حجب البنية
أولًا: تواري البنية
وتتوارى البنية كليةً، وتتداخل الأصول في معظم المؤلَّفات المذهبية التي تعبِّر عن مواقف الفِرق الكلامية، سواءٌ داخل أهل السنة مثل المعتزلة في «المعتمد في أصول الفقه» لأبي الحسين البصري (٤٣٦ﻫ)، أو أهل الظاهر مثل «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (٤٥٦ﻫ)، أو الأشاعرة مثل «اللمع» للشيرازي (٤٧٦ﻫ). وهي نصوصٌ دون بنية، مجرد كلام في موضوعاتٍ أصولية قبل أن تقعَّد القواعد وتؤصَّل الأصول. وقد تم ذلك مباشرةً منذ القرن الثالث بعد أن حاول الشافعي في «الرسالة» وضع بنية ثلاثية للعلم.
يعني «تواري» البنية وجود مادة أصولية هلامية دون هيكل عظمي، مواد بناء دون رسم هندسي، قماش دون تفصيل؛ فالهيكل ما زال يتخلق، والأطراف ما زالت تتجمع، والكثرة ما زالت تبحث عن وحدةٍ أولى.
والصعوبة في تواري البنية هو عدم تطابق التكوين مع البنية؛ فتتبُّع التكوين التاريخي تختفي البنية وتظهر دون نسق طولي من الاختفاء إلى الظهور، أو من الظهور والخفاء، مرةً تظهر ومرةً تختفي؛ ومن ثَم يتردد عرض البنية بين التكوين التاريخي بصرف النظر عن البنية، أو بين التكوين البنيوي بصرف النظر عن التاريخ. وكان من الأفضل الاختيار الأول التكوين التاريخي بصرف النظر عن البنية لمعرفة جدل الخفاء والتجلي لتاريخ البنية وبنية التاريخ.
وقد توارت البنية بسبب سيادة الفروع على الأصول (أصول الكرخي، ٣٤٠ﻫ)، أو سيطرة الخلافات الفقهية على قواعدها (تأسيس النظر للدبوسي، ٤٣٠ﻫ).
ثم بدأت مُتناثرةً عن بعدٍ قبل أن تتجمع في بنياتٍ واضحة ثنائية أو ثلاثية أو رباعية في أبواب تصل إلى المائة وخمسة بابًا (الفصول في الأصول للجصاص، ٣٧٠ﻫ)، وكما يُوحي به العنوان، مجرد فصول في الأصول، ثم تأخذ في التناقص إلى ثمانين بابًا (أصول البزدوي، ٤٨٢ﻫ)، ثم إلى أربعين بابًا (الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، ٤٥٦ﻫ)، إلى سبعة وعشرين فصلًا (الكافية في الجدل للجويني، ٤٧٨ﻫ) إلى تسعة عشر بابًا (أصول السرخسي، ٤٩٠ﻫ).
ثم بدأت البنية في التشكل ابتداءً من المقال السيَّال، وحدة واحدة بلا أدنى تقسيم (الورقات للجويني، ٤٧٨ﻫ)، حتى بدايات بعض المباحث، مثل مباحث الألفاظ (التقريب والإرشاد (الصغير) للباقلاني، ٤٠٣ﻫ)، حتى تقويم النظر عندما بدأت المقدمات المنطقية اللغوية في التشكل (تقويم النظر لابن البرهان، ٥٩٢ﻫ)، ثم تخلَّقت البنية الثلاثية بالفعل في الإجماع والسنة التي تشمل القرآن وإبطال الرأي والقياس والتعليل ودليل الخطاب والمفهوم (النبذ في أصول الفقه الظاهري لابن حزم، ٤٥٦ﻫ).
وبعد كشف البنية الثنائية والرباعية والخماسية والسباعية والثمانية تفرَّعت البنية من جديد، وبدأت تذوب في تفريعاتٍ أوسع، مجرد أقوال في موضوعاتٍ أصولية تسعة تتعلق معظمها بمبحث الألفاظ والنسخ والقياس ولواحقه مثل الاجتهاد بلا ترتيب لأدلة أو وعي بأصول (اللمع في أصول الفقه للشيرازي، ٤٧٦ﻫ). وتصبح الأصول كلها أبوابًا وفصولًا وأقوالًا في أنواع الحجج وأنواع التكلم وأسباب الشرائع وأسماء الألفاظ، ثم تظهر الموضوعات الأصولية دون الأصول وترتيبها، مثل الخبر الواحد والنسخ وأفعال النبي والقياس والعام والخاص والظاهر والمئول والمقاصد والأحكام والأمر والنهي والأدلة الشرعية الثلاثة الأولى والنسخ والأفعال (تقويم الأدلة للدبوسي، ٤٣٠ﻫ).
ثم تتفرع التسعة موضوعات إلى اثنَي عشر موضوعًا دون ترقيم، وكلام في الأوامر والنواهي والأفعال والناسخ والمنسوخ والإجماع والأخبار والقياس والاجتهاد والحظر والإباحة والمفتي والمستفتي، مع فصول في المجمَل والمبيَّن، بلا ترتيب أو نسق أو بنية (المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري، ٤٣٦ﻫ). ويتشعب نصٌّ آخر إلى اثنَي عشر موضوعًا أيضًا بلا ترتيب أو نظام مثل أخلاق الفقيه، والقياس، والجدل، والسؤال والجواب، والتفقه في الدين، الكتاب، ويشمل مباحث الألفاظ والناسخ والمنسوخ، والسنة والأفعال والإجماع والفقه وأصوله (الفقيه والمتفقه للبغدادي، ٤٦٣ﻫ). وتنصبٌّ في مصنَّفٍ ثالث إلى اثنَي عشر موضوعًا أيضًا في كتب وأبواب وفصول ومسائل وأقسام حول البيان، والأوامر والنواهي، والعموم والخصوص، والتأويل، والمفهوم والأخبار، والنسخ، والإجماع، والقياس، والترجيح، والاجتهاد، والفتوى، بلا ترتيب أو نسق (المنخول من تعليقات الأصول للغزالي، ٥٠٥ﻫ)، ثم تتشعب المسائل إلى ثلاثة عشر قسمًا موزَّعةً حول الأمر، والقياس، والأخبار، والعموم، والإجماع، والاجتهاد، والنسخ، والمجمَل والمفصَّل، ودليل الخطاب، والتقليد، والاستثناء، والأفعال، والمطلَق والمقيَّد، بلا ترتيب أو نظام (التبصرة في أصول الفقه للشيرازي، ٤٧٤ﻫ).
ثم تتشعب الأصول أكثر من ذلك إلى ثلاثة عشر موضوعًا حول اللغات، والأوامر والنواهي، والعموم والخصوص، والمجمَل والمبيَّن، والأفعال، والناسخ والمنسوخ، والإجماع، والأخبار، والقياس، والتعادل والتراجيح، والجهاد، والمفتي والمستفتي، وفيما اختلف فيه المجتهدون أنه من أدلة الشرع، بلا نظام أو ترتيب، تختلط فيه مباحث الألفاظ مع الأدلة في غياب الأحكام (المحصول للرازي، ٦٠٦ﻫ)، ثم تتشعب الأصول أكثر فأكثر إلى أربعة عشر موضوعًا تختلط فيما بينها بلا ترتيب أو نسق، بين التعارض والسنة والرواية والنسخ والألفاظ والإجماع والتقليد والاستثناء والاجتهاد (أصول الفقه لابن عربي، ٦٣٨ﻫ)، ثم تتشعب الموضوعات أكثر إلى خمسة عشر موضوعًا بلا نسق أو ترتيب، مثل التكاليف واللغات والبيان ومباحث الألفاظ والأفعال والنسخ والإجماع والأخبار والقياس والاجتهاد (الوصول إلى الأصول لابن برهان، ٥١٨ﻫ)، ثم تتشعب الموضوعات أكثر فأكثر إلى سبعة عشر موضوعًا بلا ترتيب أيضًا ولا نسق، وهي المقدمات، والنظر والعقل والتكليف، والحدود والعقود والحروف، والناسخ والمنسوخ، والجدل، والحجة والشبهة، والعلة والمعلول، والمعارضة، والقياس، والاستدلال والانقطاع (الواضح في أصول الفقه لابن عقيل الحنبلي، ٥١٣ﻫ)، ثم تتشعب أخيرًا في ثمانية عشر عنوانًا، من المقدمة وأحكام الوضع والتكليف والأدلة الأربعة ومباحث الألفاظ حتى لواحق القياس، مثل الاستدلال والتعادل والتراجيح والاجتهاد (سُلَّم الوصول إلى علم الأصول لعبد العليم ابن الشيخ محمد ابن أبي حجاب الشافعي، ١٣٦١ﻫ).
ثانيًا: غياب البنية
(١) «أصول الكرخي» (٣٤٠ﻫ)
(٢) «تأسيس النظر» للدبوسي (٤٣٠ﻫ)
ولما كان الدبوسي حنفي المذهب فإنه يبدأ أولًا برصد الخلاف بين أئمة المذاهب الثلاثة؛ أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، طبقًا لاحتمالاتٍ أربعة بين طرفين في مناطق العلاقات على النحو الآتي:
وطبقًا لمنطق العلاقات بين المذهب الحنفي والمذاهب الثلاثة الأخرى توجد أربعة احتمالات أخرى، هي:
ثالثًا: تناثر البنية
(١) «الفصول في الأصول» للجصاص (٣٧٠ﻫ)، والمعروف باسم «أصول الجصاص»١٨
وهي أشبه بمادةٍ هلامية لم يتخلق فيها هيكلها العظمى بعد. ولا توجد عناوين مستقلة رنَّانة للأصول الحنفية كما هو الحال في الأصول الشافعية، بل ترتبط أصول الحنفية بأسماء أصحابها، مثل «أصول الجصاص»، «أصول البزدوي»، «أصول السرخسي».
لقد بدأ أصول الفقه بالرأي والنظر والاستحسان كما هو واضح عند أبي حنيفة (١٥٠ﻫ)، ثم تلته أصول الفقه القائمة على المصالح المرسلة عند مالك (١٧٩ﻫ). الأولى على العقل، والثانية على المصلحة؛ ركنَي الوحي؛ ثم قام الشافعي (٢٠٤ﻫ)، فتوسَّط بينهما جاعلًا الأصول تقوم على الدعامتين معًا؛ ثم عاد أحمد بن حنبل (٢٤١ﻫ) للنص الخام من جديد دون تشعيب وتفريع وتقنين وتعقيد. توسَّط الشافعي بين الحنفية في العراق والمالكية في مصر؛ فالأصول تعبِّر عن طبائع الأقوام وتوزيعهم الجغرافي بين الحجاز (مالك) والعراق والشام وتركيا وخراسان وما وراء النهر (أبو حنيفة)، والشافعي (مصر).
وقد تغلب أصول الفقه الشافعي لقيامه على الأشعرية، عقائد السلطة، في حين توارى الفقه الحنفي القائم على الاعتزال الذي يمثِّل عقائد المعارضة؛ فقد ضُرب أبو حنيفة وسُجن، وخرج مع آل البيت. كانت المعارضة تتم باسم العقل مثل المعارضة الاعتزالية، أو باسم المصلحة، ثم الأصول المالكية. وقد انقطعت الأصول الكلامية إلا الشافعية لقيامها على الأشعرية؛ عقيدة السلطة.
(٢) «أصول البزدوي» (٤٨٢ﻫ)٤٤
والسؤال هو: لماذا لم تَعِش مذاهب الشيباني وأبي يوسف في الشام، وعاش مذهب أبي حنيفة في العراق؟ هل لأنهما كانا تنويعين على أبي حنيفة؟ وما هي الفروق النوعية بين المذهب الأصلي والمذهبين الفرعيين؟
(٣) «المقدمة في الأصول» لابن القصار المالكي (٣٩٧ﻫ)٦٦
(٤) «الإشارة في أصول الفقه» لأبي الوليد الباجي (٤٥٠ﻫ)٩٦
(٥) «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (٤٥٦ﻫ)
ثم بعد ذلك يتداخل المُحايد بين السلب والإيجاب، وهو إلى السلب أقرب، مثل شرائع الأنبياء قبل محمد أو شرع من قبلنا، والاجتهاد. وأحيانًا يكون إلى الإيجاب أقرب، مثل التفقه في الدين، والنيات في الأعمال. وأحيانًا تكون الموضوعات أقرب إلى الإعلان عن الموقف المذهبي الظاهري، مثل الحق واحدٌ وسائر الأقوال كلها باطل، لزوم الشريعة لكل مؤمن وكافر على الأرض. وأحيانًا تكون الموضوعات مُحايدة تمامًا، مجرد وصف موضوعي له دون إثبات أو نفي أو إعلان موقف، مثل الاستثناء والكناية والإشارة، كيفية ظهور اللغات، والغرض من الكتاب وموضوعاته وأقسامه.
وتغيب الأصول والقواعد والأسس والمبادئ التي يقوم عليها علم الأصول وسط هذا الخِضم الهائل من الخلاف النظري حولها؛ فابن حزم من أصحاب المواقف، يمثِّل أصول الفقه الظاهري كما يمثِّل القاضي النعمان والشيخ المفيد أصول الفقه الشيعي، وأبو الحسين البصري أصول الفقه الاعتزالي.
وتهتمُّ أمثال هذه المؤلفات بالمواقف وليس بالبنية، بالحِجاج وليس بالقاعدة، بالأسس النظرية التي تنبني عليها القواعد، وليس بالقواعد كأسسٍ نظرية ينبني عليها علم الأصول؛ لذلك تكثُر التفصيلات والجزئيات والحوادث وأسماء الإعلام والرواة للنقاش حول الأصل والدفاع عن المذهب؛ فالمذهب أساس القاعدة وليس العكس. وتطول الحجج والحجج المضادَّة، ويُسهب في الاعتراضات والردود على الاعتراضات حتى تمَّحي الغاية من علم الأصول وهو التجميع؛ جمع الجزئيات في الكليات، والفروع في الأصول.
في هذا الجو المشحون بالرفض والإقصاء والجدال والتعصب والقطعية، وأن الحق مع فِرقة واحدة والباقي هالكة، يعود التحزب الكلامي، وينعكس على علم الأصول، فتضيع الغاية منه. يتحدث ابن حزم باسم الله لأن الآخرين يتحدثون باسم الشيطان. يُعلن عن الحق بينما يُعلن الآخرون عن الباطل. وفي هذا التحزب تُطلَق الأحكام القطعية، وتغيب النسبية، وتضيع القاعدة وسط الإقصاء المتبادل. تغيب الموضوعية والحياد الذي يتَّسم به «المستصفى» بالرغم من أشعريته، مصالح التحزب والتحيز والانزواء. وليس السجال بديلًا عن الحوار، ولا الحِجاج بديلًا عن التعددية المذهبية.
وأحيانًا تغلب الأمثلة الفقهية على القواعد الأصولية، وتُستخدم القاعدة للتحقق من الحكم الفقهي، أكثر من استخدام الأمثلة الفقهية الجزئية لاستقراء المبدأ الكلي. كما يُراجع ابن حزم صحة الأحكام الشرعية على الأمثلة الفقهية رافضًا أحكام المذاهب، ناسيًا استقراء المبادئ الأصولية العامة، بصرف النظر عن الفروق المذهبية واختلاف الأحكام الشرعية؛ مع أن عنوان الكتاب «الإحكام في أصول الأحكام»؛ أي إحكام الأصول وليس استخدامها للتحقق من صِدق الأحكام على الفروع.
وتكثُر الشواهد النقلية من القرآن والحديث، وتتكرر نفس الآيات عدة مرات، ونفس الأحاديث في عدة صياغات وروايات وأسانيد، ويتمُّ إحصاؤها واحدةً تِلو الأخرى والرد عليها. ولكل فريق أدلتُه النقلية الجزئية خارج السياق، أسباب النزول، وخارج المنظور الكلي. يردُّ ابن حزم على حجج الخصوم، ويُعيد تأويل شواهدهم النقلية ضدهم، ثم يستعمل نفس المنهج، اجتزاء شواهد نقلية مضادَّة يستطيع الخصم أن يردَّ عليها بنفس المنهج، وإعادة تأويلها ضد ابن حزم ولصالحهم، وينتهي الفريقان إلى ضرب الكتاب بعضه ببعض، ويضيع الأصل وسط الخصومات المذهبية، والتي هي في الحقيقة مواقف اجتماعية وسياسية ومزاجية في الصلة بين النص والواقع، بين النظر والعمل، بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة. ويستشهد بالآيات القرآنية أكثر؛ مما يستشهد بالأحاديث النبوية؛ فالقرآن أصل الأصول، والحديث مُتواتر وآحاد.
كما يستعمل الشعر كشاهدٍ نقلي لتفسير الكتاب أو كدليلٍ لغوي، كما قال عمر: «عليكم بشعر جاهليتكم؛ ففيه تفسير كتابكم.» وابن حزم فقيه وأصولي ومُتكلم وأديب. وكما كان الشعر مركزًا للحضارة العربية قبل الإسلام أصبح القرآن هو مركز الحضارة الإسلامية وبؤرتها بعد الإسلام؛ ومن ثَم يمكن تفسير القرآن بالشعر؛ فقد استمرَّت نفس الجماليات التي كانت وراء «إعجاز القرآن».
ويتم رصد الحجج العقلية بنفس الطريقة، عدها وإحصائها والرد عليها، ثم تُعطى حججٌ عقلية مُعارضة يستطيع الخصم أيضًا أن يردَّ عليها؛ وبالتالي يتحول العقل البرهاني إلى عقلٍ جدلي، ويصبح العقل البديهي عقلًا تبريريًّا؛ لا يبدأ العقل من ذاته، من بديهياته ومشاهداته، بل من المواقف المسبَّقة والمذاهب المغلقة؛ وبالتالي يقضي على علم أصول الفقه لصالح علم أصول الدين. ويستعمل ابن حزم الحجج النقلية «السلطوية» التي توحي بسلطة النص وتُلجم اللسان وتُبطل العقل، مثل لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ؛ حتى يتوقف كل عمل عقلي في النص.
ويقع المذهب، الظاهرية، في عدة تناقضات. يُدافع عن الظاهر ضد التأويل والرأي والقياس والاستحسان والتعليل والنظر، وفي نفس الوقت ينقد التقليد، ويعني تقليد المذاهب الفقهية، وقد يكون التقليد أيضًا للحرف. وقد نشأت الظاهرية في المشرق، في الكوفة، على يد داود الظاهري؛ ربما ردًّا على معتزلة البصرة وبغداد، وأقرب إلى الأثر في الحجاز، ثم انتقل المذهب إلى الأندلس بسبب سيطرة الفقهاء على الحياة العقلية والسياسية فيها.
ويُحيل «الإحكام» إلى ذاته؛ مما يدل على وحدة عناصر الكتاب، وضم أجزائه في كلٍّ واحد، وخضوعه لمنطقٍ واحد ورؤيةٍ واحدة بالرغم من تناثر الأجزاء، كما يُحيل إلى باقي مؤلَّفات ابن حزم الأصولية، مثل «النبذ» وهو تلخيص «الإحكام»، أو «إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل» وهو ملخَّص الجزء الثامن والأخير، كما يُحيل إلى باقي مؤلَّفاته الفقهية مثل «المحلَّى»، أو الكلامية مثل «الفَصْل في أهل الأهواء والمِلل والنحل»؛ مما يدل على وحدة المشروع الفكري لابن حزم.
(٦) «الكافية في الجدل» للجويني (٤٧٨ﻫ)١٢٥
وتبدو الصلة بين الجدل في علم أصول الدين والقياس في علم أصول الفقه؛ فعلم الأصول واحد وإن اختلف المنهجان. ليس الغرض منه تأسيس علم الأصول، بل رصد الخلافيات بين الأصوليين في علمٍ مستقل فرعي هو «علم الجدل» أو «علم الخلافيات». الجدل شفاهي، والقياس مدوَّن. الأول مناظرة، والثاني استدلال. موضوع الكتاب هو الخلافات في الأقيسة، وإخضاعه لمنطقٍ مُحكَم، والتحول من المُعارضة الجدلية إلى الاعتراض القياسي. ومع ذلك يغلب الجدل الكلامي على القياس الأصولي، ويتمتَّع بدرجةٍ عالية من التنظير، والرد مسبَّقًا على الاعتراضات في أسلوب «فإن قيل … قيل». ولا غرابة على الجويني في ذلك وهو أول من وضع نسق العقائد في علم أصول الدين في «العقيدة النظامية»، وقد انعكست هذه القدرة على تلميذه الغزالي في «المستصفى».
(٧) «أصول السرخسي» (٤٩٠ﻫ)١٣٣
رابعًا: تشكُّل البنية
(١) «مقدمة في الأصول» للجبيري المالكي (٣٧٨ﻫ)١٥١
وكما نشأ علم الأصول عند الشافعي (٢٠٤ﻫ) لتقنين الشافعية، كذلك نشأ علم الأصول عند المالكية لتقنين المالكية.
(٢) «الورقات» للجويني (٤٧٨ﻫ)١٥٤
مقالٌ سيَّال صغير بلا أبواب أو فصول، يُعطي مادة علم أصول الفقه مرةً واحدة في عباراتٍ بسيطة مُجمَلة، دون سجال أو جدل مع الآراء المخالفة والمذاهب المعارضة. هو أقرب إلى التعريفات والحدود، الحد الأدنى من الاتفاق على قواعد العلم وأصوله، الهيكل العام قبل أن يُضيعه الجويني في «البرهان» مُطولًا، والغزالي تلميذه في «المستصفى» مُبرهنًا عليه.
فبعد تعريف العلم «أصول الفقه» تبرُز أحكام التكليف لأول مرة قبل «المستصفى»، وهي خمسة لا سبعة، الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحظور، وإضافة الصحيح والفاسد اللذين سيصبحان خمسة في «الموافقات» للشاطبي في أحكام الوضع، ثم يتم تحديد الفقه والعلم والجهل والنظر والدليل، وكأن أحكام التكليف جزء من حدود العلم الأولى وأحد مداخله، ثم تبدو أبواب أصول الفقه من خلال أقسام الكلام، وهي مباحث الألفاظ، طرق الاستثمار بتعبير «المستصفى»، الأمر والنهي، الخاص والعام، المجمَل والمبيَّن، الظاهر (دون المئوَّل). وتدخل معها الأفعال، وهو الدليل الثاني، السنة، والناسخ والمنسوخ، وهو الدليل الأول، القرآن، ثم الإجماع، الدليل الثالث؛ ثم تظهر الأخبار، عودًا إلى الدليل الثاني، ثم القياس، ثم تظهر حدود أحكام التكليف من البداية في النهاية، مثل الحظر والإباحة، وتنتهي الموضوعات بملحق القياس، مثل ترتيب الأدلة، وصفة المفتي والمستفتي، وأحكام المجتهدين.
وتبدأ مباحث الألفاظ بما سمَّاه «المستصفى» المبادئ اللغوية، الاسم والفعل والحرف، وقسمة الكلام إلى أمر ونهي وخبر واستخبار، وتمنٍّ وعرض وقسَم، وحقيقة ومجاز، وقسمة الحقيقة إلى لغوية وشرعية وعُرفية، ثم يظهر الأمر والنهي، والعام والخاص، ومعه الاستثناء والشرط والمقيَّد (دون المطلَق)، والمجمَل والمبيَّن، والظاهر والمئوَّل، ثم تعود الأفعال، ثم يظهر النسخ، ثم الإجماع، ثم الأخبار، وأخيرًا القياس وأنواعه، قياس العلة وقياس الدلالة وقياس الشَّبه، وشروط العلة والحكم. وتعود أحكام التكليف، الحظر والإباحة، للظهور داخل الدليل الرابع قبل الانتهاء باستصحاب الحال، والأدلة، وشرط المفتي والمستفتي، ونقد التقليد وإثبات الاجتهاد. وهنا يتقدم الفعل لأول مرة على العقل والنقل، وكما سيتَّضح في «المستصفى» للغزالي، وربما لأولوية العمل على النظر في التصوف.
(٣) «التقريب والإرشاد» (الصغير) للباقلاني (٤٠٣ﻫ)١٥٦
(٤) «تقويم النظر» لابن البرهان (٥٩٢ﻫ)١٨٥
(٥) «النُّبذ في أصول الفقه الظاهري» لابن حزم (٤٥٦ﻫ)١٩٢
خامسًا: تفريع البنية
(١) «اللُّمَع في أصول الفقه» للشيرازي (٤٧٦ﻫ)١٩٦
(٢) «تقويم الأدلة» للدبوسي (٤٣٠ﻫ)٢٠٨
(٣) «المعتمد في أصول الفقه» لأبي الحسين البصري (٤٣٦ﻫ)٢٢٥
ولما كان الاتساق النظري هو السمة الغالبة على الخطاب الأصولي ظهرت الأدلة النقلية إلى أقل حد ممكن، آيات قصيرة، داخل الخطاب النظري كسندٍ فرعي وليس كدليلٍ نظري؛ فالعقل أساس النقل كما هو معروف في الاعتزال. ويظهر القرآن أكثر من الحديث بحثًا عن الأصول النظرية والقواعد العامة، ويغيب الشعر؛ فالعقل يكفي دون الخيال.
ويقلُّ المضمون لصالح الشكل، ويغيب المحتوى لصالح صورة الفكر؛ على عكس «الموافقات» للشاطبي فيما بعدُ التي غلَّبت المضمون على الشكل، والموضوع على الصياغة؛ فقد اكتفى «المعتمد» بتحليل صيغ القول أكثر من مضمون القول. وللتخفيف من حدة هذا العرض النظري المجرد ضُربت الأمثال بالعبارات كما هو الحال في مدارس تحليل اللغة المعاصرة، حتى ولو كان ضربًا للأمثال للخطاب القرآني أو الحديث النبوي. ونظرًا لغياب القواعد والأصول تم ربط الفقرات آليًّا بطريقةٍ مصطنَعة للإعلان عن القادم.
(٤) «الفقيه والمُتفقه» للبغدادي (٤٦٣ﻫ)٢٣٨
(٥) «المنخول من تعليقات الأصول» للغزالي (٥٠٥ﻫ)٢٤٩
(٦) «التبصرة في أصول الفقه» للشيرازي (٤٧٤ﻫ)٢٧٧
سادسًا: تشعيب البنية
(١) «كتاب التلخيص في أصول الفقه» للجويني (٤٧٨ﻫ)٢٨٦
ثم جاء الناشر الحديث وزاد في الإسهاب والتطويل، مُضيفًا معلوماتٍ تاريخيةً على المعلومات الأصولية إظهارًا للعلم أو نيلًا للدرجة العلمية في الجامعات التقليدية، وناقل العلم ليس بعالم، وكأننا ما زِلنا نعيش في العصر المملوكي العثماني عصر الشروح والملخصات لحفظ التراث من الضياع بعد أن توالت الغارات والغزوات على العالم الإسلامي من الغرب ومن الشرق على التوالي. ولم تشهد العلوم إبداعًا جديدًا، أو على الأقل إعادة بناء مواكبة لحركات التحرر الوطني الحديثة، أو على أكثر تقدير تالية لها. وجاءت هذه الهوامش القاموسية المطوَّلة رميةً بغير رامٍ؛ لأن النشر نفسه خالٍ من الفهارس حول تخريج الآيات والأحاديث والشواهد الشعرية وأسماء الأعلام والفِرق والمذاهب والمدن والبُلدان والأمصار كما هو الحال في النشر العلمي الحديث. كما تم تقسيم النص إلى فقرات، والفقرات إلى فصول، أسوةً بالنشر العلمي الحديث في الغرب، تقليدًا دون هدف خاص، واستبعاد أرقام الصفحات كليةً.
والأسلوب تعليمي ابتدائي يقوم على الشرح أكثر مما يقوم على التلخيص. يُكثِر من الأسئلة والأجوبة المتتالية بطريقة القيل والقال «فإن قيل … قيل». ويتجزَّأ الموضوع الواحد إلى عدة أجزاء مُتناثرة، فيضيع الأصل وتتوه البنية وسط هذا الكم الهائل من المعلومات، ويتوه القارئ. ويفضل المتن الأول على التلخيص الثاني. ضاعت الأصول لصالح الفروع، وغاب الكل لصالح الأجزاء، وتحوَّل التلخيص إلى مجموعة من النصوص المُتفرقة المشوَّهة المُضطربة المفكَّكة التجزيئية المُتناثرة؛ فتناثرت البنية معها وتشرذمت.
(٢) «التمهيد في أصول الفقه» للكلوذاني الحنبلي (٥١٠ﻫ)٣٠٥
(٣) «المحصول» للرازي (٦٠٦ﻫ)٣٢٣
(٤) «أصول الفقه» لابن عربي (٦٣٨ﻫ)٣٥٦
(٥) «الوصول إلى الأصول» لابن برهان البغدادي الشافعي (٥١٨ﻫ)٣٦٠
(٦) «الواضح في أصول الفقه» لابن عقيل الحنبلي (٥١٣ﻫ)٣٨٣
ولأول مرة يدخل الحنابلة ويدوِّنون أصولهم بعد أن بدأ الشافعية ثم الحنفية، وقبل أن يدوِّن المالكية أصولهم في النهاية. لم يكن قصد الحنابلة إعطاء بنية ولا المالكية؛ فالحنبلية عود إلى النص، المنبع الأول للعلوم، ومراجعة كل الأصول الخارجة من الشافعية والحنفية في الفقه، والأشعرية والاعتزالية في الكلام. وتتم المراجعة من أجل إنقاذ النص من التنظير العقلي الحنفي، والتوفيق الشافعي، والتخريج المالكي. ويدل العنوان على الغاية منه «الواضح»؛ أي توضيح غموض الأصول في المذاهب الفقهية والكلامية.
ويعني تشعُّب البنية أيضًا غياب التصورات، والتنسيق، والعرض النظري، والإحكام المنطقي، عودًا إلى الأصل؛ فالنص في حد ذاته منطق، يكفي بذاته، ومهمة الأصول تخليصه من علم الأصول الذي يتجاوز منطق النص؛ لغته وروايته.
(٧) «سُلَّم الوصول إلى علم الأصول» لعبد العليم ابن الشيخ محمد ابن أبي حجاب الشافعي٤٢٣
لغة العرب (٦)، ج١، ١١٤، ٣٥٩، ٣٠٨، ٣٦٢، ٣٦٥؛ ج٢، ٨٩.
• الأبواب من فصلٍ واحد (٥): ٥، ٦، ٧، ١٤، ١٨.
• الأبواب من فصلين (١): ١٥.
• الأبواب من ثلاثة فصول (٣): ١٣، ٣٦، ٣٨.
• الأبواب من خمسة فصول (٢): ٣٧، ٣٩.
• الأبواب من عشرة فصول (١): ١٢.
• الأبواب من خمسة عشر فصلًا (١): ٢٢.
• الأبواب من تسعة عشر فصلًا (١): ٢٠.
• الأبواب من عشرين فصلًا (١): ١١.
عدد المسائل: مباحث الألفاظ (٦٩)، القياس (٥٠)، السنة (٣١)، الإجماع (١٥)، القرآن (١٣).
ج٢، الأدلة الشرعية (٤٤، ٦٤)، الأقيسة (٣٨، ٥٨)، الاعتراضات بالكتاب (١، ١١)، الاعتراضات بالسنة (٣١، ٤٣)، الاعتراض على قول الواحد (١١، ٢)، الاعتراضات على فحوى الخطاب (٥، ١)، الاعتراضات على دليل الخطاب (٤، ٤)، معنى الخطاب وهو القياس (٢٨، ٢٧)، المُمانعة (٢٧، ٣٤)، النقص (١٤، ١٩)، القلب (٧، ٨)، فساد الاعتبار (٣، ١٥)، المعارضة (١٨، ١٦)، استصحاب الحال (١٥، ٣٣)، الأسئلة الفاسدة (٦، ٧)، التراجيح (٤، ١٢)، الخطاب (٣٨، ٩٠)، الأوامر (٦٦، ١١٢)، نفي التكرار (١٢، ١٢).
ج٣، الشروط والصفات للأمر والنهي (٣٥، ٥٤)، القضاء والإعادة والفوات (١٤١، ١٧١)، المناهي (٢٩، ٢٨)، فحوى الخطاب ودليله (٢٧، ٥٥)، العموم والخصوص (١٠٣، ١٤٧)، الاستثناء (٢٠، ٤٠).
ج٤، المجمَل والمبيَّن والمحكَم والمُتشابه والمجاز والاستعارة (٤٣، ١٢١)، أفعال النبي (٢٧، ٧١)، النسخ (١٤، ٣٥)، شُبَه المخالف (٥٠، ٩١)، الأخبار وما فيها من خلاف (٥٨، ١١٢).
ج٥، الراوي (١٠١، ٩٢)، التراجيح (٩، ٧)، الإجماع (٩٢، ١٣٣)، التقليد (٢٥، ٣٣)، القياس (٢٨، ٨١)، الاجتهاد (١٠٠، ١٥٤).