الفصل العاشر
يُهيمِن نجم الصباح ذو النور اللطيف على مرآةِ بحيرة ألبِرت الضاربة إلى صُفرة حيث
تَضِيق
فتَتَحول إلى النيل، وتكون الأنهار التي تجري من بحيرةٍ إلى أخرى أكثرَ إمتاعًا في أثناء
انقباضها مما في أثناء اتساعها الزاهي الذي يُعْشِي عيون الجمهور، ونِيلُ فيكتورية —
ويأتي من
المساقط الكبرى — لا يَجُوب غير طَرَفٍ قصير من بحيرة ألبرت، وهو يَجُرُّ بكل ما في الشباب
من
قوةٍ مياهًا غزيرة، فيتضاعف نشاطه فيُسرِع متوجِّهًا إلى الشمال.
والنيل في ظل السحر
١ الذي يسبق الفجر يلوح ساكنًا، وعلى أمواج النيل الزيتية الساكنة تنعكس سُدُوف
٢ سيفه،
٣ وفي الشرق وباتجاه المساقط تُبْصِر جدارًا ورديًّا لطيفًا ينتصب عند الأُفُق،
وتُبصر بعض السُّحُب الخفيفة الذهبية تَصْعَد في السماء الخضراء الزرقاء، ويُشعَر بصمتٍ
وبانتظارٍ رابٍ
٤ وبارتجاف تلك الساعة الصباحية كما يُشْعَرُ به عند وصول رجلٍ عظيم، وذلك حين يُرَى
في الغرب نحو الكونغو وميضٌ رماديٌّ دُرِيٌّ ساترٌ للسماء حتى سَمْتِ الرأس،
٥ وإن الأمر لكذلك إذ يرتفع في بضع ثوانٍ وبسرعة الضياء الاستوائي ونحو الشرق لَهَبٌ
ضاربٌ إلى حُمرة، ويَتَحَوَّل إلى لون أرجوانيٍّ من فَوره فيظهر جدولَ نارٍ خلف خطوط
سَنْطٍ
متوترة.
ويضع النور حدًّا للصمت، وفي الشرق تُصَوِّت بضعُ إِوَزَّاتٍ وتطير من كَثِيبٍ إلى
طرف
البحيرة، وتظل البَلَاشِين البيضُ ساكنةً على الشُّورَى،
٦ ويبدأ بَلْشُونٌ أسمرُ قضى الليلَ على ساقٍ واحدة بالانتقال هنالك، ويَعطِف عُنُقَه
ويُقَدِّم مِنقَارَه الحادَّ وينشُر جناحيه ويطير على مستوى الماء، ولا يلبث كل شيء أن
يتحرك،
وتهزُّ بعض الرءوس السود قرونها المكوَّرة جانبيًّا على حين تستبر الأفق عين متحرِّزة
وترتجُّ
خُصَلُ شعرٍ إلى الخلف، فتلك هي جماعة جواميسَ ذاتِ جباهٍ عريضةٍ مُخْمَلِية متوعِّدة.
وبالقرب من هنالك، وفي طرف الغاب تُبْصِر الكَرْكَدَنَّ، وهو ثالث عفاريت الأيكة
البكر،
نصفَ مستورٍ بأطول الأعشاب، تُبْصِرُه يبتعد متَّئِدًا عن النهر، هو رماديٌّ لامع، هو
يَعدِل
الفيل الصغير ضخامةً، هو أشدُّ من الفيل وبقر الماء توحُّشًا، هو ذو حركاتٍ بطيئة، وله
بقرنيه
المنحنيين إلى الوراء والمحيطيْن بفمه ضربٌ من التاج المخيف كتيجان الغيلان لكَوَابيس
صِبَانَا،
والكركدنُّ ذكيٌّ نشيطٌ مع ما يَنِمُّ عليه مَظهره كالفيل من بَلَادةٍ وقلة حيلةٍ، والكركدنُّ
يلوح أنه من عالم بائدٍ برأسه شبه المنحرف
٧ وبأذنيه العظيمتين كأذني الخنزير وبمنخريه الواسعين وبالحَدَبة التي على رقبته
الضخمة وبقوائمه الحادرة
٨ وبعينيه القصيرتي البصر واللتين هما أصغر من عيني الفيل. والكركدنُّ إذا ما انصرف مُكَرْدِحًا
٩ على مَهْلٍ تحت أوراق السَّنْط الغَضَّة لاح ظلٌّ جهنميٌّ يحيط بروحٍ غضَّةٍ
نَحِيلَة؛ وذلك لأن هذا الوحش لا يغتذي بغير الأشياء اللطيفة، بغير الأغصان والكلأ وقِشْر
الشجر.
وكلما ارتفعت الشمس عاد سماط الماء غيرَ ساكنٍ، والنيل في حال بحيرةٍ وفي حال نهرٍ
كبير
جديد يغادِر ذلك المنبع الثاني، والنيل شاعرًا بقوته يجاوز أكثبةً كبيرة تحاول وقفَه
فيظهر
كالرجل الذي يَجلُو سلاحَه استعدادًا لقِتالٍ جديد، والنيلُ في الغرب يُبْصِر آجامًا
واسعة في
أراضي الكونغو، والنيل في الشرق يُبْصِر سهوبًا صُفْرًا ذات سَنْطٍ مغروس فيها، ولا يَنشَب
مجرى
النيل أن يَتَوَطَّد فيشتدَّ بعد خمسةَ عَشَرَ كيلومترًا في مجرًى عريضٍ هادئٍ سائرًا
حُرًّا.
والآن يحمل النيل اسمًا ثانيًا؛ أي يحمل في مسافة مائتيْ كيلومتر اسمَ نيل أَلبِرْت
لدى
كثيرٍ من الناس؛ أي يحمل اسمًا يلائم مجراه الهادئَ الصالح للملاحة من خلال بلدٍ له منظر
الحديقة، والنيلُ حتى عند مهاجمة البطائح إياه من الجانبين يُحافِظ على حريةِ سيرِه،
وتُضْحِي
ضفتاه متماثلتين شيئًا فشيئًا، ويسترهما قصب السُّهْب، وفي البعد تُرَى سطورٌ خُضْرٌ
تَنِمُّ
على سواعدَ غارقةٍ في غُدْرانٍ عاطلةٍ من مَصَابَّ، وإذا كان النيل يَضِيق أحيانًا فإنه
لا
يَضِلُّ أبدًا.
ومن ينظرْ إلى الزرع على طول النهر يظنَّ نفسه حول التَّيْمس، والنهر ضاربٌ إلى زرقةٍ
مع
أشعَّةٍ خُضرٍ وجزيراتٍ وخلجان، والنهر حين يتَّسِع يتحول إلى بحيرات صغيرة يحيط بها
القَصَب مع
زاويةٍ من غابةٍ ظليلة وراءها حيث يكون شكل الأنيس
١٠ والقاوَنْد والجُمَّيزُ غيرَ غريب، والمادِي، وهم رجال يَجِيئون إلى شاطئِ الماء،
قومٌ عُراةٌ، ولمُعْظَم هؤلاء حقٌّ في ذلك لِاتِّصَاف أجسامهم بجمالٍ كلَاسِيٍّ
١١ كأجسام فَتَيَاتِهم، ولهؤلاء الفتيات زِيٌّ عجيبٌ، فلا وِزْرَات
١٢ لهنَّ، وهنَّ يَرْبِطْنَ طاقةَ أوراقٍ رطيبة من الوراء ويُجَدِّدُونها كلَّ يوم
فتهتزُّ نظيفةً كريشِ نَعَامَة، والفتيانُ إذا ما أَتَوْا إلى الضِّفة معهن وَضَعُوا
عنهم
رِمَاحهم وجلودَ الحيوان التي يحملونها على ظهورهم وأبعدوا الأعشابَ المائية جانبًا وبلُّوا
الجبين والفم بحركةٍ دينية ودخلوا الماء واغتسلوا من غير ضوضاء كالبِيضِ في الحَمَّام،
واتخذوا
وضعًا كَهَنُوتِيًّا، ثم خَرَجُوا واسترجعوا جلودَهم ورِماحهم وانصرفوا.
وتدنو نِسوةٌ مع جِرَار، وتمضي أُحَرُ مع سَمَكٍ، ويَرْكُز زِنْجِيٌّ تامُّ العُرْي
رُمحَه
في زورقه المقعَّر من ساقِ شجرة، ويستند راعٍ إلى شجرةِ تينٍ صامتًا، ولكنَّ ماشيتَه
ليست من
ذوات القرون الطويلة كما في أوغندة، وما يُرَى من أكواخٍ فأكثر هزالًا، وما يبصَر من
شَجَرِ
مَوْزٍ فأشدُّ تفرُّقًا، وفي الشمال حيث تقرب الغاب من النهر، وحيث يرتفع التراب بلطفٍ
نحو
الغرب باتجاه الخط القاسم لمياه الكونغو تُبصِر مجيءَ الوعول لترتويَ من النيل، وتُبصِر
قِطَاعَ
الكُونْغُونِي السُّمْرِ تعدو على طول الضِّفاف.
ويَضِيق الوادي بغتةً، ويبدو الصَّوَّان الذي هو أكبر عدوٍّ لحياة الأنهار الواسعة
الطيبة
مجددًا، وتتوارى السفن ويتقبَّض النيل الرَّضِيُّ بفعل الصخور في مضيقٍ يبلغ عرضه سبعين
مترًا،
وينحني النيل فجأةً من اتجاهه الشرقيِّ إلى الشمال نحو تسعين درجةً بفعل الصخور أيضًا،
وينقضُّ
النيل نحو سلسلةٍ من الدوافع ويَتَحَوَّل إلى سَيْل كما في طُفُولته، ويأتيه سيلٌ آخر
من الشرق
فيُعَزِّزُه ويُثِيره، وتعلو ضِفَّتَاه عمقًا كمجرى نهرٍ جبلي، وهو يَحْمِل هذا الاسم؛
أي بحر
الجبل، بعد نِمُوله، وهو يظل صاحبًا لهذا الاسم مسافةً تزيد على سبعمائة كيلومتر، وهو
يبقى كذلك
حتى الدرجة التاسعة من العرض، والنيل يُضغَط من جديد في مساقطَ ذات عرض عشرين مترًا،
فلا يكون
له أكثر من ١٥٠ مترًا في الشلالات التالية، والنيل في عزلته الصائلة المؤثرة يَظْهَر
كأنه رجلٌ
يقاتِل نفسَه فينزل إلى السهل نهرًا مُعَرْبِدًا.
وقام في نِمُوله جسرٌ طبيعيٌّ إعلامًا بذلك التحول. وذلك الجسر — الذي لا ترى مثلَه
في
مكانٍ آخر على ما يحتمل — مصنوعٌ من النباتات المائية، وهو من الإحكام ما يستطيع معه
فيلٌ أن
يمر عليه من إحدى الضِّفَّتين إلى الأخرى، وقد بلغت جذوره من التأصُّل ما عاد به من تلقاء
نفسه
إلى ما كان عليه بعد أن خرَّبَهُ فيضان.
وتلك الامتدادات الجبلية التي يأتي النيل منها هي آخر الجبال التي يَرَاها، وبذلك
ينتهي
شبابُه الهائج الطائش، ويبدأ العقلُ والاتِّزَان والسهل بتعيين سَيْره، وينتصب في رِجَاف،
في
المكان الذي يصبح النيل فيه صالحًا للمِلاحة، تَلٌّ مخروطيٌّ منعزلٌ صعبٌ وعرٌ كهَرَمٍ
تذكارًا
لجبلٍ ورمزًا إلى أُفُولِ فَتَاءٍ، ويُفسِّر سكان البلاد الأصليون بأسلوبهم الزاهي أمرَ
الزلازل
التي تَهُزُّه فيقولون: إنه كان على المجرى التحتانيِّ فحَمَلَتْه الريح إلى محلِّه الراهن
فَهَرَبَتِ البهائم ودُفِنَ الآدميون، ويَتَحَرَّك هؤلاء الناس بين حين وحين رغبةً في
الخروج
وبحثًا عن القِطَاع.
والسودان يبدأ هنا، وما يبدو هنالك — في سفح ذلك الهَرَم — من بقايا جُرَز
١٣ الزَّبَد فيُذكِّر بدرجة هيجان النيل في جريانه حتى هذا الحين، ويَحمِل النيل غِرْيَنًا
١٤ من الجبال فيضعه الآن على الضِّفاف ويَرْفَع ذلك مستواه، ولكن مع احتمال الخَطَر
وقت المَطَر ومع احتمال حدوث طوفانٍ وتَركِ غُدْران، والحقُّ أن ذكرى الماضي العاصفِ
تشتدُّ على
النيل الحاضر.
ويصبح النيل صالحًا للملاحة من رِجَاف وجُوبَا، ويظل النيل كذلك بين الدرجتين ٥ و١٨
من
العَرْض؛ أي نحو ألفيْ كيلومتر، ويتطلَّب ذلك رَبَابِنَةً ماهرين، وقليلٌ ما هم، وعلى
الرَّبَابِنَة أن يَتْبَعُوا الأضواجَ
١٥ من بين البطائح والضحاضح
١٦ والجُزَيْرَات والكُثْبَان، وأن يوجِّهوا الزوارق المربوطة بالباخرة من كلِّ ناحية
وثلاثًا من سفن الأوساق
١٧ التي تتقدمها أو التي تَجُرُّها؛ أي أسطولًا صغيرًا يبدو ضربًا من الأطواف
١٨ العظام، وبعض أهل دُنقُلة أو بعض نُوبِيِّي الشمال من أهل أسوان هم الذين يَقدِرون
على ذلك ليلَ نهار.
ويُمكن الموجَ الذي وَثَبَ صباحًا من مساقط عَطفةِ نِمُولِه المفاجئة أن يمرَّ مساءً
أمام
هَرَمِ رِجَاف الأول، وهنالك يشاهِد الشمسَ العَبُوس بدُخَان السُّهْبِ المحترقِ متواريًا
وراء
السُّحُب البنفسجية ليَظْهَر تحتها نارنجيًّا، ويتناوب السماءَ والماءَ نورٌ وكُدرةٌ
١٩ يَنظُر إليها مُصَوِّرٌ بُنْدُقِيٌّ بعين الحسد، ويتحوَّل اللون بعد أن يكون أزرقَ
ورديًّا مَشُوبًا بالأسود إلى أخضرَ واضحٍ قَصْدِيريٍّ فإلى بَجْليٍّ،
٢٠ ثم إلى أسود مُخْمَلِيٍّ، ويحيط بالشمس حَلَقٌ من دُخَانٍ أسودَ كما يحيط بزُحَل
وتُلقِي آخرَ شُعَاع لامع لها، وتسابق الموجَ، كما في الفجر، فتطير عَبْرَ قُرصِها عصائب
من
البطِّ البري، وتحول حول النهر الهادئ بلاشين بيضٌ مادَّةً قوائمَها وراءها، ويأخذ الإِبِيسُ
في
الطيران غامسًا رأسه في السماء ذاتِ الأشعة الصفر الزعفرانية التي تكتسب ظِلًّا ضاربًا
إلى
زُرقة رويدًا رويدًا، ويَرجِع الإوزُّ إلى وكره صائحًا تحت شُقرَة السماء، ويبدو نجم
السماء
الأولُ مع الغَبَس.
٢١
ويرتفع النسيم قليلًا، ويتموَّج كلأ الرِّعاءِ القصيرُ أكثرَ من قبل، وتَنِقُّ الضفادع
نقيقًا موزونًا، ويَخُور بقرُ الماء في الظلام أحيانًا، ويَبرُز بدنه الغريب من النهر
لحلول وقت
القُوت، وأخيرًا يُرخِي الليل سُدُولَه وتَعُمُّ العَتَمَة وتَصدُرُ الأوعال عن المناهل
ويَصِلُ
الأسد بلا زئيرٍ، ويشرب من ماء النيل ضاربًا الهواء بذَنَبِه الطويل.