الفصل الأول
هدرٌ يُبَشِّر بنهر، وحول صخر جزيرةٍ حَجيرة
١ تُبصِر شريطًا جبَّارًا صَخَّابًا أزرقَ سماويًّا أزهَرَ بهيًّا يُلقي نفسه من عَلٍ
في مسقطٍ مُضاعف فيؤدِّي إلى دُردُورٍ
٢ يغشاه زَبَدٌ ضارب إلى خُضْرَة كالذي يعلو اللبن فيدفع هذا الزبد إلى ما ينتظره من
مصير مجهول، فبين هذا الضجيج يُولد النيل.
وبالقرب من هذا المَسقَط الهائل وفي شُرَيْمٍ
٣ هادئ بعض الهدوء يُفغَر فمٌ مخيف ورديٌّ بين أذنين حمراوين ورديَّتين، فهذا البقر
البحري حين يثأب، وهذا الجاموس النهري حين يُزَنخر
٤ متراخيًا، ويرفع رأسه ويتنفس صاخبًا مع خُوَار،
٥ يقذف من مِنخَره الماء صُعُدًا، وهنالك في الأسفل حيث يَسكُن الماء تبصر تنانين
برونزية خُضرًا ممدودةً على صخرة يسترها زَبَدٌ رُقْشًا
٦ ذوات عيونٍ ذهبيةٍ وبطونٍ صُفر مُتِمَّةٍ لمنظرها الأسطوري، ويَجثِم على ظهر كلِّ
واحد منها، حتى بين نابيْ أحدها، طائرٌ لنومها مفتوحةَ الفم، وذلك هو التِّنِّين الذي
ذُكِر في
سِفر أيوبَ، وذلك هو التمساح، وذلك هو الحيوان الغريب المحتمل بقاؤه من الزمن الذي كان
الخِنشار
٧ والدَّلْبُوث
٨ يغطِّيان فيه وجه الأرض وكانت الزحافات فيه سادةَ الدنيا.
وفوق هؤلاء الغيلان الذين يَرجِع أمرهم إلى ما قبل الطوفان تُحَلِّق ذوات الأجنحة
وتحوم
وتهتزُّ وتصطاد، وهنا يَتَجَمَّع كثيرٌ من طيور أوروبة، وهنا يجتمع جميعُ الطيور التي
تجوب
أفريقية الشمالية، وما تحدثه الطيور من ضوضاء فيَغْفِر
٩ خريرَ الماء، ففي الجُزَيِّرة المُدغِلة
١٠ المائلة عن سَمْت المساقط، والتي لم تطأها قَدَمُ إنسانٍ، وإن شئت فقل في منبع
النيل، تَقَعُ جنةُ تلك الطيور.
ولدى أدنى دَوِيٍّ تتحول تلك الرقاع البيض المُلس كالحرير، والتي تتلألأ كزهر البرتقال
بين
أوراقه المُدهامَّة،
١١ إلى بلاشين،
١٢ بيضٍ تطير فوق الشَّلَّالات مَثْنِيَّة الأرجل إلى الوراء، ويبدو هذا الطائر الآخر،
الذي هو أبيض الطيور مع منقاره المِلْعَقيِّ الغريب الذي يُشْتَقُّ منه اسمه،
١٣ صغيرًا بجانب طيرٍ آخرَ ضخمٍ رماديٍّ يأخذ في الطيران متثاقلًا منحنيَ الجِذْع
منعطف العُنُق، ومن بين ذلك البُعاق
١٤ يُسمَع حفيفٌ بغتةً، فقد غَطَسَ طيرٌ كبيرٌ بالغُ السَّوَاد في الماء، غَطَسَ
القاقُ المشهور بشرهه لمدة دقائقَ حتى يظهرَ من بعيدٍ حاملًا سمكةً بمنقاره مصفِّقًا
بجناحيه
كطيور البحر، وهنالك طيرٌ أسود أبيض ينظر إلى ذلك المنظر بعين السخط، فيتقدَّم متزنًا
منخفضَ
الرأس، ثم يرى إثبات عِزَّته الصادقة فيبسط بتُؤَدةٍ ما في جناحيه الأصفري الخطوط من
انحناءٍ
منسجمٍ ويطير رشيقًا، فهذا هو طير النيل المقدس: إبيس.
١٥
وترى الكَرَاكِيَّ
١٦ واقفةً على الضِّفاف شامخةً صامتةً مَنِيعةً كالأمراء الذين ورد ذكرهم في الأقاصيص
العربية، وترى كُركيًّا أغبرَ نبيلَ النظر يحمل عنقُه الدقيقُ بروعةٍ رأسًا ذا ثِقَل
ويجمع في
طاقةٍ ريشَ ذنبه الأدكن
١٧ وينشر من فَوْره جناحيه الوسيعين ويحوم فوق الماء رويدًا، وأجملُ من ذلك كُرْكِيٌّ
آخر ذو ريشٍ ضاربٍ إلى زُرقة ممتدٍّ إلى ذَنَبه وذو ريشٍ ضاربٍ إلى صفرة ممتدٍّ على رأسه
كريش
الطاووس، ولهذا الكُركيِّ المتوَّج مِشْيَةٌ تَنِمُّ على الزهو والهبوط كالصور التي رسمها
فان ديك
١٨ لأبناء الملوك، وبجانب هذا الأمير من الخلف مع قليلِ بُعْدٍ مناسبٍ تُبصِر أبا سُعن
١٩ الطائرَ المضحكَ البشيع كما في الأساطير والأبيض الأسود مع سكونٍ ظاهر خادع ومع
وقارٍ ممزوجٍ بحذر وجفوة ومكرٍ وجَشَع، فهذا الطائر يشترك في كلِّ عملٍ نافع فيَصِيد
كلَّ شيء
يقدر عليه فأرةً كان أو عنكبوتًا.
وبين كبار الطير تلك تُبصر ألوفًا من صِغَار الطير تُحَلِّق فوق منبع النيل صادحةً
مغرِّدةً
مُصَفِّرة، وتبصر التَّمَامِر
٢٠ الفَيْرُوزِية
٢١ مع ريش نارنجي يبدو ورديًّا تارةً مَغْرِيًّا
٢٢ تارةً أخرى ويتحول مترجحًا بين ألوانِ قوس قُزَح ويلمع في الماء والضياء، وتبصر هذه
التَّمَامر في وسط السُّمَانَى الزاهيَ الذي يَعبَث بين القاوَند
٢٣ الزاهر الزرقة وفوقه، وفي العِيص
٢٤ يغرِّد عندليب الشرق، البلبل، متواريًا، على حين يَهْوِي قريبًا من مأواه الخفيِّ
سُنُونُو الثِّمال مع صوتٍ خفيف، شأن حنين شعراء الألمان إلى الجنوب وإلى هَزَار
٢٥ الشرق، وتَسْجَع القُمْر
٢٦ الوردية الرمادية سجعًا رزينًا، ويرتفع صفير الزرازير السمر الخضر، المختلفة
الألوان عند الانعكاس كعين الهِرِّ،
٢٧ من بين أصوات الطيور الكبيرة، ويُبلِّل الخَطَّاف صدرَه الأغبرَ برشاش النهر،
وتُغَرِّد الدُّعَرَة،
٢٨ وهي طائرٌ نيليٌّ كإبيس، محرِّكةً ذَنَبَها، فبانسجام الألوان وتوافق الأصوات تُحيط
هذه الطيورُ بالجزيرة المنيعة بين الشَّلَّالات كأنها تخشى الإنسان أكثر من خشيتها بقرَ
النهر
والتمساح وكِبَار الطير.
وأين نحن؟
تَقَعُ مساقط رِيبُون، وهي منبع النيل، وهي ما يسميه أهلُ تلك البُقعة بالحجارة، في
شمال
خطِّ الاستواء رأسًا، ويبلغ عرضها ثلاثمائة متر، وتندلق بين صخرٍ بِكرٍ، وتَحُفُّ بهذه
الصخور
شجيراتٌ وأزهارٌ برية نابتةٌ على هَضْبةٍ جرداء بعد إتلاف البِيض للغاب محوًا للقاتل
من
الذُّبَاب.
وفي أقصى شِمال بحيرة فيكتورية، وبالقرب من جِنْجَا، ينمُّ هديرٌ هائلٌ على هذا المنظر
العظيم، وخلف الصخور الغُبْر التي هي ضربٌ من الأسداد الطبيعية وبجانب الخليج تمتد البحيرةُ
ذات
الجزائر والجُزَيِّرات، ومن هنالك يسير النهر، ومن هنالك ينطلق رسول قَلْب أفريقية حاملًا
البشائرَ العجيبة إلى بحر بعيد.
وما كان أحدٌ ليَعْرِف مأتاه، وما بذله الإنسانُ من جهودٍ في ألوف السنين بحثًا عن
منبعه،
فقد ذهب أدراج الرياح، والناسُ كانوا يعتقدون أن هذا النهر المُحَيِّر مَدِينٌ في قُوَّته
إلى أطواد
٢٩ وأنه كالأنهار الأخرى وليدُ سيول، ومنذ سبعين عامًا فقط يُرَى بعد كشفٍ أن جَرْي
النيل يبدأ بشلَّالٍ عظيم، والنيل — وهو ابنٌ لأعظم بحيرة في أفريقية، وهو يُزْبِد ويُزَمْجِر
—
يُبدي سلطانه من يوم حياته الأولى.
وقليلٌ من هذا العُبَاب
٣٠ الأوليِّ ما يَصِل إلى الغاية، ولا تُسفِر الريح والشمس والصخر والحيوان والنبات عن
غير وقف تلك الأمواج أو تحويلها إلى بخار، وليس ما يَبلُغ البحرَ المتوسط بعد شهورٍ طويلة
صادرًا عن ذلك اليَنبُوع، فللنيل ثلاثة ينابيع وعِدَّة روافد في البَدَاءة، وهذا إلى
الملايين
من ذَرَّات الماء التي تَتْبع النهر في مجراه من ذلك الشلال الذي يُولَد منه إلى أن يختلط
بمِلح
البحر.
وفي الأعلى، وبالقرب من المنبع، يَنشُرُ ضباب الفجر سِترَه فوق البحيرة، ولا أحد
يَستطيع أن
يُنْبِئ أين ينتهي، فإذا طَلَع النهار ظهرت جزائر وجُزَيْراتٌ وخُلجانٌ صغيرة عميقة تُوغِل
في
الأرض، وظهرت كُثبانٌ على مدى البصر، وظهرت سلاسل تلالٍ تُكْسَف في الزُّرقة البعيدة،
وتسطع على
الضفاف المرتفعة مراعٍ، وهي أراضٍ خصيبةٌ شعرية، تحدُّها أدواحٌ
٣١ منفردة فاصلةٌ بين الظل والنور.
وما كانت العين لتمتد إلى الضِّفة البعيدة، ولو لم تَزحَم كثرة الخُلُج والجُزُر
أبصارنا
هنالك؛ وذلك لأن تلك البحيرةَ بحرٌ أوسعُ من سويسرة مِساحةً، ولها قوانينها ونُظُمها
ومخاطرها،
وهي جوهرُ فردٍ في وسط تلك القارَّة المُفْتَتَنة، وهي مرآةٌ كبيرة لشمس أفريقية، وهي
حدٌّ
لبلدٍ رعائيٍّ: لأوغندة، وتقع أوغندة على ارتفاع ١١٠٠ متر، وتُقاس بالجنة. ويسودها صيفٌ
خالدٌ
عاطل من حَرٍّ قاتل في النهار ومن ضَبَاب خانقٍ في الليل، وتُنْعِم العاصفة عليها بالنسيم
بعد
الظهر وبالريح في المساء، وتُعدُّ أوغندة بلدًا مخصابًا مخراقًا
٣٢ يتوازن الغيث والشمس فيه دومًا.
وعلى تلالها وفوق جبالها وراء الإطار الذي يحيط بالبحيرة يتوارى أواخر عمالقة ما قبل
التاريخ، وبيان ذلك أنك إذا ما سِرْتَ من ضفاف هذه البحيرة ذات الزُّرقة الحريرية وجدتَ
البلد
يرتفع إلى أرصفةٍ ويصعد في الشمال الغربي نحو براكين وذرًى من الغَرانيت ونحو ينابيع
لروافد
تصبُّ كلها في النهر الأكبر وإلى قِمَم جبال القمر الثلجية، ومن هذه الجبال يتألَّف سورٌ
لحديقة
أناسٍ من ذوي الحظِّ يبذُرُون قليلًا ويحصدون كثيرًا.
والحقُّ أن ضفاف البحيرة هي حديقةٌ من عمل الطبيعة ويدِ الإنسان المُسْمَرَّة بفعل
الشمس،
وفي كل جهةٍ من تلك الحديقة ينتصبب من السَّنْط الأكبر عِظْلِمٌ
٣٣ أخضرُ كالمهابط
٣٤ المبسوطة فيمرُّ النور من بين أغصانه الدقيقة ناشرًا ظلًّا لطيفًا على المروج،
وينقسم أصله العريضُ الأغبر الناعم الجاف الأعقدُ عند مستوى الأرض إلى عدة فروعٍ مكسوَّة
في
أعلاه بأوراق ذات تقاطيعَ رقيقةٍ وعناقيد خُبَّازية طويلة، وإليك قُبَّةَ شجر التين النابت
فوق
جذورٍ جسام بارزة من الأرض والغنيِّ بخشبه وظله، وإليك الجُمَّيْز الملكيَّ القائم بجانبه
والحائزَ لمثل صفاته، ويميل الزهرُ الأحمر الزاهي النحيفُ نحو البحيرة على حين تَغْرِزُ
ثُرَيَّا شجر المَرجان أصابعَها القِرْمزية الساطعة في الهواء.
يقوم فوق المنحدرات المخضرَّة على طول البُحَيْرة جميعُ ما ذُكر ساكنًا وحيدًا تقريبًا،
وذلك رمزًا إلى منظر خيال.