرطبة، واتخذ فيه مسارح للوحش فسيحة الفناء متباعدة السياج، ومسارح للطيور مظللة بالشباك، وحاطه بسور جعل فيه ٣٠٠ برج لإقامة الحرس، ولما تم بناؤه نقل إليه مركز الخلافة، وكان بعض أبنيته خاصًّا بالخليفة، وبعضها بدواوين الخلافة، وبعضها بالخدم والحشم، وبعضها بالحرس من الجند. وقد قدروا ما أنفق على الزهراء كل عام بثلاثمائة ألف دينار في مدة خمس وعشرين سنة.
ولما مات الناصر زاد في الزهراء ابنُه الحكم، وما زالت مركزًا للخلافة إلى أن أحرقها البربر سنة ٤٠٠ﻫ في فتنة سليمان بن الحكم بعد أن نهبوها. وقد يزعم كثير من المؤرخين أن هذا كان آخر العهد بها، ولكن ابن خَلِّكان ذكر في ترجمة المعتمد بن عباد أنه كتب إلى بعض خاصته بقرطبة بهذين البيتين:
وكان المعتمد قد اصطبح معهم في الزهراء، ودعاهم إلى الاغتباق معه في قصر قرطبة. ولو عرفت أن المعتمد لم يملك قرطبة إلا بعد سنة ٤٦٠ﻫ، عرفت أن حريق سنة ٤٠٠ لم يكن عامًّا بها، وأنها أُصْلِحت من بعده حتى أصبحت تليق بأن تكون محل سكن أو نزهة ابن عباد ملك البلاد، وعلى كل حال إن خرابها الكامل لم يتأخر عن هذا الوقت كثيرًا، وأظن أنه كان في وقت الانقلابات التي انمحى بها أثر ملوك الطوائف مدة المرابطين؛ لبعدهم عن التأنق في كل مظهر من مظاهر الحياة، ولما استولى الإسبانيون عليها أتموا هدمها؛ حتى لا يلجأ إليها المسلمون إذا عنَّ لهم محاصرة قرطبة.
وكان بقرطبة غير الزهراء قصر الزاهرة الذي أمر المنصور بن أبي عامر في سنة ٣٦٠ ببنائه على نهر الوادي الكبير شرقي هذه المدينة، وانتقل إليه في سنة ٣٧٠، وكان من أكبر القصور فخامة، وأحسنها نظامًا، وأعلاها أسوارًا، وأوسعها أسواقًا، وقد جعل في قسم منه حكومته، وبنى الناس في الفراغ الذي بينه وبين قرطبة، حتى صار البنيان متصلًا بينه وبينها إلى الزهراء.
وكان بقرطبة غير هذين القصرين البديعين قصور فخمة كثيرة للخلفاء وغيرهم من الوزراء والأمراء والقواد والسراة، فكان فيها: القصر الكامل، والمجدد، والحائر، والروضة، والزاهر، والمعشوق، والمبارك، والرستق، والتاج، والبديع، وقصر السرور، وقصر الشراحيب، والبهور، والمنيف، وقصر الناعورة. ومتنزهاتهم خارج قرطبة: قصر الرصافة، وقصر ابن عبد المؤمن، والقصر الفارسي، والسد، وقصر الحاجب، والسرادق، ومنية الزبير.
وكانوا يتسامحون في تشييد هذه القصور بما كانوا يقيمونه فيها من التماثيل في أوضاع مختلفة، وفي نفح الطيب وُصِف كثير منها شعرًا ونثرًا، وقد وصل بهم التسامح في التماثيل أن كانوا يقيمونها في ميادينهم العامة، وكان منها ثمانية على باب الزهراء.
وقد قال بعضهم في تمثالٍ أقيم في ساحة من ساحات شاطبة:
وكان بقرطبة وحدها من الدور العامة ١٠٣٠٠٠، ومن الدور الخاصة ٦٣٠، ومن الحمامات ٧٠٠، ومن المساجد ٣٨٣٧.
وأكثرَ أهل الأندلس في البناء، حتى كان المسافر على الوادي الكبير لا يكاد ينقطع نظره عن العمران والبساتين التي كان بعضها يتصل ببعض على طول النهر من جهتيه، وكان نور السُّرُج ليلًا يكاد يكون متصلًا في طوله، وقد قال ابن خفاجة الذي توفي سنة ٥٣٣ — سامحه الله — في وصف هذه البلاد:
وقد قال المقري: «اتصلت العمارة بقرطبة أيام بني أمية ثمانية فراسخ طولًا في فرسخين عرضًا، تُقدَّر بأربعة وعشرين ميلًا طولًا وستة عرضًا، وكان عدد أرباضها واحدًا وعشرين، في كل ربض من المساجد والأسواق ما يقوم بأهله ولا يحتاجون إلى غيره، وكان بخارج قرطبة ثلاثة آلاف قرية، في كل واحدة منبر وفقيه مقلص، تكون الفتيا في الأحكام والشرائع له، وكان لا يجعل القالص منهم على رأسه إلا من حفظ الموطأ، وقيل من حفظ عشرة آلاف حديث عن النبي ﷺ وحفظ المدونة، وكان هؤلاء المقلصون المجاورون لقرطبة يأتون يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة ويسلمون عليه ويطالعونه بأحوال بلادهم.»
ولقد كان الخلفاء يرسلون بأشخاص عدول إلى الجهات البعيدة ليستقصوا لهم أخبار عمالهم وحال رعيتهم، وكان كثير منهم يمشي في أسواق قرطبة لاستطلاع حال الناس بنفسه، ويجلس على باب قصره بدون حجاب، فيقصده المظلومون ويبثون إليه شكواهم من غير وساطة.
وكانوا مع عزة سلطانهم وجلال ملكهم يُطأطئون رءوسهم أمام الحق، ومن ذلك أن الناصر أيام عمارته للزهراء وانهماكه في بنيانها لم يشهد الجمعة بالمسجد الجامع، فلم يطق قاضي الجماعة منذر بن سعيد ذلك، وصعد المنبر وبدأ خطبته بقوله تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. ثم نوه بالزهراء وقال: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
فأقسم الخليفة ألا يصلي خلف ابن سعيد أبدًا، فقال له ولده الحكم: وما يمنعك من عزله والاستبدال به؟ فقال الناصر: أمِثْل منذر بن سعيد في فضله وورعه — لا أم لك — يُعْزَل في إرضاء نفس ناكبة عن الرشد؟!
ومن ذلك أن أمير المؤمنين يعقوب المنصور سلطان الموحدين بلغه أن أحد الشعراء قد نال منه، وأخذ الحاضرون يكبرون أمره ويحركون من سخط الخليفة عليه! ولكنه رحمه الله أجابهم بما يدل على عظمة نفسه وسمو أخلاقه بقوله: «نحن نعاقبه بالحلم.» وهل قامت عظمة خلفاء العرب وملوكهم إلا على هذه الأخلاق السامية؟ وهل شُيِّد بنيان مجدهم إلا على العدل والإذعان إلى الحق ولو على أنفسهم؟ وكم من رجال منهم وقعوا في دائرة القضاء بجوار خصومهم من رعاياهم، حتى إذا صدر حكم القاضي لهم أو عليهم نفذوه في الحال، ثم عادوا إلى دائرة سلطانهم المحفوفة بسياج الجلال والعظمة.
ولقد كانت الأندلس مدة الأمويين رافلة في الثروة، عامرة بالسكان الذين وصل عددهم مدة حكمهم في الأندلس إلى أربعين مليونًا من النفوس.
وقد اشتهرت قرطبة بدباغة الجلود، ومالقة بعمل الفخار والزجاج، والمرية بعمل الأجواخ والحديد والنحاس وبناء السفن، وسرقسطة بعمل السمور وأنواع النسيج الحريرية والكتانية، وشاطبة بعمل الورق، وكانت إشبيلية مشهورة بنسج الحرير، وكان فيها مدة العرب ١٣٠ ألف نير (نول) فأصبحت بعد استيلاء الإسبان عليها وليس فيها غير أربعين نيرًا. وكانت للعرب بالأندلس أندية يجتمعون فيها لمذاكرة العلم والأدب وأخبار العرب وغيرهم، وكان للخلفاء والأمراء أوقات مخصوصة يجتمع إليهم فيها العلماء والشعراء والأدباء، وكان للمنصور بن أبي عامر مجلس خاص بأهل العلم يجتمع فيه معهم كل أسبوع للمذاكرة في مختلِف العلوم، وكان بالأندلس أربع جامعات للطب، بقرطبة وإشبيلية ومرسية وطليطلة، وكان بها من المعاهد العلمية والأدبية ما لا يحصيه العدد.
وكانت عندهم مدارس لتعليم الفقراء، وكان في قرطبة وحدها مدة الحكم بن الناصر عشرات من المدارس لتعليم الأيتام، وكان التعليم مدة حكمه منتشرًا جدًّا في الأندلس حتى قال أحد مؤرخي الفرنجة: إن التعليم يكاد يكون عامًّا بين جميع طبقات عرب الأندلس، في حين أن الطبقة العليا بأوربا كانت من الأمية بمكان، وكان بالأندلس ستون مكتبة عامة متفرقة في بلادها الكبرى، وكان الناس يَكْلَفون باقتناء الكتب للاشتهار باقتنائها أو للانتفاع بها، حتى كاد يكون في بيت كل سَرِي مكتبة خاصة به، وكانوا يعيرون كتبها من يريد الاشتغال بها.
وقد وصلت بلاغة العرب في إسبانيا في شعرهم ونثرهم إلى أوجها، وكانت تدور حول السهل الممتنع مع جزالة اللفظ وحلاوة الأسلوب، وكان كُتَّابهم يبتعدون عن الغريب في أقوالهم، ومنهم من كان يطيل في الكلام ويكثر من المترادفات خصوصًا في أيام دولتهم بغرناطة، وكانت كتاباتهم على العموم تمتاز بكثرة السجع.
وأكثر من ظهر منهم من الشعراء والكتاب في القرن الخامس مدة ملوك الطوائف؛ لأنهم كانوا في أول أمرهم يحتاجون إلى تعزيز مراكزهم بنشر عبارات الحمد والثناء، وآيات التعظيم والتفخيم التي كانت تُذاع بوساطة من كان يفد عليهم من الشعراء؛ لهذا كثر الشعراء في زمنهم، وكان يساعد على ذلك ما كان في مجالسهم من موجِبات الأنس والسرور التي كانت تنبسط فيها النفوس وتشحذ القرائح، وأصبح أغلب شعرائهم نواسيِّين يهيمون في جمال الرقيق وأباريق الرحيق.
وكانت ملوك الأندلس تخصص الجوائز للنابغين والمخترعين، وقد اخترع الوزير ابن بدر مدة الناصر طريقة للطباعة، كان يطبع بها الأوامر والمنشورات التي كان يرسل بها إلى أطراف المملكة، وهل كان اختراعه هذا قاعدة لغوتمبرج بنى عليها اختراعه لحروف الطبع في سنة ١٤٣٦؟ وخاصة أن لاروس يقول في دائرة معارفه أن الطباعة كانت معروفة في أوربا في أوائل القرن الثاني عشر، ولعله كان يريد أن يقول إنها كانت موجودة بالأندلس في ذلك العهد.
وبالجملة قد كانت مدنية الأندلس في غاية الرقي في جميع مرافقها، وكانت أشعة شموسها تتصل بأوربا بحكم الجوار، فتفيض عليها من أنوارها التي صاغ الإفرنج منها مدنيتهم، وقامت عليها عظمتهم العلمية والفنية والصناعية، وحتى الشعر الذي هو وحي النفوس إلى الرءوس لم يَرْتَقِ عند الفرنجة إلا بفضل عرب الأندلس، وعنهم أخذوا استعمال القافية عندهم، وشعراء فرنسا العظام لم تجد بهم الأيام إلا من القرن السابع عشر، أمثال موليير، وفولتير، وبوالو، ولافونتين، وراسين، وكورني (يراجع تاريخ علم الأدب للخالدي)، وكلهم كان في النصف الأول من القرن السابع عشر، وأما لامارتين وشاتوبريان فكانا في أواخر القرن الثامن عشر، وأما أكبر شعرائهم فيكتور هيجو فإنه كان يعيش في نصف القرن التاسع عشر، وقد سار بعضهم في صياغة شعره على النهج العربي، سواء في مبانيه أو معانيه، وكان يلبسها من روعة النسيب والتشبيب ما تحلو به عبارته، بل قد يكون غزله دائرًا حول أسماء عربية كعائشة وفاطمة، فيزيد ذلك في شعره حلاوة وطلاوة، وأشهر مَن كتب في هذا السياق غوطا، أكبر شعراء الألمان الذي كان يعيش في النصف الأول من القرن الثامن عشر، ومن تأليفه ديوان الشرق والغرب، أما شكسبير أكبر شعراء الإنجليز فقد كان يعيش في أوائل القرن السابع عشر. ويذهب الأمير كيتاني الكاتب الطلياني الشهير في رسالة «نصيب الإسلام في تدرج المدنية» إلى أن الطب في مدرسة سالرن — وقواعد العلم الطبيعي في الجامعة الإيطالية الأولى — وما كان لدانتي — الشاعر الإيطالي المولود (سنة ١٢٦٥) وصاحب الكوميديا الإلهية المشهورة — من واسع الخيال وجمال التصوير في شعره إنما كان أثرًا لما كان في قرطبة وبغداد من علم زاهر وفلسفة رائعة أيام كانت أوربا تخبط في جهالتها.
كتب أبو عامر بن نيق إلى هند جارية ابن مسلمة الشاطبي، وكانت أديبة شاعرة، ولها صوت جميل ومعرفة بالموسيقى:
فكتبت إليه في ظهر رقعته:
وممن اشتهر من المغنيات في الأمويين: حمدونة بنت زرياب، وهندية، وغزالات. وكان يصل من المشرق منهن عدد ليس بقليل، كان في مقدمتهن جاريتان اشتهرتا بجمالهما وحسن غنائهما، وهما: فضل المدنية، وعلم المدنية. وكان للخاصة نصيب من هذا الفن، اشتهر منهم عبد الوهاب بن حسين الحاجب، وكان أحذق أهل زمنه بضرب العود.
وكان من جملة ملاهيهم ما يسمونه بالخيال (خيال الظل)، وهو تماثيل من ورق يحركونها بخيوط من وراء ستارة من نسيج أبيض، ويشعلون من ورائها نارًا، فترتسم صورها على الستارة بحركاتها التي تمثل لك بلسان محركها رواية مضحكة يتخللها شيء من الشعر والفكاهة. وقد كان خيال الظل معروفًا بالقاهرة إلى أواخر القرن التاسع عشر، وأظن أن بعض الأحياء القديمة بها لا يزالون يذكرون من أبطاله الراهب منشا ودعادير، ولا أدري أَوَصَلَ هذا الخيال إلى الغرب من الشرق، أم وصل إلينا من الأندلس؟ وهل كان هذا الخيال مقدمة لاختراع (الخَيَالة السينما) الذي أصبح الآن ملهى جميع الأمم المتمدينة؟
وكانت مجالس الغناء لا تخلو من الشراب، وكانوا لا يجهرون به في أول أمرهم؛ لأن الأمراء والخلفاء الأمويين كانوا يقيمون فيه حدود الله، حتى وصل الحال بالحكم بن الناصر في محاربته للخمر أن أراد استئصال شجرة الكرم، لولا أنهم أخبروه بإمكان عمله من غيرها، ولكن الحال بعد الأمويين قد تغيرت، وأصبحت الخمر شائعة في مجالسهم، وربما كان لبرودة جو البلاد أثر كبير في ذلك، خصوصًا مع ضعف الوازع الديني، فكثرت فيها أقوالهم وأشعارهم.
ومن قول أحد القادمين من العرب على غرناطة:
ومن قول عامر بن هاشم القرطبي في نونيته البديعة:
ومن قوله:
ومن قولهم:
ومن قولهم:
ومن أبدع ما قيل في الخمر وساقيها قول المعتمد بن عباد:
ومن قول ابن حمديس في وصف مجالس الرقص على نغمات الموسيقى:
وكان بعضهم يشكل الغانيات بشكل الفتيان، قال الوزير ابن شهيد:
ومن هذا ترى أن القوم بعد دولة الأمويين استسلموا للشهوات، وشاعت فيهم مجالس الخمر والسماع، ورقص الراقصات على نغمات الأوتار في كل شكل من أشكال الخلاعة! حتى إن المرابطين أنفسهم في آخر دولتهم قد سكنوا القصور في الأندلس، وأكثر ولاتهم من مجالس اللهو والأنس؛ بما ضعفت به عصبيتهم الدينية والخُلُقية، حتى تغلب عليهم الموحدون، ونزعوا منهم هذه البلاد بعد استيلائهم عليها مدة اثنتين وستين سنة (من سنة ٤٨١ إلى ٥٤١).
هوامش
وإلى الآن بين أيدينا من أعمالهم منسوجات ثمينة جدًّا في كنيسة سان تروفيم S.TROPHIME بأرل، وفي سانت سيزير، وسانت آن في مدينة آن … إلى أن قال: وفي القرن العاشر دخلت النقوش الرومانية إلى بلادنا بوساطتهم، وإن العالم مسيو ريفوال استكشف في كنيسة القديس بطرس قرب أرل نقوشًا عربية جميلة جدًّا … ثم قال: إن الدم العربي لا يزال في جنوب فرنسا، خاصة في سيرست SERESTE وفي بلاد أخرى من جبال الألب، وقد وجد العالم الدكتور جوس D. GOSSE في السفوا وفي سويسرا وعلى بحيرة كونستنزا أناسًا كثيرين صورهم شرقية وسحنتهم عربية صرفة، ولهم لغة خاصة بهم، ولا يزال أهل تلك الجهات يسمونهم الشرقيين أو أبناء الوثنيين FILS DEPAÏNS.
وقد جاء بمقال في السياسة الأسبوعية في أول يناير سنة ١٩٢٦ بإمضاء م. ج. يس ما ملخصه:
ومدينة كوزيليه القريبة من كونتر اكسفيل لا يزال أهلها في عزلة عن الفرنسيين، ولا يتزاوج بعضهم إلا من بعض، ولهم لغة خاصة بهم، ومن عاداتهم أنهم لا يقيمون المراقص في احتفالاتهم، ومعظم نسائهم محتجبات، ولا يزال في كثير من أسمائهم لفظ «الله» كعبد الله وفتح الله، وهم يحفظون نسبهم ويفتخرون بأنهم من سلالة الفاتحين … إلى أن قال: والعرب هم الذين أدخلوا صناعة البُسُط والسجاجيد إلى مدينة أوبسون، واقتبس الفرنسيون منهم إنشاء السفن.
وقد يكون هؤلاء العرب وصلوا إلى تلك الجهة بعد طردهم من إسبانيا؛ لأن فرنسا فتحت لهم أبوابها في أواخر القرن السادس عشر مدة الملكة ماري دومسيس، فانتفعت بهم انتفاعًا ماديًّا وأدبيًّا.