تثبيت البنية
أولًا: البنية والتاريخ
(١) ماذا يعني تثبيت البنية؟
(٢) البنية كقسمة
(٣) وضع الجزء في الكل
(٤) ذاكرة التاريخ
الشرح عود إلى الماضي بعد أن تأزَّم الحاضر، وبحث عن القديم بعد أن عزَّ الجديد، ورجوع إلى الوراء بعد أن صعب التوجه إلى الأمام. لم يكن الشرح حركةً إبداعية تُعيد بناء النص القديم طبقًا لظروف العصر الجديد، بل كانت مجرد قراءة شارحة كما هو الحال في علوم التفسير التاريخية. لم يهدف الشرح إلى شيء، تغيير بنية أو إضافة علم أو نقد مجتمع كما فعل ابن رشد في الشرح الكبير مثل «تفسير ما بعد الطبيعة».
(٥) وحدة العلوم
ثانيًا: الشروح
(١) الأنواع الأدبية
(٢) المتن والشرح
يتم تقطيع النص إما قِطعًا طويلة قد تصل إلى مسائل كاملة، أو فقرات أو عبارات قصيرة. في الحالة الأولى يكون النص مُسهبًا، والشرح مركَّزًا؛ وفي الحالة الثانية يكون النص مركَّزًا، والشرح مُسهبًا؛ ثم يتم تقطيع النص من جديدٍ مرات ومرات عبارةً عبارة، وربما لفظًا لفظًا حتى يسهُل مضغه وهضمه قطعةً قطعة. وتطول الفقرات تباعًا بتوالي الأجزاء. تقصُر في البداية، وتطول في النهاية؛ فالشرح أيضًا دافعٌ حيوي يقوى في البداية ويضعف في النهاية. في الأجزاء الأخيرة تظهر وحدة الشرح، الموضوع وليس النص.
وأحيانًا يكون الشرح إضافةً فعلية على النص وأقوى منه، وأحيانًا أخرى يكون النص أظهر من الشرح وأقوى منه؛ فالشرح ليس بالضرورة إضافةً فعلية على النص، بل قد تكون خصمًا منه.
وعندما يكون التقطيع صغيرًا، عبارةً عبارة، وأحيانًا كلمةً كلمة، بل وأحيانًا حرفًا حرفًا، يضيع المعنى، ويصبح الشرح لغويًّا خالصًا، إعرابًا واشتقاقًا، وتصبح قراءته بلا فائدة.
ويغيب السجال مع الفِرق والردود على الاعتراضات، كما تغيب الإشكالات والأسئلة والأجوبة؛ مما يجعل الجهد في تحليل آليات الشرح عديم الفائدة، كم بلا كيف، جهد بلا نتيجة. ولتعويض ذلك النقص يعمُّ السجع، وتكثُر المحسِّنات البديعية؛ فإيقاع الشعر وجرس اللفظ فيهما غنًى عن خواء الفكر وفراغ العقل، في ثقافة الشعر ما زال جوهرها كما هو الحال في الشعر التعليمي نُظمت معظم العلوم الإسلامية شعرًا بعد توقفها في عصر الشروح والملخصات مع العواطف الإيمانية والبسملات والدعوات والابتهالات جمعًا بين الشعر والتصوف.
(٣) شرح الغير وشرح النفس
وكلما ازدوج الشرح، شرح النفس أو شرح الغير، ظهر السجع وامتلأ الأسلوب بالمحسِّنات البديعية الغالبة على العصور المتأخرة. كما تكثُر عبارات التفخيم والتعظيم والتبجيل والاحترام والانبهار بالقدماء، ويتم ذلك في جو من الإيمانيات والدعوات الإلهية والابتهالات الدينية والمُناجاة الصوفية، وتكثُر العبارات الإيمانية في آخر الفقرات مثل «الله أعلم».
(٤) وحدة المذاهب
ومن ثَم يمكن تصنيف الشروح طبقًا لإمكانيات تعدُّد المذاهب؛ فهناك أربعة احتمالات لكل شارح مذهبي بشرح مذهبه؛ المالكي لمالكي، والحنفي لحنفي، والشافعي لشافعي، أو الحنبلي لحنبلي. وقد يشرح مذهبًا مخالفًا. وهناك ستة احتمالات لكل شارح لمذهبٍ مُخالف؛ مالكي لحنفي، ومالكي لشافعي، ومالكي لحنبلي أو العكس، ثم حنفي لشافعي، وحنفي لحنبلي أو العكس، ثم شافعي لحنبلي أو العكس.
وقد تمَّت مُراعاة الترتيب الزماني؛ فلربما يكون هناك تطور في آليات الشرح والتلخيص. وهو أكثر خصوبةً ودلالة من تجميع الشروح من مختلف الأزمنة حول متن واحد مثل «المحصول» للرازي، أو «المنهاج» للبيضاوي، أو «المنار» للنسفي.
وتكثُر الشروح والملخصات في القرون المتأخرة ابتداءً من القرن السادس عندما توقَّفت الحضارة عن الإبداع، وعاشت على نفسها تجترُّ ما أبدعته من قبل؛ فأول شرح هو «الكاشف على المحصول» للأصفهاني (٦٥٣ﻫ)، وآخرها ما تم في القرن الماضي من علماء الأزهر أو الجامعات والمعاهد الدينية المُشابهة مثل «فتح الودود على مراقي السعود» للولاتي (١٣٣٠ﻫ).
(٥) كيفية عرض الشروح
ويمكن عرض الشروح بطريقتين؛ الأولى شرحًا شرحًا، ومختصرًا مختصرًا، وحاشيةً حاشية، كما هو الحال في كشف البنية، وحجب البنية، واجتزاء البنية، وتجديد البنية. وفي هذه الحالة تتكرر الأحكام والأمثلة ويغيب منطق الشرح، بالإضافة إلى أن الشرح ليس متنًا جديدًا له بنيته الخاصة، بل هو تكرار للبنية القديمة. الشرح مجرد تجميع يخضع لمنطقٍ آخر هو منطق الإسهاب والإكمال والتفصيل والتعيين، والذي يمكن معرفته بدراسة العلاقة بين المتن والشرح وتجميعها في آلياتٍ واحدة من أمثلةٍ عديدة من مجموع الشروح.
والثانية تجميع هذه الشروح في آليات تحدِّد العلاقة بين المتن والشرح طبقًا لشرح اللفظ أو العبارة، وطبقًا لمنطق اللغة الثلاثي؛ اللفظ والمعنى والشيء المُحال إليه في العالم الخارجي. وهو في نفس الوقت منطق الإبداع الصوري، الحركة في المكان. وميزة هذه الطريقة تفادي التكرار ورصد الجزئيات دون الكليات، وعلم الأصول هو رد الفروع إلى الأصول.
الطريقة الأولى عرضُ شرحٍ شرح طبقًا للترتيب الزماني لمعرفة منطق كل شرح وآلياته حرصًا على وحدة العمل وخصوصيته؛ فربما اختلف شرح عن آخر، وتفرَّد شرح بميزاتٍ خاصة. وعيب هذه الطريقة الوقوع في التكرار إذا كان منطق الشرح واحدًا وآلياته واحدة. والثانية عرض منطق الشرح وآلياته عبر الشروح مخترقةً إياها زمانيًّا أيضًا وجمعًا بين البنية والتاريخ. وميزتها عدم الوقوع في التكرار، واكتشاف وحدة المنطق والآليات التي تتحكم في الشرح.
ونظرًا لثقل منهج تحليل المضمون في العد والإحصاء وكثرة الأمثلة التي تتجاوز آلاف الصفحات، فإنه تم الإحالة أحيانًا إلى أمثلةٍ مختارة كنماذج مكرَّرة حتى لا يتحول منهج تحليل المضمون إلى غاية في ذاته، ويزداد التراكم الكمي دون أن يتحول إلى دلالةٍ كيفية، وحتى لا يتم التضحية بالدلالة في سبيل حواملها، ولا بالكيف من أجل الكم. ليس المطلوب هو إحصاءً شاملًا للألفاظ، وإلا لخرج البحث العلمي عن غايته، وتحوَّل الخطاب إلى غاية في ذاته كما هو الحال في بعض مناهج تحليل الخطاب في اللسانيات المعاصرة. والنتائج الإحصائية نسبية؛ إذ قد يزيد العدد أو يقل، ولكن تظل في مجموعها مؤشراتٍ كليةً على اتجاهاتٍ عامة. كما قد يزيد تكرار أسماء الأعلام أو يقل نسبيًّا، ولكن يظل التردد في مجموعه صحيحًا. وقد تبدو أعلامٌ غير معروفة طواها النسيان عبر التاريخ بعد أن كانت معروفة في عصرها.
ليس المقصود في الشرح والتلخيص إعطاء إحصاء كامل؛ فالأمثلة كثيرة. ولا يمكن وضع الشروح والمختصرات كلها في الهوامش، وإلا تضخَّمت كما يفعل بعض الشُّراح الألمان المعاصرين، خاصةً من مؤلفٍ معروف بالإسهاب. يكفي تجميع الأمثلة في عدة نماذج على غير عادة الإحصاء الكامل، بل إنه يصعب الإحالة المستمرة للهوامش، وإلا تحوَّلت إلى الآلاف من أرقام الصفحات. يكفي الفكرة العامة التي تجد أمثلتها في صفحات الكتب الصغيرة والمطوَّلة. وأغلب الشروح مطوَّلة، ويمكن التحقق من صدقها بالعودة إلى الشروح والملخصات ذاتها.
ومع ذلك يُفيد الإحصاء الشامل على الأقل لأمهات الشروح في بيان وجوه المنطق الغالبة على الشرح، مثل البيان والإيضاح، أو التعليل، أو التجربة المشتركة بين الكاتب والقارئ، أو المصادر المُحال إليها. وبالرغم من إرهاق هذا الإحصاء الشامل يتم الوقوع في الاجتزاء والعينات الممثلة والعشوائية.
المهم الدلالة وليس الدال، المعنى وليس الحامل، سواء كان في شرحٍ واحد أو في مائة شرح. ويتوقف تحليل الدوال والحوامل عندما لا تأتي دلالةٌ جديدة، وهو ما سمَّاه الشاطبي «الاستقراء المعنوي»؛ أي التوقف عن حصر الجزئيات إذا ما ظهرت الكليات، وهو ما يُسمَّى أيضًا في المنطق الغربي الحديث «الاستقراء الناقص»؛ إذ ليس من الضروري إحصاء كل الجزئيات من الحديد لمعرفة أن يتمدَّد بالحرارة بناءً على مبدأ الاطراد في الطبيعة، وإلا تحوَّل تحليل المضمون إلى غاية في ذاته، وجداوله إحصائية كمية دون دلالات كيفية، وكأن الخطاب عالمٌ مستقل بذاته، حرفة يتقنها الحِرفي، وصنعة يحسنها الصانع. وكان من الطبيعي أن يتوقف تحليل المضمون في وقتٍ يتم فيه التشبع بالدلالات، وحين تتوقف الدوال عن إعطاء دلالات جديدة؛ ومن ثَم يبدأ التحول الطبيعي من القراءة إلى الكتابة، ومن التحليل إلى التركيب، ومن الأخذ إلى العطاء، ومن المعلومات إلى العلم، ومن النقل إلى الإبداع. وتبدأ هذه المرحلة بصعوبة تحليل المضمون بشكله الكامل أو الجزئي، وثقله على النفس، وبطئه في الإنجاز مِثلَ بطء الحضارة ذاتها؛ إذ لا فرق بين الوعي الفردي والوعي الجماعي.
وبالإضافة إلى غياب الدلالة قد يتضخَّم الجسد لغياب الروح كما هو الحال في الشروح التي تضخَّمت كمًّا على حساب الكيف؛ فكثيرٌ من الشروح تتكوَّن من عدة أجزاء. وإذا كان القدماء مؤلفين وشُراحًا قد أحسُّوا بقِصر العمر، فإن المحدَثين أيضًا يشعرون بنفس الشيء؛ التبعات لا محدودة، والأجل محدود.
ما غاب في تحليل المضمون في الشروح العشرة الأخيرة هو المقارنة بين المتن والشرح لمعرفة آليات التضخم واتجاهات الامتداد، وكما هو الحال في مناهج النقد التاريخي للكتب المقدسة في مقارنات الروايات لمعرفة منطق الزيادة والنقصان وأوجه الاختلاف بينها، وهي لا تخرج عما تم التوصل إليه من قبل في عشرات الشروح الأخرى.
ومع ذلك تم التوصل إلى حلٍّ وسط في تحليل المضمون للشروح المُسهبة في عدة أجزاء، وهو تحليل مضمون نصف المادة العلمية حتى تتَّضح اتجاهات الشرح ثم ضربها في اثنين، انتقالًا من الجزء إلى الكل، ثم من الكل إلى الجزء، كما هو الحال في الاستقراء العلمي. وفي كلتا الحالتين بقي من «تحليل المضمون» الدوافع التي يُعلنها الشارح في أول الشرح لمعرفة توجُّهات الوعي الحضاري الإسلامي في العصور المتأخرة. كما بقيت أسماء الأعلام والفِرق والطوائف لمعرفة على أي وجه استقرَّ الوعي التاريخي، وما هي المذاهب التي تكلست فيه حتى يمكن تفكيكها وتحرير علم الأصول منها كي يستطيع أن يُبدع من جديد في ظروفٍ مُغايرة.
كما استمرَّ تحليل الأدلة النقلية والعقلية لمعرفة درجة استقلال الوعي الأصولي بين النقل والعقل، ومن أجل الاطمئنان إلى النتيجة المبدئية من تحليل الشروح الأولى، وهي زيادة الحجج النقلية على حساب الحجج العقلية طبقًا لما هو سائد في الأشعرية وتجلياتها في الشافعية، وأن النص هو الذي يتحكم في الواقع.
ونسبة الخطأ في الإحصائيات واردة، ولكنها لا تتجاوز١٠٪ زيادة أو نقصانًا، وهي نسبة لا تغيِّر في صدق الدلالة ذاتها. ومهما كانت الدقة في الإحصائيات اليدوية أو الآلية إلا أن نسبة الخطأ البشري تظل واردةً دون أن تكون مؤثِّرة كما هو الحال في الحسابات المصرفية.
ثالثًا: دوافع الشرح
(١) أهمية علم الأصول
(٢) توضيح الغامض
(٣) بيان المُجمَل
(٤) التواصل التاريخي
(٥) وحدة النص
رابعًا: الخلاف والحكم
(١) الاختلافات بين المذاهب
والسؤال هو: هل أحدث هذا التراكم التاريخي الإبداع الضروري والاختراق النوعي والتجاوز والنقلة الحضارية؟
(٢) الاحتمال أو التوسط أو التوقف عن الحكم
(٣) القطع بالصواب أو الخطأ
(٤) الاحتمال العلمي أم الإيمان الديني؟
خامسًا: آليات الشرح
(١) إعراب اللفظ
(٢) تعريف المصطلح
(٣) توضيح المعنى
(٤) سياق العبارة
(٥) اتساق الفكر
يكون الشرح إذن بيانًا لمسار الفكر، وتوضيحًا لمنطق الاستدلال في النص المشروح.
(٦) تعليل الحكم
(٧) تعيين الشيء وضرب المثل
سادسًا: الأدلة العقلية والنقلية
(١) الأدلة النقلية
(٢) التجربة الشعرية
(٣) الأدلة العقلية
(٤) السؤال والجواب
سابعًا: الوعي التاريخي
يعني «الوعي التاريخي» مدى ترسُّب علم الأصول بأعلامه ونصوصه ومذاهبه ومناطق انتشاره من المغرب إلى المشرق في الوعي التاريخي، وهو الوعي الحضاري الجمعي، وما هو العلَم الأكثر حضورًا، والمتن الأكثر قراءة وشرحًا واختصارًا، والمذهب الأكثر انتشارًا؛ فالشروح ذاكرةٌ جمعية للعلم، من خلالها تبدو تموُّجاته في التاريخ؛ فالقصدية ليست فقط في الفرد، بل في الحضارة.
ويبدو أن العلم، بأعلامه ومتونه ومذاهبه ومناطقه، ما زال حاضرًا في الوعي التاريخي. لم تحدُث قطيعة معه كما حدث مع علوم الحكمة، بل ما زال مستمرًّا، له حركات تجديده، وما زال يمثِّل دافعًا على الإصلاح خاصةً عند الشيعة لدى محمد باقر الصدر، وعند السنة عند مصطفى عبد الرازق تنبيهًا على أهمية العلم، وعند علال الفاسي كتابة في المقاصد، وعند جماعة «المسلم المعاصر». وما زال العلم قادرًا على أن يكون جسرًا بين التيَّارين الرئيسين في الأمة، السلفي والعلماني، بدلًا من حالة الاستقطاب الحالي؛ فمقاصد الشريعة حلقة الوصل بين التيَّارين، وضعية الشريعة والمصالح العامة.
(١) الأعلام
وبالرغم من الإسهاب في تحليل الأسماء والمصادر والمذاهب والفِرق إلا أن التحليل الدقيق للوعي التاريخي هو المقدمة الأولى لكل حركة إصلاحية تريد الحوار بين المذاهب المُتعددة.
وهناك ثلاث مجموعات من الأعلام؛ الأولى تكشف عن حضور الشافعي والشافعية، والثانية الغزالي والأشعرية كسندٍ نظري من أصول الدين لأصول الفقه، والثالثة محاولة المذاهب المُعارضة الحنفية واستنادها إلى الاعتزال والمالكية والحنفية للعودة إلى مركز الوعي التاريخي.
(٢) المتون والشروح
(أ) المحصول للرازي: والمتن الأكثر حضورًا في الشرح هو «المحصول للرازي»، ثم البرهان «للجويني»، والمستصفى «للغزالي»، ثم الشروح المتأخرة خاصةً المالكية والحنبلية. وتبدو أهمية «المحصول» لأنه جمع بين «البرهان» و«المستصفى». ويظهر اسم العمل دون اسم المؤلف نظرًا لشهرته وحضوره في الوعي التاريخي نصًّا كان أم شرحًا بعد أن تحوَّل الشرح إلى متنٍ مثل المتون الأولى.
(٣) المذاهب والفِرق
(٤) الحضور والغياب
وتغيب أسماء الأعلام من الشرح ربما لغيابها من النص المركز مثل «الورقات» للجويني، ولكن أيضًا لأن الشرح بالرغم من كونه إفاضةً واسترسالًا وإكمالًا للمادة إلا أنه آثَر الإبقاء على النص غير المشخَّص، النص المستقل عن أصحابه؛ حتى تبقى الورقات ورقات بلا أصحاب. ونادرًا ما يوجد متن وشرح أصولي يعتمد على العقل وحده.
ثامنًا: المختصَرات
(١) الشرح والمختصَر وشرح المختصَر
ميزة الشرح أنه يُعطي النصين معًا، المتن والشرح، فيمكن رصد آليات الشرح في حين أن المختصر لا يُعطي إلا النص المختصر فقط دون وضع المتن الأصلي. يمكن رصد آليات الشرح من داخل الشرح وتخمين آليات الاختصار من داخل المختصر كنص، وإن أمكن العود إلى المتن الأصلي من خارج النص.
وقد يعني المختصر المتن القصير دون أن يكون اختصارًا لمتنٍ كبير. وفي هذه الحالة يكون أقرب إلى كتب العقائد المتأخرة في علم الكلام عن «قواعد العقائد» من أجل حفظها.
وتختلف المختصرات فيما بينها من حيث القِصر فتكون مختصرًا، أو الطول فتكون شرحًا للمختصر أو مجرد شرح، مثل المختصر الشارح «حصول المأمول من علم الأصول» لصديق حسن خان، وهو اختصار «إرشاد الفحول» للشوكاني؛ إذ إنه يتضمن عددًا كبيرًا من الشواهد النقلية وأسماء الأعلام والفِرق والطوائف والمذاهب والمصادر، كما يدخل في عديد من السجالات والمحاجَّات والخلافيات ما يجعله أقرب إلى الشرح منه إلى المختصر كما هو الحال في المتن الأصلي «إرشاد الفحول»، والمتون المشابهة مثل «البحر المحيط» للزركشي.
(٢) آليات الاختصار
من أجل وضع آليات دقيقة للاختصار تُعادل آليات الشرح من الضروري وضع النصَّين معًا المتن والاختصار لمعرفة كيفية الاختصار، وماذا تم حذفه، مثل معرفة كيفية الشرح، وكيفية الإضافة، وماذا تمَّت إضافته. وهي دراساتٌ نصية أدخل في «علم النص» منها في علم أصول الفقه تستكملها أجيالٌ قادمة.
ويكون المختصر أيضًا على مستوى اللغة؛ فالنحو هو منطق العرب، كما أن المنطق هو نحو اليونان. ولم يتم التضحية بباب «الحروف» كما كتب الفارابي كتاب «الحروف» عرضًا لما بعد الطبيعة لأرسطو. ليس المقصود الحرف الجزئي، بل دلالته على السياق الكلي، والخلاف في الأصول فرع للخلاف في اللغة.
وقد ينقسم الفصل إلى تقسيمات (الفصل الثالث من الكلام في المقدمات)، أو الباب (الثاني من الكلام في اللغات). وقد ينقسم الباب إلى أنظار (الباب الأول من الكلام في اللغات)، أو إلى أقسام (الباب السادس من الكلام في اللغات)، أو إلى فصول (الباب الثالث من الطرف الأول من القسم الثالث من العموم والخصوص). وقد ينقسم القسم إلى مسائل (الأول من الكلام في الأوامر والنواهي)، أو إلى أطراف (القسم الثالث من العموم والخصوص)، أو إلى أبواب (القسم الأول من الأخبار). وقد ينقسم الباب إلى أقسام، والقسم إلى فصول (القسم الثاني من القياس، الباب الثاني من القسم الثاني من الأخبار). وقد ينقسم القسم إلى أبواب، والأبواب إلى فصول. ومن كثرة التقسيمات يختلُّ البناء، ويظهر النوع الرابع «في المجمل والمبين»، وهو أقرب إلى «الكلام في». وقد ينقسم القسم إلى شطور (الأول من العموم والخصوص)، أو إلى أطراف (القسم الثالث من العموم والخصوص)، والطرف إلى أبواب (القسم الثاني من القياس).
(٣) الوعي التاريخي
وفي «حصول المأمول» يتقدم الشافعي بطبيعة الحال، فالمختصر شافعي، ثم الرازي ثم الجويني ثم الغزالي ثم الآمدي ثم إسحاق الشيرازي، مما يبين مدى حضور الشافعية الأشعرية في بؤرة الوعي التاريخي الأصولي، ثم تظهر المالكية مثل ابن الحاجب مع أبي حنيفة لتحدِّي المركز من الأطراف.
كما تندر الإحالة إلى المصادر؛ فالمختصر يأتي من طبيعة العقل وليس من المصادر المدوَّنة أو الشفاهية؛ لذلك لا يحتاج إلى إحالات أو تخريجات.
(٤) شرح المختصرات
وقد يكون شرح المختصر تناقضًا؛ فإذا كانت غاية الشرح الاختصار فإن غاية الاختصار الشرح، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، السير في المكان، صورة الفكر دون مضمونه، ألفاظ وعبارات دون تقدم، ثني ومد في الألعاب الرياضية، شد وارتخاء للمطاط دون أن يتغير المطاط نفسه.
تاسعًا: الحواشي والتقارير
(١) الحواشي على الشروح
ومع ذلك لا يتحقق الهدف المعلَن في البداية، وتظل الحاشية تدور في المكان «محلَّك سِر» لغياب الهدف والقصد، فتدور الحاشية حول الشرح، وتلفُّ حوله مواد لغوية وفقهية وكلامية حتى تكبر الشرنقة ويموت المتن بداخلها بعد لف عديد من العبارات حوله من الشرح والحاشية على حدٍّ سواء.
(٢) مادة الحاشية
ولا تختلف مادة الحاشية عن مادة الشرح عن مادة المتن، إذ تتكرر المادة بنفس الأمثلة، الزيادة في الكم وليس في الكيف.
وتتحول الحواشي إلى علمٍ نظري خالص في حين أن علم الأصول بين النظر والعمل، يُمهد للعمل بإعطاء الأسس النظرية للسلوك، يتحول علم الأصول إلى بحوثٍ نظرية خالصة لا شأن لها بالواقع العملي. وما دام الفقه لم يتجدد فأصول الفقه لم تتجدد؛ فأصول الفقه تقوم على استقراء الجزئيات للوصول إلى الكليات. غاب عن الحاشية التوجيه والهدف، تطوير القديم أو البحث عن الجديد. والغريب أن يأتي ذلك من كل المذاهب حتى من المالكية التي تقول بالمصالح العامة، وأن ما رآه المسلمون حسنًا فهو حسن. وتظهر بعض الموضوعات الغيبية التي لا فائدة منها في علم الأصول الذي يتعامل مع سلوك الناس ووجود الإنسان في العالم.
وقد تغيب الأشعار لأن الحاشية ابتعدت عن التجارب الأصولية، وأصبحت تتعامل معها من خلال الشرح وليس المتن إلا في أقل القليل؛ فهي تتعامل مع نصوص وليس مع وقائع.
وتقلُّ الأدلة العقلية لأنه لا يوجد استدلال أو منطق أو مقدمات أو نتائج، بل مجرد تجميع عشوائي لمواد مُتوفرة كنوعٍ من التأليف الخالي من الهدف، دون التمييز بين العلم وهو المتن، والمعلومات وهي الحواشي. ومع ذلك قد تكشف الحاشية وقوع الشارح أو المصنِّف في الدَّور.
(٣) الوعي التاريخي في الحواشي
(٤) التقرير
وقد يبدو التقرير أحيانًا وكأنه تجاوز للنصَّين المتوسطين الحاشية والشرح، بل والمتن، ويعود إلى الموضوع الأصولي ذاته، وهو ما يندُر حدوثه، وإذا حدث فإن التقرير في هذه الحالة يبدو وكأنه تخليص للموضوع الأصولي من الشرنقة والخيوط الملتفَّة حوله التي تخنقه.
وإذا كانت المتون كثيرة، والشروح أقل منها فلا تُشرَح كل المتون، بل المتون التكوينية فقط مثل «المحصول» للرازي الجامع بين «البرهان» للجويني و«المستصفى» للغزالي، فإن الحواشي أقل من الشروح؛ فليس كل شرح له حاشية، كما أن ليس لكل متن شرح. والتقارير أقل من الحواشي؛ فليس لكل حاشية تقرير، كما أن ليس لكل شرح حاشية، وليس لكل متن شرح.
كما تتضمن المادة علوم التفسير؛ أي العلوم النقلية الأولى بعد أن ارتدَّت العلوم العقلية النقلية إلى علومٍ عقلية خالصة، واختفت العلوم العقلية تمامًا في المشرق بالرغم من ازدهارها في بلاد ما وراء النهر؛ خراسان.
هذه هي ملحمة تكوين النص، وهي ملحمة لا تنتهي كمًّا، ولكن يمكن وصفها كيفًا عندما تتكرر المادة ولا تتغير الدلالات أو تزيد، ثم عرضه نصًّا نصًّا منذ كشف البنية ثم حجبها ثم اجتزاؤها ثم تحريكها حتى تثبيتها؛ فالنصوص كائناتٌ حية تولَد وتنمو وتتطور وتنتهي، وهي البديل الفعلي عن الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يُضاف عادةً دون أن تكون له صلة بالنص، وإن وجدت الصلة فهي صلة علة بمعلول؛ مما يوقع في «الرد التاريخي»، ووقائع التاريخ بين قوسين، والنصوص هي تدوين لها كتجارب معاشة؛ فالنص هو المتوسط بين الذهن والواقع، هو الكاشف عن التجربة الحية التي يعيشها المصنف في التاريخ. «تكوين النص» هو تأسيس النص في التاريخ قبل «بنية النص»؛ أي التأسيس الثاني للنص في الشعور. تكوين النص في مراحل حجب بنيته ثم كشفها ثم اجتزائها ثم تحريكها تمَّت من خلال تحليل النصوص تباعًا عبر الزمان؛ فالبنية تنكشف في التاريخ، والتاريخ هو الحامل للبنية؛ فالنص هو وحدة التحليل، في حين عُرض «تثبيت البنية» كآليات للشرح والملخصات والحواشي والتقارير؛ فالآلية هي وحدة التحليل. زاد حجم الآليات بحيث قد تبدو وكأنها تُعادل البنية كلها، حجبًا وكشفًا واجتزاءً وتحريكًا. ومع ذلك فالمنهجان صائبان؛ التحليل والتركيب. عيوب التحليل يمكن تفاديها في التركيب، وعيوب التركيب يمكن تفاديها في التحليل. ولا يوجد خطأ وصواب في مناهج البحث العلمي؛ فكل منهج يكشف عن زاوية للموضوع، وتكامل المناهج يؤدي إلى رؤية الموضوع من جميع زواياه. «تكوين النص» فيه العلم الدقيق القادر على تجنُّب الأحكام العامة والشائعة دون تأسيس علمي، في حين أن «بنية النص» فيه الفلسفة القادرة على الإيحاء؛ فإذا كان «تكوين النص» هو الأساس، فإن «بنية النص» هو البناء.
(١) شرح المحلي على جمع الجوامع للسبكي (٨٦٤ﻫ).
(٢) الأنجم الزاهرات على حل ألفاظ الورقات للمارديني الشافعي (ت: ٨٧١ﻫ).
(٣) التقرير والتحبير لابن أمير الحاج (ت: ٨٧٩ﻫ).
(٤) شرح غاية السول إلى علم الأصول لابن المبرد (ت: ٩٠٩ﻫ).
(٥) تيسير التحرير لأمير باد شاه (ت: ٩٥١ﻫ).
(٦) شرح الكوكب المنير لابن النجار (ت: ٩٧٢ﻫ).
(٧) فتح الغفار بشرح المنار (مشكاة الأنوار في أصول المنار) لابن نجيم الحنفي (ت: ٩٧٠ﻫ).
(٨) نشر الورود على مراقي السعود للشنقيطي (تأليفه ١٢١٤ﻫ).
(٩) مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر للشنقيطي.
(١٠) فتح الودود على مراقي السعود للولاتي (ت: ١٣٣٠ﻫ).
وجمع التكسير شعرًا: