الرسالة الثامنة
استكثر الأمويون في الأندلس من البربر، وهم شيعتهم الذين قاموا بنصرة عبد الرحمن الداخل في أول أمره على مناوئيه من شيعة العباسيين الذين كان لهم الحكم قبله، بل نصروه على جيوش شارلمان التي أرسلها لحربه تزلفًا لصديقه الخليفة العباسي في الظاهر، وخوفًا من تطاول ملك العرب إلى أرض فرنسا في حقيقة الأمر.
ولما ثبتت قدم الأمويين في الملك، أخذوا يقلدون العباسيين في استكثارهم من المماليك الصقالبة وغيرهم، وخاصة في أيام عبد الرحمن الناصر، حتى أصبحت لهم الكلمة النافذة في البلاد، وصار حكمها من بعده في أيديهم، وأصبح حالهم هنا حالهم في الشرق، شبرًا بشبر وقدمًا بقدم. وكانت نفوس كثير منهم تتحدث في قراراتها بتخطي الرقاب وطرق كل باب للوصول إلى منصة الحكم، ولم يكن يقعد بهم عنها إلا ما كان يحيط بها من رمح مشروع، وسيف مسلول، وعظمة قائمة، وسلطان قدمه في الأرض ورأسه في السماء، وعلى كل حال، كان لهم التصرف المطلق في داخلية الدولة. وخالف الأمويون في الأندلس آباءهم في دمشق في محافظتهم على عصبيتهم العربية، فضعفت بذلك شوكة العرب ونقموا على حكومتهم، وما زالوا يترقبون الفرصة للخروج عليها حتى قام ابن أبي عامر وزير الحكم بن الناصر، وكان من العرب المستمسكين بعصبيتهم، فأخذ بدهائه في التفرقة بين العناصر المتغلبة من صقالبة وأتراك وبربر، ثم بالإيقاع بهم شيئًا فشيئًا، وكان في أثناء ذلك يستقدم رجالات من بربر المغرب من قبائل زناتة ومصمودة وغيرهم، وكان يوليهم مناصب الدولة، حتى إذا شعروا بعده بضعف الخلفاء ومن والاهم، أخذوا يخرجون على دولتهم ويستقلون بأطرافها، وأول من بدأ منهم باستقلالهم بنو عباد في إشبيلية، ثم بنو زيري في غرناطة، وبنو الأفطس في بطليوس، ثم بنو ذي النون في طليطلة، ثم بنو عامر في بلنسية، ثم بنو هود في سرقسطة، وبقيت قرطبة في يدي بني حمود، ثم بني جهور وما زالوا حتى غلبهم على أمرهم الفرنجة من الشمال، ثم المرابطون من الجنوب.
وكثيرًا ما كان ملوك الطوائف يحارب بعضهم بعضًا؛ طمعًا في استيلاء هذا على ما كان في يد الآخر، حتى انتهى أمرهم إلى الضعف، وصاروا يدفعون الجزية إلى الأذيفونش، غير ما كانوا يلاقونه من الهوان من الإسبانيين، وما زالوا حتى ضاقت صدورهم من غدر ملوك الإسبان بهم وسوء معاملتهم لهم، فأجمعوا أمرهم على استدعاء عرب المغرب لنصرتهم، وكان هذا رأي ابن عباد صاحب إشبيلية، وكان المغرب وقتئذٍ في حكم المرابطين، وأميرهم يوسف بن تاشفين سلطان المغرب من أقصاه إلى أدناه، فلما وصلت إليه دعوة ابن عباد قبِلها، وعبر إلى الجزيرة سنة ٤٤٩ﻫ بجيوش جرارة على رأسها قائده العظيم داود بن عائشة، وسار هو وفي مقدمته وزيره الكبير سير بن أبي بكر اللمتوني، فقابلته جيوش الإسبان متجمعة بقرب بطليوس، وعلى رأسها الأذيفونش ملك قَشتالة، ووقعت بينهم موقعة تشيب لها الولدان، انتصر فيها ابن تاشفين والأندلسيون انتصارًا باهرًا، وهذه الواقعة يسمونها واقعة الزلاقة، وهرب الأذيفونش بعد أن جُرِح في يده جرحًا بليغًا، ثم طلب الصلح من ابن تاشفين، فمنحه ذلك لمدة خمس سنين، أخذ فيها الأذيفونش على نفسه ألا يتعرض للمسلمين بشيء مطلقًا، وخلصت بلاد الأندلس من مظالمه، ومما كانت تدفعه إليه كل عام من الجزية، وتَسَمَّى ابن تاشفين بعد هذه الواقعة بأمير المسلمين. وقد غنم المسلمون من هذه الموقعة شيئًا كثيرًا جدًّا من الأموال والأنفس، فعف ابن تاشفين عنه وتركه جميعه لأهل البلاد، وانصرف عن الأندلس إلى المغرب تاركًا وراءه جمال العمل وجميل السيرة.
وفي سنة ٤٦٨ﻫ جاز ابن تاشفين إلى الأندلس جوازه الثاني؛ بدعوى أن أهله شكوا إليه من كثرة المكوس (الضرائب) التي كانت تأخذها منهم ملوك الطوائف، فلما وصل إلى الجزيرة الخضراء خافه ملوك العرب وقطعوا الميرة عن جيوشه، بعد أن اتفقوا مع ملوك الفرنجة عليه، فقصد بلادهم واستولى عليها واحدة بعد واحدة، وبعث ببني زيري أصحاب غرناطة إلى المغرب، فقضوا فيه بقية حياتهم، ثم قصد إشبيلية وحارب ابن عباد حتى إذا تغلب عليه اعتقله وأرسل به إلى أغمات من أعمال مراكش، وما زال في اعتقاله بها حتى مات سنة ٤٩١ﻫ، ثم قصد بطليوس وقبض على ملكها ابن الأفطس وقتله، وبذلك أصبحت الأندلس من أقصاها إلى أدناها في حوزته إلا سرقسطة (وهي في شمال إسبانيا)، فإنها بقيت في يد بني هود؛ لاعتصامهم بالأذيفونش، ولبعدها عن مركز القوة الإسلامية.
ولما خلص ابن تاشفين من استيلائه على الأندلس فوض أمره إلى وزيره سير اللمتوني ورجع إلى بلاده، ومن ثَم أصبحت الأندلس في يد المرابطين، وما زالت في أيديهم إلى أن دب الشقاق بين أحفاد ابن تاشفين طلبًا للملك في أواخر القرن الخامس الهجري؛ بما كان سببًا لضعفهم، وقيام بلاد المغرب عليهم، حتى سقطت دولتهم بقيام دولة الموحدين.
ودولة الموحدين قامت على يد المهدي محمد بن تومرت، وما زال حتى مات سنة ٥٢٤، فاتفقت رجالات المغرب على مبايعة عبد المؤمن بن علي، وكان في مقدمة رجال المهدي علمًا وفضلًا ودهاء، وهو أول من تَسَمَّى في المغرب بأمير المؤمنين.
وقد ذكر مؤرخو العرب أن من قُتل في هذه الموقعة من النصارى أكثر من مائة ألف، أما ما غنمه المسلمون فيها فهو شيء لا يحصيه العد ولا يحيط به الحصر، حتى أصبحت العرب تبيع الأسير بدرهم، والسيف بنصف درهم، والحمار بدرهم، والفرس بخمسة دراهم. وبعد هذه الواقعة استولى المنصور على طَلَمَنْكة، ثم قصد طليطلة، وهي عاصمة الأذيفونش وحاصرها، ولما لم يبقَ غير نزول من فيها على إرادته، نزلت والدة الأذيفونش وبناته وحرمه واستغثن به وبمروءته، فأكرم مثواهن وأعادهنَّ إلى مقرهن معززات مكرمات، وعاد هو إلى بلاده بالغنائم التي لا حصر لها.
ولما مات يعقوب المنصور سنة ٥٩٥ﻫ استولى بعده ولده أبو عبد الله محمد الناصر، فجاز إلى الأندلس عام ٦٠٩ﻫ بجيوش من العرب يقدرونها بستمائة ألف؛ هنالك أعلن البابا الحرب المقدسة، فهرعت جيوش النصرانية من إيطاليا وفرنسا وألمانيا، واتحدت قواتها في إسبانيا، واستعدُّوا لملاقاة الناصر بسهول (نافا دو تولوزا)، وهي قرية تبعد عن قرطبة شمالًا بمائة وأربعين كيلومترًا.
وكان الناصر قد أعجبته كثرة جيوشه، فأخذ يفتك في طريقه برجالات الأندلس، بإيعاز وزيره ابن جامع الذي أراد أن تكون الكلمة له وحده، وأهمل رؤساء البلاد وقادتها، ولم يستشرهم في أمر عدوه، وهم أدرى الناس بالجهة التي يأخذونه منها، وما زال حتى التحمت جيوشه بجيوش النصرانية في هذه السهول التي يسميها العرب العِقَاب؛ لكثرة ما كان فيها من العقبات التي كانت سببًا في خذلانهم وانتصار جيوش النصرانية عليهم انتصارًا باهرًا تمزقت معه جيوش المسلمين على كثرتها، بحيث لم ينجُ منهم غير القليل، ومن هذا الوقت ظهر كوكب نحس المسلمين في الأندلس، وغربت شمس سعودهم! والله تعالى غالب على أمره.
وعلى أثر هذه الموقعة مات الناصر، فبايع أهل المغرب ولده يحيى، فلجأ أخوه المأمون بن الناصر إلى ملك قَشتالة يستنصره على أخيه وعلى الموحدين، فاشترط عليه شروطًا جمة، منها أن يعطيه عشرة حصون يختارها هو مما في يد المسلمين، مما يلي بلاده، وأن تبنى له كنيسة في مراكش، فلما قبِلها جهز له جيشًا من الإسبان دخل به أرض المغرب، وهنالك جمع المأمون شيوخ الموحدين وقتلهم صبرًا، وكان عددهم أكثر من أربعة آلاف نفس، ومن هذا الوقت أخذت الأطراف تثور عليه في المغرب، وأخذ حكم الموحدين في الضعف.
وفي هذه الأثناء استولى الفرنجة على قرطبة، ثم على جزر البليار وبلنسية، واستولى أسطولهم على سَبْتة وغيرها من سواحل المغرب، ثم استولوا على إشبيلية، وما زالوا يستولون على بلاد الأندلس وحصونه حتى لم يبقَ مع المسلمين غير غرناطة التي بقيت في يد بني الأحمر لمنعتها وكثرة أهلها، لأن سواد البلاد التي كان يفتحها الفرنج كان يلجأ إليها، ومع هذا كانت تدفع الجزية في غالب أيامها لملوك قَشتالة.
ولما استولى بنو مرين على المغرب كان بنو الأحمر يساعدون الفرنجة عليهم، كما كان بنو مرين يتحدون أحيانًا مع ملك قَشتالة على بني الأحمر، وما زال ملك بني الأحمر قائمًا بغرناطة حتى دبَّ الخلاف بين أبي عبد الله بن أبي الحسن وعمه الزغل على الملك، وانتهى بتغلب الفرنجة على غرناطة في سنة ٨٩٢ﻫ الموافقة لسنة ١٤٩٢م، وبه انقضى ملك المسلمين في الأندلس وانطوت صحيفتها، وسبحان من له الملك، يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء.
فالإفرنج يقولون ألفنس الأول، والثاني، والثالث، وهكذا. وقد اقتصر العرب على الاسم دون الوصف الذي يعينه، وعلى ذلك فألفونس السادس ملك قَشتالة وليون وأشتوريا هو الذي كان له شأن كبير معهم، وهو الذي استولى منهم على طليطلة في سنة ١٠٨٥م وجعلها عاصمة ملكه، وبعد ذلك أخذ يستولي على أطراف بلادهم حتى امتلك منهم نصف إسبانيا الشماليَّ، وهو ما يسمونه بقَشتالة الجديدة، وألفونس السادس هو الذي انكسرت جيوشه أمام ابن تاشفين في واقعة الزلاقة سنة ١٠٨٦، ومات بجراحه منها سنة ١١٠٩م.
أما ألفونس الثامن ملك أراغون فهو الذي كان له شأن مع ملوك الطوائف وجيوش الموحدين، وانكسرت جيوشه أمام جيوش يعقوب بن عبد المؤمن في واقعة الكرك سنة ١١٩٥، ومات سنة ١٢١٤م بعد سنتين من انتصاره مع جيوش النصرانية على محمد الناصر في واقعة العِقَاب المشئومة.
أما ألفونس أمير البرتغال الذي انتهى أمره بانتخابه ملكًا لهذه المملكة، فهو الذي أخذ من العرب لشبونة وشنتارين.
وفرديناند الثالث ملك قَشتالة المسمى بسان فردناند (القديس فرديناند) هو الذي أخذ قرطبة من العرب سنة ١٢٣٦، ثم استولى على إشبيلية سنة ١٢٤٩م.
أما فرديناند الثاني ملك نافاريا وأراغون، والذي تزوج بإيزابلا ملكة قَشتالة، فهو الذي أخذ غرناطة من العرب سنة ١٤٩٢ وأخرجهم من أرض إسبانيا.
فإذا علمت ذلك — وفقك الله — فلا تعطِ لأحدهم ما ليس للآخَر من مركزه التاريخي.
(١) للعبرة والتاريخ
العلة الأولى لضعف العرب في إسبانيا هي تفرق الجماعة وانقسام الدولة الأموية، بعد أن طويت صحيفة بني عامر إلى عشرين دولة صغيرة استقل بها ولاتها، وهي: إشبيلية، جيان، سرقسطة، الثغر (ما كان في شمال طليطلة)، طليطلة، غرناطة، قَرْمُونة، الجزيرة الخضراء، مرسية، بلنسية، دانية، طرطوشة، لارِدة، باجة، المرية، مالقة، بطليوس، لشبونة، جزائر البليار، وقرطبة.
وكان هذا الانقسام ولا بد داعيًا إلى كثرة الخلاف بين رؤساء هذه الدول، وطمع كل منهم فيما في يد الآخر، واشتعال نيران حرب كل منهم بين جيرانه، ووثوب القوي على الضعيف. ومن قول ابن حزم باختصار: «فضيحة لم يأتِ الدهر بمثلها: أربعة رجال يُسمَّى كل واحد منهم أمير المؤمنين! واحد بإشبيلية، والثاني بالجزيرة الخضراء، والثالث بمالقة، والرابع بسَبْتة، وأصبح العرب والبربر في خلاف مستديم، والجميع في خلاف مع أهل المغرب الأقصى، وفي حروب مع الأمم الإسبانية والبرتغالية.»
ثم آل أمر هذه الدول إلى خمس: سرقسطة وما والاها شرقًا إلى البحر في يد ابن هود، وطليطلة وما والاها شمالًا وجنوبًا في يد ابن ذي النون، وإشبيلية وما والاها جنوبًا في يد ابن عباد، وبطليوس وما والاها غربًا في يد ابن الأفطس، وآلت قرطبة إلى يد الوزير ابن جهور، ثم دخلت في حكم ابن عباد.
وكانت أمهات الأولاد من الإسبانيات لا يزال الدم الأجنبي يجري في عروقهن، ولا يزال أثر النصرانية ماثلًا في قلوبهن، فكن مسلمات في حالة ضعفهن، حتى إذا وجدن الفرصة غير سانحة للإثآر بقومهن أرضعن أولادهن خور العزيمة، وأضعفن فيهم دماء قوميتهم وديانتهم، فكان هذا من أكبر الأسباب في خمود حميتهم، وخصوصًا في الطبقة العالية منهم.
ولا بد للأخلاق العامة من التأثير في هذا التغير الذي طرأ على حالة العرب في إسبانيا، فنزل بهم من المستوى الذي كانوا فيه مدة الأمويين، وكانت كثرة الثروة من العلل التي جرت بهم إلى الدعة والرفه، فمالوا إلى اللهو بجميع أنواعه، ومع أن منتدياتهم كانت مدة عزتهم وقوتهم كلها علمية وأدبية وفنية، يتخللها أحيانًا ما يبيحه الدين والحضارة من موجبات السرور، كالأغاني والموسيقا، مما نهضت به عزيمتهم وظهرت ثقافتهم وتجلت بطولتهم في سلمهم وحربهم، فإنهم لما استرسلوا في ملاذِّهم، واستسلموا إلى شهواتهم، واستناموا إلى الراحة، ضعفت فيهم الحمية الدينية والعصبية؛ فأهملوا شئون بلادهم، وتقوية ثغورهم، وقعد كل مصر عن الدفاع عن حوزته، وكان عدوهم فيما بين ذلك يعمل وهم نيام، ويتقدم كل يوم إلى الأمام، وبعد أن كان يخنع إلى سلطانهم، ويستكين إلى قوتهم، ويدفع لهم الجزية وهو صاغر، وصل حالهم بتفرق جامعتهم وانقسام دولتهم إلى طوائف، أن كانوا يستنصرون به بعضهم على بعض، ولم يكن هذا في دولة منهم ضد أخرى فحسب، بل كثيرًا ما كان يستظهر الابن على أبيه، والأخ على أخيه بملوك النصرانية، كما كان من المنذر والمؤتمن ابني المقتدر سلطان سرقسطة، حتى ضعفوا جميعًا، واستولى العدو على بلادهم سنة ١١١٨م، وكما كان من ولدي عبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية، وكما كان من استنصار المأمون بن الناصر من بني عبد المؤمن ملك قَشتالة على أخيه يحيى. ولقد كثر استنصار بني الأحمر ملوكَ النصرانية بعضهم على بعض في آخر دولتهم، حتى ضعفوا وذهبت ريحهم وسقطت بلادهم في يد عدوهم.
ولو عرفت أن طليطلة — وهي أول حجر انهار من هيكل عظمة الإسلام بإسبانيا — إنما أضاعها صاحبها القادر بالله بن المأمون بن يحيى بن ذي النون لشهوته في الاستيلاء على بلنسية، واستنصاره ملك قَشتالة ألفونس السادس لمساعدته في ذلك، وكان ألفونس لا يبرح يورطه في حربه لبني عامر حتى أضعفه واستولى هو على بلاده في سنة ١٠٨٥م، بعد أن مكثت مستقلة في أيدي بني ذي النون ٧٣ سنة لو عرفت ذلك كله لعرفت أن ملوك النصرانية كانوا ينشطون لمساعدة ملوك الإسلام بعضهم على بعض لأمرين: الأول أن ينتفعوا من وراء حرب فئة من المسلمين ضد أخرى منهم، وهم بذلك يضعفون جميعًا، وهو كل أمنيتهم؛ لأن الدولتين النصرانية والإسلامية كانتا في كفتي ميزان، إذا خفت موازين واحدة منهما ثقلت موازين الأخرى. والثاني أن يكون لهم السلطان التام على من كان من المسلمين في حمايتهم وتحت رعايتهم، فيستخدموه ما شاءوا ويثمروه ما أرادوا، وبهذه السياسة وصلوا إلى غايتهم من إضعاف دول العرب في الأندلس بما مكَّنهم من الوثوب عليها واحدة بعد أخرى، حتى استولوا عليها جميعًا، ومن هذا تعلم أن العرب لما انحطت أخلاقهم ضعفوا وتلاشى أمرهم:
وكان الإسبانيون بعكس ذلك يحاربونهم أمة مجتمعة، يسير تحت لوائها الملك والأمير بجوار الجندي الصغير، وكل منهم لا يعرف أمامه غرضًا غير مجد الانتصار على خصمه، وهو ولا شك واصل إليه بمجالدته ومثابرته.
ومن ذلك أن الإسبان لما قصدوا بلنسية سنة ٤٥٦ﻫ، خرج إليهم أهلها بملابسهم الحريرية، فانكسروا أمامهم في واقعة طبرنة، وفي ذلك يقول الشاعر:
ولقد كانت حالة عرب الأندلس تتبع حالة القائمين بأمر الحكم فيها قوة وضعفًا، وكذلك حال الإسبان كانت تتبعها انقباضًا ونشاطًا؛ لذلك اختلف المؤرخون من العرب في تصويب ابن تاشفين فيما عمل مع ملوك الأندلس في جوازه الثاني وفي تخطئته، فبعضهم يقول إنما سار إلى الأندلس بدعوة من مسلميها يستصرخونه فيما كان ينزل بهم من ملوكهم من المظالم وكثرة المكوس والضرائب، وخيرًا فعل. وبعضهم الآخر يقول إنما بهره كثرة ما شاهده بها في جوازه الأول من عظيم الثروة، وضخامة الملك، وبارق العمران، وتألق الحضارة، فقصدها بتلك الحجة، ونكل بملوكها حتى تكون له البلاد من غير شريك أو وسيط، ويناله باللائمة لأنه بعمله هذا هدم أول حجر من صرح حكم العرب في البلاد، ذلك الصرح الذي أخذت حجارته تتناثر واحدًا بعد الآخر، إلى أن تم هدمها بعد أربعة قرون (وهي قليلة في عمر الدول).
وعلى كل حال، إن ابن تاشفين ما كان له أن يقضي مرة واحدة على هؤلاء الرءوس الذين كانوا يديرون ما كان في أيديهم من البلاد التي كانت في دائرة حكمهم، والذين كانوا أدرى الناس بمسالكها ومساربها وإدارتها، وأعرف الناس بدائها ودوائها، وأقدرهم على تثميرها والدفاع عنها لعدوها الذي كان لها بالمرصاد من جهتيها الشمالية والغربية.
على أن ابن تاشفين بعد أن بلغ شهوته من تملك البلاد من أقصاها إلى أدناها، كان لا بد أن يعامل ملوكها الذين أصبحوا في أسره، من غير أن يبدءوه بإعلان حرب ولا بخلاف في رأي، إن لم يكن بالحسنى التي تليق بأمثالهم، فلا أقل من الشفقة والرحمة.
وإن من يطَّلع على بقية حياة ابن عباد في سجنه، وهو يرسف في أغلاله وقيوده — بعد ما كان له من عزة الملك ونعيم السلطان — فراشه الغبراء، وغطاؤه صفحة الهواء، وأنيسه البكاء، وقرينه الداء، وسميره كل نوع من أنواع البلاء! يرى أن قلوب الملوك إذا كانت كبيرة في نعمتها، فهي كبيرة في بؤسها ونقمتها، وأن ابن تاشفين إذا كان خشنًا في طعامه، خشنًا في لباسه، لشدة في دينه، فقد كان — سامحه الله — خشنًا في معاملته لكل من أوقعه سوء حظه بين براثن غضبه.
ومن يطَّلع على قوانين الحروب في هذا الزمن، يَرَ أن الشخص المحارب لا يلبث بعد وقوعه في أسر عدوه أن تنقلب عداوة الغالب له شفقة وإحسانًا إلى هذا الذي أصبح لا حول له ولا قوة، وقد يتركون للعظيم سلاحه، ويوفِّرون له أسباب الراحة، والأمثلة في هذا كثيرة تفوق الحصر.
هوامش
وقد حاصر السيد على رأس جيوش يوسف بن أحمد بن هود بلنسية، ومع أنه دخلها صلحًا فقد حرق قاضيها ابن الجحاف لزعمه أنه أبى أن يدله على خزائن المقتدر بن هود صاحب بلنسية، ثم أشعل النيران في المدينة حتى أتلفها، وهو ما لا يتفق مع الصلح الذي دخل به المدينة، وفي ذلك يقول ابن خفاجة:
ولا أدري لعل قصص هذه البطولة كانت سببًا في وضع عرب المغرب قصصهم في بطولة أبي زيد الهلالي، ودياب الزغبي، وخليفة الزناتي، حتى تكون لهم بها تعزية عن بطولتهم الميتة؛ لأنَّا إذا تأملنا ما فيها من الشعر نجده مثل شعر عرب المغرب وهم في شيخوخة نهضتهم، هذا الشعر الذي تأثر بتلك الموشحات التي ذاع أمرها فيهم، وكانت خليطًا من العربي الفصيح والكلام العامي (راجع الكلام على الموشحات في كتاب بلاغة العرب للأستاذ ضيف، وفي تاريخ الأدب الأندلسي للأستاذ الكيلاني).
والمرابطون يُسمَّون أيضًا بالملثمين؛ لأنهم كانوا يغطون وجوههم بحيث لا يظهر منها غير أعينهم، ويقال إن سبب ذلك شدة برد الصحراء وشدة حرها، ويقال أيضًا إن سبب ذلك أنهم في قلتهم خرجوا للغزو، فجاء أناس وهجموا على ديارهم، فتلثم النساء وحملن السلاح ووقفن أمام بيوتهن، فظنهم عدوهم رجالًا ورجع من حيث أتى، ومن ثَمَّ صار اللثام من عاداتهم، وفي الملثمين يقول الشاعر: