الفصل الرابع والعشرون
إذن، استقرَّ الإنكليز بوادي النيل، واستلهموا الرومانَ أكثر من استلهامهم اليونان؛ وذلك مع كونهم أحسنَ تسلُّحًا من أسلافهم الذين كانوا قد استولوا على الدِّلتا خُطوةً خُطوةً بالحديد والنار. أجل، إنهم بَدَوْا أقلَّ اطِّلابًا، فلا يَزْعُمون أنهم سادةُ وادي النيل، ولا يَرْفَعُون العَلَم البريطانيَّ، ولكنهم يوكِّدون — ولا يزالون يوكدون — أنهم لم يأتوا إلى مصرَ إلا ليعيدوا النظامَ إلى نصابه، ثم ينصرفون، وهم قد أقرضوا الخديو المبذِّر — لا الشعبَ المصريَّ — ملايينَهم بمحضِ إرادتهم، وهم قد صَنَعُوا ذلك طَمَعًا في ربًا فاحشٍ لا ينالونه في الغرب، وهم إذا ما جاءوا الآن فلكي ينقذوا نقودَهم ما دام المصريون الصحاة غيرَ مستعدين لأن يؤدُّوا مقابلَ ما بدَّده مسيطرٌ أجنبيٌّ عن سفهٍ؛ ولذا يتعذَّر عليهم أن يَرْفَعُوا راياتهم باسم يسوعَ أو باسم الحرية.
وكان محمد علي قد أحسَّ ذلك فقال: «كِبَارُ السَّمَك تأكل صِغَارَها، فإذا ما أفلست الدولة العثمانية استولت إنكلترة على مصرَ.» وكان سياسيو الإنكليز يَعرِفون الحقيقة، ولكن من دون أن يعترفوا بها لغير أنفسهم، ويَبْلُغ اللورد بَلمِرْستن في سنة ١٨٥٩ من القِحَة ما يَكْتُب معه إلى سفيره بباريس قولَه: «لا حاجة لنا بمصرَ، ونحن إذا رغبنا في امتلاكها فلأننا كذلك الرجل السليم الذوق الذي له عَقارٌ في شمال إنكلترة ومنزلٌ في جَنوبها فلا يُرِيد أن يملك الفنادقَ القائمة على طرفي الطريق بينهما، وإنما يطلب أن تَكون هذه الفنادق — دومًا — مفتَّحَة الأبواب حسنة التنظيم مشتملة على أضلاع غَنَمٍ وعلى خيول.»
ويمرُّ زمنٌ، فيألَم أذكى الإنكليز الذين يَعْمَلُون في مصرَ، أو الذين يُدِيرونها من لندن، من ذلك السلوك ذي الوجهين، ومن ذلك أن تَوَجَّعَ مالِت — سنة ١٨٨٣ — من تصريح وزير الحربية بدوام الاحتلال ستةَ أشهر، فقال: «لا رَيْبَ في بقائنا هنا زمنًا طويلًا إذا لم نُرِدْ أن نُضِيعَ جميعَ منافع النصر.»
ومن ذلك قول المستشرق ومستشار وزير الدولة في المسألة الشرقية، رُولِنْسُن: «لا يمكننا الجلاءُ عن مصرَ ما دام الفرنسيون في تونس.» ومن ذلك سِيدْنِي لُو: «نحن لا نَحْكُم في مصرَ، وإنما نُدِيرُ حُكَّامَ مصرَ.» ومن ذلك قولُ مِلْنر «كان علينا أن نُعْلِنَ في الحال نوعَ السلطة التي نريد أن نمارسَها هنا، بدلًا من أن نكون في وَضْع شاذٍّ.» ومن ذلك قولُ مترجم غلادِستُن، زِتْلَنْد: «كانت وزارة غلادِستُن — في سنة ١٨٨٢ — تَرقُب كلَّ شيءٍ خلا الطريق التي تتقدَّم فيها، وتُبَاغَت بالمدِّ وتُقَادُ إلى احتلالٍ عسكريٍّ، وتقوم باحتلال مصرَ عابسةً، فلما تَمَّ لها ذلك دُهِشَتْ وأظهرت أنه كان على غير إرادتها.»
ومن ذلك قولُ اللورد لُويْد: «وتُنْزَع صواري الحكومة فتقول إنها لا تقوم بأعمال كبيرة ولا تبقى في مصرَ زمنًا طويلًا … وقد أَرَدْنَا في أيام اللورد كرومر أن نَعدِل عن الاحتلال، وقد وُكِّدَ أمرُ البرنامج من غير أن يُنْجَز، وقد كنا مستقرين بمصرَ — في سنة ١٩٠٠ — طوعًا أو كُرْهًا.»
وإذا ما وَجَّهَ ستةُ رجالٍ من ذوي البصائر كأولئك انتقادًا متماثلًا كذلك إلى بلدهم في خمسين سنةً وَجَبَ أن يُعْتَرَفَ بأن الشعور الوطنيَّ — لا الأحوال — هو الذي أوجب اتخاذ قرارٍ عظيم الشأن بعيد المَدَى حَوْلَ مصر. ومما نراه أن ما عليه الحكومة الإنكليزية من فِطْنَة أُسْهِبَ في امتداحها كما أُسْهِبَ في امتداح فِطْنَةِ الفاتيكان (لما يُقَال من تفكيرهما في أمورٍ خاصةٍ بقادم القرون) يقوم على غريزةٍ صادقةٍ تُمْلِي عليها صالحَ الأعمال في الوقت المناسب من غير أن تفِّكر في نتائج أعمالها، ويُذَكِّرنا هذا بجواب غُوتِه، وذلك أن غُوتِه — في أول حديثٍ له مع شيلِّر كان حاسمًا في تقرير صداقتهما — عَرَضَ رأيَه في النبات الابتدائيِّ على أنه نتيجةُ تجربةٍ فقال شيلِّر معترضًا بشدةٍ: ليس ذلك نتيجةَ تجرِبة ولا يَعْدُو ذلك حَدَّ الفِكْر، فأجابه غوته بقوله: «لا ضَيْرَ، فلديَّ من الأفكار ما لم أَعْرِفْهُ أو أُرِدْهُ.»
وإذا كان الإنكليز — مع كلِّ ذلك — لم يَكفُّوا عن التصريح بأنهم لا يبْقُون في مصرَ ما لم يكن وجودُهم فيها نافعًا لهذا البلد (وقد جُمِعَ ٤٩ تصريحًا من هذا النوع بين سنة ١٨٨٢ وسنة ١٩٠٢) فإنهم كانوا مُخْلِصِين في ذلك إخلاصَ الزوج الذي لا يفارق زوجتَه الحسناءَ خُطوةً واحدة مُدَّعِيًا أنها تَسْلُك سبيلَ السُّوء إذا تركها وحدَها ثانيةً. والحقُّ أن ذلك البلد العجيب — الذي ظَلَّ نظامُه متقلبًا في العهد التركيِّ قرونًا، قد اجتذب إليه الدولةَ القوية في البحر المتوسط على الدوام، وقد زادت قيمتُه بقناةِ السويس فَغَدَا جهادُه في سبيل الحرية أمرًا صعبًا؛ وذلك إلى أن بريطانية العظمى قَبَضَت على ناصية مصرَ بغريزتها عاملةً بنظرية نابليونَ الأولِ القائلةِ إنه لا يُمْكِن أمةً أن تَمْلِك الهندَ باستمرارٍ من غير أن تَمْلِك مصر، وذلك إلى أنه ليس لها أن تأسَفَ عليها مع ما تلاقيه من المصاعب التي لا حَدَّ لها، وماذا يَحْدُث للإمبراطورية البريطانية إذا ما اضطُرَّت إنكلترة إلى الجَلَاء عن مصر، ولم تستفد من الحرب العظمى فتَقْطَعَ لبضعة أيام تلك الرابطةَ التي تَرْبِط ذلك البلدَ بتركية؛ أي أنْ تأتيَ عملًا خافَه محمد علي ولم يُقْدِم عليه إسماعيل ولم تَجْرُؤ عليه دولة عظيمة لمقاومته من قِبَل الدول العظمى الأخرى على الدوام؟
والمصريُّ في الوقت نفسه يَشعُرُ بأنه مع قُرَنَائِه أشدُّ تمسكًا بالإسلام من تَمَسُّكِ أكثر الإنكليز تعصبًا بالنصرانية، ويَتَحَوَّل ما لا أهميةَ كبيرة له في السودان من تناقض الأديان إلى تنافسٍ روحيٍّ في مدينة الأزهر، وكلُّ شيءٍ هو من القِدَم هنا، والحضارةُ هي من الجَلَال هنا، والحوليَّات هي من الطول هنا، ما يَنْظُر به ورثة جميع ذلك إلى هذا الشعب الغازي الآتي من جزيرةٍ في الشمال مع عاداته وعقائده الغريبة بعينٍ فلسفية نَقَّادة يُرْصَد بها آخرُ نَجْمٍ مألوف من قِبَل حكيمٍ محترم.
ويتطلب التطورُ بين أولئك الشِّيب وأبنائِهم الراغبين في الاستقلال كثيرًا من اللَّباقة؛ أي وجودَ شخص قادر على حفظ التوازن في وَضْعٍ لا تَرَى له أساسًا شرعيًّا ولا اسمًا صحيحًا، فيتعذَّر فيه كلُّ احتكام، ومن حُسْنِ حَظِّ إنكلترة أن وَجَدَت ذلك الرجل.