كشف البنية
أولًا: بنية علم الأصول
وتعني البنية القواعد والأصول التي يقوم عليها العلم طبقًا لتقسيم واضعه، وهي بنيةٌ ظاهرية بصرف النظر عما وراءها الميتافيزيقي في الوجود، أو النظري في العقل.
وتؤخَذ البنية هنا بالمعنى العادي، وهو القسمة أو «التمفصلات» بلغة المغاربة. وتتجلى القسمة في الأقسام والأبواب والفصول ليس باعتبارها أجزاءً للنص، بل باعتبارها كاشفةً عن وعي المؤلف بالموضوع وطريقة تصوره وقسمته له.
والهدف من هذا التصنيف التاريخي البنيوي لكتب علم الأصول الكاملة هو بيان كيف تتأسَّس القواعد والأصول التي ينبني عليها العلم. كيف بدأت الأصول في «الرسالة»، وبلغت الذروة في القسمة الرباعية في «المستصفى»، الثمرة، والمُستثمَر، وطُرُق الاستثمار، والمُستثمِر، وكيف تحوَّلت هذه القسمة الرباعية في «الموافقات» إلى قسمةٍ رباعية أخرى، ثنائية مضاعفة؛ مقاصد الشارع، ومقاصد المكلف، وأحكام الوضع، وأحكام التكليف. وكما لا يمكن القول إن ترتيب كتب الأصول تاريخيًّا لمعرفة تطورها، نشأة واكتمالًا، من البداية إلى النهاية هو المنهج التاريخي، لأنه لا يخرج عن النص كوحدة تحليل أولي إلى الواقع الخارجي، كذلك لا يمكن القول إن محاولة الكشف عن القواعد والأصول الثلاثية والرباعية، أقل أو أكثر، للعلم هو منهجٌ بنيوي، لأنه لا يتجاوز الوصف للبنية الداخلية لتطور العلم؛ فالبنية ليست موضوعًا سابقًا على التاريخ، في الذهن أو في الواقع، بل هي شيء يتخلَّق عبر العصور، ويتطور بتطوُّر روح الحضارة، قوةً وضعفًا، بداية ونهاية، نشأة واضمحلالًا، من أجل العثور على بنية العلم الثابتة وتحريكها من جديد بروح هذا العصر.
ثانيًا: البنية الأحادية
(١) «المقدمة في أصول الفقه» للقاضي عبد الوهاب المالكي (٤٢٢ﻫ)٣
أما في اللغة فتختلف معاني الألفاظ الخمسة؛ فالوجوب في اللغة السقوط، والفرض إما التقرير أو الثبوت، والسُّنة الطريقة، والندب الدعاء إلى الشيء، والنفل فِعل ما ليس عليه عقاب، والمحظور الممنوع، والكراهة نفور النفس من الشيء، والإباحة التوسعة. وعند الأصوليين يأتي المعنى الشرعي اعتمادًا على المعنى اللغوي، ونقله من المعنى الحسي إلى المعنى الشرعي. وتستشهد المقدمة بعدة آيات، وبيتٍ شعر واحد لأبي ذؤيب، للتأكيد على معنى السُّنة؛ أي الطريقة. ولا توجد أسماء أعلام أو فِرق، وهنا يتخلق العلم حول أحكام التكليف الخمسة، ويتم الانتقال من المصطلح إلى اللغة، ثم من اللغة إلى العالم، عبر المعنى الاشتقاقي، فتظهر أحكام التكليف ليست فقط مستنبَطة من النص، بل أيضًا مستقراة من الواقع؛ فالنص واقع، والأصل تجربة، وفي الشعور يتفاعل النص مع الواقع من خلال اللغة. وهذا هو الذي جعل معظم المتون الأصولية تبدأ بأحكام التكليف باعتباره النواة الأولى لعلم الأصول.
ثالثًا: البنية الثنائية
(١) «مسائل في أصول الفقه» للقاضي عبد الوهاب المالكي (٤٢٢ﻫ)٥
والأحكام الخمسة جزء من أحكام الشريعة وآدابها؛ فهي جزء من الأخلاق العلمية. أما إجماع أهل المدينة فهو حجةٌ تحرُم مخالفته نقلًا، وإن كان يمكن ذلك اجتهادًا. وهو يرجَّح على غيره، ولا يحرُم عدم القول به. والإجماع به عن طريق النقل، نقلًا لقول أو فعل أو إقرار أو ترك. وهو أصل عديد من المسائل، وإن كان ليس في قوة أخبار الآحاد والمقاييس. والدليل على صحته اتصال نقله المُتواتر. وشرطه تساوي الأطراف، وامتناع الكذب والتواطؤ. وهم أهل المدينة قرنًا بعد قرن، وخلفًا عن سلف. أخذ به أبو يوسف، وتراجع بسببه عن مسألة فيها حكم صاحبه أبي حنيفة. كما أنه حجة عن طريق الاستنباط والاجتهاد؛ فقد شافَه أهل المدينة الرسول واستمعوا إلى كلامه، ومن المدينة انتشرت السنن. وهو ليس حجة عند أبي بكر وكافة البغداديين من الأصحاب، وإذا ثبت أنه ليس حجة تحرُم مخالفته فهو أولى من اجتهاد غيرهم إذا اقترن بأحد الخبرين المُتعارضين رُجِّح به على ما حري عنه؛ فهو عاملٌ مرجِّح للانتقال من الظن إلى اليقين لما له من ميزة المُعاينة والرجحان والمشاهدة والمعرفة بمخارج الكلام؛ فاجتهادهم أولى. وكان بعض الصحابة يؤخِّر حكمه وهو خارج المدينة حتى يعود إليها، وهي دار الهجرة وموطن الصحابة. وإذا ما تعارضت الأخبار مع عمل أهل المدينة تم ترجيح عمل أهل المدينة لأنه أشبه بالنقل المُتواتر.
(٢) «فصول مختارة في أصول الفقه» للقاضي عبد الوهاب المالكي (٤٢٢ﻫ)١١
(٣) «قواطع الأدلة في الأصول» لأبي المظفَّر السمعاني (٤٨٦ﻫ)٢٢
والأصول مناسبة لرصد خلاف الفِرق الكلامية والفقهية؛ لذلك غلب الجدل والحِجاج والسِّجال لدرجة تخطئة جميع الآراء الكلامية والفقهية المخالفة، وتصويب رأي المؤلف وأصحابه ومذهبه عندما يقول «أصحابنا» و«مذهبنا». يعرض آراء المُخالفين ثم يردُّ عليها حجةً حجة بأسلوب «فإن قيل … قلنا»، «فإن قالوا … قلنا»، حتى يضيع الأصل وسط الخلاف حوله تغيب الأصول لصالح الفروع، ويختفي الاتفاق في خِضم الاختلاف.
(٤) «مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول» للتلمساني (٧٧١ﻫ)٤٠
(٥) «المختصر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل» لابن اللحام (٨٠٣ﻫ)٥١
وربما مال الكتاب إلى اعتبار الصواب دائمًا من جانب الإمام أحمد وفقهاء الحنابلة بوجهٍ عام؛ فهي الفِرقة الناجية، وهي قريبة من الأشعرية، الفِرقة الناجية في علم أصول الدين؛ لذلك يُقال «عند أصحابنا والأشعرية». وتظل المعتزلة تمثِّل الخصوم من كثرة الإحالة إليهم أكثر من الأشاعرة بالرغم من سطوة الغزالي في المشرق والمغرب.
وتكشف البنية الثنائية عند السمعاني عن أهمية مباحث الألفاظ، الأوامر والنواهي، العموم والخصوص، وعند التلمساني عن أهمية الاستدلال، الدليل بنفسه، الأصل والفرع، والنقلي والعقلي، والمتضمن في الدليل مثل الإجماع. فالكتاب والسنة يدخلان ضِمن نظرية في الاستدلال النقلي، كما يدخل القياس في نظرية للاستدلال العقلي، وعند ابن اللحام الأحكام والأدلة دون طرق الاستدلال. يركِّز السمعاني والتلمساني على الوعي النظري التأملي وحده، وابن اللحام على الوعي التاريخي والوعي العملي، وكأن الوعي النظري مكتسَبٌ حضاري لغوي تكفيه المقدمة وليس في بنية العلم.
رابعًا: البنية الثلاثية
(١) «الرسالة» للشافعي (٢٠٤ﻫ)٥٨
والشافعي تلميذ أبي حنيفة تلميذ مالك. لم يكن لمالك قصب السبق في وضع علم الأصول، وهو أستاذ أبي حنيفة أستاذ الشافعي. ربما كانت المصالح المرسلة اتجاهًا نحو الواقع لا يحتاج إلى تنظيرٍ عقلي، وربما كان الوقت مبكرًا في القرن الأول، ولم يكن التنظير لأي علم قد بدأ بعد، وربما كان الحجاز أقرب إلى الأثر والنقل من العراق ومصر، من العقل والواقع. ولم يسبق أبو حنيفة في وضع علم الأصول وهو أستاذ الشافعي، ويعتمد على العقل والرأي والنظر والاجتهاد، وكان التنظير قد بدأ عند المعتزلة الأوائل. وهو من أهل العراق، حيث يسُود الرأي والنظر وإعمال العقل. تأسَّس العلم عند الشافعي الذي يجمع بين العقل والواقع، بين الرأي والمصلحة، بين العراق ومصر. ولم يتمَّ استئنافه عند أحمد بن حنبل وهو تلميذ الشافعي ربما لأنه عاد إلى النص الخام دون تنظير من العقل أو المصلحة أو الجمع بينهما.
(٢) «الإشارات في أصول الفقه المالكي» للباجي (٤٧٤ﻫ)٧١
وبالرغم من الإعلان عن بنيةٍ ثلاثية، أن الأدلة الشرعية على ثلاثة أضرب؛ أصل، ومعقول أصل، واستصحاب حال؛ إلا أن تقسيم الكتاب جاء على نحوٍ آخر، في ستة عشر فصلًا، النية موجودة ولكنها لم تتحقق، القصد في الذهن ولكنه لم يتحول إلى فعل.
الأصل هو الكتاب والسنة وإجماع الأمة، هي الأدلة الشرعية الثلاثة الأولى. ويتضمن مباحث الألفاظ في الأبواب العشرة الأولى، أقسام أدلة الشرع، والعموم، والاستثناء، والأسماء العُرفية وأفعال النبي، والأخبار، والناسخ والمنسوخ، والإجماع. والأصل الثاني، معقول الأصل، يشمل أبوابَ لِمَن الخطاب، وفحوى الخطاب، والحصر، ومعنى الخطاب والقياس. وهي مباحث المعاني والعلة، جمعًا بين مباحث الألفاظ والقياس الأصل الرابع. والأصل الثالث استصحاب الحال، ويشمل أبواب الترجيح للمتون والمعاني، وهي من ملاحق القياس. وتغيب أحكام التكليف، ثمرة العلم بتشبيه «المستصفى». وتضمُّ طرق الاستدلال بحيث تضمُّ أصلين، الثاني والثالث، فتضمُّ الوعي النظري على حساب الوعي العملي.
(٣) «المذهب في أصول المذهب على المنتخب» للأخسيكثي (٦٤٤ﻫ)٧٧
(٤) «تيسير الوصول إلى قواعد الأصول» لعبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي الحنبلي (٧٣٩ﻫ)٨٦
(٥) «البحر المحيط في أصول الفقه» لبدر الدين الزركشي (٧٩٤ﻫ)٩٨
ومع ذلك يمتاز «البحر» بالوضوح وحسن الترتيب والموضوعية والهدوء دون التطرف في الأحكام من أجل الإقصاء والاستبعاد الذي قد يصل عند البعض إلى حد التكفير، ويكفي الحكم على الرأي المُخالف بأنه «فاسد» أو «باطل» أو «غريب». وعندما يذكر رأيه يكتفي بالقول «والمختار عندنا»، أو «والتحقيق»، وأحيانًا «والصحيح». وهو شافعي الاتجاه، ولكن لا تبدو الشافعية مذهبًا قطعيًّا يستبعد المذاهب الأخرى. ومع ذلك يبدو الهجوم ما زال مستمرًّا على المعتزلة في نظرية الحُسن والقبح العقليَّين تحت أثر الغزالي منذ القرن الخامس عندما طعن في أصول التوحيد والعدل عندهم في «الاقتصاد في الاعتقاد»، فسادت عقيدة الفِرقة الناجية وتوحَّد بها السلاطين، فنشأ التسلط بالإرادة وليس الحكمة بالعقل كما هو الحال عند ابن رشد.
وفي الكتاب تدخل مباحث الألفاظ بعد تعريفه وأهمية اللغة والاشتقاق والترادف، وهي الحقيقة والمجاز، الأمر والنهي، العام والخاص، المُطلَق والمقيَّد، الظاهر والمئوَّل، المُجمَل والمبيَّن، بل يدخل أيضًا مفهوم المخالفة، وهو عن فحوى الخطاب، وموضوع النسخ. وبين الحقيقة والمجاز والأمر والنهي يظهر موضوع أدوات المعاني. وتنقسم السنة إلى قول وفعل وإقرار وسند ومتن، وهي أقسام السنة التقليدية في كتب الأصول السابقة. ويتضمن الإجماع تعريفه، وما ينعقد منه، وما ينقد به، وفيما يستقر به، والمُجمَع عليه، وأحكام الإجماع. أما القياس فيبدأ بالتعريف، ثم بالأركان الأربعة، الأصل والفرع والعلة والحكم. وتلحق به الأدلة المختلف عليها، والتعادل والتراجيح، والاجتهاد.
(٦) «التحرير» لابن الهمام (٨٦١ﻫ)١٠٧
(٧) «مسلَّم الثبوت» لمحب الله بن عبد الشكور (١١١٩ﻫ)١١٨
وتكشف البنية الثلاثية بطريقة أو بأخرى عن أبعاد الشعور الثلاثية؛ البعد التاريخي الذي يتلقى الوحي في تعيُّناته الأربعة؛ الكتاب وهي الخبرة البشرية العامة الأولى التي تمثِّل حكمة الشعوب، والسنة التي تمثِّل التجربة المثالية الأولى والنموذج الأول، والإجماع الذي يمثِّل التجربة الجماعية للأمة، والقياس تجربة الفرد واجتهاده الخاص. سمَّى الشافعي هذا البعد خبر الواحد والإجماع والقياس والاجتهاد والاستحسان والاختلاف، وسمَّاه التلمساني الأصل، الكتاب والسنة والإجماع، واستصحاب الحال والقياس والترجيح، وسمَّاه الأخسيكثي الأدلة الأربعة، والزركشي المباحث، أي الأدلة الشرعية الأربعة، وابن الهمام الاجتهاد، وعبد الشكور المقاصد، أي الأدلة الأربعة. وغالبًا ما يكون القسم الثالث، باستثناء الأخسيكثي الذي جعله القسم الأول، والتلمساني الذي جعله الأول والثالث.
والبعد الثاني الشعور التأملي أو النظري الذي يفهم الوحي المدوَّن في الكتاب والسنة، أو غير المدوَّن في التجربتين الجماعية والفردية. سمَّاه الشافعي البيان، وغلبت عليه الأدلة النقلية، والتلمساني معقول الأصل، أي مباحث الألفاظ، والأخسيكثي حروف المعاني والمبادئ اللغوية، والزركشي المقدمات، وابن الهمام المبادئ اللغوية، وعبد الشكور المقدمة. وهو القسم الأول عند الشافعي والزركشي وابن الهمام وعبد الشكور، والثاني عند التلمساني، والثالث عند الأخسيكثي.
خامسًا: البنية الرباعية
(١) «أصول الفقه» لابن فورك (٤٠٦ﻫ)١٣٠
(٢) «المستصفى من علم الأصول» للغزالي (٥٠٥ﻫ)١٣٣
وفيه تظهر البنية الرباعية؛ إذ يدور العلم حول أربعة أقطاب، الحكم وهي أحكام التكليف، وأدلة الأحكام وهي الأدلة الشرعية الأربعة، وكيفية استثمار الأحكام وهي مباحث الألفاظ والمعاني والعلل، وحكم المستثمر الذي يضم الاجتهاد والتقليد والاستفتاء والترجيح.
والغزالي على وعي برائعته بنيةً وكمًّا وقصدًا وأسلوبًا. ووضع علم أصول الفقه كعلمٍ عقلي نقلي وسط العلوم النقلية الخالصة والعلوم العقلية الخالصة. جمع بين «الترتيب والتحقيق»؛ أي بين البنية العقلية والمادة الأصولية. ويهدف إلى التوسط بين الإخلال والإملال، بين الإيجاز والاختصار من جانب مثل «المنخول»، والاستقصاء والإكثار مثل «تهذيب الأصول». ويرجع الفضل في ذلك إلى «الورقات» للجويني أستاذه الذي لا يميل إليه ولا يذكره، بل إن «المستصفى» يُعتبر شرحًا على «الورقات» وتفصيلًا له.
لذلك يظل «المستصفى» بعد «الرسالة» علامة على الطريق، ما قبل «المستصفى» وما بعده. أما «المحصول» للرازي فإنه قراءة للمستصفى، ثم تأتي «الموافقات» للشاطبي علامةً ثانية قبل أن يتجدد العلم من جديد في «من النص إلى الواقع» ابتداءً من قراءة «المستصفى» وكما لخَّصه ابن رشد.
(٣) «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (٦٣١ﻫ)١٦١
(٤) «مختصر المنتهى الأصولي» لابن الحاجب (٦٤٦ﻫ)١٧٨
(٥) «منهاج الوصول في معرفة علم الأصول» للبيضاوي (٦٨٥ﻫ)١٨٤
(٦) «أصول الشاشي» (القرن السابع الهجري)١٩٣
(٧) «المسودة» لآل تيمية
وعلى غير عادة الفقهاء الحنابلة تتَّسم المسودة بأسلوبٍ مُعتدل، ونفسٍ هادئ، وروحٍ موضوعية، وتحليلٍ علمي دقيق. تخلو من المحاجَّة والسِّجال والعنف، والحكم بالكفر أو الشرك أو الضلال أو الهلاك على غير عادتهم في أصول الدين؛ لذلك خلا النص من الحياة، واتسم بالبرود على غير عادة الحنابلة، مثل «اجتماع الجيوش» ترصد الخلافات طبقًا للروايات والمصادر دون أن تُحاجج عقلًا أو نقًلا مع فريق لصالح فريق آخر، حتى أصبحت المسودة قاموسًا للمسائل الخلافية الفقهية أكثر منها الأصولية؛ فمادة الفقه واضحة على حين توارت مادة الأصول بالرغم من الاستشهاد بعديد من الأدلة النقلية، الآيات والأحاديث دون الأشعار؛ فالتجربة الشعرية ليست مصدرًا للتجربة الأصولية عند الحنابلة، مع أن الكثير منهم لهم باع في النقد الأدبي.
(٨) «أصول المنار» للنسفي (٧١٠ﻫ)٢١١
(٩) «تنقيح الأصول» للمحبوبي البخاري الشافعي (٧٤٧ﻫ)٢١٩
ولا يتضح للعمل هدفٌ خاص، أخذ موقف أو الجمع بين مذهبين، بل يعبِّر فقط عن خصائص الأقاليم، القدرة الشعرية في موريتانيا؛ صحرائها وخيمها وبدوها.
وواضحٌ أن النموذج الأمثل للبنية الرباعية هو نموذج «المستصفى» للغزالي؛ الأحكام وهي الثمرة، والأدلة الأربعة وهي المستثمَر، ومباحث الألفاظ وهي طرق الاستثمار، والاجتهاد والاستفتاء والترجيح وهو المستثمِر. ثم بدأت البنية تنحسر بعده في «الأحكام» للآمدي بوضع الأحكام ضِمن المقدمات مع المبادئ الكلامية واللغوية والفقهية، وبقاء الأدلة الأربعة، والمجتهدون والمستفتون، ثم إضافة الترجيحات والتعارض واختفاء طرق الاستثمار. وهو ما حدث أيضًا في «مختصر المنتهى» لابن الحاجب. أما «منهاج الوصول» للبيضاوي فإنه قسَّم الأدلة إلى متفَق عليها وهي الأدلة الأربعة، وأدلةٍ مختلف عليها في قسمين، ثم التعادل والتراجيح، والاجتهاد والإفتاء، في قسمين آخرين، واختفت الأحكام وطرق الاستثمار، ثم أبقى «تنقيح الأصول» للبخاري الأدلة الأربعة بالإضافة إلى الأحكام كخاتمةٍ عرَضية، ثم أصبحت الأدلة الشرعية الأربعة وحدها هي البنية الرباعية في «أصول الفقه» لابن فورك، و«أصول المنار» للنسفي، و«أصول الفقه» للسيوطي، و«الوصول إلى قواعد الأصول» للتمرتاشي، و«نشر البنود» للشنقيطي، و«ألفية الوصول» لإبراهيم شقير، و«نظم مختصر المنار» لبسنوي زادة، حتى مع اضطراب في ترتيب الأدلة.
سادسًا: البنية الخماسية
(١) «تقريب الوصول إلى علم الأصول» لأحمد بن جُزَي المالكي (٧٤١ﻫ)٢٧١
(٢) «إحكام الفصول في أحكام الأصول» للباجي (٤٧٤ﻫ)٢٧٨
(٣) «المنهاج في ترتيب الحِجاج» للباجي (٤٧٤ﻫ)٢٨٨
وقد يُعرَض علم الأصول كله في إطار منهج الجدل، والتعارف والتراجيح؛ فهو منهج علم أصول الدين الذي استطاع علم أصول الفقه تجاوُزه إلى البرهان، ومع ذلك بقي منهج الجدل أيضًا في علم أصول الفقه، فأصبح جزءًا من علم الخلافيات، وهو ما يدل عليه عنوان الكتاب، ومستعملًا لفظَي «المنهاج» و«الحِجاج»؛ أي منهج الجدل. والحجاج هنا يعني الاعتراض، اعتراض العقل على النص، والاستدلال على الكتاب والسنة والإجماع، وهي مشكلة كلامية؛ النقل والعقل. هنا يأخذ العقل زمام المبادرة، ويعترض على الاستدلال بالنقل، كتابًا أم سنة أم إجماعًا. أما النص فلا يعترض على معقول العقل ولا على الاستصحاب.
ويدخل أيضًا ضِمن آداب الجدل والمناظرة وكيفية الاعتراض على الخصوم بإعادة استعمال النص لصالح طرف ضد الطرف الآخر؛ فالنص مُتشابه وليس به تعيينٌ داخلي إلا بالتأويل. النص بمفرده ظني في حاجة إلى سياقٍ داخلي أو خارجي حتى يحين استعماله على الوجه الصحيح بحيث يؤمن به الطرفان ويتفقان على معناه، ويشاركان في فهمه وقراءته وتأويله دون معارضته بنصٍّ آخر، أو انتقاء البعض دون البعض إذا كان نصًّا من الكتاب. أما إذا كان نصًّا من السنة فمن الطبيعي أن يكون الاتفاق على صحة السند أولًا قبل الاتفاق على معنى المتن، وتسليم الطرفين به لفظًا ومعنًى ونسخًا ومنسوخًا. ويكون الاتفاق أيضًا على نص الإجماع لمعرفة إجماع مَن؛ الخاص أم العام.
وهو أقرب إلى موقف المعتزلة والشيعة؛ فالعقل أساس النقل عند المعتزلة، وعلم أصول الفقه عند الشيعة نظرية في المعرفة أولًا تقوم على التمييز بين القطع والشك والظن. ويكشف «المنهاج» عن قدرةٍ نقدية على إعمال العقل في النص، وعدم التردد في عرض الاعتراض على النص بالعقل، وبيان أوجه التعارض بين النقل والعقل. والمؤلف مالكي، ومعروفٌ أن المالكية من أهل الأثر وليست من أهل العقل.
ولا يكون حل التعارض بين الأدلة فقط عن طريق التأويل، أو السياق، أو زمن النص في الناسخ والمنسوخ، أو مكانه في أسباب النزول؛ أي عن طريق النص، ولكن أيضًا عن طريق المصلحة خارج النص جمعًا للزمان والمكان والقدرة والأهلية والتغير والتطور وروح العصر، حتى لو اقتضى ذلك العود إلى المنسوخ؛ فضبطُ النص يكون بالسياق اللغوي والزماني والمكاني والاجتماعي والتاريخي. التعارض قائم بين النصوص للاشتباه في اللغة، ويُحَل بالعقل والمصلحة نظرًا لتطابُق الوحي والعقل والواقع. والنص تجربةٌ بشرية فردية وجماعية وتاريخية، وليس خطابًا مُغلَقًا لا يُحيل إلى عوالم أخرى خارجه، عالم المعاني وعالم الأشياء بالإضافة إلى عالم اللغة. ولا يكفي في حل التعارض تخصيص العموم أو إحكام المتشابه أو بيان المجمَل؛ فهي كلها من مباحث الألفاظ ومن طبيعة اللغة.
(٤) «إيضاح المحصول من برهان الأصول» للمازري (٥٣٦ﻫ)٣٠٠
(٥) «ميزان الأصول في نتاج العقول» للسمرقندي (٥٣٩ﻫ)٣٢٨
(٦) «الموافقات في أصول الشريعة» للشاطبي (٧٩٠ﻫ)٣٥٠
سابعًا: البنية السباعية
(١) «بذل النظر في الأصول» للأسمندي (٥٥٢ﻫ)
(٢) «جمع الجوامع» للسبكي (٧٧١ﻫ)٣٧٧
(٣) «إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول» للشوكاني (١٢٥٥ﻫ)٣٨٧
ومع ذلك، يمتاز بالهدوء وعدم التطرف في المواقف، بل إنه يرفض التطرف والغلو في الأحكام، وهي إحدى شيم الإصلاح. ومع أنه شافعي المذهب إلا أنه يُحاور الحنفية والمالكية والحنبلية، بل ويضم الشيعة أيضًا طبقًا لنوايا الإصلاح في توحيد فِرق الأمة. والصواب هو «المختار»؛ أي الصحيح والمرجَّح دون إقصاء أو إبعاد لمذهب أو رأي، مع أن العنوان يُوحي باليقين «إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول». وقد يكون هذا الاعتدال من آثار الماتريدية التي حاولت من قبلُ الجمع بين الأشاعرة والمعتزلة في الكلام، وبين الشافعية والحنفية في أصول الفقه. يُحاجج المواقف الأخرى، ويرد على الأدلة بأدلة، ويبيِّن ضعفها أو قوَّتها. وقد طغت المباحث الكلامية على علم الأصول المتأخر، كما طغت على علوم الحكمة؛ لأن الكلام كان هو العلم الشرعي الوحيد. يجمع بين الحجج النقلية والعقلية، وتغلب الآيات القرآنية على الأحاديث النبوية، ويقلُّ الشعر إلى أقل درجة؛ فالتجريد النظري لا يُنتج تجربةً إنسانية شعرية.
ثامنًا: البنية الثمانية
(١) «البرهان» للجويني (٤٨٧ﻫ)٤٠١
(٢) «روضة الناظر وجُنة المُناظر» لابن قدامة الحنبلي (٦٢٠ﻫ)٤١٨
وعلى غير العادة من الحنابلة الهجَّائين الشتَّامين الذين تصل مواقفهم إلى بعد الاستبعاد والإقصاء إلى حد التكفير، ومع ذلك يظهر الأسلوب السجالي «فإن قالوا … قلنا» مع ترقيم الحجج بعد إحصائها.
ونظرًا للطابع النظري العام تقلُّ أسماء الأعلام والفِرق والطوائف نسبيًّا، بل يغطي اللقب عن الأسماء؛ فالقاضي عند الأشاعرة عقيدة الشافعية مذهبًا هو أبو بكر الباقلاني، وعند الماتريدية الحنفية هو الدبوسي أو الجصاص، وعند الحنابلة هو القاضي أبو يعلى الفراء، وهو الذي يتقدم الجميع مع أبي الخطاب الكلوذاني. ومع ذلك يظل المُحاور الرئيسي صاحب المذهب المُتكامل هو الشافعي أو أبو حنيفة؛ فالشافعي فقيه وصاحب مذهب «الشافعية»، ثم يأتي أحمد بن حنبل، ثم مالك، ثم باقي الأصوليين الأحناف مثل الجصاص والكرخي، والشافعية مثل الغزالي والقفال الشاشي، وبعض المعتزلة مثل النظام والجاحظ والجبائي.
والنتيجة النهائية في كشف البنية وتجلِّيها وظهورها وتخلُّقها أن البنيات الأحادية والثنائية والرباعية والخماسية والسباعية والثمانية تُرَد معظمها إلى البنية الثلاثية؛ الأدلة الأربعة، ومباحث الألفاظ، والأحكام. وهي أبعاد الشعور الثلاثة؛ الوعي التاريخي، والوعي النظري، والوعي العملي.
«أصرف العناية فيه إلى التلفيق بين الترتيب والتحقيق، وإلى التوسط بين الإخلال والإملال على وجهٍ يقع في الفهم دون كتاب «تهذيب الأصول» لميله إلى الاستقصاء والاستكثار، وفوق كتاب «المنخول» لميله إلى الإيجاز والاقتصار … وجمعت فيه بين الترتيب والتحقيق لفهم المعاني، فلا مندوحة لأحدهما عن الثاني؛ فصنَّفته وأتيت فيه بترتيبٍ لطيف عجيب يطلع فيه الناظر لأول وهلة على جميع مقاصد هذا العلم، ويُفيده الاحتواء على جميع مسارح النظر فيه؛ فكل علم لا يستوفي الطالب في ابتداء نظره على مجامعه ولا مباديه فلا مطمع له في الظفر بأسراره ومباغيه.»
إذ يحيل الغزالي إلى شفاء الغليل (٢)، محك النظر، ومعيار العلم (١).
(١) مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن الخضر.
(٢) شهاب الدين أبو المحاسن عبد الحليم بن عبد السلام.
(٣) شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد عبد الحليم.
جمَعها وبيَّضها شهاب الدين أبو العباس الفقيه الحنبلي أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الغني الحرَّاني الدمشقي المتوفَّى في سنة ٧٤٥ من الهجرة. حقَّق أصوله وفصَّله، وضبط مُشكِله، وعلَّق على حواشيه محمد محيي الدين عبد الحميد، عفا الله عنه. وجميع حق إعادة الطبع محفوظة له، مطبعة المدني، ٦٨ شارع العباسية، القاهرة ١٣٨٤ﻫ / ١٩٦٤م.
(أ) تحديد الهدف المطلوب مما يختلط به لمزيد من الوضوح في التقسيم.
(ب) تحديد معاني الألفاظ والمصطلحات المستخدَمة في الجدل والكلام.
(ﺟ) عرض آراء المُخالفين وأدلتهم ومناقشتها واختيار أفضلها.
(د) التحرر من الأفكار المسبقة وعدم التعصب لمذهب أو رأي.
(ﻫ) إسقاط العنصر الشخصي من أجل البحث عن الحقيقة الموضوعية.
(و) الانتباه إلى الأصول دون الفروع، والتوجه إلى الكليات دون الجزئيات.
(ز) الحذر من أساليب الزلل في البحث والخطأ في الحكم.
(ﺣ) إعطاء القرآن والأدلة والبراهين والحجج في كل موقف. السابق، ص٥٧-٥٨.
الإحالة إلى النفس، السابق، ص١٥٣، ١٦٩، ٥١٢.
الإعلان عن الحالي، السابق، ص٧٤٧، ٨٤٠، ٩٢٧، ٩٥١.
استباق الموضوع، السابق، ج١، ١٦٩، ١٩٨، ٢٢٠، ٢٣٦، ٢٨٢، ٣٣٧، ٤١١، ٥١٠، ٥١٢-٥١٣، ٥٥٩، ٥٦٣، ٥٨٦، ٥٩٨، ٦٠٢؛ ج٢، ٧٥٧، ٤٧١، ٨٠٢، ٨١٢، ٨٣٣، ٨٧٢، ٧٨٣، ٩٨٥، ١٠٦٩، ١٢١٤.