مقدمة
أولًا: من «من النقل إلى الإبداع» إلى «من النص إلى الواقع»
(١) إعادة بناء علم أصول الفقه
وكان قد صدر منها «التراث والتجديد» عام ١٩٨٠م، وهو المقدمة الأولى للرسالة، المقدمة المنهجية مثل المقدمات التي غلبت على كتب الأصول الأولى، المنطق في «المستصفى»، وفلسفة العمل في «الموافقات»، مثلًا. وتتَّضح فيها التحولات التي حدثت في مصر إبَّان السبعينيات، وتحوُّل الثورة إلى ثورةٍ مضادَّة. وفي رأي البعض هذا «المانفستو» الصغير الذي يُعتبر مقدمة للمشروع كله هو أفضل ما كتبت من حيث الأسلوب والتحليل والبرهان بعيدًا عن إنشائيات «من العقيدة إلى الثورة»، والتحليلات الكمية في «من النقل إلى الإبداع». أعجب العلمانيين وأغضب السلفيين كما هو الحال في معظم كتاباتي النظرية، وهو نفس ما حدث عندما صدر «مقدمة في علم الاستغراب»، فأفرح السلفيين وغضب العلمانيون. والفرح والغضب من هذا الفريق أو ذاك موقفان غير علميين؛ فالتحليل العلمي يُناقش علميًّا ولا يرد إلى مواقف أيديولوجية مسبقة تُخطئ في الحكم؛ فلا «من العقيدة إلى الثورة» نيلٌ من العقيدة وتشكُّك فيها، بل قراءتها كدافع إلى التقدم بعد اتهامها بأنها سبب التخلف؛ ولا «مقدمة في علم الاستغراب» رفض للغرب، بل هو تحويل الغرب من كونه مصدرًا للعلم كي يصبح موضوعًا للعلم.
وإذا كان المُتلقي جزءًا من الخطاب، فالرسالة خطاب من كاتب إلى قارئ؛ فقد كُتِب «من العقيدة إلى الثورة» للثائر الذي يريد تأصيل ثورته ومد جذورها في الموروث الثقافي، وللمُحافظ ليقلِّل محافظته ويُساهم في مسار التقدم الاجتماعي، وللعلماني كي يعرف أن التراث الذي يقطع معه يمكن أن يجد فيه بغيته، وللسلفي الذي يتصور العقائد غاية في ذاتها، عالمًا مغلقًا يحتوي على حقائق في ذاتها وليست مجرد أدوات لتغيير الواقع وأدوات لتطويره، وللمتكلم أنه لا يوجد علم مقدَّس، بل علم اجتماعي أيديولوجي يدخل في صراع الأفكار كجزء من عملية الصراع الاجتماعي، وللعالم الاجتماعي كي يعلم أن الصراع الأيديولوجي في المجتمعات هو العامل الأكثر حسمًا في عمليات الصراع الاجتماعي؛ فإن «من النقل إلى الإبداع» كُتِب لكل من يريد الحكم على الذات العربية الإسلامية وقدرها بين النقل والإبداع، وفي أي مرحلة، وفي أي علم، وفي أي نص، من أجل تقييد إطلاق الأحكام، إما الحكم بالنقل على الإطلاق كما يفعل بعض المستشرقين، أو بالإبداع على الإطلاق كما يفعل بعض الباحثين العرب الغيورين على التراث ودوره الحضاري. ويُكتَب الآن «من النص إلى الواقع» للفقيه من أجل أن يُحسِن الاستدلال ويغلِّب المصلحة العامة، وهي أساس التشريع، على حرفية النص، وإعطاء الأولوية للواقع على النص.
وقد كُتبت كل محاولة من أجل دحض شبهة شائعة روَّجها المستشرقون أو بعض الباحثين العرب المُتأثرين بالاستشراق، وتصحيح حكم سابق، إما على مجمل التراث أو أحد علومه؛ فقد كُتِب «من العقيدة إلى الثورة» لدحض شبهة أن الإسلام سبب تخلف المسلمين، وبأنه غير قادر أيديولوجيًّا على الدخول في عصر الحداثة، عصر العقلانية والعلم وحقوق الإنسان.
وكُتب «من النقل إلى الإبداع» لدحض شبهة أن علماء المسلمين كانوا نقَلة عن اليونان، مُترجمين لعلومهم، شارحين لمؤلفاتهم وملخِّصين وعارضين لها، وأن الفلسفة يونانية، والتصوف مسيحي أو فارسي أو هندي أو يوناني، أفلاطون أو سقراط أو النحلة الأورفية، وأن علم الكلام نصراني يهودي، وأن أصول الفقه يوناني في القياس، وكأن المسلمين لم يُبدِعوا شيئًا، وأنهم مجرد حفَظة ونقَلة يُسيئون النقل، ويخلطون بين أرسطو وأفلوطين، وبين أفلاطون وأرسطو، وينتحلون نصوصًا على لسان الفلاسفة.
ويُكتَب الآن «من النص إلى الواقع» ضد شبهة أن التشريعات الإسلامية حرفيةٌ فقهية تضحِّي بالمصالح العامة، قاسية لا تعرف إلا الرجم والقتل والجلد والتعذيب وقطع الأيدي، والصلب والتعليق على جذوع النخل، وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، وتكليف بما لا يُطاق. كما أن من ضِمن مآسينا خروج بعض الحركات الإسلامية المعاصرة من النص الحرفي، وتطبيق شعاراته حول الحاكمية لله وتطبيق الشريعة الإسلامية والبديل الإسلامي دون رعاية لواقعٍ متجدد أو لتدرُّج في التغير.
وإذا كان «من النص إلى الواقع» عنوانًا مُستقرًّا لهذه المحاولة الثالثة لإعادة بناء العلوم النقلية العقلية بعد «من العقيدة إلى الثورة» لإعادة بناء علم أصول الدين، و«من النقل إلى الإبداع» لإعادة بناء علوم الحكمة، فإن عنوان كل جزء ما زال موضع التساؤل؛ فإذا كان الجزء الأول هو وصفًا لنشأة النصوص الأصولية وتطوُّرها لمحاولة التعرف على بنيتها كبديل عن الفصول التمهيدية التاريخية التقليدية خارج النص، فإن عنوان هذا الجزء يكون «تكوين النص». وإن كان الجزء الثاني يُحاول إرجاع بنية النص الثلاثية إلى تجارِبها المعيشة وأبعاد الشعور التاريخي والنظري والعملي، فإن عنوانه يكون «بنية النص». والتقابل بين التكوين والبنية قائم، وهو الاختيار الذي تم بعد احتمال كان واردًا. وبالرغم أن لفظ النص يتكرر في الجزأين، إلا أن الجزء الثاني دراسة لواقع النص في التجربة المعيشة كما يدل على ذلك العنوان، والجزء الأول «بنية النص» أو «تكوين النص»، وهي حيرةٌ أخرى، أيهما أفضل؟ فالتكوين طريق للبنية، والبنية من خلال التكوين. والثاني «واقع النص»، وفي هذه الحالة يكون النص أيضًا قد تكرَّر في الجزأين الأول والثاني، كما أن تكوين النص إنما يقوم على وصف بنيته عبر التاريخ وطبقًا للترتيب الزماني، من السابق إلى اللاحق؛ فهو تكوين للبنية، وبنية للتكوين. ويُراعى في نفس الوقت البنيات المُتشابهة من خلال الترتيب الزماني، والترتيب الزماني داخل البنية الواحدة.
وقد انتهى عصر المجلدات؛ فلم يعد في العمر متَّسَع لكتابة الموسوعات، ولم يعد لدى القارئ العام أو المتخصِّص الهمة ولا الوقت ولا الرغبة في الاطلاع على هذا الكم الكبير والتحقق منه. «من العقيدة إلى الثورة» خمسة مجلدات، و«من النقل إلى الإبداع» تسعة مجلدات. كانت النية أن يكون «من النص إلى الواقع» مجلدًا واحدًا، لكن عز الطلب، وانقسم الموضوع بطبيعته إلى قسمين؛ الأول لرصد النص الماضي تكوينًا وبنية، والثاني لإعادة قراءته طبقًا لروح العصر واكتشاف بنيته في تحليل الشعور. ومجلدان أفضل من خمسة أو تسعة. ويؤمل من أن يكون «من الفناء إلى البقاء» مجلدين أيضًا؛ الأول في التصوف كتاريخ، والثاني في التصوف كطريق.
(٢) النقد الذاتي ﻟ «من النقل إلى الإبداع»
- (أ)
نظرًا لكثرة ما وُجِّه إلى «من العقيدة إلى الثورة» من أنه أيديولوجي وليس علميًّا، خطابي وليس برهانيًّا، يريد تثوير النص أكثر مما يريد تغيير الواقع، قراءة للنص عن طريق إعادة التعبير عنه بلغةٍ جديدةٍ أكثر منه تحليل للواقع الاجتماعي والسياسي الذي نشأ فيه النص؛ ارتدَّ «من النقل إلى الإبداع» إلى النقيض، وغلب المعرفي على الأيديولوجي، والتاريخي على الفكري. أتى أقرب إلى البحث العلمي منه إلى الفكر الخالص، حتى إنه ليصل إلى درجة المدرسية والتعليمية، وذكر أسماء العلم وأسماء المقالات والمؤلفات. أتى أقرب إلى الموسوعة أو الملحمة منه إلى التحليل في العمق. جاء أقرب إلى الاتساع عرضًا منه إلى العمق طولًا.
- (ب)
انتهى منهج تحليل المضمون إلى نوع من الصورية والشكلانية فيما يتعلق برصد أسماء الأعلام، الموروث منها والوافد، والإحصائيات لمن لم يتعوَّد عليها بغير ذي دلالة حاسمة، وأن وصف مكونات النص الموروث والوافد والواقع التاريخي لا يكفي في الحكم على النص. والحقيقة أن هذا هو عيب المنهج، وليس عيب التطبيق، ولا يوجد منهجٌ كامل. كل منهج له مميزاته وعيوبه. منهج تحليل المضمون له مميزاته في أنه قادر على إعطاء حكم دقيق على النص ومكوناته ومقاصده وبواعثه، وتجنُّب الأحكام المُطلَقة وتكرار الأخطاء الشائعة؛ وله عيوبه، مثل الوقوع في الصورية، واعتبار النص عالمًا مُغلَقًا بذاته عائمًا فوق الواقع وليس داخلًا فيه أو خارجًا منه. والمنهج التاريخي له مميزاته في أنه يبيِّن أن النص جزء من مكونات الواقع ومتكوِّن فيه، وأن النص ما هو إلا الواقع يتحدث عن نفسه، لسان حال له، ومرآة تعكسه، كما أن الواقع مرآة تعكس النص؛ وعيبه في فقد المكونات الداخلية للنص وبنيته المستقلة. والمنهج البنيوي له ميزته في أنه يكتشف المنطق الداخلي للنص، والبنية المُتحكمة في تكوينه دون ردها إلى جزئياتها في الواقع التاريخي، فالكل سابق على الجزء؛ وله عيوبه في جعل النص أيضًا عالمًا صوريًّا، سواء كان في الذهن أو في عالم المُثل، وإغفال التجارب التاريخية والحياة اليومية الفردية والاجتماعية التي يتكوَّن فيها النص. والمنهج الظاهرياتي قد يكون أكمل المناهج؛ لأنه يبدأ من التجربة الحية التي تتكون في الواقع، وكما عرض هوسرل في «التجربة والحكم»، وفي نفس الوقت يصف الماهيات المستقلة ويتجه نحو المعاني، كما أنه أيضًا يحلِّل لغة الخطاب؛ فالفكر قول، وكما وضح في الهرمنيطيقا. ومع ذلك لم يسلم من الاتهام بالأناوحدية والذاتية والاستبطان والنزعة النفسية؛ لذلك كانت ميزات منهج تحليل المضمون تفوق عيوبه، وكان هو الأقدر على تحليل نصوص علوم الحكمة بعد استعمال منهج القراءة في «من العقيدة إلى الثورة»، وهو منهجٌ ذاتي تأويلي تحديثي ينقل الماضي إلى الحاضر مع تغيير اللغة ومستوى التحليل وإعادة توجيه القصد لما ينقص الواقع الحالي من قدرة على التشريع وصياغة القانون، وفهم مضمون النص باعتباره تجربةً حية في الشعور، وهو منهجٌ يعتمد على تحليل النصوص وليس الأفكار، وتحليل اللغة وليس المعاني، والدخول إلى الفكر عن طريق اللغة، والاتجاه إلى المضمون ابتداءً من الشكل. واللغة عالم بأكمله؛ عالم الكلام وعالم العقل وعالم الوجود.
- (جـ) كان مِعيار الإبداع هو استقلال النص عن مكوِّنَيه الرئيسيين، الوافد والموروث، واعتماده على العقل الخالص وبنيته الداخلية واتساقه المنطقي دون دعامات خارجية من الموروث الداخلي أو الوافد الخارجي أو الواقع التاريخي. وقد يراه البعض معيارًا شكليًّا؛ فالإبداع يتجاوز مكونات النص إلى مضمونه، معانيه وتصوراته ونظرياته، وليس لغته وأسماء أعلامه ومواقعه. وهو نقدٌ صحيح علميًّا، إلا أن الإبداع ليس له معنًى واحد؛ فالإبداع في أحد مستوياته هو الاستقلال عن المكونات، والاستغناء عن الروافد، وإقصاء الدعامات الداخلية والخارجية من أجل إبداع ذاتي له منطقه الداخلي. وقد يكون للإبداع معنًى آخر، وهو تجاوز التصورات والنظريات والمناهج والرؤى القديمة إلى أخرى جديدة، إبداع في المضمون وليس في الشكل، في الجوهر وليس في العرَض، في الشيء وليس في طرق التعبير عنه. ولما كان الإبداع بالمعنى الأول في العلوم الرياضية والطبيعية، فإن الإبداع بالمعنى الثاني لا يقوى عليه إلا مؤرخ العلوم، وهو ما يتجاوز قدرات الباحث وتخصصه،٩ إلا أن تاريخ العلوم الخالص بلا دلالاتٍ حضارية عامة، ودون ارتباط بالإبداع الحضاري الشامل في باقي العلوم العقلية النقلية بل والنقلية الخالصة، يكون أقرب إلى التاريخ الصِّرف. وإن كان هناك سبق إبداع فإنه يكون في تاريخ العلوم العام من اليونان إلى العرب إلى الغرب، وربما من الصين والهند وفارس وحضارات ما بين النهرَين ومصر القديمة إلى الغرب الحديث مرورًا بالشرق المتوسط. وهو بحثٌ علمي خالص لا شأن له بالتغيرات الاجتماعية وأزمات العصر الحالية. النظر نظر، والعمل عمل.
جاء «النقل» بأجزائه الثلاثة أقوى من «التحول» بأجزائه الثلاثة؛ ففي «التدوين» تم عرض الكتب التي حاولت التأريخ لعلوم الحكمة؛ كيف تمَّت قراءته، ثم كيف أضيف الانتحال لإكمال التاريخ. وفي «النص» تم التعرف على أنواع الترجمة، وكيف نشأ المصطلح الفلسفي، وأخيرًا كيف تحوَّلت الترجمة إلى تعليق. وفي «الشرح» تم التعرف على أنواع الشروح الثلاثة، التفسير ابتداءً من اللفظ، والتلخيص اقتناصًا للمعنى، والجامع توجهًا نحو الشيء.
أما «التحول» فإنه غلب عليه رصد الشكل لمعرفة مراحل التأليف ابتداءً من العرض، الجزئي والكلي، والنسقي المنطقي، والنسقي الشعبي، ثم الأدبي. كما تم وصف مراحل التأليف الست: تمثل الوافد، تمثل الوافد قبل تنظير الموروث، تمثل الوافد مع تنظير الموروث، تنظير الموروث قبل تمثل الوافد، تنظير الموروث، وأخيرًا الإبداع الخالص. فلما أتى المجلد الثالث «الإبداع» تم التحول من الشكل إلى المضمون لمعرفة كيف نشأت علوم الحكمة من نقد علم الكلام والتوحيد بين الدين والفلسفة وتصنيف العلوم، ثم عرض الحكمة النظرية: المنطق، والطبيعيات والإلهيات، والنفس؛ ثم الحكمة العملية: الأخلاق، والاجتماع والسياسة، والتاريخ. وكان من الضروري استرجاع كل نصوص «التحول» وإدخالها في «الإبداع»، والتحول من تحليل الشكل إلى وصف المضمون، إلا أنه تم الاكتفاء بالنصوص الكبرى في «الإبداع»، خاصةً وأن مادتها مُتكررة؛ ومن ثَم كان السؤال عن نصٍّ ضروري في «الإبداع» سؤالًا شرعيًّا نظرًا لأنه استُعمل من قبلُ في «التحول». وبرزت مسألة دائمة: أين موقع هذا النص في «التحول» من حيث الشكل، أو في «الإبداع» من حيث المضمون؟
- (د)
ظهر الإبداع مُتشظيًا مُتجزئًا مُتناثرًا جزئيًّا في كل نص على حدة، ولدى كل فيلسوف كجزيرةٍ مُنعزلة دون نظرية شاملة للإبداع الفلسفي تلمُّ الأجزاء وتستخلص النتائج العامة. صحيحٌ أن الإبداع في كل مرحلة؛ ﻓ «النقل» إبداع في التدوين، في تدوين التاريخ وقراءته وضم الوافد إلى الموروث في رؤيةٍ فلسفية إنسانية حضارية عامة. وتبلغ قمة الإبداع في التدوين في الانتحال، إكمال الناقص في الوافد بإبداع الموروث فيه. والترجمة إبداع تتجاوز النقل الحرفي إلى النقل المعنوي؛ فالهدف هو النص الجديد وليس النص القديم، المتلقي وليس المؤلف، الحضارة الجديدة وليس الحضارة القديمة، العرب المسلمون وليس اليونان والرومان غربًا، أو فارس والهند شرقًا. ونشأة المصطلح الفلسفي إبداع؛ فلأول مرة في اللغة العربية، لغة الشعر والخيل والسيف والبيداء، تتحوَّل إلى لغة الجوهر والعرَض، والصورة والمادة، والعلة والمعلول، والوحدة والكثرة، نقلًا من اللغة الحسية العادية إلى المصطلح الفلسفي المجرد. والشرح بأنواعه الثلاثة، التفسير والتلخيص والجامع، إبداع طبقًا لمستويات اللغة الثلاثة، اللفظ والمعنى والشيء. الشرح للفظ والعبارة وتركيب الجملة، والتلخيص التعبير عن المعنى بإيجاز ووضوح بعد تخليصه من ألفاظه وعباراته الأولى، والجامع اتجاهٌ نحو الشي ورؤيته وكشفه وتصويره في قضايا قصيرة مركَّزة، وكأن الشيء يتحدث عن نفسه.
و«التحول» إبداع؛ إبداع في العرض الجزئي والقدرة على فهم كل نص على حدة، والتعرف على موضوعه وقصده. والعرض الكلي إبداع يضمُّ نصَّين معًا لفيلسوفٍ واحد، أو ضم مذهبين لفيلسوفين مُتكاملين، أو ضم الفلاسفة جميعًا في رؤيةٍ حضارية واحدة تعبِّر عن روحها ومقصدها الكلي. والعرض النسقي إبداع في ضم الفلسفة كلها كعلم أو نسق، سواء على المستوى المنطقي كما فعل ابن سينا في «الشفاء»، وهيجل في «موسوعة العلوم الفلسفية»، أو على المستوى الشعبي عند إخوان الصفا، أو بأسلوبٍ أدبي عند أبي حيان؛ فالفلسفة للخاصة والعامة، للمتخصِّص ولرجل الشارع، للفيلسوف والأديب. والتأليف إبداعٌ مرحلي كتقدم عقارب الساعة كل عشر دقائق خطوة في ست مراحل في التفاعل بين الوافد والموروث. يبدأ أولًا تمثل الوافد من أجل هضمه والاستفادة منه، ثم يأتي ثانيًا تمثل الوافد قبل تنظير الموروث بعد أن يتداخل الموروث مع الوافد على استحياء كمصدر ثانٍ للمعرفة، ثم يتعادل ثالثًا تمثل الوافد مع تنظير الموروث بعد أن بَعُد العهد بتمثل الوافد واشتدَّ ظهور تنظير الموروث، ثم يتغلب تنظير الموروث على تمثل الوافد رابعًا، فالداخل له الأولوية على الخارج، ثم يطغى تنظير الموروث على تمثل الوافد خامسًا بعد أن تحوَّل الوافد إلى مجرد ذكرى حضارية قديمة، وأخيرًا يظهر الإبداع الخالص عندما يختفي تنظير الموروث أيضًا ولا يبقى إلا الإبداع الخالص دون مكوِّنَيه الأولين، اعتمادًا على العقل وحده الذي استقلَّ بنفسه ووضع موضوعه دونما حاجة إلى «عكازَين» من الخارج أو الداخل. وهي ليست مراحل تاريخية مُتوالية في الزمان، بل مراحل بنيوية خارج الزمان في بنية الموضوع نفسه.١٠و«الإبداع» إبداع، سواء في تكوين الحكمة وتجاوز علم الكلام بعد نقده والتخلص من موضوعه ومنهجه، أو في التوحيد بين الفلسفة والدين، أي بين الحكمة والشريعة، في نسقٍ معرفي واحد، أو في إحصاء العلوم ووضع المعرفة الإنسانية كلها في نسقٍ واحد. والحكمة النظرية إبداع، سواء في المنطق تدرجًا من عرض المنطق الصوري القديم إلى نقضه إلى أقيسة الرسول، حتى المنطق المُتكامل في الميزان. والطبيعيات والإلهيات علمٌ واحد بالتضايف بين النفي والإثبات على التبادل. والنفس إبداع في وظيفتها الممزوجة بين قُوى البدن وقُوى الروح. والحكمة العملية إبداع في الأخلاق الإنسانية العامة، وفي الاجتماع السياسي وتكوين المدن الفاضلة، أو في التاريخ وصياغة صور التقدم، ابتداءً من قصص الأنبياء ودورات التاريخ.
- (هـ) ومع ذلك جاء المجلد الثالث كله «الإبداع» بأجزائه الثلاثة «تكوين الحكمة»، «الحكمة النظرية»، «الحكمة العملية»، أقرب إلى النقل منه إلى الإبداع؛ ففي «تكوين الحكمة» كان «نقد علم الكلام»، و«الفلسفة والدين»، و«إحصاء العلوم»، موضوعاتٍ تقليديةً يتمُّ فيها رصد مواقف القدماء دون تجاوزها تجاوزًا ملحوظًا مُلفتًا للأنظار. و«الحكمة النظرية» «المنطق»، و«الطبيعيات والإلهيات» و«النفس»، قسمةٌ تقليدية موروثة. وقدرُ تجاوز المنطق القديم إلى المنطق الجديد والانتهاء بالمنطق الشعوري، تعرَّضت إليه كثير من الدراسات المنطقية من قبل، ويُخشى أن يكون فيه انتقال من الغزالي وابن تيمية إلى هوسرل والظاهريات وعلوم التأويل في الغرب المعاصر، بل إن ضم الطبيعيات والإلهيات في علمٍ واحد سبق إليه الفارابي في «إحصاء العلوم». و«النفس» ليس به جديد إلا من تجاوز الثنائية القديمة؛ النفس والبدن. ويغلب على «الحكمة العملية» الأخلاق التقليدية، والاجتماع والسياسة القديمان، وربما الإضافة هي في إعلان النوايا عن ضرورة إضافة التاريخ ورصد اجتهادات القدماء في فلسفة التاريخ انتهاءً بتطويره. وكان السبب في ذلك رغبة التواصل مع القدماء، فجاء التواصل أكثر من الانقطاع. ولم يستيقظ الكندي والرازي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن باجه وابن طفيل وأبو حيان، ولم يُبعَثوا في هذا العصر. ولا نعرف إذا استيقظ ابن سينا الآن فكيف يكتب «الشفاء»، وكيف يقسم الحكمة. وإذا بُعث ابن رشد اليوم، فمن يشرح؟ من خليفة أرسطو اليوم؟ هيجل؟ وأي مدينة فاضلة يكتبها الفارابي أو ابن باجه اليوم؟ هذا ما لم يُجِب عليه «من النقل إلى الإبداع» حتى الآن. ربما عرفنا «النقل» في المجلد الأول، وعرفنا «التحول» من المجلد الثاني، ولكننا لم نعرف «الإبداع» الذي ظل أقرب إلى نقل القدماء من اجتهادات المُحدَثين. وهو اعتراضٌ صحيح، يبدو سببه أن الهمَّ كان وصف حكمة القدماء أكثر من وضع حكمة للمُحدَثين. ما زال الهم هو حسن فهم القدماء درءًا لشبهة التقليد والتبعية، والتحليل العلمي الدقيق للقديم أكثر من تطويره على مستوى المُحدَثين. وربما كان الدافع هو أن هذا المطلب هو وظيفة «الجبهة الثانية» الموقف من التراث الغربي، وإعادة استئناف علوم الحكمة القديمة في لحظةٍ تاريخية ثانية، هي اللحظة الغربية، الفلسفة الحديثة والمعاصرة والتي نحن على اتصال معها منذ فجر النهضة العربية الحديثة عبر رواد النهضة، ثم بعد تأسيس أقسام الفلسفة في الجامعات المصرية.١١
- (و)
توارى تطوير الإبداع القديم إلى الإبداع الجديد، فغلب القديم على الجديد، وتم الاكتفاء بالإبداع القديم دون تطويره إلى إبداعٍ جديد، سواء في الحكمة النظرية أو الحكمة العملية. جاءت الحكمتان عرضًا أكثر منهما تطويرًا، ورصدًا أكثر منهما قراءة. ربما كان السبب في ذلك الحرصَ على العلم دون الأيديولوجيا، وعلى التحليل دون التركيب، وعلى الموضوع دون الذات. لم يظهر الإبداع الجديد إلا في الخاتمة في التساؤل حول إمكانية قيام منطق جديد، أو طبيعيات شعورية شعرية جديدة، أو رؤية أحادية للإنسان لا تنفصل فيه النفس عن البدن. وفي الحكمة العملية كان الجديد أيضًا تساؤلًا حول إمكانية رد الأخلاق المثالية المعمارية إلى تحليلاتٍ طبقية، أخلاق الطبقة العليا في السيطرة، والطبقة الوسطى في القانون والنظام، والطبقة الدنيا في التعايش من أجل البقاء. وربما كان الإبداع في الاجتماع السياسي هو التساؤل حول الدولة الوطنية والصلة بينها وبين المجتمع. وكان الإبداع في التاريخ في محاولة الحفر عن فلسفة في التاريخ ضِمن علوم الحكمة، وتحديد مراحل التقدم، وكيفية قيام الدول وسقوطها، والتصورات المختلفة للتاريخ الخطي أو الدائري، وجدل الضرورة والحرية، والقانون التاريخي والعمل الإنساني الحر الفردي والجماعي، مع إعادة قراءة لابن خلدون، ولو أنه أقرب إلى التاريخ باعتباره مؤرخًا وليس إلى الفلسفة باعتبار التاريخ أحد عناصرها. ربما كان الدافع إلى ذلك أيضًا خشية الإطالة، وربما كان من الحكمة ترك ذلك لجيلٍ جديد يُعيد بناء الحكمتين النظرية والعملية ابتداءً من روح العصر، بحيث يتغلب الإبداع الجديد على الإبداع القديم، وبحيث لا يبقى القديم إلا كذكرياتٍ تتوارى في الوعي الفلسفي التاريخي.
- (ز)
غَرِق «من النقل إلى الإبداع» في اللحظة القديمة، اللحظة اليونانية، دون نقلها إلى اللحظة الحديثة، اللحظة الغربية؛ إذ تنشأ علوم الحكمة في كل لحظة تاريخية تمرُّ بها الحضارة الإسلامية وهي في لقاء وتفاعل مع الحضارات المُجاورة القديمة أو الحديثة. كان الحديث يتخلل القديم أحيانًا في اللغة أو التحليل أو الأفق، ومع ذلك ظل مطويًّا داخل القديم ومُتناثرًا فيه. صحيحٌ أن المقارنات مع الغرب الحديث كانت في الهوامش لجيلٍ جديد قادم، قادر على أن ينقل اللحظة اليونانية القديمة إلى اللحظة الغربية الحديثة، يكفي هذا الجيل المراحل المتوسطة؛ فالتاريخ له قانونه المرحلي. كان الخيال يقتضي أن يُبعث الكندي والرازي والفارابي وابن سينا وابن باجه وابن طفيل وابن رشد من جديد، فتُعاد كتابة الفلسفة الإسلامية بعد ما يقرب من ألف عام على لسان أحفادهم. والخيال شيء، والواقع التاريخي شيءٌ آخر. يكفي تحريك التاريخ كي يستأنف دوراته بدلًا من التوقف على دورةٍ واحدة، ويظل الأحفاد خارج التاريخ. بدأه الأجداد والآباء، وأنهاه الأبناء والأحفاد.
- (ﺣ)
بالرغم من التحذير من طول المحاولات، وأن الناس لم يعد لديهم وقت لقراءة مجلدات ومجلدات، كانت النية بعد أن انفلت عقال «من العقيدة إلى الثورة» إلى خمسة مجلدات، تقليص «من النقل إلى الإبداع» إلى اثنين فقط؛ الأول النقل، والثاني الإبداع. ولما تضخَّم الإبداع ظهر جزءٌ ثالث، التحول، مرحلة وسطية للعرض والتأليف والتراكم بين النقل والإبداع. ولسهولة النشر والطباعة والحمل تم تفصيل المجلد الأول في ثلاثة أجزاء، والثاني في ثلاثة، والثالث في ثلاثة؛ مما أدَّى إلى الارتباك في عدد الأجزاء من الأول إلى التاسع أو من الأول إلى الثالث لكل مجلد؛ لذلك تجدَّدت النية من جديد على أن يكون «من النص إلى الواقع» جزءًا واحدًا، ولن تتعدد الأجزاء بأي حال. وإذا كان «من العقيدة إلى الثورة» قد استغرق ثلاثة عشر عامًا (١٩٧١–١٩٨٤م)، و«من النقل إلى الإبداع» ستة عشر عامًا (١٩٨٤–٢٠٠٠م)، فكم في العمر من عشرات الأعوام وأنا في نهاية العقد السابع؟ والتأليف الآن في منتصف الطريق يبدو أيضًا أن الجزء الواحد قد يتحوَّل إلى جزأين؛ الأول «تكوين النص»، والثاني «بنية النص»، وربما الأول «النص، التكوين والبنية»، والثاني «النص، الواقع والتجربة»، ولكني ما زِلت إلى الاختيار الأول أقرب.
ثانيًا: السمات والمنهج
(١) السمات العامة للفكر الأصولي
ويتَّسم الفكر الأصولي بعدة سمات عامة تميِّزه عن الفكر الكلامي والفكر الفلسفي والفكر الصوفي، أهمُّها:
(أ) العقل
ويعني التحليل العقلي، والنظر العقلي، والقسمة العقلية، والبحث عن بنية الموضوع في العقل؛ فهو أحد الضروريات الخمس من مقاصد الشريعة في وضع الشريعة ابتداءً عند الشاطبي؛ فليس المنهج العقلي من إبداع الغرب الحديث وحده، بل مارَسه الأصوليون القدماء لدرجة تشعُّب القسمة إلى فروعٍ عدة. ويبتعد المنهج العقلي عن الخطابة والإنشاء والوعظ والإرشاد، كما يبتعد عن المنهج الحدسي الذوقي الصوفي الذي يغيب عنه البرهان. العقل ركيزة الوحي وأساسه الأول، وهو ما اتفق عليه المتكلمون والفلاسفة من قبلُ في التوحيد بين العقل والنقل، وبين الفلسفة والدين أو الحكمة والشريعة، وهو ما أكَّده الفقهاء أيضًا في «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول»، و«درء تعارض النقل والعقل»؛ فمن قدح في العقل فقد قدح في النقل، وفي الحديث القدسي «أول ما خلق الله خلق العقل». الوحي معرفة مِعطاة للبشر كحدسٍ أولي في حاجة إلى برهان كما طالب إبراهيم الخليل وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، وهو حدسٌ أصيل يمنع عنه الخطأ في الاستدلال، يقصِّر مسافة البحث النظري من أجل تخصيص الوقت والعمر للتحقيق والفائدة العملية منه، إسراعًا في الحصاد. وارتبط العقل بالتحليل والقسمة من أجل رؤية الموضوع في أجزائه الأولية بوضوح وتميُّز، وردِّ المركَّب إلى أجزائه الأولية. كما ارتبط بالاستنباط والاستدلال والوصول من المقدمات إلى النتائج في تسلسلٍ منطقي يقوم على الاتساق.
(ب) التجربة
(ﺟ) المنهجية
والمنهجية سمةٌ طبيعية للعقل والتجربة، وهما المنهجان اللذان بدأ بهما الوعي الأوروبي الحديث. وتعني البحث عن نقطة بداية يقينية يبدأ بها العلم، ثم تتوالى الخطوات بعد ذلك على نحوٍ منهجي دون قفز على الخطوات المتوسطة منذ تلقِّي الوحي كمُعطًى حتى تحقيقه كنظامٍ مثالي للعالم؛ فالوحي ينتقل إلى التاريخ على مراحل، الوحي غير المتعيِّن وهو القرآن، إلى الوحي المتعيِّن في تجربةٍ مثالية أولى وهو الحديث، إلى الوحي المتعيِّن في الأمة وهو الإجماع؛ فصوت الله هو صوت الشعب وضمير الجماعة، إلى الوحي المتعيِّن في تجربة الفرد وفهمه الخاص وهو الاجتهاد. وبعد أن يتمَّ التلقي يبدأ الفهم عن طريق الألفاظ إلى المعاني، ثم من المعاني إلى الأشياء، ثم من الأشياء إلى أفعال البشر وعللها. وبعد أن يتمَّ الفهم يأتي التحقق؛ تحقق مقاصد الوحي الكلية والفردية، ثم الأحكام الوضعية والتكليفية. هذه الخطوات المنهجية هي التي تجعل علم أصول الفقه أحد أشكال مناهج البحث في العلوم الإنسانية وهي العلوم السلوكية، وتصف مسار الوحي في الوعي الإنساني منذ لحظة التلقي إلى لحظة التحقق، لا تسبق خطوة خطوةً مثل نظام الطبيعة، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.
(د) المنطقية
(ﻫ) الفطرة
وهي الطبيعة البشرية الثابتة المطَّردة بصرف النظر عن الدين والفِرقة والمذهب والطائفة والجنس والعمر والعصر والمرحلة التاريخية، وهي التي أشار إليها القرآن فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ، وقد سمَّاها أيضًا «الصبغة» صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً، وسمَّاها أيضًا «سنة» سُنَّةَ اللهِ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا؛ فلا يخصُّ علم أصول الفقه دينًا معيَّنًا أو شعبًا خاصًّا أو نِحلة أو ملة، بل يتجاوز كل هذه الفروق إلى الطبيعة البشرية الأصلية، الحد الأدنى المشترك بين الشعوب، الجامع بين الناس والثقافات، وهي فطرة الخلق التي لا تتبدل مهما تبدَّلت العصور والأزمان، هي البراءة الأولى قبل أن تتبدَّد في الأوضاع الاجتماعية، وتتشابك وتتداخل وتتعقَّد في السياق البشري؛ لذلك يظلُّ علم الأصول ثابتًا لا يتغير وإن تغيَّرت مادته. وهو منطق الوحي بعد أن اكتمل في ختم النبوة، وبعد أن اكتمل الوعي الإنساني عقلًا مستقلًّا وإرادةً حرة.
(و) الذاتية
(ز) الوضعية
وتعني أن الذاتية ليست مجرد خواء أو فراغ، خيال أو وهم، بل هي جوهر الوضعية وأساسها؛ فالشريعة وضعية وأحكامها وضعية كما يقول الشاطبي؛ أي إنها موضوعة في الواقع والتاريخ، لها أُسُسها في بنية الفرد والمجتمع، وفي قدراته الفعلية وسياقاتها الاجتماعية؛ فلكل فِعل ميدانُ تحقُّق بكل ما فيه من شروط وموانع وأشكال للتحقق وأنماط للفعل. الفعل ليس مُطلَقًا خارج الزمان والمكان، بل له سياقاته الاجتماعية والتاريخية؛ فقد تمَّت تجربة الشريعة من قبلُ على الواقع وقياسها عليه، كما تمَّت تجربتها في التاريخ لمعرفة مدى إمكانية تطبيقها عند أكثر من شعب وفي أكثر من مرحلةٍ تاريخية للوصول إلى عموم الشريعة عبر الزمان والمكان.
ولقد ساء معنى «وضعي» إثر انتشار المذهب الوضعي من الفلسفة الغربية في فكرنا المعاصر بمعنًى قدحي لما سادت المثالية كتطورٍ طبيعي للدين؛ فالوضعي مُعارِض للديني والميتافيزيقي والمثالي، وأقرب إلى الحسي المادي، يبعد عن الإيمان ويقترب من الإلحاد، ويتباعد عن الدين ويتقارب من العلمانية، وينحرف عن التراث القديم ويغترب في التراث الحديث. وأصبح القانون الوضعي ضد القانون الإلهي، والشريعة الوضعية ضد الشريعة الإسلامية. ولفظ «وضعي» من إبداع الشاطبي، ووصف الشريعة بأنها وضعيةٌ وصفُ الشاطبي؛ أي تقوم في وضعٍ اجتماعي وتاريخي وليست معلَّقة في الهواء؛ ومن ثَم جمَع علم الأصول بين الذاتية والموضوعية في آنٍ واحد، بين تحليل الذات الفاعل في إطارها الاجتماعي ووضعها التاريخي.
(ﺣ) العملية
(ط) الإنسانية
(ي) الأصالة
(٢) كيف يمكن دراسة علم أصول الفقه؟
ومن ثَم يُعرَف التاريخ من خلال النص، وليس النص من خلال التاريخ. التاريخ يكشف نفسه من خلال النص، والنص مِرآة له. ليس النص من صنع التاريخ ومجرد انعكاس له. النص هو الذي يحدِّد التاريخ ويفرض نفسه عليه، وليس التاريخ هو الذي يحدِّد النص ويكوِّن بنيته. النص له استقلاله الذاتي عن التاريخ، والتاريخ مجرد حامل له. النص مستقلٌّ عن التاريخ ويظهر فيه التاريخ، يقدِّم النص ثم يبتعد عنه.
والطريقة الثانية أفضل، تتبع نشأة النص الأصولي وتطوره بصرف النظر عن المذاهب الفقهية؛ فالنص الأصولي واحد، والعلم واحد أسَّسه الشافعي وإن لم يكن أول الفقهاء، والخلافات المذهبية قليلة، في الفروع وليست في الأصول، باستثناء القول بالإمام المعصوم كأحد مصادر الأصول عند الشيعة، وبإجماع أهل العِترة، الإجماع الخاص وليس الإجماع العام. والقول بالإمام المعصوم الذي تفرَّد به الشيعة على نحوٍ ما مِثل القول بعمل أهل المدينة الذي تفرَّد به مالك، والقول بإجماع أهل العترة عند الشيعة مثل القول بالإجماع الخاص عند ابن حزم؛ ومن ثَم فإن علم الأصول علمٌ واحد بصرف النظر عن الفروق المذهبية في الفقه؛ إذ إنها في الفروع وليست في الأصول.
وإذا كان أصول الفقه القديم قد وقع في الحِجاج والسِّجال والجدل بين المذاهب المختلفة بل والمُتعارضة، وأن الصواب في فِرقة والخطأ في الفِرق الأخرى طبقًا لحديث الفِرقة الناجية، فإن أصول الفقه الجديد لا يخطِّئ ولا يصوِّب أحدًا، ويعتبر كل الاجتهادات تعبِّر عن وجهات نظر في الموضوع تحتِّمها الظروف الاجتماعية والسياسية وجدل التاريخ بين التقدم والتخلف، والتحرر والمحافظة، والتجديد والتقليد، والمحكوم والحاكم؛ فليس نفي القياس خطأً وإثباته صوابًا، وليس إثباته صوابًا ونفيه خطأً. ونفي القياس يُفسِح المجال للعمل الطبيعي دون سؤال التحليل والتحريم. وما سكت عنه فهو عفو أو مُباح. وإثبات القياس يفتح المجال في البحث عن علل الأحكام، وأن الشريعة مستمرة عبر التاريخ، إذا حضرت العلة حضر الحكم، وإذا غابت العلة غاب الحكم؛ فالحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا. ونشأة المذاهب الأصولية والفقهية نشأةٌ طبيعية نتيجةً لإعمال النظر وإبداء الرأي وممارسة الاجتهاد.
ومن ثَم فإن اختلاف الآراء يبيِّن الجوانب المختلفة للموضوع وأوجه النظر إليه. لا يوجد صحيح وفاسد، خطأ وصواب. والاعتراف بالتعددية في وجهات النظر لا يسمح بإصدار الحكم على الصحيح أو الفاسد، ولا على «الأصح عندي» دون رفض الرأي المُخالف الذي قد يكون صحيحًا. الأصح والأصوب هو الأفضل والأصلح في تغيير الواقع وتطويره ودفعه إلى الأمام، وإزالة معوِّقات تقدُّمه.
وقد تم في الجزء الأول استخدام منهج وصف تكوين النص وتتبُّع مراحله ابتداءً من البنية الثلاثية في «الرسالة» عند الشافعي (٢٠٤ﻫ)، إلى البنية الرباعية ابتداءً من «المستصفى» للغزالي (٥٠٥ﻫ)، إلى تشتُّت البنية ابتداءً من القرن السادس، إلى غياب البنية كليةً، والاكتفاء بالمقال السيَّال دون بنية.
وقد قيل كثيرًا عن المنهج الظاهرياتي «الفينومينولوجي» الساري في مشروع «التراث والتجديد» منذ بيانه الأول «موقفنا من التراث القديم»، وفي المحاولة الأولى «من العقيدة إلى الثورة» لإعادة بناء علم أصول الدين، وفي المحاولة الثانية «من النقل إلى الإبداع» لإعادة بناء علوم الحكمة. وهو حكمٌ ناتج عن بنيةٍ لا شعورية أو شعورية. إن الغرب هو أصل المناهج، وإن الباحثين خارج الدائرة الغربية لا مناهج لهم؛ لذلك يتبنَّون بالضرورة أحد المناهج الغربية طبقًا لموقفهم الفكري والتزامهم الاجتماعي. وهو غير صحيح؛ فالمناهج موجودة في كل حضارة، أشهرها مناهج التأويل، ومناهج النظر، ومناهج الذوق، ومناهج التحليل اللغوي، وغيرها في الحضارة الإسلامية. وهناك مناهج في الفكر والسياسة والدين والفن في الصين والهند وفارس وحضارات ما بين النهرَين ومصر القديمة. وكل حضارة أدرى بمناهجها.
ومنهج تحليل الخبرات منهجٌ إنساني عام في كل حضارة، وهو منهجٌ تلقائي طبيعي، لا يُدرِك الإنسان إلا ما يشعر به، والعالم الخارجي هو العالم المُدرَك، المعطى في الشعور. والنصوص الشعرية والدينية ما هي إلا وصف للتجارب الحية للشعراء والأنبياء، الأحزان والأفراح، والانكسارات والانتصارات. ويظهر ذلك في كثير من الآيات القرآنية وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا، وفراغ الشعور وملء الشعور من التحليلات الفينومينولوجية. وأيضًا فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وهي القصدية. وهو منهجٌ يسهُل التعبير من خلاله عن الأفكار الواضحة التي يمكن إيصالها للقارئ بسهولة ويُسْر، دون فيقهات لفظية وصياغات نظرية مجرَّدة.
(٣) النص وليس المؤلف
ثالثًا: أنواع المصنفات
ومصنَّفات الأصول على أنواعٍ عدة:
-
(١)
المؤلَّفات الأصولية ابتداءً من «الرسالة» للشافعي حتى «إرشاد الفحول» للشوكاني. وهي المؤلَّفات العمدة في العلم.
-
(٢)
المؤلَّفات الأصولية الجزئية في بعض الموضوعات الخلافية خاصةً الإجماع لابن حزم وابن تيمية، والقياس وملحَقاته مثل الشافعي وأبي الحسن البصري وابن حزم والغزالي وابن تيمية والطوفي والشوكاني والطهطاوي، ومباحث الألفاظ للقرافي. وهي مؤلَّفات مكمِّلة لبعض أجزاء العلم.
-
(٣)
الشروح والحواشي والملخَّصات للنصوص الأساسية، خاصةً في العصور المتأخرة ابتداءً من القرن السابع، مثل الإسنوي والأرموي والدمياطي والعبادي والبناني والقرافي والأنصاري وغيرهم من الشُّراح وأصحاب الحواشي والملخِّصين. ولها منطقها الخاص عندما توقَّفت الحضارة عن الإبداع، وعاشت على ما أنتجته من قبل، واجترَّت مِثل جمل الصحراء ما أنتجته من قبلُ لتمضغه من جديد.
-
(٤)
المؤلَّفات الأصولية الشيعية التي تمثِّل وحدةً بمفردها، وإن كان الخلاف بينها وبين المؤلفات الأصولية السنية ليس كبيرًا، مِثل مؤلفات الطوسي والحلي والخميني ومحمد باقر الصدر وغيرهم. وهي في الأغلب لا تُضيف جديدًا إلا من حيث الإمام المعصوم كمصدر من مصادر العلم، كما يصنِّف مالكٌ عمل أهل المدينة.
-
(٥)
الدراسات الثانوية التي قام بها أساتذة الجامعات بغرض تدريس كتب مقرَّرة دون تطوير للأصول القديمة. وهي كثيرة لا تُحصى، ضررها أكثر من نفعها.
(١) المتون الأصلية
وقد عاب علينا الإخوة علماء إيران الأجلَّاء أننا لم نأخذ بعين الاعتبار في «من العقيدة إلى الثورة» اعتقادات الشيعة، وهذا تقصير بالفعل، إلا أنه يرجع لعدة أسباب؛ أنني لست على علم به بالقدر الكافي مثل علماء إيران الأجلَّاء، كما أنه ربما ليس مُدرَكًا في الثقافة الشعبية بالقدر الكافي مثل عقائد أهل السنة، بالرغم من أنهم في الممارسة العملية من آل البيت كما هو الحال في مصر، ولأن الثورة الإسلامية في إيران قد قامت بهذا الدور خاصةً في أعمال الإمام الخميني، الأب والابن، والطالقاني وغيرهم من أئمة الثورة الإسلامية، وربما حرصًا على تجاوز الخلاف حول الأصول. وقد تفادَينا ذلك في «من النقل إلى الإبداع» ربما لأن الفلسفة بطبيعة مصادرها شيعيةُ الأصل، وسنُحاول تجاوز ذلك قدر الإمكان في «من النص إلى الواقع»، خاصةً بعد تجديد الإمام محمد باقر الصدر لعلم الأصول.
(٢) الشروح والحواشي والملخصات
وغالبًا لا تخرج الشروح والحواشي والتخريجات والتذييلات والتقريرات عن بنية المتن، إنما تعمل من داخله على مستوى الخطاب، إما شرحًا للفظ أو بيانًا لمعنًى أو إضافة لشبيه من علمٍ آخر. وهي موضوع لدراسةٍ خاصة كيف يكون الفكر ثانيًا في المكان، يدور حول نفسه، ينغلق حول النص دائرًا ومُتضخمًا دون أن يخرج منه كما تخرج الدودة من الشرنقة إلا في لحظات التجديد كما فعل الشاطبي في «الموافقات». هي موضوع لدراساتٍ خاصة حول الإبداع إلى الوراء، وليس الإبداع إلى الأمام. عندما يعيش الفكر على ذاته ويتذكر ماضيه، تسترجع الذاكرة ما حفظت دون أن يفكر العقل فيما وصل إليه، عمل الماضي وليس عمل الحاضر أو المستقبل، جمل الصحراء عندما لا يجد ما يأكله يجترُّ ما اختزنه من قبل ويُعيد مضغه.
وتتكرَّر مادة علم الأصول؛ كل كتاب لاحق يبني على السابق ويزيد عليه في التفصيلات، يعدِّل بنيته أو يغيِّر اتجاهه؛ فالمادة مُتكرِّرة ومُتشابهة أكثر منها متنوعة ومختلفة. وفي ثقافةٍ لا تعرف حق مِلكية الأفكار، فإن اقتباس اللاحق من السابق وارد حتى دون الإحالة إليه أو ذِكره؛ فالفكر جماعي، والبنية موضوعية، والعلم حضاري؛ لذلك يكفي أكبر قدر ممكن من نماذج النصوص الأصولية دون إحصاء كامل شامل لها. المطبوع يُغْني عن المخطوط، والمطبوع الموجود يُغْني عن المطبوع الغائب.
وتتفاوت كتب الأصول في التحقيق بين المُغالاة فيه إلى حد ترقيم العبارات والفقرات وعشرات الفهارس للآيات والأحاديث والأعلام والأماكن والاستدراكات والمراجع والمفردات المفسِّرة والفوائد اللغوية المستنبَطة، وبين الطبعات الأزهرية غير المحقَّقة والمفهرَسة التي تملأ الصفحات بالمتون والهوامش والحواشي، وما بينهما طبعات بولاق القديمة وسط بين الاثنين، دقيقة من حيث التصحيح، ولكنها ليس مفهرَسة أو مخرَّجة.
- (١) العناوين المُحايدة غير الدالة على خاصيةٍ خاصة، مِثل «كتاب» أو «رسالة».٤٩
- (٢) العناوين الحذِرة التي تُفيد الاقتراب من الموضوع مثل «التقريب»، أو الإرشاد إليه مثل «الإرشاد»، أو الإعداد له مثل «العدة والطريق».٥٠
- (٣) العناوين الصوفية الدالة على أن الأصول أيضًا وإن كانت برهانية إلا أنها لمحات وومضات وبرقات، مثل «اللمع»، «المنار»، «أنوار البروق»، «بديع النظام».٥١
- (٤) العناوين البرهانية التي تدل على أن الأصول برهانية، مثل «البرهان»، «تقويم الأدلة»، «تأسيس النظر»، «مسلم الثبوت».٥٢
- (٥) عناوين الأصول والقواعد والأحكام والقواطع والعمد والمعتمد والمآخذ.٥٣
- (٦) عناوين التلخيص والتركيز والزبدة والمنخول والتنقيح والمستصفى والمحصول والذخيرة وشفاء الغليل والتحرير.٥٤
- (٧) عناوين الجمع والتوفيق وتجميع الأصول والموافقات بين المذاهب.٥٥
أما عنوان «من النص إلى الواقع» فإنه يدل على مرحلةٍ جديدة في تطور علم الأصول والتحول فيها من النص للواقع؛ أي من الحرف إلى المصلحة استئنافًا للشاطبي والطوفي؛ فسواءٌ كان الأصل عقلًا بطريقة المتكلمين أو نصًّا بطريقة الفقهاء، فإن أصول الفقه الجديدة تبدأ من الواقع ومن مصالح الناس المُتغيرة بتغيُّر العصور. وهو رد فِعل على ما يحدث في هذا العصر من تضحية بالمصالح العامة باسم النص، وتراكم مآسي الناس باسم الشريعة. صحيحٌ أنه كانت هناك محاولات لإصلاح قانون الأحوال الشخصية، ولإعادة النظر في قضايا الربا والفائدة وعوائد شهادات الاستثمار وصناديق التوفير، ولكنها ما زالت محاولاتٍ جزئيةً مُترددة، لها مؤيِّدوها ومُعارِضوها. إنما الإصلاح الجذري هو العودة إلى أصول التشريع ومناهج الاستدلال وإعادة بناء علم أصول الفقه نفسه استئنافًا للشاطبي في «الموافقات»، وللطوفي في «المصالح المرسلة»، ولعلَّال الفاسي في «مقاصد الشريعة ومكارمها»، ولجمال الدين عطية في «تفعيل مقاصد الشريعة».
(٣) الدراسات الثانوية
كانت المؤلَّفات الإصلاحية آخر المحاولات لتجديد علم الأصول عند علال الفاسي، ومحمد الطاهر ابن عاشور، ومحمد باقر الصدر. بعدها تحوَّلت إلى كتبٍ مدرسية ومؤلفاتٍ جامعية تعرض القدماء أو المُحدَثين بدعوى الموضوعية والحياد، وكأن العلم أصبح غريبًا على العلماء، والعلماء غرباء عن العلم؛ فالأصول تراث من القدماء يُنقل ويُعرَض ويُتاجَر به، لا فرق بين حامل العلم والعالم استئنافًا لعلماء الخلافة العثمانية، علماء المشيخة وفقهاء السلطنة.
وقد غذَّى ذلك الاتجاهَ المُحايد الاستشراقُ والمنهج التاريخي والخلط بين المعلومات والعلم؛ فقد بدأ الاستشراق منذ القرن التاسع عشر هذا النوع من التأليف للعلم به والتعريف بمضمونه؛ فهو جديد بالنسبة للمستشرق مع أنه مألوف لنا، يكفي أن يذكُر المستشرق الشافعي واضعًا علم الأصول في الرسالة، أو «المستصفى» للغزالي، أو «المحصول» للرازي، حتى يكون عالمًا معلمًا. ويغلب عليه المؤلفون لا المؤلَّفات، أسماء الأعلام أكثر من أسماء المصنَّفات؛ فالمؤلِّف لديه علمٌ يتميز به عن مؤلفٍ آخر، مع أن العلم يضع نفسه من خلال المؤلفين. ولا يهتم ببنية العلم ولا بروح الحضارة، ولا يهدف إلى تطويره وإعادة بنائه، ولا يبغي مصلحةً عامة أو الدفاع عن قضية؛ فالحضارة ليست حضارته، والقضية ليست قضيته، والأمة ليست أمته، والمعاناة ليست معاناته. يكفيه التاريخ والتعريف بما أنتجه الأسلاف ومحاولات المصلحين، ينشر المخطوطات نشرًا علميًّا سليمًا. وفي إطار الانبهار بالغرب بدأ أيضًا الإعجاب بالاستشراق وتقليده، فأصبح تاريخ علم الأصول هو علم الأصول، لا فرق بين مستشرق غربي أو شرقي وباحث وطني، غربي أو إسلامي.
لذلك كانت الدراسات الثانوية موضوع دراسة وليست دراسة لموضوع. تكشف دراسات العرب والمسلمين عن حال البحث العلمي، والموقف من التراث الإسلامي، وحال الأمة وموقف علمائها من قضاياها، وتكشف دراسات المستشرقين عن موقف الاستشراق، مناهجه وأهدافه ونتائجه، وعن موقف الباحث الغربي أو الشرقي من التراث الإسلامي، إيجابًا أم سلبًا، وهو موضوع يدخل في «أنثروبولوجيا الثقافة» أكثر مما يدخل في علم أصول الفقه.
وقد تم التنويه من قبلُ كيف تم اختيار «علم الأصول» موضوعًا للدكتوراه في باريس عام ١٩٥٦م؛ فقد استمعت لنقاش بين المرحوم مصطفى حلمي وطالب هو رشدي راشد، وهو الآن العالم الكبير في تاريخ العلوم بباريس، عن نقد ابن تيمية للمنطق ومحاولته وضع منطق جديد، نقد الصورية الأرسطية ووضع منطق حسي مادي تجريبي. وقد كنا ننتسب للإخوان المسلمين في ذلك الوقت، ونقرأ أبا الأعلى المودودي «منهاج الانقلاب الإسلامي»، وسيد قطب «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته». كان الهاجس التجديد والإبداع والأصالة، وكانت فكرة أن الإسلام منهج، منهج فكر وحياة من الأفكار التي ورثناها من الحركة الإصلاحية، كما لاحظ ذلك لاوست وأنا أقدِّم له خطة رسالة الدكتوراه الأولى عن «المنهج الإسلامي العام» عام ١٩٥٦م.
وبعد مغادرتي باريس نفس العام بعد التخرج بأربعة أشهر بين تأميم القناة في يوليو ١٩٥٦م والعدوان الثلاثي في أكتوبر ١٩٥٦م، بدأت فكرة «المنهاج الإسلامي العام»، وقدَّمتها كمشروع للدكتوراه تنهل من مصادرها الإصلاحية منذ الأفغاني إلى سيد قطب. وكانت له صورتان، صورة ثابتة Statique وصورة حركية Dynamique. وكان للصورة الثابتة جانبان، التصور Concept والنظام ordre، وهو تعبيرٌ لا شعوري نظري عن العقيدة والشريعة. وللصورة الحركية جانبان، الطاقة Energie والحركة Mouvement، وهو تعبيرٌ لا شعوري ربما عن الإيمان والجهاد. أراد لاوست إرجاعه إلى مصادره التاريخية وتوجيه دراستي إلى الفكر الإصلاحي التاريخي، بينما كنت أريد تجاوزه بمزيد من التنظير، وأراد فال Wahl أن أدرس كانط الذي يجمع بين القبلي والبعدي؛ أي بين الوحي والعقل. أما ماسنيون فقد أراد أن أبقى على فكرتي «المنهاج الإسلامي العام»، وأؤصِّلها في علم أصول الفقه، وهو التفكير المنهجي في الإسلام، واتباعًا لنصيحة الشيخ مصطفى عبد الرازق. وعَجِب كيف أننا لم ندرس في قسم الفلسفة بجامعة القاهرة هذا العلم. كان اكتشاف الشباب بعد قراءة «المستصفى» و«الموافقات». وكان معروف الدواليبي من سوريا قد درس معه هذا العلم، وطلب من برنشفيج مدير معهد الدراسات الإسلامية بالسربون تسجيل الموضوع معه إداريًّا؛ لأن ماسنيون كان بالكوليج دي فرانس التي لا تُعطي درجاتٍ علمية؛ فالعلم فيها للعلم. وكان برنشفيج فقيهًا أكثر منه أصوليًّا، مؤرخًا أكثر منه فيلسوفًا، وقَبِل على مضضٍ الرسالة التي تبدأ من علم أصول الفقه وتصبُّ في الظاهريات، وهو ما قاله أتين جيلسون عندما قرأ الرسالة للمناقشة، وكان من ممثِّلي التوماوية: «هذه أول مرة أرى فيها أحدًا يدرس وحي إبراهيم بطريقة جان بول سارتر، يدرس القديم بلغة الجديد. وقد لاحظ المستشرقون على مدى عشرة أعوام أنه لا يُشرِف عليَّ إلا «رينان» المستشرق الفيلسوف لأنني «عربي بين ثقافتين»، وكلانا إسلامي هيجلي.» Les Méthodes d’Exégèse, pp. V-VI.
وأيضًا «محاولة مبدئية لسيرة ذاتية»، الدين والثورة في مصر، ١٩٥٢–١٩٨١م، ج٦ الأصولية الإسلامية، مدبولي، القاهرة ١٩٨٩م، ص٢٠٧–٢٩٢. وأيضًا «الحرية والإبداع، شهادة على العصر، محاولة ثانية لسيرة ذاتية»، هموم الفكر والوطن، ج٢ الفكر العربي المعاصر، قباء، القاهرة ١٩٩٨م، ص٦٠٩–٦٦٧.
«ما أصلِّي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها» (عبد الرحمن بن مهدي)، الرسالة، ص٣-٤.
• «نهاية السُّول في شرح منهاج الأصول» للإسنوي (٧٧٢ﻫ)، مع حواشيه «سُلَّم الوصول لشرح نهاية السول» لمحمد المطيعي، والمتن «منهاج الوصول» للبيضاوي (٦٨٥ﻫ).
• «شرح المنار وحواشيه من علم الأصول». الشرح لعز الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز بن عبد الملك، والحاشية الأولى ليحيى الرهاوي المصري، والتذييل الأول لعزمي زادة (١٠٤٠ﻫ)، والثاني لابن الحلبي (٩٧١ﻫ). والمتن الأول هو «المنار» للنسفي (٧١٠ﻫ).
• «حاشية نسمات الأسحار» لمحمد بن عابدين على «شرح إفاضة الأنوار على متن أصول المنار» لمحمد علاء الدين الحصني، مع بعض التغييرات على الحاشية والشرح لمحمد أحمد الطوخي. والمتن هو أيضًا «المنار».
• حاشية أحمد بن محمد الدمياطي على شرح الورقات في أصول الفقه لجلال الدين المحلي.
• شرح أحمد بن قاسم العبادي الشافعي على شرح جلال الدين محمد بن أحمد المحلي الشافعي على الورقات.
• «غاية الوصول شرح لب الأصول»، وكلاهما لأبي يحيى زكريا الأنصاري، وعليه حواشي محمد الجوهري، والمتن هو «جمع الجوامع» للسبكي (٧٧١ﻫ).
• حاشية البناني على شرح الجلال شمس الدين محمد بن أحمد المحلي على متن «جمع الجوامع» للسبكي أيضًا، وبهامشها تقرير عبد الرحمن الشربيني؛ فهناك أربعة نصوص، المتن والحاشية والشرح والتقرير.
• «فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت» لعبد العلي محمد ابن نظام الدين الأنصاري، والمتن «مسلم الثبوت» لمحب الله بن عبد الشكور (١١٢٩ﻫ)، على حاشية «المستصفى» للغزالي.